الحجّ إطلاق العنان لآفاق الروح - حج اطلاق العنان لافاق الروح نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حج اطلاق العنان لافاق الروح - نسخه متنی

د. محمد قندیل

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


الحجّ إطلاق العنان لآفاق الروح


تبدأ الرحلة دوماً في اللحظة التي نرتدي فيها ثياب الإحرام ، أياً كان الميقات ، إنّها التهيئة الأفضل التي نخلع فيها الأقنعة القديمة بكلّ ما فيها من سعي كاذب ومخاتلة خادعة ، قطعتين من الملاحف البيضاء ، تستران الجسد دون أن يضمهما خيط واحد ، فقط حزام جلدي نحمل فيه الحاجات الضرورية ، تستران الجسد بالكاد ، بل وتوشكان في كلّ لحظة أن تتركاه عارياً على حقيقته ، كأن هذه الخرق البيضاء لا تريد أن تدع للنفس أي مجال للمباهاة أو التكبّر ، يكتسب اللون الأبيض جزءاً من قدسية المكان ، ويصبح عنواناً على المساواة والتوحد بين الجميع مهما تباينت الألسنة واختلفت ألوان الجلود ، وهي تشبه الأكفان ، كأنّها تعدّنا للرحلة الأخيرة التي لا مفرّ منها ، أو تبشرنا بيوم البعث العظيم عندما نستيقظ حاملين بقايا أكفاننا ، متحلّلين من ذنوبنا ، ساعين نحو غفران عسير المنال ، هكذا فعل جدي ، مثلما فعل البقية من ملايين المسلمين الفقراء في مشارق الأرض ومغاربها ، حين احتفظ بهذه الملاحف بعد عودته من الحجّ لسنين طويلة ، أبقاها نظيفة ومعطرة بالشيح والزعفران ، حتى يتكفّن بها حين تأتي ساعة الرحيل .

ولكن الإحرام يتعدّى أيضاً ما ترمز إليه بساطة الثياب ، فهو رداء قد اقترن بالمعنى ، ودلّ على النيّة والقصد ، والحجّ هو القصد كما عرفه علماء اللغة ، قصد الرحيل إلى هذا الوادي الضيق بين جبال الوادي ، حيث يتوقّف الزمن في كلّ عام ليستعيد من أعماقه ذكرى تلك الطقوس القديمة ، ويدور الحجيج دورتهم الخاصّة وسط أفلاك الكون .

ها آنا ذا أقف ، نقطة بيضاء ضئيلة وسط ملايين النقاط الساعية ، أمام جبال مكّة وصخورها ، تعلو أصواتنا جميعاً بأدعية التلبية التي لم تتغير من ألف وأكثر من أربعمائة عام
«لبيك اللهم لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك»
، تجيش الكلمات بالنفس وتترك آثارها فوق الروح ، أهو الإحساس العميق بالذنب ، أم أنّه البحث عن غفران يكون بلسماً لكلّ الخطايا؟ أتذكّر يكفي أن تترك جسدك وسط الزحام بينما تطلق العنان لآفاق الروح ، والدعاء والتضرّع هما الوسيلة لذلك قول الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في حديثه:
«ما من مُحْرِم يضحى يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلاّ غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمّه»
.

تتوالى أمام عيني شواهد على وقائع التاريخ المقدّس الذي كان هذا المكان مسرحاً له ، في تلك اللحظات النادرة من الزمن تجسد صراع الإرادة بين بشر يحملون أهواءهم الأرضيّة ، وبشر يبشّرون بكلمة الله ، والله غالب على أمره ، تحيط بنا وُعُوْرَة الطريق التي لم تتغير منذ ذلك الأبد ، حتى أنّ هذا الإسفلت يبدو غريباً ودخيلا على إيقاع المكان ، كيف تحمّل سيدنا رسول الله هذه المسيرة وسط هذه الطبيعة الوعرة بكلّ ما فيها من مشقّة؟! تحملها وهو راع للغنم ، ثم وهو عابد متهجد في كهف ناء ، ثم حين هبط عليه الوحي وحمّله أمانة الرسالة ، وبدأ التطواف المضني وسط القبائل يدعو قلوباً قد أصابها صمم ، ثم عندما عانى من الحصار ومن الأذى اليومي ومن مرارة الترمل بعد موت زوجته السيدة خديجة ، وإرغامه على الهجرة من الأرض التي شهدت طفولته وجلّ شبابه وتأبّت عليه حين قارب على الشيخوخة ، ثم كانت رحلة الهجرة الطويلة على أرض رمضاء ، وتحت شمس حارقة ، إنّ شعائر الحجّ هي بصورة أو بأُخرى اختصار رمزي لوقائع هذه السيرة ، فهي لا تدور فقط في نفس الأماكن ولكنّها تجسد الكثير من أحداثها .

زحام مكّة لا يشبه أي زحام ، آلاف الوجوه من مختلف الأعراق والأجناس ، اتساع رقعة العالم الإسلامي وتنوعه تتجلّى في هذا المكان ، يتّسع لهم جميعاً هذا الوادي الضيّق ، ويضمهم جميعاً وهم يؤدّون نفس الشعائر في الوقت ذاته وفق معجزة ما ، أحد الأسرار الخفيّة لهذا المكان ، مهما كان الزحام كثيفاً فإنّك تجد دائماً موطئاً لقدميك ، وبقعة من الثرى تضع عليها جبهتك ، تدخل بنا السيارة من نفق
«كدي»
وهو جزء من مشروع طموح للتغلّب على المشكلات التي يواجهها انتقال الحجيج في كلّ عام ، والتي تأخذ أحياناً طابع المأساة ، لقد كان هذا النفق واحداً من عدّة أنفاق تخترق الجبال التي تحيط بأم القرى ، وهي لفرط حداثتها لا يعرف طرقها من يغيب عن مكّة فترة من الزمن ، النفق مُضاء على مدار اليوم ، وماكينات التهوية لا تكف عن الطنين لأنّه دوماً مليء بالسيارات والبشر ، بل إنّ بعضهم يتّخذ من جنباته ـ ليلا ـ مأوى بدلا من النوم في العراء ، وليس هناك من يمنع ضيوف الرحمن من النوم في أي مكان .

هاآنا ذا أقف، نقطة بيضاء ضئيلة وسط ملايين النقاط الساعية ، أمام جبال مكّة وصخورها ، تعلو أصواتنا جميعاً بأدعية التلبية التي لم تتغير من ألف وأكثر من أربعمائة عام «لبيك اللهم لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك»

أخرج من عتمة النفق لأرى أروع مشهد يمكن أن يراه مسلم ، المسجد المهيب أمامنا ، البيت الحرام الذي بارك الله من حوله ، مآذنه التسع سامقة للسماء ، كأنّها جماع من أذرع لا تكفّ عن التضرّع ، لون الحجر الأبيض المحيط به ، يختلط مع البياض الذي يكسو الأجسام ، جدل لا ينتهي بين الحركة والسكون ،
أتوقّف قليلا لأراقب عمارته البسيطة الآسرة في انبهار ، ثم يرتفع صوتي وترتفع كلّ الأصوات من حولي فجأة بنداءات الأدعية ، كأنّنا نحاول أن نستخرج من داخل نفوسنا كلّ ما هو كامن وخفي من قوى الإيمان لتمنحنا القدرة على مواجهة هذا المشهد المهيب ، كان الشاعر محمّد الفيتوري قد قال لي:
«البيت العتيق هو مرآتك ، ترى فيه كلّ ما في داخل نفسك ، إن كانت صافية فلن ترى فيه إلاّ صفاء اللحظة ، وإن كانت معتمة فلن تتجاوز أستار الكعبة السوداء»
. إنّها إحدى اللحظات النادرة من تعرية الذات التي يجب على المرء أن يكشف نفسه فيها بلا خجل ولا مواربة .

دخلنا مكّة نهاراً كما فعل النبي
(صلى الله عليه وآله)
، فقد نزل هو وصحبه في حجّته الأولى والأخيرة إلى مكان يدعى
«ذي طوى»
في أطراف مكّة ، وفضّل أن يبيت فيه حتى لا يؤخذ دخوله إلى مكّة ليلا سنّةً من بعده ، ففي النهار متّسع من الوقت ، ومدى من الرؤية ، والتأمّل متاح للجميع ، يزداد إحساسي بالرهبة ونحن نخطو إلى داخل المسجد الكبير لأداء العمرة التي تسبق شعائر الحجّ ، كأنّها التمارين الأولى ، نوع من الإعداد الروحي لهذا الحدث الجلل ، يريد الله للنفوس التي شردت طويلا أن تهتدي بروية إلى طريقها وسط مسالك الإيمان ، وما هذه الطقوس المتتابعة إلاّ مدارج ترتقيها الروح . أرض المسجد عارية من السجاد الأحمر الذي كان يغطيها في الأيام العادية ، أحسّ ببرودتها أمناً وسلاماً ، أواصل الاقتراب حتى تحتلّ الكعبة كلّ حيز الرؤية ، تخف الخطوات وتحتبس الأصوات ، ترتفع من الساحة المحيطة بها همهمات متّصلة ، شذرات من الأدعية التي تنطق بكلّ لسان ، تتصاعد من دوائر متّصلة من البشر تلتفّ حول الكعبة ، كأن ذرات الكون المتناثرة قد وجدت النواة التي تنتظم حولها كانتظام الأفلاك في مداراتها .

أهبط الدرج الرخامي وبصري معلّق بالبناء العتيق ، مركز الكون ، الأستار السوداء منقوش عليها آيات قرآنية بلون ذهبي ، مرفوعة إلى أعلى ، هكذا ترفع دوماً في أيّام الحجّ ، ربّما حتى لا تتعلّق عليها جموع الحجيج وتمزّقها ، وربّما لتكشف عن البساطة الآسرة للبناء ، صفوف من الأحجار الضخمة العارية من أي زينة أو طلاء أو نقوش ، لم يزد عن بناء أبينا إبراهيم
(عليه السلام)
إلاّ قليلا ، فيه الكثير من بساطة الصحراء وشظفها ، الحجر الأسود هو أقدم هذه الأحجار ، إحدى إشارات القدسية في هذا المكان على مدى الأحقاب ، فهو الحجر الناقص الذي لولاه ما اكتمل البناء ، ولعلّ إبراهيم
(عليه السلام)
وهو يقيم البيت كان يبحث عن علامة دائمة منها يبدأ الجميع وإليها ينتهون ، وعثر على الحجر الأسود كأنّه شهاب ساقط من السماء ، وضعه في الرّكن الشرقي ومازال في نفس المكان حتى الآن ، وقد حمله النبي الكريم ذات لحظة نورانيّة ووضعه في زاويته ، لا ليفض الخلاف بين قبائل قريش الغاضبة فقط ، ولكن ليؤكّد عندما نرتدي ملابس الإحرام ، آملين أن تكون هذه اللحظة النادرة من الإشراق قد غسلت كلّ ما نحمله من ذنوب .

/ 4