الحجّ إطلاق العنان لآفاق الروح
تبدأ الرحلة دوماً في اللحظة التي نرتدي فيها ثياب الإحرام ، أياً كان الميقات ، إنّها التهيئة الأفضل التي نخلع فيها الأقنعة القديمة بكلّ ما فيها من سعي كاذب ومخاتلة خادعة ، قطعتين من الملاحف البيضاء ، تستران الجسد دون أن يضمهما خيط واحد ، فقط حزام جلدي نحمل فيه الحاجات الضرورية ، تستران الجسد بالكاد ، بل وتوشكان في كلّ لحظة أن تتركاه عارياً على حقيقته ، كأن هذه الخرق البيضاء لا تريد أن تدع للنفس أي مجال للمباهاة أو التكبّر ، يكتسب اللون الأبيض جزءاً من قدسية المكان ، ويصبح عنواناً على المساواة والتوحد بين الجميع مهما تباينت الألسنة واختلفت ألوان الجلود ، وهي تشبه الأكفان ، كأنّها تعدّنا للرحلة الأخيرة التي لا مفرّ منها ، أو تبشرنا بيوم البعث العظيم عندما نستيقظ حاملين بقايا أكفاننا ، متحلّلين من ذنوبنا ، ساعين نحو غفران عسير المنال ، هكذا فعل جدي ، مثلما فعل البقية من ملايين المسلمين الفقراء في مشارق الأرض ومغاربها ، حين احتفظ بهذه الملاحف بعد عودته من الحجّ لسنين طويلة ، أبقاها نظيفة ومعطرة بالشيح والزعفران ، حتى يتكفّن بها حين تأتي ساعة الرحيل .
ولكن الإحرام يتعدّى أيضاً ما ترمز إليه بساطة الثياب ، فهو رداء قد اقترن بالمعنى ، ودلّ على النيّة والقصد ، والحجّ هو القصد كما عرفه علماء اللغة ، قصد الرحيل إلى هذا الوادي الضيق بين جبال الوادي ، حيث يتوقّف الزمن في كلّ عام ليستعيد من أعماقه ذكرى تلك الطقوس القديمة ، ويدور الحجيج دورتهم الخاصّة وسط أفلاك الكون .
ها آنا ذا أقف ، نقطة بيضاء ضئيلة وسط ملايين النقاط الساعية ، أمام جبال مكّة وصخورها ، تعلو أصواتنا جميعاً بأدعية التلبية التي لم تتغير من ألف وأكثر من أربعمائة عام
«لبيك اللهم لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك»
، تجيش الكلمات بالنفس وتترك آثارها فوق الروح ، أهو الإحساس العميق بالذنب ، أم أنّه البحث عن غفران يكون بلسماً لكلّ الخطايا؟ أتذكّر يكفي أن تترك جسدك وسط الزحام بينما تطلق العنان لآفاق الروح ، والدعاء والتضرّع هما الوسيلة لذلك قول الرسول
(صلى الله عليه وآله)
في حديثه:
«ما من مُحْرِم يضحى يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلاّ غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمّه»
.
تتوالى أمام عيني شواهد على وقائع التاريخ المقدّس الذي كان هذا المكان مسرحاً له ، في تلك اللحظات النادرة من الزمن تجسد صراع الإرادة بين بشر يحملون أهواءهم الأرضيّة ، وبشر يبشّرون بكلمة الله ، والله غالب على أمره ، تحيط بنا وُعُوْرَة الطريق التي لم تتغير منذ ذلك الأبد ، حتى أنّ هذا الإسفلت يبدو غريباً ودخيلا على إيقاع المكان ، كيف تحمّل سيدنا رسول الله هذه المسيرة وسط هذه الطبيعة الوعرة بكلّ ما فيها من مشقّة؟! تحملها وهو راع للغنم ، ثم وهو عابد متهجد في كهف ناء ، ثم حين هبط عليه الوحي وحمّله أمانة الرسالة ، وبدأ التطواف المضني وسط القبائل يدعو قلوباً قد أصابها صمم ، ثم عندما عانى من الحصار ومن الأذى اليومي ومن مرارة الترمل بعد موت زوجته السيدة خديجة ، وإرغامه على الهجرة من الأرض التي شهدت طفولته وجلّ شبابه وتأبّت عليه حين قارب على الشيخوخة ، ثم كانت رحلة الهجرة الطويلة على أرض رمضاء ، وتحت شمس حارقة ، إنّ شعائر الحجّ هي بصورة أو بأُخرى اختصار رمزي لوقائع هذه السيرة ، فهي لا تدور فقط في نفس الأماكن ولكنّها تجسد الكثير من أحداثها .
زحام مكّة لا يشبه أي زحام ، آلاف الوجوه من مختلف الأعراق والأجناس ، اتساع رقعة العالم الإسلامي وتنوعه تتجلّى في هذا المكان ، يتّسع لهم جميعاً هذا الوادي الضيّق ، ويضمهم جميعاً وهم يؤدّون نفس الشعائر في الوقت ذاته وفق معجزة ما ، أحد الأسرار الخفيّة لهذا المكان ، مهما كان الزحام كثيفاً فإنّك تجد دائماً موطئاً لقدميك ، وبقعة من الثرى تضع عليها جبهتك ، تدخل بنا السيارة من نفق
«كدي»
وهو جزء من مشروع طموح للتغلّب على المشكلات التي يواجهها انتقال الحجيج في كلّ عام ، والتي تأخذ أحياناً طابع المأساة ، لقد كان هذا النفق واحداً من عدّة أنفاق تخترق الجبال التي تحيط بأم القرى ، وهي لفرط حداثتها لا يعرف طرقها من يغيب عن مكّة فترة من الزمن ، النفق مُضاء على مدار اليوم ، وماكينات التهوية لا تكف عن الطنين لأنّه دوماً مليء بالسيارات والبشر ، بل إنّ بعضهم يتّخذ من جنباته ـ ليلا ـ مأوى بدلا من النوم في العراء ، وليس هناك من يمنع ضيوف الرحمن من النوم في أي مكان .
هاآنا ذا أقف، نقطة بيضاء ضئيلة وسط ملايين النقاط الساعية ، أمام جبال مكّة وصخورها ، تعلو أصواتنا جميعاً بأدعية التلبية التي لم تتغير من ألف وأكثر من أربعمائة عام «لبيك اللهم لبيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك»
أخرج من عتمة النفق لأرى أروع مشهد يمكن أن يراه مسلم ، المسجد المهيب أمامنا ، البيت الحرام الذي بارك الله من حوله ، مآذنه التسع سامقة للسماء ، كأنّها جماع من أذرع لا تكفّ عن التضرّع ، لون الحجر الأبيض المحيط به ، يختلط مع البياض الذي يكسو الأجسام ، جدل لا ينتهي بين الحركة والسكون ،
أتوقّف قليلا لأراقب عمارته البسيطة الآسرة في انبهار ، ثم يرتفع صوتي وترتفع كلّ الأصوات من حولي فجأة بنداءات الأدعية ، كأنّنا نحاول أن نستخرج من داخل نفوسنا كلّ ما هو كامن وخفي من قوى الإيمان لتمنحنا القدرة على مواجهة هذا المشهد المهيب ، كان الشاعر محمّد الفيتوري قد قال لي:
«البيت العتيق هو مرآتك ، ترى فيه كلّ ما في داخل نفسك ، إن كانت صافية فلن ترى فيه إلاّ صفاء اللحظة ، وإن كانت معتمة فلن تتجاوز أستار الكعبة السوداء»
. إنّها إحدى اللحظات النادرة من تعرية الذات التي يجب على المرء أن يكشف نفسه فيها بلا خجل ولا مواربة .
دخلنا مكّة نهاراً كما فعل النبي
(صلى الله عليه وآله)
، فقد نزل هو وصحبه في حجّته الأولى والأخيرة إلى مكان يدعى
«ذي طوى»
في أطراف مكّة ، وفضّل أن يبيت فيه حتى لا يؤخذ دخوله إلى مكّة ليلا سنّةً من بعده ، ففي النهار متّسع من الوقت ، ومدى من الرؤية ، والتأمّل متاح للجميع ، يزداد إحساسي بالرهبة ونحن نخطو إلى داخل المسجد الكبير لأداء العمرة التي تسبق شعائر الحجّ ، كأنّها التمارين الأولى ، نوع من الإعداد الروحي لهذا الحدث الجلل ، يريد الله للنفوس التي شردت طويلا أن تهتدي بروية إلى طريقها وسط مسالك الإيمان ، وما هذه الطقوس المتتابعة إلاّ مدارج ترتقيها الروح . أرض المسجد عارية من السجاد الأحمر الذي كان يغطيها في الأيام العادية ، أحسّ ببرودتها أمناً وسلاماً ، أواصل الاقتراب حتى تحتلّ الكعبة كلّ حيز الرؤية ، تخف الخطوات وتحتبس الأصوات ، ترتفع من الساحة المحيطة بها همهمات متّصلة ، شذرات من الأدعية التي تنطق بكلّ لسان ، تتصاعد من دوائر متّصلة من البشر تلتفّ حول الكعبة ، كأن ذرات الكون المتناثرة قد وجدت النواة التي تنتظم حولها كانتظام الأفلاك في مداراتها .
أهبط الدرج الرخامي وبصري معلّق بالبناء العتيق ، مركز الكون ، الأستار السوداء منقوش عليها آيات قرآنية بلون ذهبي ، مرفوعة إلى أعلى ، هكذا ترفع دوماً في أيّام الحجّ ، ربّما حتى لا تتعلّق عليها جموع الحجيج وتمزّقها ، وربّما لتكشف عن البساطة الآسرة للبناء ، صفوف من الأحجار الضخمة العارية من أي زينة أو طلاء أو نقوش ، لم يزد عن بناء أبينا إبراهيم
(عليه السلام)
إلاّ قليلا ، فيه الكثير من بساطة الصحراء وشظفها ، الحجر الأسود هو أقدم هذه الأحجار ، إحدى إشارات القدسية في هذا المكان على مدى الأحقاب ، فهو الحجر الناقص الذي لولاه ما اكتمل البناء ، ولعلّ إبراهيم
(عليه السلام)
وهو يقيم البيت كان يبحث عن علامة دائمة منها يبدأ الجميع وإليها ينتهون ، وعثر على الحجر الأسود كأنّه شهاب ساقط من السماء ، وضعه في الرّكن الشرقي ومازال في نفس المكان حتى الآن ، وقد حمله النبي الكريم ذات لحظة نورانيّة ووضعه في زاويته ، لا ليفض الخلاف بين قبائل قريش الغاضبة فقط ، ولكن ليؤكّد عندما نرتدي ملابس الإحرام ، آملين أن تكون هذه اللحظة النادرة من الإشراق قد غسلت كلّ ما نحمله من ذنوب .