لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
1
تأليف: محسن الأسدي
الحجّ
دعوةٌ ربّانيّة عظيمة ، ونداءٌ سماويّ خالد ، ومؤتمرٌ إسلاميّ
كبير ، وتظاهرةٌ إيمانية رائعة ، تضمّ بين صفوفها أجناساً
متعدّدة ، ومذاهب وطبقات وقوميّات شتّى ، جميعاً على موعد
واحد ، وواد مقدّس ، وحرم آمن ، وبيت مبارك تهوي إليه أفئدة
من الناس .
إنّها
جموع مؤمنة ، هدفها واحد ، مناسكها واحدة ، هتافها
واحد ، تلبيتها واحدة ، عبودية خالصة لله وحده لا شريك له ،
تسليم وولاء لله وحده لا شائبة فيه . .
حقّاً
هي حركة جماهيرية لا مثيل لها ، تترك بصماتها وآثارها في النفوس ،
فتزيد المؤمنين إيماناً وتسليماً ، فيما تزيد الكافرين عجباً ورهبةً
وخذلاناً .
عجباً!!
إنّها عظمة الحجّ
ورحمةً
ويصخب
صفٌّ
مرصوص ، وبنيان متماسك يشدّ بعضه بعضاً في فريضة هي محور عباديّ تلتقي
عنده منافع دنيويّة ومنافع أخروية ، وتتداخل فيما بينها في أكثر من موقع
ومفصل في هذه الفريضة المباركة .
إنّ
الحجّ محراب عبادة ما أعظمه!
وموسم
تجارة ما أنفعه!
ومؤتمر
إخاء وتوادٍّ وتعارف ومسؤولية ما أروعه!
إنّه
آيةٌ مباركة بل آيات مباركة من سورة مباركة ، جاءت لتذكر حِكَماً خمساً
للأذان الذي تحمله أو لإتيان الناس هذا الموسم وحضورهم فيه ، فكانت
المنافع على تفاوت ألوانها وتعدد أشكالها واختلاف أنواعها أُولى هذه
الحِكَم . أو هي كما سمّـاها بعضهم علّة إتيان الناس الحجّ أو علّة
التأذين به2 .
قال
تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجّ عَمِيق* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الاَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}3 .
لقد
اكتفى الرازي في تفسيره بأن جعل قوله تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } حكمة الأمر
بالحجّ ، حيث قال :
وأمّا
قوله : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَاتٍ} ففيه
مسائل :
المسألة الاُولى : أنّه تعالى لمّا أمر بالحجّ
في قوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ . . .} ذكر حكمة ذلك الأمر في
قوله : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ}4 .
فيما
ذكر صاحب الأساس في التفسير أنّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ} أولى الحِكم الخمس التي ذكرت متعاقبة في الآية
الكريمة5 .
إذن
يمكن ترتيب هذه الحكم كالتالي حيث إنّها جميعاً تتضمّن منافع عظيمة وفوائد
جليلة سواءً المقطع الأوّل منها : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أو المقاطع
التالية ، وترتيبها :
الأولى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ} .
الثانية : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
الثالثة : { ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} .
الرابعة : { وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ} .
الخامسة : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} .
فشهود
المنافع تتقدّم تكاليف الحجّ أو حكمه ، وكأنّ السماء أرادت بهذا أن
تتفضّل بعطائها أولا (حسنة الدُّنيا وحسنة الآخرة) لضيوف الرحمن الذين لبّوا
نداءه ، تكرّماً منه تعالى ورحمة قبل تكليفهم بأيّ شيء آخر من الأمور
التي تعاقبت في الآية الأولى وفي الآية الثانية .
فلنقف
عند هذا المقطع : { لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ} إعراباً ولغةً وفي الروايات وأقوال المفسِّرين وبعد
هذا عبر بيان عامّ أخير .