خبّاب بن الأَرَتّ
من الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون
الحديث
عن مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأولى لا ينتهي ولا يقف عند
حدٍّ ، فما إن نختم الكلام عن تلميذ من تلامذتها وشخصية من شخصياتها
وعظيم من عظمائها وشهيد من شهدائها . . حتّى يجرّنا الحديث أو يبدأ
عن آخر هو في العظمة لا يقلّ عن صاحبه ، وفي التضحية والإيثار لا يكون
أدنى منه . . وفي صدق الإيمان وعمقه لا أظنّه إلاّ مساوياً له أو
قد سما عنه ، فهم يتبارون بإيمانهم ويتسابقون لنيل أرقى مراتبه ودرجاته
في الدنيا وفي الآخرة .
إنّها
مدرسة عظيمة ذات آفاق واسعة وجذور عميقة ثابتة ، فهي شجرة أصلها ثابت
وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كلّ حين; لأنّ صانعها ومؤسّسها
عظيم ، راحت يداه المباركتان تمدّانها بقوّة ، وراح قلبه الحاني
يخصّها بحنانه وشفقته ، وراح علمه يُصبّ عليها ، ولا ينضب له نبعٌ
ولا يضوي له طلع ، إنّه ماء موصول وطلع
نضيد . .
وها نحن
الآن أمام شخصية من شخصيات هذه المدرسة النبويّة المحمّدية الأصيلة ،
أمام صحابي جليل انتشله الإسلام من واقع مرير ، قنٍّ ضعيف وعبد ذليل
فإذا هو فارس مُهاب ، ومقاتل شجاع ، يحسب له أعداؤه ألف
حساب . . . فكان عظيماً من عظماء الإسلام . . من
فرسان الجهاد في سبيله تعالى ، يدعو إلى الحقّ لا لغيره ، ويدعو
إلى العدل لا لسواه ، ويدعو للإسلام الحنيف لا لدين غيره وكيف يدعو
لغيره ، وهو يعلم أنّه { وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِي الاْخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}1؟! إنّه قمّة في المبادئ
والقيموفي الصدق والإخلاص حتّى نال حظوة كبيرة عند رسول الله (صلى الله
عليه وآله) و عند المسلمين ومن قبلهم عند الله
تعالى .
ونِعمَ
ما قال عنه إمامُ الموحِّدين عليّ(عليه السلام) : «رحم الله
خبّاباً! أسلم راغباً ، وجاهد طائعاً ، وعاش زاهداً ، وابتلي
في جسمه فصبر ، ولن يُضيع الله أجر من أحسن عملا»2 .
لقد كان
سلاحه اليقين والتقوى ، قلبٌ مملوء بهما ، وكفٌّ صلبة تمسك سيفاً
أبى صاحبه أن يضعه ما دام الإسلام بحاجة إليه ، لم يفتأ هذا السيف يطارد
الكفر والشرك والطغيان ، فقد شهد مشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كلّها ، تراه في بدر يعلو هامات الأعداء وتراه في أحُد هو الآخر يمزّق
جموعهم ، وتراه في معارك الإسلام الاُخرى فارساً جوّالا بين الصفوف لا
يهاب عدوّاً ولا يخاف باطلا . . .
كان هذا
الصحابي الجليل من أولئك الأوائل الذين حظوا بأن يكونوا قاعدة الانطلاق
الاُولى للإسلام والنخبة الصالحة له بعد أن آمنت به دعوةً وجاهدت في سبيله
صادقةً ، يوم لم تكن هناك مطامع دنيوية يبغونها ، ويوم لم تكن هناك
منافع شخصية يحوزونها ، بل عذاب مستمرّ وصبر دائم وجهاد متواصل ضد
المشركين ، الذين راحوا يكيدون لهم الكيد كلّه ويذوقونهم أنواع
العذاب ، لقد آمنت هذه الطليعة إيماناً خالصاً وأحبّت رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
حبّاً صادقاً ، وسعت في الدفاع عنه يوم كان وحيداً لا يقف معه إلاّ نخبة
صالحة من عشيرته وعدد قليل من أصحابه ، لا يشوبهم شك فيه ولا ينتابهم
ريب في دعوته وصدقه ـ لقد ادرعت هذه العصابة بالايمان والإيمان وحده لتقاوم
ما صبّ عليها من بلاء وما نالته من أذى وعذاب ، خاصّة هؤلاء الذين هم
ضعاف المجتمع الحجازي يومذاك ، العبيد ، طبقة سخّرت لمصالح
اقتصادية وتجارية وخدمية ، قام على أكتافها المجتمع المكّي ،
خَدَمته بأقلّ الأثمان ، رغيف خبز لا غير ، ووضع ذليل وسخرية تنصبّ
عليهم من أسيادهم ، وسياط تنهال على ضلوعهم
وظهورهم . . .
لقد كان
خبّاب واحداً من أولئك الذين وصفهم المشركون الطغاة بأنّهم «الأرذلون» وراحت
هذه التسمية يطلقونها عليهم ويعيّرونهم بها حتّى بعد أن أعلن هؤلاء الزعماء
المشركون إسلامهم ، بقيت في نفوسهم وعلى ألسنتهم ، بغض قديم وسخرية
متأصّلة لم يتخلّوا عنها حتّى بعد إعلانهم
الشهادتين .
لفظة
ليست جديدة إنّها قديمة قدم دعوة التوحيد وقد رافقت أكثر مَن آمن بدعوة نوح
وهود وصالح وإبراهيم . . . {أَ
نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ اْلأَرْذَلُونَ}3 ، { وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ
أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ}4 . إنّه استعلاء بل طغيان اتصف به
هؤلاء الذين أرادوا علواً في الأرض وأرادوا فيها فساداً ، يسمّون أنفسهم
أشراف القوم أو ساداتهم وزعماءهم . .
إنّها
الجاهلية العمياء التي لا ترى لأصحاب الدعوات الصالحة أي فضل وأي كرامة ما
دام الذين سبقوا إليها هم من ضعاف الناس وأقلّهم مالا
وسلطاناً .
كيف
يؤمن طغاة قريش برسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) وقد سبقهم إليها عمّار
وأبوه ياسر واُمّه سمية ،
وخباب ، . . .؟!
لقد
أدرك خبّاب الفرق بين الحرية والعبودية فنأى عن الثانية مصوّباً وجهه نحو
الاُولى وكان يعلم الثمن الباهظ الذي سيدفعه فداءً لعمله هذا ، يعلم أنّ
الثمن قد يكون حياته ، لكنّه رأى أنّ الموت بعزٍّ خيرٌ من الحياة
بذلّ ، الموت مؤمناً أفضل من الموت كافراً ، الموت قويّاً أجمل من
أن يموت ضعيفاً .
لقد
أدرك خبّاب البون الشاسع بين الحقّ والباطل { . . .بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ
أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ}5 فنبذ الباطل وأعرض عنه والتحق بصفوف الحقّ
متجاوزاً ما سيتركه فعله هذا عليه من عذاب واضطهاد
وتشريد .
لقد
أدرك خبّاب طعم العلم وذلّ الجهل ، فأدار بوجهه بعيداً عن جاهلية عمياء
نحو { نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي
بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ . . .}6; لهذا فقد خلد خبّاب واخوانه ، وخلد
ظالموهم أيضاً ، إلاّ أنّ الفرق كبير والبون شاسع بين الفريقين ،
وبين الخلودين ، فأولئك دخلوا التاريخ مؤمنين مجاهدين غير ظالمين وقد
خلدوا فيه وهم يحملون هذه الصفات العظيمة فيما دخل هؤلاء التاريخ طغاة
متجبّرين ظالمين ، وقد خلدوا فيه أيضاً ، وهم يحملون أبشع الصفات
وأقذرها . فشتّان شتّان بين الخلودين!
* * *