أبو أيّوب
تلك هي مدرسة مباركة ،
أصلُها ثابت وفرعُها في السماء لا يضرّها من كبا ، ولا يعكر صفوها
من ولى وجهه بعيداً عنها . . وكيف يكدر مسيرتها من شطط ،
ويضعف كيانها من جفا ، وها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) قائم
عليها ، يؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان ، يمدّها بعطائه
الذي لا ينضب ، وبخلقه الذي لا يحد ولا يتوقف ، وبعلمه
الذي لا يبور . .؟!
فكان منهم الصادقون حقّاً ،
وكان منهم الصالحون ، وكان منهم الشهداء . . . وهكذا
ظلّت شجرتها خضراء مورقة معطاء بفضل دمائهم وجهودهم ومواقفهم... رغم ما
تعرّضت له من كيد وتآمر ، وما توغّل في صفوفها من نفاق ، وما حيك
حولها من اتهامات وأثير عليها من شبهات . .
فالصحابة والصحبة مدرسة قلّ
نظريها وفقد شبيهها في التاريخ ، إنّهم طليعة آمنوا بربّهم فزادهم الله
هدًى ; لهذا لا تجد مثيلا لهم في حياتنا قديماً وحديثاً إلاّ من رحم
ربّي ، نخبة صالحة تفرّدت بصفات وخصائص . . راحت تتمّناها
الأجيال المؤمنة وتتحلّى بها وهي تكدح متمنّية رضوان الله
وجنانه . .
إنّ من يقرأ حياتهم مهاجرين
وأنصاراً يضع يده على مزايا عالية وأخلاق رفيعة ومناقب راقية وبسالة
وجهاد ، تحلى بكلّ هذا وبغيره من قيم السماء جمعٌ كثير منهم ، حتّى
إنك تجد وكأنّ بعضاً منهم اصطفته السماء واصطنعته يدُ الغيب لمهام
رساليّة ، وليبقى نموذجاً فذّاً ، ومثالا يتحذّى ، وحجّةً على
غيره ممّن عاصروه والذي جاؤوا من بعدهم ، . . {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين
اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار
خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} .
لقد حظيت هذه الشريحة من الصحابة
بنصيب وافر من رعاية الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) واهتمامه وهديه
وتربيته وتعليمه ، فراحت تستوعب كلّ ذلك بوعي ورغبة ، وتمثّلت ما
اكتسبته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) أسلوباً عملياً ومواقف صلبة ـ لم
تهن ولم تنكل ولم تنقلب ولم تغيّر ولم تبدّل ولم تحد عن منهجه ولم تتجاوز
خطاه ، ظلّت مستقيمة على مبادئها وفيّه لقيمها ، حتّى غدت أمّةً
رساليّة فحملت أعباءً عظيمة ومخاطر جسيمة . .
والأنصار هؤلاء { الذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون
حقّاً}
{ يحبّون من هاجر
إليهم} .
وروي عن رسول الله(صلى الله عليه
وآله) : «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار» . وهذا الصحابيّ
الجليل واحد منهم .
فهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة
بن عبد بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجّار بن ثعلبة بن الخزرج ،
المعروف بـ «أبو أيّوب الأنصاري الخزرجي المالكي» من أشراف الأنصار
وساداتهم . صحابي جليل آخى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بينه وبين
مصعب بن عمير .
مضيف رسول الله(صلى الله عليه
وآله) ، بهذا عرف هذا الصحابي الجليل ، فقد أكرمه الله تعالى
بكرامة أعلت في الدنيا قدره حين اختار بيته من دون البيوت; ليحلّ فيه
رسول الله(صلى الله عليه وآله) حين هاجر من مكّة ، ورحل(صلى الله
عليه وآله) من قباء إلى المدينة ، فبعد أن اقتربت قافلته(صلى الله عليه
وآله)من تخوم هذه البلدة الطيّبة ، وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة
مهاجراً ، وراحت تحييه بدءاً بسعيفات نخلها التي استقبلته بظلالها
الوارفة ، ومروراً بقلوب أهلها التي راحت هي الاُخرى تستقبله بأفضل ما
يتلقّى به مقبلٌ ، وتطلّعت عيونهم إليه ، وفتحت له
أفئدتهم . . . وانتهاءً ببيوتها التي أشرعت
أبوابها . . وحسب هذا الأنصاري بذلك فخراً وشرفاً
وكرامة . . .