الفصل الأول - صواعق‌ الإل‍ه‍ی‍ه‌ ف‍ی‌ ال‍رد ع‍ل‍ی‌ ال‍وه‍اب‍ی‍ه‌ نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

صواعق‌ الإل‍ه‍ی‍ه‌ ف‍ی‌ ال‍رد ع‍ل‍ی‌ ال‍وه‍اب‍ی‍ه‌ - نسخه متنی

س‍ل‍ی‍م‍ان ‌ب‍ن‌ ع‍ب‍دال‍وه‍اب‌ ال‍ن‍ج‍دی‌

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید





الصواعق الإلهية



فـي



الرد على الوهابيّة



( ... ولا تقولوا لمن ألقى إليكم



السَّلَمَ لستَ مؤمناً تبتغون



عرض الحياة الدنيا . . .)



النساء : 4 / 94



قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) :



أيّما رجل قال لأخيه



يا كافر فقد باء بها



أحدهما



البخاري : 7 / 97



مقدمة التحقيق



الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التحيات على خير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين .



منذ أكثر من قرنين ونصف والعالم الاسلامي تشغله فتنة عمياء ظاهرها الدعوة الى الاصلاح وتنقية المجتمع الاسلامي من مظاهر الشرك، وباطنها تمزيق هذا المجتمع وتعميق جراحاته وتكريس عوامل التخلف والركود فيه.



تلك هي فتنة الوهابية التي بدأت فكرة سيئة ثم أصبحت آلة بيد حكام جور يتخذونها وسيلة للفتك والنهب والسلب، وأسوأ طور وصلت اليه هو الطور الأخير الذي أصبحت فيه مطية جيدة للمصالح الاستكبارية في العالم الإسلامي.



وهذه هي المراحل الثلاثة التي اجتازتها الوهابية في تأريخها.



فالمرحلة الأولى هي مرحلة الفكرة السيئة التي أوحت بها عوامل التخلف والتردي التي عاشها العالم الاسلامي أبان الحكم المغولي والتتري، فبعد هذه الفترة العصيبة انبثق نزوع عميق نحو الاصلاح والتغيير ورغبة ملحّة في تجديد البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع الاسلامي. ومن الطبيعي أن تظهر في مثل هذه الحالة محاولات إصلاحية بعضها صادق مصيب وبعضها الآخر كاذب أو مخطئ، وتعتبر محاولة أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحرّاني ( 661 ـ 728 هـ ) من المحاولات التي أخطأت الاصلاح ونأت عن التغيير المطلوب، وذلك حينما استغرقت في الطائفية المقيتة وجعلت تكفير المخالفين لها ركيزة ثابتة، فكانت ولادة مشوّهة غير قادرة على تجسيد أماني الاُمّة وتطلعاتها، ولذلك عجزت عن التواصل والامتداد رغم أنها حظيت بدعم أمثال ابن القيم الجوزية ( 691 ـ 751 هـ ) تلميذ ابن تيمية الذي بذل جهداً فكرياً واسعاً من أجل تثبيتها واستدامتها. اذ لم يكن بإمكان حركة تعسفية تقوم على تكفير الاُمّة أن تكون واقعاً معبّراً عن آمالها وطموحاتها، فانتهت الى الانكفاء وظلت طي الخمول والاندثار من منتصف القرن الثامن وحتى القرن الثاني عشر الهجري، حيث قدّر لرجل أن يتخذ من أفكار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أساساً لحركة جديدة أكثر توغلاً في التكفير وأكثر تحجّراً وجموداً، ذلك هو محمد بن عبد الوهاب ( 1115 ـ 1206 هـ ) الذي أذاع أفكاره في بدء الأمر فردّ عليه والده واصطدم مع مجتمعه حتى كادت حركته أن تخمد لولا أنه هاجر في عام (1160 هـ ) الى الدرعية فرحب به حاكمها محمد بن سعود، واستطاع محمد بن عبد الوهاب أن يقنعه بأن سلطانه سيمتد على نجد وغيرها فيما لو تبنى الدعوة التي جاء بها.



وهكذا انطلقت المرحلة الثانية في الحركة الوهابية وهي مرحلة الآلة الفتاكة التي يتخذها حاكم الدرعية وسيلة للنهب والسلب والاعتداء تحت غطاء الوظيفة الدينية المقدسة، حيث جنّد ابن سعود كل امكاناته من أجلها واندفع بحماس في سبيلها حتى كان تاريخه ومن جاء من اسرته من بعده يتمثل وعلى نطاق واسع بالنهب والسلب والإغارة على المدن المجاورة وغير المجاورة بنحو يغني المتحدث في هذا الجانب عن سرد الشواهد وبيان الأدلة، وحادثة إغارتهم على كربلاء المقدسة عام (1216 هـ ) وارتكاب الوهابيين فيها الفضائع من القتل ونهب الممتلكات الشخصية والذخائر النفيسة لحرم الإمام الحسين(عليه السلام)تكفي لبيان ما كانوا عليه من روحية العدوان والإغارة وغلظة الطبع، والخصائص البدوية هذه هي السر في نجاح الحركة الوهابية في الجزيرة، ولو كانت الوهابية تملك في ذاتها مؤهلات البقاء والاستمرار لكانت حركة ابن تيمية وابن القيم الجوزية أولى منها في ذلك. فرغم أن الأخيرة كانت أقل تطرّفاً إلاّ أنها لم يقدّر لها البقاء بسبب ما ترتكز عليه من قاعدة تكفير المسلمين المخالفين لها. ولذا فما أحرزته الوهابية من وجود واستمرار لا يعود الى مؤهلات ذاتية فيها بقدر ما يعود الى عوامل خارجية تمثلت بانسجام الوهابية مع الشخصية البدوية المنغمرة في الغلظة وروحية السلب والإغارة، ممثلة بحاكم الدرعية محمد بن سعود.



وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت بريطانيا تتجه للتخلص من الشريف حسين ملك الحجاز الطامح الى خلافة إسلامية تشمل العالم العربي كله، فوجدت في آل سعود البديل الجيد ذي الخصائص المثالية الذي يستطيع أن يكون محوراً أساسياً من محاور النفوذ البريطاني في العالم الاسلامي برمته. وبدأت بذلك المرحلة الثالثة في تاريخ الحركة ـ الفتنة ـ الوهابية.



فقد عُرف الاستعمار قديماً وحديثاً بسياسة دعم الأقليات الشاذة في المستعمرات وإسناد الحكم اليها، وذلك من أجل خلخلة التوازن السياسي والاجتماعي بما يؤدي في النتيجة الى صراع داخلي مستمر بين الأكثرية المضطهدة والأقلية الحاكمة التي لا تجد لها نصيراً في الداخل فتلقي بنفسها في أحضان الاستعمار لتستجدي الحماية وتستمد منه مقوّمات البقاء في الحكم والمواجهة مع الأكثرية المحكومة، والوهابية هي الأقلية الأكثر والأسوء شذوذاً في العالم الاسلامي، ومن هنا قامت بريطانيا باَسقاط الشريف حسين واَسناد الحكم لآل سعود في عام (1345 هـ ) ، فكان حكماً عديم النظير في التبعية والولاء للاستعمار.



خصوصيات كتاب الصواعق الإلهية



ونتيجة لشذوذ الوهابية فقد واجهت اعتراضات كثيرة واهتم العشرات من علماء المسلمين ومن مختلف المذاهب الاسلامية بالرد عليها وتفنيد آرائها وتسفيه مقالاتها، ولو شئنا احصاء ما كتب في الرد عليها لكانت النتيجة فهرستاً يحتوي على عشرات الأسماء، وأول ردّ ظهر ضد الوهابية هو كتاب الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية للشيخ سليمان بن عبد الوهاب الاخ الشقيق لمحمد بن عبد الوهاب الذي كتب كتاباً آخر في هذا المجال باسم فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب( [1] ).



وقد طبع كتاب الصواعق الإلهية بمطبعة نخبة الأخبار الهندية في بمبي سنة (1306 هـ ). وركّز فيه المؤلف على شجب منهج التكفير لدى الوهابية، مؤكداً على ان الوهابية قد حرّفت أفكار ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وأن التكفير الذي قالا به هو تكفير الأنواع الذي لا ينحلّ الى تكفير الأفراد المعيّنين في الخارج، وأنه تكفير مشروط بعدم الجهل وبعدم الاجتهاد الخاطىء، فما كان مصدره الجهل أو الاجتهاد الخاطىء لا يُعد كفراً، بينما قالت الوهابية بكفر الأفراد حتى الجاهلين منهم وحتى المجتهدين منهم اجتهاداً خاطئاً، وهذا ما أوصل المؤلف الى نتيجة مفادها، أن أخاه محمد بن عبد الوهاب جاهل بمباني وأفكار اهل السنّة، وأنه لا يملك المؤهلات العلمية المطلوبة لإنشاء رأي في المجالات التي خاضها.



وهكذا اجتمعت في هذا الكتاب عدة خصوصيات جعلته أثراً مهماً من آثار المعارضة الفكرية التي خاضها علماء المسلمين ضد الوهابية، خاصة وأن المؤلف ينتمي الى المذهب الحنبلي والى مدرسة ابن تيمية وابن القيم الجوزية بالذات، ويعتمد في الرد على أفكار ومتبنيات هذه المدرسة.



ومع أننا نتحفظ كثيراً على الأكاذيب والافكار الشّاذة لابن تيمية وابن القيم الجوزية إلاّ أننا نلتقي مع الكتاب في عنصر مهم هو شجب تكفير المسلمين واتهامهم بالشرك، وانطلاقاً من هذا الجانب وجدنا في الكتاب فرصة جيدة لتأكيد وحدة المسلمين وشجب منهج التكفير والطائفية المقيتة. فقمنا بتحقيق الكتاب، وبذلنا في هذا المضمار أقصى ما في وسعنا من الجهد للوصول الى المصادر التي اعتمد المؤلف عليها، وتخريج الأحاديث والنصوص والآراء التي استشهد بها منها، وقد وفقنا لذلك ـ والحمد لله ـ سوى شيء قليل من النصوص والآراء المدوّنة في مصادر قديمة مفقودة لم تصل عالم النشر، أو أن المؤلف اعتمد فيها على نسخ مفقودة مختلفة عن النسخ المتداولة لبعض المصادر.



وقد حرصنا على نشر الكتاب دون تدخّل في تغيير كلمة أو حرف رغم أننا نلمس في بعض عبارات الكتاب ركاكة لا تخفى على القارئ العربي، وفي بعض الموارد التي يكون التغيير فيها ضرورة لغوية أدبية جعلنا الكلمة المطلوبة التي نظيفها هنا بين معقوفتين لتتميز عن الأصل، وحذفنا الأقواس الزائدة الواردة في الكتاب ، ولم نظف الى الكتاب سوى عناوين الفصول وفهرست المطالب.



لجنة التحقيق



مقدمة في التقليد والاجتهاد



وبـه ثقتي



الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله (بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون)( [2] )، صلى الله عليه وعلى آله الى يوم الدين.



أما بعد :



من سليمان بن عبد الوهاب الى حسن بن عيدان.



سلام على من اتبع الهدى.



وبعد :



قال الله تعالى : (ولتكن منكم أُمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)( [3] ) (الآية) وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : الدين النصيحة( [4] ). وأنت كتبت اليَّ أكثر من مرة تستدعي ما عندي، حيث نصحتك على لسان ابن أخيك، فها أنا أذكر لك بعض ما علمت من كلام أهل العلم، فاَن قبلت فهو المطلوب، والحمد لله، وإن أبيت فالحمد لله، فاَنه سبحانه لا يعصى قهراً، وله في كل حركة وسكون حكمة.



فنقول :



اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)(بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدِّين كلِّه)( [5] )، وأنزل عليه (الكتاب تبياناً لكلِّ شيء)( [6] ) فأنجز الله له ما وعده، وأظهر دينه على جميع الأديان، وجعل ذلك ثابتاً الى آخر الدهر، حين انخرام أنفس جميع المؤمنين، وجعل اُمّته خير الاُمم، كما أخبر بذلك بقوله: (كنتم خيرَ اُمّة أُخرجت للنَّاس)( [7] ). وجعلهم شهداء على الناس، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم اُمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس)( [8] ) واجتباهم، كما قال تعالى: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدِّين من حرج)( [9] ) الآية. وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أنتم توفّون سبعين اُمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله( [10] ) ودلائل ما ذكرنا لا تحصى، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يزال أمر هذه الاُمة مستقيماً حتى تقوم الساعة( [11] ). رواه البخاري، وجعل اقتفاء أثر هذه الاُمة واجباً على كل واحد بقوله تعالى: (ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصلهِ جهنّم وساءت مصيراً)( [12] ). وجعل اجماعهم حجة قاطعة لا يجوز لأحد الخروج عنه، ودلائل ما ذكرنا معلومة عند كل من له نوع ممارسة في العلم.



اعلم أن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الجاهل لا يستبد برأيه، بل يجب عليه أن يسأل أهل العلم، كما قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)( [13] ). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هلاّ إذا لم يعلموا سألوا فإنّما دواء العيّ السؤال( [14] ) وهذا اجماع.



قال في غاية السؤال: قال الإمام أبو بكر الهروي أجمعت العلماء قاطبة على أنه لا يجوز لأحد أن يكون إماماً في الدين والمذهب المستقيم حتى يكون جامعاً هذه الخصال وهي :



أن يكون حافظاً للغات العرب واختلافها، ومعاني أشعارها وأصنافها، واختلاف العلماء والفقهاء، ويكون عالماً فقيهاً، وحافظاً للاَعراب وأنواعه، والاختلاف، عالماً بكتاب الله، حافظاً له، ولاختلاف قراءته، واختلاف القرّاء فيها، عالماً بتفسيره ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه وقصصه، عالماً بأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، مميزاً بين صحيحها وسقيمها، ومتصلها ومنقطعها، ومراسيلها ومسانيدها ومشاهيرها، وأحاديث الصحابة، موقوفها ومسندها، ثم يكون ورعاً ديّناً صائناً لنفسه صدوقاً ثقة، يبني مذهبه ودينه على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا جمع هذه الخصال، فحينئذ يجوز أن يكون إماماً، وجاز أن يُقلّد، ويجتهد في دينه وفتاويه، واذا لم يكن جامعاً لهذه الخصال، أو أخلّ بواحدة منها، كان ناقصاً ولم يجز أن يكون إماماً وأن يقلده الناس، قال: قلت: وإذا ثبت أن هذه شرائط لصحة الاجتهاد والإمامة فقد كلُّ من لم يكن كذلك أن يقتدي بمن هو بهذه الخصال المذكورة، وقال: الناس في الدين على قسمين: مقلد ومجتهد، والمجتهدون مختصون بالعلم، وعلم الدين يتعلق بالكتاب والسنّة واللسان العربي الذي وردا به، فمن كان فيما يعلم الكتاب والسنّة وحكم ألفاظهما ومعرفة الثابت من أحكامهما والمنتقل من الثبوت بنسخ أو غيره والمتقدم والمؤخر صحّ اجتهاده، وأن يقلده من لم يبلغ درجته، وفرض من ليس بمجتهد أن يسأل ويقلد، وهذا لا اختلاف فيه( [15] ) انتهى .



انظر قوله : وهذا لا اختلاف فيه، وقال ابن القيم في اعلام الموقعين: لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنّة ما لم يجتمع فيه شروط الاجتهاد ومن جميع العلوم. قال أحمد بن المنادي: سأل رجل أحمد بن حنبل اذا حفظ الرجل مائة ألف حديث هل يكون فقيهاً؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: فثلاث مائة ألف حديث؟ قال: لا، قال: فأربع مائة؟ قال: نعم، قال أبو الحسين: فسألت جدي، كم كان يحفظ أحمد؟ قال: أجاب عن ستمائة ألف حديث، قال أبو اسحاق: لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة، فقال لي رجل: فأنت تحفظ هذا المقدار حتى تفتي الناس؟ قلت: لا إنما أفتي بقول من يحفظ هذا المقدار( [16] ) انتهى.



ولو ذهبنا نحكي من حكى الاجماع لطال، وفي هذا لكفاية للمسترشد، وإنما ذكرت هذه المقدمة لتكون قاعدة يرجع اليها فيما نذكره، فإن اليوم ابتلى الناس بمن ينتسب الى الكتاب والسنّة ويستنبط من علومهما ولا يبالي من خالفه، واذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد، ولا ـ والله ـ عشر واحدة، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهال فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.



الاُمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يردّ لهم في كلمة، بل كلهم كفّار أو جهّال، اللهم أهد الضال ورده الى الحق.



فنقول : قال الله عزوجل : (إنَّ الدِّينَ عند الله الإسلام)( [17] ). وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)( [18] ) وقال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة فخلَّوا سبيلهم)( [19] ) وفي الآية الاُخرى: (فإخوانكم في الدِّين)( [20] ) قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة( [21] ) وقال أيضاً: لا تكونوا كالخوارج تؤولوا آيات القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب والمشركين، فجهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وانتهكوا الأموال وشهدوا على أهل السنّة بالضلالة، فعليكم بالعلم بما نزل فيه القرآن انتهى.



وكان ابن عمر يرى الخوارج( [22] ) شرار الخلق، قال: أنهم عمدوا في آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين رواه البخاري( [23] ) عنه. فحينئذ ذكر الله عزوجل (إِنّ الدين عند الله الإسلام)، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث جبريل في الصحيحين الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله( [24] )(الحديث) وفي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً عبده ورسوله( [25] ). (الحديث).



وفي حديث وفد عبد القيس آمركم بالايمان بالله وحده، أتدرون ما الايمان بالله وحده؟! شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله( [26] ). (الحديث) وهو في الصحيحين، وغير ذلك من الاحاديث وصف الإسلام بالشهادتين وما معهما من الاركان، وهذا اجماع من الاُمة، بل أجمعوا أن من نطق بالشهادتين اُجريت عليه أحكام الإسلام لحديث اُمرت أن اُقاتل الناس( [27] ) ولحديث الجارية أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قلت: رسول الله، قال: أعتقها فانها مؤمنة وكل ذلك في الصحيحين( [28] ) ولحديث كفوا عن أهل لا إله إلاّ الله( [29] ) وغير ذلك.



قال ابن القيمّ اجمع المسلمون على ان الكافر اذا قال لا اله إلاّ الله وان محمّداً رسول الله فقد دخل في الإسلام( [30] ). انتهى.



وكذلك أجمع المسلمون، ان المرتد اذا كانت ردته بالشرك فاَن توبته بالشهادتين، واما القتال ان كان ثم امام قاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وكلّ هذا مسطور مبيّن في كتب أهل العلم من طلبه وجده، فالحمد لله على تمام الإسلام.


الفصل الأول



الحذر من تكفير المسلمين



[ الفصل الأول ]



[ الحذر من تكفير المسلمين ]



اذا فهمتم ما تقدم، فاَنكم الآن تكفّرون من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت، مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله، ملتزماً لجميع شعائر الإسلام، وتجعلونهم كفاراً وبلادهم بلاد حرب !! فنحن نسألكم، من إمامكم في ذلك؟ وممن أخذتم هذا المذهب عنه؟



فاَن قلتم : كفرّناهم لأنّهم مشركون بالله، والذي منهم ما أشرك بالله لم يكفّر من أشرك بالله، لأنّ سبحانه قال: (إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به)( [31] ) (الآية) وما في معناها من الآيات، وانّ أهل العلم قد عدّوا في المكفرات من أشرك بالله.



قلنا: حق الآيات حق، وكلام أهل العلم حق، ولكن أهل العلم قالوا في تفسير أشرك بالله: أي ادعى أن لله شريكاً، فقول المشركين هؤلاء شركاؤن( [32] )، وقوله تعالى: (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء)( [33] )، و(إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون)( [34] )، (اجعل الآلهة إلهاً واحداً)( [35] )، الى غير ذلك مما ذكره الله في كتابه، ورسوله، وأهل العلم، ولكن هذه التفاصيل التي تفصّلون من عندكم، ان من فعل كذا فهو مشرك وتخرجونه من الإسلام من أين لكم هذا التفصيل؟ استنبطتم ذلك بمفاهيمكم؟ فقد تقدم لكم من اجماع الاُمة أنه لا يجوز لمثلكم الاستنباط، الكم في ذلك قدوة من اجماع أو تقليد من يجوز تقليده؟ مع أنه لا يجوز للمقلِّد أن يكفِّر إن لم تجمع الاُمة على قول متبوعه، فبيّنوا لنا من أين أخذتم مذهبكم هذا؟ ولكم علينا عهد الله وميثاقه إن بينتم لنا حتماً يجب المصير اليه، لنتّبع الحق ان شاء الله، فاَن كان المراد مفاهيمكم فقد تقدم أنه لا يجوز لنا ولا لكم ولا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر الأخذ به، ولا نكفّر من معه الإسلام الذي أجمعت الاُمة على من أتى به فهو مسلم، فأما الشرك ففيه أكبر وأصغر، وفيه كبير وأكبر، وفيه ما يُخرج من الإسلام، وفيه ما لا يُخرج من الإسلام، وهذا كله باجماع، وتفاصيل ما يُخرج مما لا يُخرج يحتاج الى تبين أئمة أهل الإسلام [الّذين] اجتمعت فيهم شروط الاجتهاد، فاَن اجمعوا على أمر لم يسع أحداً الخروج عنه، وان اختلفوا فالأمر واسع، فاَن كان عندكم عن أهل العلم بيان واضح فبيّنوا لنا سمعاً وطاعة، والا فالواجب علينا وعليكم الأخذ بالأصل المجمع عليه واتباع سبيل المؤمنين.



وانتم تحتجون أيضاً بقوله عزوجل: (لئن أشركت ليحبطنَّ عملك)( [36] )وبقوله عزوجل في حق الأنبياء : (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)( [37] )وبقوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنَّبيين أرباباً)( [38] ) فنقول: نعم كل هذا حق يجب الايمان به، ولكن من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، اذا دعى غائباً أو ميتاً أو نذر له أو ذبح لغير الله أو تمسّح بقبر أو أخذ من ترابه ان هذا هو الشرك الاكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه؟ وأنه الذي أراد الله سبحانه من هذه الآية وغيرها في القرآن؟ فاَن قلتم: فهمنا ذلك من الكتاب والسنّة، قلنا: لا عبرة بمفهومكم ولا يجوز لكم ولا لمسلم الأخذ بمفهومكم، فاَن الاُمة مجمعة كما تقدم ان الاستنباط مرتبة أهل الاجتهاد المطلق، ومع هذا لو اجتمعت شروط الاجتهاد في رجل لم يجب على أحد الأخذ بقوله دون نظر، قال الشيخ تقي الدين: من أوجب تقليد الامام بعينه دون نظر أنه يستتاب فاَن تاب وإلاّ قتل( [39] ) انتهى.



وإن قلتم أخذنا ذلك من كلام بعض أهل العلم كابن تيمية وابن القيم لأنّهم سموا ذلك شركاً( [40] )، قلنا هذا حق ونوافقكم على تقليد الشيخين أن هذا شرك، ولكن هم لم يقولوا كما قلتم: أنّ هذا شرك أكبر يُخرج من الإسلام وتجري على كل بلد هذا فيها أحكام أهل الردّة!!، بل من لم يكفّرهم عندكم فهو كافر تجري عليه أحكام أهل الردّة!، ولكنهم رحمهم الله ذكروا أن هذا شرك وشددوا فيه ونهوا عنه، ولكن ما قالوا كما قلتم ولا عشر معشاره، ولكنكم أخذتم من قولهم ما جاز لكم دون غيره، بل في كلامهم رحمهم الله ما يدل على أن هذه الأفاعيل شرك أصغر، وعلى تقدير أن في بعض أفراده ما هو شرك أكبر على حسب حال قائله ونيّته، فهم ذكروا في بعض مواضع من كلامهم ان هذا لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة الذي يكفر تاركها كما يأتي في كلامهم إن شاء الله مفصلاً.



ولكنَّ المطلوب منكم هو الرجوع الى كلام أهل العلم والوقوف عند الحدود التي حدّوا، فاَن أهل العلم ذكروا في كل مذهب من مذاهب الأقوال والأفعال التي يكون بها المسلم مرتداً، ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتدّ، ولم يقولوا من طلب من غير الله فهو مرتد، ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد، ولم يقولوا: من تمسح بالقبور وأخذ من ترابها فهو مرتد!، كما قلتم أنتم، فاَن كان عندكم شيء فبيّنوه فاَنه لا يجوز كتم العلم، ولكنكم أخذتم هذا بمفاهيمكم وفارقتم الاجماع وكفّرتم اُمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)كلهم، حيث قلتم من فعل هذه الأفاعيل فهو كافر، ومن لم يكفّره فهو كافر، ومعلوم عند الخاص والعام أن هذه الاُمور ملأت بلاد المسلمين، وعند أهل العلم منهم أنها ملأت بلاد المسلمين من أكثر من سبعمائة عام، وأنّ من لم يفعل هذه الأفاعيل من أهل العلم لم يكفروا أهل هذه الافاعيل، ولم يجروا عليهم أحكام المرتدين، بل أجروا عليهم أحكام المسلمين، بخلاف قولكم حيث أجريتم الكفر والردّة على أمصار المسلمين وغيرها من بلاد المسلمين، وجعلتم بلادهم بلاد حرب حتى الحرمين الشريفين اللذين أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الاحاديث الصحيحة الصريحة أنهما لا يزالا بلاد اسلام( [41] )، وأنهما لا تعبد فيهما الأصنام( [42] )، وحتّى أن الدجال في آخر الزمان يطأ البلاد كلها إلاّ الحرمين، كما تقف على ذلك ان شاء الله في هذه الرسالة( [43] )، فكل هذه البلاد عندكم بلاد حرب، كفار أهلها لأنّهم عبدوا الأصنام، على قولكم وكلهم عندكم مشركون شركاً مخرجاً عن الملة، فانا لله وإنا إليه راجعون، فوالله اَنّ هذا عين المحادّة لله ولرسوله ولعلماء المسلمين قاطبة، فاعظم من رأينا مشدّداً في هذه الاُمور التي تكفّرون بها الاُمة، النذور وما معها، ابن تيمية وابن القيّم، وهما رحمهما الله قد صرحا في كلامهما، ان من الشرك ما هو أكبر من هذا بكثير كثير، واَنّ من هذه الاُمة من فعله وعاند فيه ومع هذا لم يكفّروه، كما يأتي كلامهم في ذلك إن شاء الله تعالى.



فأما النذر فنذكر كلام الشيخ تقي الدين فيه وابن القيم، وهما من أعظم من شدّد فيه وسمّاه شركاً، فنقول: قال الشيخ تقي الدين: النذر للقبور ولأهل القبور ـ كالنذر لإبراهيم الخليل(عليه السلام) أو الشيخ فلان ـ نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدّق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء أو الصالحين كان خيراً له عند الله وانفع( [44] ). (انتهى).



فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة، لأن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل يأمره بتجديد اسلامه، ويقول له خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله، قال الشيخ أيضاً: من نذر سراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه لم يجز، ولا يجوز الوفاء به ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه( [45] ). (انتهى).



فلو كان الناذر كافراً لم يأمره برد نذره اليه، بل أمر بقتله، وقال الشيخ أيضاً: من نذر قنديل نقد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صرف لجيران النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)( [46] ) (انتهى).



فانظر كلامه هذا وتأمله، هل كفّر فاعل هذا أو كفّر من لم يكفّره؟ أو عدّ هذا في المكفّرات هو أو غيره من أهل العلم كما قلتم انتم وخرقتم الاجماع؟ وقد ذكر ابن مفلح في الفروع عن شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية: والنذر لغير الله كنذره لشيخ معين للاستغاثة وقضاء الحاجة منه كحلفه بغيره، وقال غيره: نذر معصية( [47] ). انتهى.



فانظر الى هذا الشرط المذكور، أي نذر له لأجل الاستغاثة به، بل جعله الشيخ كالحلف بغير الله، وغيره من أهل العلم جعله نذر معصية، هل قالوا مثل ما قلتم: من فعل هذا فهو كافر ومن لم يكفّره فهر كافر؟! عياذاً بك اللهم من قول الزور، كذلك ابن القيم، ذكر النذر لغير الله في فصل الشرك الأصغر من المدارج( [48] )، واستدل به بالحديث الذي رواه أحمد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النذر حلفة( [49] ) وذكر غيره من جميع من تسمونه شركاً وتكفّرون به فعل الشرك الأصغر.



وأما الذبح لغير الله، فقد ذكره في المحرمات ولم يذكره في المكفّرات( [50] )، إلاّ أن ذبح للأصنام، أو لما عبد من دون الله، كالشمس والكواكب، وعدّه الشيخ تقي الدين في المحرمات الملعون صاحبها، كمن غيّر منار الارض أو من ضارّ مسلماً( [51] )، كما يأتي في كلامه إن شاء الله تعالى، وكذلك أهل العلم ذكروا ذلك مما اُهلّ به لغير الله، ونهوا عن اهله، ولم يكفّروا صاحبه، وقال الشيخ تقي الدين: كما يفعله الجاهلون بمكة شرّفها الله تعالى وغيرها من بلاد المسلمين من الذبح للجن ولذلك نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذبائح الجن( [52] )( [53] ) انتهى. ولم يقل الشيخ من فعل هذا فهو كافر، بل من لم يكفّره فهو كافر كما قلتم أنتم!



وأما السؤال من غير الله، فقد فصله الشيخ تقي الدين(رحمه الله) إن كان السائل يسأل من المسؤول مثل غفران الذنوب وادخال الجنّة والنجاة من النار وانزال المطر وانبات الشجر وأمثال ذلك مما هو من خصائص الربوبية، فهذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فاَن تاب وإلاّ قتل، ولكن الشخص المعين الذي فعل ذلك لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الذي يكفر تاركها، كما يأتي بيان كلامه في ذلك إن شاء الله تعالى.



فاَن قلت: ذكر عنه في الاقناع أنه قال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفّر اجماع( [54] ).



قلت: هذا حق، ولكن البلاء من عدم فهم كلام أهل العلم، لو تأملتم العبارة تأملاً تاماً لعرفتم أنكم تأولتم العبارة على غير تأويلها، ولكن هذا من العجب، تتركون كلامه الواضح وتذهبون الى عبارة مجملة تستنبطون منها ضد كلام أهل العلم، وتزعمون أن كلامكم ومفهومكم إجماع، هل سبقكم الى مفهومكم من هذه العبارة أحد؟ يا سبحان الله ما تخشون الله!



ولكن انظر الى لفظ العبارة، وهو قوله: يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كيف جاء بواو العطف وقرن بين الدعاء والتوكل، والسؤال هو الطلب الذي تسمونه الآن الدعاء وهو في هذه العبارة لم يقل: أو سألهم، بل جمع بين الدعاء والتوكل والسؤال، والآن أنتم تكفرون بالسؤال وحده، فأين أنتم ومفهومكم من هذه العبارة؟ مع أنه(رحمه الله) بيّن هذه العبارة وأصلها في مواضع من كلامه، وكذلك ابن القيم بيّن أصلها، قال الشيخ: من الصابئة المشركين ممن يظهر الإسلام ويعظّم الكواكب ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه ويسجد لها وينحر ويدعو، وقد صنف بعض المنتسبين الى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والمشركين البراهمة كتاباً في عبادة الكواكب، وهي من السحر الذي عليه الكنعانيون الذي ملوكهم النماردة الذي بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية ملة ابراهيم واخلاص الدين لله الى هؤلاء( [55] ).



وقال ابن القيّم في مثل هؤلاء: يقرّون للعالم صانعاً فاضلاً حكيماً مقدساً عن العيوب والنقائص ولكن لا سبيل لنا الى الوجهة الى جلاله إلاّ بالوسائط، فالواجب علينا أن نتقرب اليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه، فنحن نتقرب اليهم ونتقرب بهم اليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة، فــ (ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا الى الله زلفى)( [56] )، فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع امورنا اليهم، فيشفعون الى إلهنا وإلههم، وذلك لا يحصل إلاّ من جهة الاستمداد بالروحانيات، وذلك بالتضرع والابتهال من الصلوات والزكاة والذبائح القرابين والبخورات، وهؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل، أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يُعبد من دونه من إله، والثاني الايمان برسله وبما جاءوا به من عند الله تصديقاً وإقراراً وانقياد( [57] ). (انتهى). كلام ابن القيم.



فانظر الى الوسائط المذكورة في العبارة كيف تحملونها على غير محملها، ولكن ليس هذا بأعجب من حملكم كلام الله وكلام رسوله وكلام أئمة الإسلام على غير المحمل الصحيح: مع خرقكم الاجماع، وأعجب من هذا انكم تستدلون بهذه العبارة على خلاف كلام من ذكرها ومن نقلها، ترون بها صريح كلامهم في عين المسألة، وهل عملكم هذا إلاّ اتباع المتشابه وترك المحكم؟ أنقذنا الله وإياكم من متابعة الأهواء.



وأما التبرك والتمسح بالقبور وأخذ التراب منها والطواف بها، فقد ذكره أهل العلم، فبعضهم عدّه في المكروهات، وبعضهم عدّه في المحرّمات، ولم ينطق واحد منهم بأن فاعل ذلك مرتد، كما قلتم أنتم، بل تكفّرون من لم يكفّر فاعل ذلك، فالمسألة مذكورة في كتاب الجنائز في فصل الدفن وزيارة الميت، فاَن أردت الوقوف على ما ذكرت لك فطالع الفروع( [58] ) والاقناع( [59] ) وغيرهما من كتب الفقه، فاَن قدحتم فيمن صنّف هذه الكتب، فليس ذلك منكم بكثير، ولكن ليكن معلوماً عندكم، أنّ هؤلاء لم يحكوا مذهب أنفسهم، وانما حكوا مذهب أحمد بن حنبل وأحزابه من أئمة أهل الهدى الذين أجمعت الاُمة على هدايتهم ودرايتهم، فاَن أبيتم إلاّ العناد وادعوتم المراتب العليّة والأخذ من الأدلّة من غير تقليد أئمة الهدى، فقد تقدم أن هذا خرق للاجماع.


الفصل الثاني



اعذار الجاهل والمخطىء



[ الفصل الثاني ]



[ اعذار الجاهل والمخطئ ]



وعلى تقدير هذه الاُمور التي تزعمون أنها كفر، أعني النذر وما معه. فهنا أصل آخر من أصول أهل السنّة مجمعون عليه، كما ذكره الشيخ تقي الدين وابن القيّم عنهم، وهو أن الجاهل والمخطىء من هذه الاُمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، أنه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبين له الحجة الذي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، أو ينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعاً جلياً قطعياً يعرفه كل (واحد) من المسلمين من غير نظر وتأمل، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلاّ أهل البدع.



فلئن قلت: قال الله عزوجل : (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالايمان)( [60] )الآية نزلت في المسلمين تكلموا بالكفر مكرهين عليه.



قلت: هذا حق وهي حجة عليكم لا لكم، فاَن الّذين [الّذي] تكلموا به هو سب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتبري من دينه( [61] )، وهذا كفر إجماعاً يعرفه كل مسلم، ومع هذا اَن الله عزوجل عذر من تكلّم بهذا الكفر مكرهاً، ولم يؤاخذه، ولكن الله سبحانه وتعالى كفّر من شرح بهذا الكفر صدراً، وهو من عرفه ورضيه واختاره على الايمان غير جاهل به، وهذا الكفر في الآية مما أجمع عليه المسلمون، ونقلوه في كتبهم، وكل من عدّ المكفرات ذكره، وأما هذه الاُمور التي تكفّرون بها المسلمين فلم يسبقكم الى التكفير بها أحد من أهل العلم، ولا عدّوها في المكفّرات، بل ذكرها من ذكرها منهم في أنواع الشرك، وبعضهم ذكرها في المحرّمات، ولم يقل أحد منهم: إن من فعله فهو كافر مرتد، ولا احتج عليه بهذه الآية كما احتججتم.



ولكن ليس هذا بأعجب من استدلالكم بآيات نزلت في الذين (إذا قيل لهم لا إله الاّ الله يستكبرون * ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)( [62] )والذين يقال لهم: (أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة اُخرى)( [63] ) والذين يقولون: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء)( [64] ) والذين يقولون: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً)( [65] ) ومع هذا تستدلون بهذه الآيات وتنزلونها على الذين يشهدون أن لا اله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله، ويقولون: ما لله من شريك، ويقولون: ما أحد يستحق ان يعبد مع الله، فالذي يستدل بهذه الآيات على من شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجمع المسلمون على إسلامه ما هو بعجيب لو استدل بالآية على مذهبه، فاَن كنتم صادقين فاذكروا لنا من استدل بهذه الآية على كفر من كفّرتموه بخصوص الأفعال والأقوال التي تقولون: إنها كفر، ولكن والله ما لكم مثَل إلاّ عبدالملك بن مروان لما قال لابنه: ادع الناس الى طاعتك فمن قال عنك برأسه فقل بالسيف على رأسه هكذ( [66] ) يعني اقطعه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.


الفصل الثالث



قد يجتمع في المسلم الكفر والإسلام



[ الفصل الثالث ]



[ قد يجتمع في المسلم الكفر والاسلام ]



وها هنا أصل آخر، وهو أن المسلم قد تجتمع فيه المادتان الكفر والإسلام والكفر والنفاق والشرك والإيمان، وأنها (وأنه) تجتمع فيه المادتان ولا يكفّر كفراً ينقل عن الملة، كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة كما يأتي تفصيله وبيانه إن شاء الله، ولم يخالف في ذلك إلاّ أهل البدع .


الفصل الرابع



عدم كفر الخوارج



[ الفصل الرابع ]



[ عدم كفر الخوارج ]



إعلم ان أول فرقة فارقت الجماعة الخوارج الذين خرجوا في زمن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقد ذكرهم رسول الله، وأمر بقتلهم وقتالهم وقال: يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم( [67] ) وقال فيهم: إنهم كلاب أهل النار( [68] ) وقال انهم يقتلون أهل الإسلام( [69] ) وقال: شر قتلى تحت أديم السماء( [70] ) وقال: يقرأون القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم( [71] )، الى غير ذلك مما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، وهؤلاء خرجوا في زمن علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) وكفّروا علياً وعثمان ومعاوية ومن معهم، واستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم، وجعلوا بلاد المسلمين بلاد حرب، وبلادهم هي بلاد الإيمان، ويزعمون أنهم أهل القرآن ولا يقبلون من السنّة إلاّ ما وافق مذهبهم، ومن خالفهم وخرج عن ديارهم فهو كافر، ويزعمون أن علياً والصحابة رضي الله عنهم أشركوا بالله، ولم يعلموا [يعملوا] بما في القرآن، بل هم على زعمهم الّذي عملوا به، ويستدلون لمذهبهم بمتشابه القرآن، ويُنزلون الآيات التي نزلت في المشركين المكذّبين في أهل الإسلام، هذا وأكابر الصحابة عندهم ويدعونهم الى الحق والى المناظرة، وناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما ورجع منهم الى الحق أربعة آلاف( [72] )، ومع هذا [ هذه ] الاُمور الهائلة والكفر الصريح الواضح وخروجهم عن المسلمين قال لهم علي(رضي الله عنه): لا نبدؤكم بقتال ولا نمنعكم عن مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ولا نمنعكم من الفي ما دامت أيديكم معن( [73] ).



ثم إن الخوارج اعتزلوا وبدأوا المسلمين ـ الامام ومن معه ـ بالقتال، فسار عليهم علي (رضي الله عنه)، وجرى على المسلمين منهم اُمور هائلة يطول وصفها، ومع هذا كله لم يكفروهم الصحابة ولا التابعون ولا أئمة الإسلام ، ولا قال لهم علي ولا غيره من الصحابة: قامت عليكم الحجة وبيّنا لكم الحق، قال الشيخ تقي الدين: لم يكفّرهم علي ولا أحد من الصحابة ولا التابعون ولا أئمة الإسلام( [74] ). انتهى.



فانظر رحمك الله الى طريقة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الاَحجام عن تكفير من يدّعي الإسلام، هذا وهم الصحابة رضي الله عنهم الذين يروون الأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم.



قال الامام أحمد: صحت الأحاديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من عشرة أوجه( [75] ).



قال أهل العلم : كلها خرّجها مسلم في صحيحه، فانظر الى هدى أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة المسلمين، لعلّ الله يهديك الى اتباع سبيل المؤمنين وينبّهك من هذه البلية التي تزعمون الآن أنها السنّة، وهي والله طريقة القوم لا طريقة علي ومن معه، رزقنا الله اتّباع أثارهم.



فاَن قلت : علي نفسه قتل الغالية بل حرقهم بالنار، وهم مجتهدون، والصحابة قاتلوا أهل الردّة.



قلت: هذا كله حق، فأما الغالية( [76] ) فهم مشركون زنادقة أظهروا الإسلام تلبيساً حتى أظهروا الكفر ظهوراً جلياً لا لبس فيه على أحد، وذلك أن علياً(رضي الله عنه)لما خرج عليهم من باب كندة سجدوا له: فقال لهم: ما هذا؟ قالوا له: أنت الله، فقال لهم: أنا عبد من عباد الله، قالوا: بل أنت هو الله، فاستتابهم وعرضهم على السيف وأبوا أن يتوبوا، فأمر بخدّ الأخاديد في الارض وأضرم فيها النار وعرضهم عليها وقال لهم: إن لم تتوبوا قذفتكم فيها: فأبوا ان يتوبوا، بل يقولون له: أنت الله، فقذفهم بالنار فلما أحسّوا بالنار تحرقهم، قالوا: الآن تحققنا أنك أنت الله، لأن ما يعذب بالنار إلاّ الله.



فهذه قصة الزنادقة الذين حرقهم عليّ(رضي الله عنه)، ذكرها العلماء في كتبهم، فاَن رأيتم من يقول لمخلوق هذا هو الله فحرّقوه، وإلاّ فاتقوا الله ولا تلبسوا الحق بالباطل، وتقيسوا الكافرين على المسلمين بآرائكم الفاسدة ومفاهيمكم الواهية.


الفصل الخامس



عدم كفر اهل الردّة



[ الفصل الخامس ]



[ عدم كفر أهل الردّة ]



وأما قتال الصديق والصحابة رضي الله عنهم أهل الردّة، فاعلم أنه لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يبق على الإسلام إلاّ أهل المدينة وأهل مكة والطائف وجوثا ـ قرية من قرى البحرين ـ ، وأخبار الردّة طويلة تحتمل مجلداً ولكن نذكر بعضاً من ذلك من كلام أهل العلم ليتبين لكم ما أنتم عليه، وأنّ استدلالكم بقصة أهل الردّة كاستدلالكم الاول.



قال الامام أبو سليمان الخطابي (رحمه الله): مما يجب أن يعلم أن أهل الردّة كانوا أصنافاً: صنف ارتدوا عن الإسلام ونبذوا الملة وعادوا إلى الكفر الذي كانوا عليه من عبادة الأوثان، وصنف ارتدوا عن الإسلام وتابعوا مسيلمة، وهم بنو حنيفة وقبائل غيرهم صدّقوا مسيلمة ووافقوه على دعواه النبوة، وصنف ارتدوا ووافقوا الأسود العنسي وما ادعاه من النبوة باليمن، وصنف صدقوا طليحة الأسدي وما ادعاه من النبوة، وهم غطفان وفزارة ومن والاهم، وصنف صدّقوا سجاح، فهؤلاء كلهم مرتدّون منكرون لنبوة نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) تاركون للزكاة والصلاة وسائر شرائع الإسلام، ولم يبق من يسجد لله في بسيط الأرض إلاّ مسجد المدينة ومكة وجواثا ـ قرية في البحرين ـ ، وصنف آخر وهم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة ووجوب أدائها الى الإمام( [77] )، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، واَنما لم يُدعوا بهذا الإسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غمار أهل الردّة، فاُضيف الإسم الى الردّة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمّهما، وأُرّخ قتال أهل البغي من زمن علي بن أبي طالب(رضي الله عنه)، إذ كانوا منفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك، وفي أمر هؤلاء عرضوا (عرض) الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله تعالى عنه، حين راجع أبا بكر وناظره واحتج بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): أُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فمن قال لا إله إلاّ الله عصم ماله ونفسه( [78] )، إلى أن قال(رحمه الله): وقد بيّنا أن أهل الردّة كانوا أصنافاً، منهم من ارتدّ عن الملّة ودعى الى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من أنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة رضي الله عنهم كفّاراً، وكذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، ثم لم ينقضِ عصر الصحابة حتّى أجمعوا أن المرتد لا يسبى، فأما مانع [مانعوا] الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فاَنهم أهل بغي، ولم يسمّوا أهل شرك أو فهم كفّار، وإن كانت الردّة اُضيفت اليهم لمشاركتهم للمرتدين في بعض ما منعوه من حق الدين، وذلك أن الردّة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتدّ عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح، وعلق عليهم الإسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كانوا ارتدوا حق.



الى أن قال: فاَن قيل: وهل إذا أنكر طائفة في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من ادائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟



قلنا : لا ، فاَن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً باجماع المسلمين على وجوب الزكاة، فقد عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل، فلا يُعذر منكره، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما اجتمعت عليه الأُمة من اُمور الدين اذا كان علمه منتشراً، كالصلاة والخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الربا والخمر ونكاح المحارم ونحوها من الاحكام، إلاّ أن يكون رجلاً حديث عهد بالاسلام ولا يعرف حدوده فاَنه إن انكر شيئاً منها جاهلاً به لم يكفّر وكان سبيله سبيل اولئك القوم في بقاء الإسم عليه.



فأما ما كان الإجماع معلوماً فيه من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجد السادس وما أشبه ذلك من الأحكام، فاَن من أنكرها لا يكفّر، بل يعذر فيها، لعدم استفاضة علمها في العامة( [79] ) انتهى كلام الخطابي.



وقال صاحب المفهم: قال أبو اسحاق: لما قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدّت العرب إلاّ أهل ثلاثة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد جواث. انتهى.



فهذا شيء مما ذكره بعض أهل العلم في أخبار الردّة، وتفاصيلها يطول ولكن قد تقدم أن مثلكم أو من هو أجلّ منكم لا يجوز له الاستنباط ولا القياس ولا يجوز لأحد أن يقلّده، بل يجب على من لم يبلغ رتبة المجتهدين أن يقلدهم، وذلك بالاجماع، ولكن ليكن عندكم معلوماً، أن من خرج عن طاعة أبي بكر الصديق في زمانه فقد خرج عن الاجماع القطعي، لأنه ومن معه هم أهل العلم وأهل الإسلام وهم المهاجرون والأنصار الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وإمامة أبي بكر إمامة حق، جميع شروط الاُمة مجتمعة فيه، فاَن كان اليوم فيكم مثل أبي بكر والمهاجرين والأنصار والاُمة مجتمعة على إمامة واحد منكم فقيسوا أنفسكم بهم، وإلاّ فبالله عليكم استحيوا من الله ومن خلقه واعرفوا قدر أنفسكم، فرحم الله من عرف قدر نفسه وأنزلها منزلتها وكفّ شره عن المسلمين واتبع سبيل المؤمنين، قال الله تعالى: (ومن يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً)( [80] ).


الفصل السادس



عدم كفر القدرية



[ الفصل السادس ]



[ عدم كفر القدرية ]



لما تقدم الكلام على الخوارج وذكر مذهب الصحابة وأهل السنّة فيهم، وأنهم لم يكفّروهم كفراً يخرج من الإسلام، مع ما فيهم بأنهم كلاب أهل النار، وأنهم يمرقون من الإسلام، ومع هذا كله لم يكفّرهم الصحابة لأنّهم منتسبون الى الإسلام الظاهر، وإن كانوا مخلّين بكثير منه، لنوع تأويل، وأنتم اليوم تكفّرون من ليس فيه خصلة واحدة مما في اُولئك، بل الذين تكفّرونهم اليوم وتستحلّون دماءهم وأموالهم عقائدهم عقائد أهل السنّة والجماعة، الفرقة الناجية جعلنا الله منهم.



ثم خرجت بدعة القدرية( [81] )، وذلك في آخر زمن الصحابة، وذلك أن القدرية فرقتان، فرقة أنكرت القدر رأساً، وقالوا: إن الله لم يقدّر المعاصي على أهلها ولا هو يقدر [على] ذلك، ولا يهدي الضال ولا هو يقدر على ذلك، والمسلم عندهم هو الذي جعل نفسه مسلماً وهو الذي جعل نفسه مصلياً، وكذلك سائر الطاعات والمعاصي، بل العبد هو الذي خلقها بنفسه، وجعلوا العبد خالقاً مع الله والله سبحانه عندهم لا يقدر [أن] يهدي أحداً ولا يقدر [أن ]يضل أحداً، إلى غير ذلك من أقوالهم الكفرية، تعالى الله عما يقول أشباه المجوس علوّاً كبيراً.



الفرقة الثانية من القدرية، من قابل هؤلاء، وزعم أن الله جبر الخلق على ما عملوا، وأن الكفر والمعاصي في الخلق كالبياض والسواد في خلق الآدمي، ما للمخلوق في ذلك صنع، بل جميع المعاصي عندهم تضاف لله، واَمامهم في ذلك إبليس، حيث قال: (فبما أغويتني)( [82] )، وكذلك المشركون الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا)( [83] )، الى غير ذلك من قبائحهم وكفرياتهم التي ذكرها عنهم أهل العلم في كتبهم، كالشيخ تقي الدين وابن القيّم( [84] )، ومع هذا الكفر العظيم والضلالة خرج أوائل هؤلاء في زمن الصحابة رضي الله عنهم، كابن عمر وابن عباس وأجلاء التابعين( [85] )، وقاموا في وجوه هؤلاء وبينوا لهم ضلالهم من الكتاب والسنّة، وتبرأ منهم من عندهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك التابعون، وصاحوا بهم من كل فج، ومع هذا الكفر العظيم الهائل لم يكفّرهم الصحابة ولا من بعدهم من أئمة أهل الإسلام، ولا أوجبوا قتلهم ولا أجروا عليهم أحكام أهل الردّة، ولا قالوا قد كفرتم حيث خالفتمونا لأنّا لا نتكلم إلاّ بالحق وقد قامت عليكم الحجة ببياننا لكم، كما قلتم أنتم هذا.



ومن الراد عليهم والمبيّن ضلالهم الصحابة والتابعون الذين لا يقولون إلاّ حقاً، بل كبير هؤلاء من أئمة دعاتهم قتلوه [قتله] الاُمراء، وذكر أهل العلم أنه قُتل حداً، كدفع الصائل خوفاً من ضرره، وبعد قتله غُسّل وصلّي عليه ودفن في مقابر المسلمين، كما يأتي إن شاء الله ذكره في كلام الشيخ تقي الدين.


الفصل السابع



عدم كفر المعتزلة



[ الفصل السابع ]



[ عدم كفر المعتزلة ]



الفرقة الثالثة من أهل البدع المعتزلة( [86] )، الذين خرجوا في زمن التابعين وأتوا من الأقوال والأفعال الكفريات ما هو مشهور.



منها : القول بخلق القرآن.



ومنها : انكار شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل المعاصي.



ومنها : القول بخلود أهل المعاصي في النار، الى غير ذلك من قبائحهم وفضائحهم التي نقلها أهل العلم عنهم، ومع هذا فقد خرجوا في زمن التابعين ودعوا الى مذهبهم، وقام في العلماء من التابعين ومن بعدهم وردّوا عليهم وبيّنوا باطلهم من الكتاب والسنّة وإجماع علماء الاُمة، وناظروهم أتم المناظرة، ومع هذا أصرّوا على باطلهم ودعوا اليه وفارقوا الجماعة، فبدّعهم العلماء وصاحوا بهم، ولكن ما كفّروهم ولا أجروا عليهم أحكام أهل الردّة، بل أجروا عليهم هم وأهل البدع قبلهم أحكام الإسلام من التوارث والتناكح والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولم يقولوا [ولم يقل] لهم أهل العلم من أهل السنّة: قامت عليكم الحجّة، حيث بيّنا لكم لأنّا لا نقول إلاّ حقاً، فحيث خالفتمونا كفرتم، وحل مالكم ودماؤكم وصارت بلادكم بلاد حرب كما هو الآن مذهبكم، أفلا يكون لكم في هؤلاء الأئمة عبرة فترتدعون عن الباطل وتفيئون الى الحق.


الفصل الثامن



عدم كفر المرجئة



[ الفصل الثامن ]



[ عدم كفر المرجئة ]



ثم خرج بعد هؤلاء المرجئة( [87] )، الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، فمن أقرّ عندهم بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يصلِّ لله ركعة طول عمره ولا صام يوماً من رمضان ولا أدّى زكاة ماله ولا عمل شيئاً من أعمال الخير، بل من أقرّ بالشهادتين فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل والأنبياء، الى غير ذلك من أقوالهم القبيحة التي ابتدعوها في الإسلام، مع أنه صاح بهم أئمة أهل الإسلام وبدّعوهم وضلّلوهم وبيّنوا لهم الحق من الكتاب والسنّة وإجماع أهل العلم من أهل السنّة من الصحابة فمن بعدهم، وأبوا إلاّ التمادي على ضلالهم ومعاندتهم لأهل السنّة، متمسكين هم ومن قبلهم من أهل البدع بمتشابه من الكتاب والسنّة، ومع هذه الامور الهائلة فيهم لم يكفّروهم [يكفّرهم] أهل السنّة ولا سلكوا مسلككم فيمن خالفكم ولا شهدوا عليهم بالكفر ولا جعلوا بلادهم بلاد حرب، بل جعلوا الاُخوّة الإيمانية ثابتة لهم ولمن قبلهم من أهل البدع، ولا قالوا لهم كفرتم بالله ورسوله، لأنّا بيّنا لكم الحقّ فيجب عليكم اتباعنا، لأنّا بمنزلة الرسول، من خطّأنا فهو عدو الله ورسوله، كما هو قولكم اليوم، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.


الفصل التاسع



عدم كفر الجهمية



[ الفصل التاسع ]



[ عدم كفر الجهمية ]



ثم حدث بعد هؤلاء الجهمية( [88] ) الفرعونية الذين يقولون: ليس على العرش إله يعبد، ولا لله في الأرض من كلام، ولا عرج بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لربه، وينكرون صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأجمع على القول بها الصحابة فمن بعدهم، وينكرون رؤية الله سبحانه في الآخرة، ومن وصف الله سبحانه بما وصف به نفسه ووصف به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو عندهم كافر، الى غير ذلك من أقوالهم وأفعالهم التي هي غاية الكفر، حتى أن أهل العلم سموهم الفرعونية تشبيها لهم بفرعون( [89] )، حيث أنكر الله سبحانه، ومع هذا فردّ عليهم الأئمة وبينوا بدعتهم وضلالهم وبدّعوهم وفسّقوهم وجعلوهم أكفر ممن قبلهم من أهل البدع وأقل تشبثاً بالشريعات [بالشرعيات]، وقالوا عنهم: أنهم قدّموا عقولهم على الشرعيات، وأمر أهل العلم بقتل بعض دعاتهم، كالجعد بن درهم وجهم بن صفوان، وبعد أن قتلوا غسّلوهم وصلوا عليهم ودفنوهم مع المسلمين، كما ذكر ذلك الشيخ تقي الدين، ولم يجروا عليهم أحكام أهل الردّة، كما أجريتم أحكام أهل الردّة على من يقل أو يفعل عشر معشار ما قالوا (قاله) هؤلاء أو فعلوا، بل والله كفّرتم من قال الحق الصرف حيث خالف أهواءكم.



وإنّما لم أذكر فرقة الرافضة لأنّهم معروفون عند الخاص والعام وقبائحهم مشهورة( [90] )، ومن هؤلاء الفرق الذين ذكرنا تشعبت الثنتان والسبعون فرقة أهل الضلالة المذكورون في السنّة في قوله عليه الصلاة والسلام تفترق هذه الاُمة على ثلاث وسبعين فرقة( [91] ) وما سوى الثنتين والسبعين وهي الثالثة والسبعون هم الفرقة الناجية أهل السنّة والجماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)والى آخر الدهر، وهي التي لا تزال قائمة على الحق( [92] )، رزقنا الله اتّباعهم بحوله وقوته، وكلما ذكرت من أخبار هذه الفرقة فاَنما أخذته من كتب أهل العلم، وأكثر ما أنقل عن ابن تيمية وابن القيّم.


الفصل العاشر



مذهب السلف في عدم تكفير



الفرق الاسلامية



[ الفصل العاشر ]



[ مذهب السلف في عدم تكفير الفرق الإسلامية ]



وها أنا أذكر لك شيئاً مما ذكر أهل العلم، من أن مذهب السلف عدم القول بتكفير هؤلاء الفرق الذين تقدم ذكرهم.



قال الشيخ تقي الدين في كتاب الإيمان: لم يكفّر الامام أحمد الخوارج ولا المرجئة ولا القدرية، وإنما المنقول عنه وعن أمثاله تكفير الجهمية، مع أن أحمد لم يكفّر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: أنا جهمي كفّره، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا الى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، ولم يكفّرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى لهم الائتمام بالصلاة خلفهم والحج والغزو معهم، ومنع من الخروج عليهم بما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموهم أنه كفر كان ينكره ويجاهدهم على ردّه بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اظهار السنّة والدين وانكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والاُمة، وإن كانوا جهّالاً مبتدعين وظلمة فاسقين( [93] ). انتهى كلام الشيخ، فتأمله تأملاً خالياً عن الميل والحيف.



وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: من كان في قلبه الايمان بالرسول وبما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع ولو دعى اليها، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للاُمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفّرهم لا علي ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن ومن كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافراً، وإن كان أخطأ في التأويل كائناً من كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة من النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحد منهم يكفّر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنّة واجماع الصحابة بل واجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفّر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة( [94] ) انتهى كلامه، فتأمّله وتأمل حكاية الإجماع من الصحابة وغيرهم من أهل السنّة مع ما تقدم لك مما في مذاهبهم من الكفر العظيم، لعلك تنتبه من هذه الهوة التي وقعت فيها أنت وأصحابك.



وقال ابن القيم: في طرق أهل البدع الموافقون على أصل الإسلام ولكنهم مختلفون في بعض الاُصول كالخوارج والمعتزلة والقدرية والرافضة( [95] )والجهمية غلاة المرجئة فهؤلاء أقسام:



أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفّر ولا يفسّق ولا تردّ شهادته اذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.



القسم الثاني : متمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته ولذاته ومعاشه، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما أوجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا إن غلب ما فيه من السنّة والهدى على ما فيه من البدعة والهوى قُبلت شهادته.



الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويترك تعصباً أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً وتكفيره محل اجتهاد( [96] ). انتهى كلامه فانظره وتأمله، فقد ذكر هذا التفصيل في غالب كتبه، وذكر أن الأئمة وأهل السنّة لا يكفّرونهم، هذا مع ما وصفهم به من الشرك الأكبر والكفر الأكبر، وبيّن في غالب كتبه مخازيهم، ولنذكر من كلامه طرفاً تصديقاً لما ذكرنا عنه.



وقال (رحمه الله) في المدارج : المثبتون للصانع نوعان : أحدهما أهل الاشراك به في ربوبيته وإلهيته [ واُلوهيته ] كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية، فإنهم يثبتون مع الله إلهاً آخر، والمجوسية القدرية تثبت مع الله خالقاً للأفعال، ليست أفعالهم مخلوقة لله ولا مقدورة له وهي صادرة بغير مشيئته تعالى وقدرته، ولا قدرة له عليها، بل هم الذين جعلوا أنفسهم فاعلين مريدين شيائين وحقيقة قول هؤلاء أن الله ليس رباً خالقاً لأفعال الحيوان( [97] ) انتهى كلامه.



وقد ذكرهم بهذا الشرك في سائر كتبه، وشبّههم بالمجوس الذين يقولون: إن للعالم خالقين، وانظر لمّا تكلم على التكفير هو وشيخه كيف حكوا عدم تكفيرهم عن جميع أهل السنّة حتى مع معرفة الحق والمعاندة، قال: كفره محل اجتهاد، كما تقدم كلامه قريباً.



أيضاً الجهمية ذكرهم بأقبح الأوصاف، وذكر أن شركهم شرك فرعون، وأنهم معطلة، وأن المشركين أقل شركاً منهم، وضرب لهم مثلاً في النونية( [98] )وغيره من كتبهم [ كتبه ] كالصواعق وغيرها، وكذلك المعتزلة كيف وصفهم بأكبر القبائح، وأقسم أن قولهم وأحزابهم من أهل البدع لا تبقي من الإيمان حبة خردل، فلمّا تكلم على تكفيرهم في النونية لم يكفّرهم، بل فصّل في موضع منها، كما فصّل في الطرف، كما مرّ، وموضع آخر فيه عن أهل السنّة مخاطبة لهؤلاء المبتدعة الذين أقسم أن قولهم لا يبقي من الايمان حبة خردل، يقال [ يقول ] : واشهد علينا بأنّا لا نكفّركم بما معكم من الكفران، إذ أنتم أهل الجهالة عندنا لستم اُولي كفر ولا إيمان( [99] )، ويأتي إن شاء الله تعالى لهذا مزيد من كلام الشيخ تقي الدين وحكاية إجماع السلف، وأن التكفير هو قول أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والرافضة.



وقال أبو العباس ابن تيمية (رحمه الله) في كلام له في الفرقان: ودخل أهل الكلام المنتسبين الى الإسلام من المعتزلة ونحوهم في بعض مقالة الصابئة والمشركين، ممن لم يهتدي بهدى الله الذي أرسل به رسله من أهل الكلام والجدل، صاروا يريدون أن يأخذوا مأخذهم كما أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: لتأخذن مأخذ من كان قبلكم( [100] ). الحديث الصحيح، الى أن قال: إن هؤلاء المتكلّمين أكثر حقّاً وأتبع للأدلة، لما تنورت به قلوبهم من نور القرآن والإسلام، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فوافقوا اُولئك على أن الله لا يتكلم ولا تكلم، كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات الى ان قال: فلما رأوا أن الرسل متفقة على أن الله متكلم والقرآن من إثبات قوله وكلامه صاروا تارة يقولون: ليس بتكلم حقيقة بل مجازاً، وهذا قولهم الاوّل لـمّا كانوا في بدعتهم وكفرهم على الفطرة قبل أن يدخلوا في العناد والجحود، الى أن قال: وهذا قول من يقول القرآن مخلوق، الى أن قال: وأنكر هؤلاء أن يكون الله متكلماً أو قائلاً على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، وأفهمت الرسل لقومهم، واتفق عليه أهل الفطر السليمة، الى أن قال: ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة وبين المسلمين المؤمنين اتباع الرسول الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل، واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض واتبع المؤمنون ما اُنزل اليهم من ربهم وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى حتى كان عبدالله بن المبارك ليقول: انّا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نحكي قول الجهمية، وكان قد كثر هؤلاء الذين هم فروع المشركين ومن اتّبعهم من الصابئة في آخر المائة الثانية في اَمارة المأمون، وظهرت علوم الصابئين والمنجّمين ونحوهم، فظهرت هذه المقالة في أهل العلم وأهل السيف والامارة، وصار في أهلها من الخلفاء والامراء والوزراء والفقهاء والقضاة وغيرهم ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات( [101] ) انتهى كلام الشيخ (رحمه الله) .



فانظر في هذا الكلام، وتدبّره كيف وصف هؤلاء بأعظم الكفر والشرك وبالإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، وانهم فروع المشركين والصابئة، وأنهم أخذوا مأخذ القرون من قبلهم أهل الكفر، وأنهم خالفوا العقل والنقل والفطرة، وأنهم خالفوا جميع الرسل في قولهم، وأنهم عاندوا الحق، وأنّ اهل العلم يقولون: [ أن ] قولهم هذا أخبث من قول اليهود والنصارى، وأنهم عذبوا المؤمنين والمؤمنات على الحق، وهؤلاء الذين عنى بهذا الكلام هم المعتزلة والقدرية والجهمية ومن سلك سبيلهم من أهل البدع وغيرهم، والخلفاء الذين يعنيهم المأمون والمعتصم والواثق ووزراؤهم وقضاتهم وفقهاؤهم، وهم الذين جلدوا الامام أحمد (رحمه الله)وحبسوه وقتلوا أحمد بن بصير الخزاعي وغيره، وعذّبوا المؤمنين والمؤمنات، يدعونهم الى الأخذ بقولهم( [102] )، وهم الذين يعني بقوله فيما تقدم وما يأتي : أن الامام أحمد لا يكفّرهم ولا أحد من السلف، وأن أحمد صلى خلفهم واستغفر لهم ورأى الائتمام بهم وعدم الخروج عليهم، وأن الامام أحمد يرد قولهم الذي هو كفر عظيم، كما تقدم كلامه فراجعه.



فبالله عليك تأمل أي [ أين ] هذا وأي [ وأين ] قولكم فيمن خالفكم فهو كافر ومن لم يكفّره فهو كافر؟! بالله عليكم انتهوا عن الخفا [ الخنا ] وقول الزور واقتدوا بالسلف الصالح وتجنبوا طريق أهل البدع ولا تكونوا كالذي (زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً)( [103] ).



قال الشيخ تقي الدين (رحمه الله) : ومن البدع المنكرة، تكفير الطائفة وغيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم، وهذا عظيم لوجهين:



أحدهما : أن تلك الطائفة الاُخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفِّرة لها، بل قد تكون بدعة الطائفة المكفِّرة لها أعظم من بدعة الطائفة المكفَّرة، وقد تكون نحوها وقد تكون دونها، وهذا حال عامّة أهل البدع والأهواء الذين يكفّرون بعضهم بعضاً، وهؤلاء من الذين قال الله فيهم: (إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)( [104] ).



الثاني : أنه لو فرض أن احدى الطائفتين مختصة بالبدعة والاُخرى موافقة للسنة، لم يكن لهذه السنّة أن تكفّر كل من قال قولاً أخطأ فيه، فاَن الله تعالى قال: (ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)( [105] ) وثبت في الصحيح عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أن الله تعالى قال: قد فعلت( [106] ) وقال تعالى : (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم)( [107] ).



وروي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إن الله تجاوز لاُمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه وهو حديث حسن ورواه ابن ماجة( [108] ) وغيره( [109] )، وقد أجمع الصحابة والتابعون لهم باحسان وسائر أئمة المسلمين، على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفّر بذلك، ولو كان قوله مخالفاً للسنة، ولكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع.



وقال الشيخ (رحمه الله) أيضاً : الخوارج لهم خاصيتان مشهورتان فارقوا بها جماعة المسلمين وأئمتهم.



احدهما [ احداهما ] : خروجهم عن السنّة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، وجعلهم ما ليس بحسنة حسنة.



الثاني [ ثانيتهما ] : في الخوارج وأهل البدع، أنهم يكفّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على ذلك استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان، وبذلك يقول جمهور الرافضة( [110] )وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبة الى أهل الحديث، فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين، وما يتولد عنهما من بعض المسلمين وذمّهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم، وعامة البدع إنما تنشأ من هذين الأصلين:



أما الأول : فسببه التأويل الفاسد، إمّا حديث بلغه غير صحيح أو عن غير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، قلّد قائله فيه ولم يكن ذلك القائل مصيباً، أو تأويل تأوّله من آية من كتاب الله ولم يكن التأويل صحيحاً، أو قياساً فاسداً، أو رأياً رآه اعتقده صواباً وهو خط الى أن قال : قال أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس( [111] )، وقال الشيخ : أهل البدع صاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنّون صحتها، إما في دلالة الألفاظ وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأمّلون بيان الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّها تكون ضلالاً، وقد تكلّم احمد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال بيان [ ببيان ] الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة والتابعين، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين لا يعدلون عن بيان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)اَن وجدوا الى غير ذلك سبيل( [112] )، وقال الشيخ أيضاً: أني دائماً ومن جالسني يعلم مني أني من أعظم الناس نهياً من أن يُنسب معيّن الى تكفير أو الى تفسيق أو معصية، إلاّ إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً اُخرى وعاصياً اُخرى، اَني اُقرر أن الله قد غفر لهذه الاُمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل العلمية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد منهم معيّن لأجل ذلك لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة (بل عجبت ويسخرون)( [113] )، وقال: ان الله لا يعجب( [114] )، الى أن قال: وقد آل النزاع بين السلف الى الاقتتال مع اتفاق أهل السنّة على أنّ الطائفتين جميعاً مؤمنتان ، وأنّ القتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسق، وكنت اُبيّن لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الاُمّة من مسائل الاُصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فاَنّ نصوص الوعيد في القرآن المطلقة عامة كقوله تعالى: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)( [115] ) الآية، وكذلك سائر ما ورد من فعل كذا فله كذا أو فهو كذا، فاَن هذه النصوص مطلقة عامة، وهي بمنزلة من قال من السلف من قال كذا فهو كافر، الى ان قال: والتكفير يكون من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر، أو وجب تأويلها وان كان مخطئاً، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله : اذا أنا متّ فأحرقوني الحديث، فهذا رجل شك في قدرة الله وفي اعادته اذا ذرّي، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأوّل من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالمغفرة من مثل هذ( [116] ) (انتهى) .



وقال الشيخ (رحمه الله) وقد سُئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير فأجاب وأطال وقال في آخر الجواب: لو فرض أن رجلاً دفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر حماية له ونصراً لأخيه المسلم، لكان هذا غرضاً شرعياً حسناً، وهو اذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر( [117] )وقال (رحمه الله): التكفير إنما يكون بإنكار ما عُلم من الدين بالضرورة أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليه (انتهى).



فانظر الى هذا الكلام وتأمّله، وهل هذا كقولكم هذا كافر ومن لم يكفّره فهو كافر؟ وهو قال: ان دفع عنه التكفير وهو مخطئ فله أجر، وانظر وتأمل كلامه الأوّل، وهو أنّ القول قد يكون كفراً ولكن القائل أو الفاعل لا يكفّر، لاحتمال اُمور منها عدم بلوغ العلم على الوجه الذي يكفر به، إمّا لم يبلغه وإمّا بلغه ولكن ما فهمه، أو فهمه ولكن قام عنده معارض أوجب تأويله، الى غير ذلك مما ذكره، فيا عباد الله تنبّهوا وارجعوا الى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا، ولا يستفزكم الشيطان ويزيّن لكم تكفير أهل الإسلام، وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الإسلام موافقتكم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وعلى مراد رسوله، انقذنا الله واياكم من متابعة الاهواء.



قال ابن القيّم (رحمه الله) تعالى لما ذكر أنواع الكفر: وكفر الجحود نوعان، كفر مطلق عام وكفر مقيّد خاص، فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزل الله ورسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخاص المقيّد أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو محرّماً من محرّماته أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عالماً عمداً لغرض من الأغراض، واما ذلك جهلاً أو تأويلاً يعذر فيه فلا يُكفّر صاحبه لما في الصحيحين( [118] ) والسنن( [119] ) والمسانيد عن أبي هريرة قال: قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): قال رجل لم يعمل خيراً قط لأهله، ـ وفي رواية: أسرف رجل على نفسه ـ فلما حضر أوصى بنيه اذا مات فحرّقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لاَن قدر الله عليه ليعذبنّه عذاباً ما عذّب به أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر وجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك يا رب وانت تعلم، فغفر له.



فهذا منكر لقدرة الله عليه، ومنكر للبعث والمعاد، ومع هذا غفر الله له وعذره بجهله، لانّ ذلك مبلغ علمه لم ينكر ذلك عناداً، وهذا فصل النزاع في بطلان قول من يقول: إن الله لا يعذر العباد بالجهل في سقوط العذاب اذا كان ذلك مبلغ علمه( [120] ) (انتهى).



وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) عن التكفير الواقع في هذه الاُمّة من أول من أحدثه وابتدعه؟ فأجاب: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة، وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره، واضطرب الناس في ذلك، فمن الناس من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك. وعن أحمد روايتان، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم قولان، وحقيقة الأمر في ذلك، أن القول قد يكون كفراً فيطلق القول تكفير [ بتكفير ] قائله، ويقال: من قال: كذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يكفّر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفّر تاركها من تعريف الحكم الشرعي من سلطان أو أمير مطاع، كما هو المنصوص عليه في كتب الأحكام فاذا عرّفه الحكم وزالت عنه الجهالة قامت عليه الحجة، وهذا كما هو في نصوص الوعيد من الكتاب والسنّة، وهي كثيرة جداً والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعيّن شخصاً من الأشخاص، فيقال: هذا كافر أو فاسق أو ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار، لا سيما إن كان للشخص فضائل وحسنات، فاَنّ ما سوى الانبياء يجوز عليهم الصغائر والكبائر، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صدّيقاً أو شهيداً أو صالحاً، كما قد بسط في غير هذا الموضع من ان موجب الذنوب تتخلف عنه بتوبة أو باستغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة أو لمحض مشيئة الله ورحمته.



فإذا قلنا بموجب قوله تعالى : (ومن يقتل مؤمناً متعمّداً)( [121] ) الآية وقوله: (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)( [122] ) وقوله: (ومن يَعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده)( [123] ) الآية وقوله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)( [124] ) الى قوله : (ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً)( [125] )، الآية، الى غير ذلك من آيات الوعيد، قلنا بموجب قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لعن الله من شرب الخمر( [126] )، أو من عقّ والديه( [127] ) أو من غيّر منار الأرض( [128] )، أو من ذبح لغير الله( [129] )، أو لعن الله السارق( [130] )، أو لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه( [131] )، أو لعن الله لاوي الصدقة والمتعدي فيه( [132] )، أو (من أحدث في المدينة حدثاً، أو آوى محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين)( [133] )، الى غير ذلك من أحاديث الوعيد، ولم يجز أن تعين شخصاً ممن فعل بعض هذه الأفعال وتقول: هذا المعيّن قد صابه هذا الوعيد، لاَمكان التوبة وغيره من مسقطات العقوبة( [134] )، الى أن قال: ففعل هذه الاُمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد ونحو ذلك، وغايته أنه معذور من لحوق الوعيد( [135] ) به لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد بهم لتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفّرة أو غير ذلك، وهذه السبيل هي التي يجب اتّباعها، فاَن ما سواها طريقان خبيثان، أحدهما: القول بلحوق الوعيد بكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى أنها عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفّرين بالذنوب، والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار وأدلته معلومة في غير هذا الموضع، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعيّن الذي فعله لا يُشهد عليه بالوعيد، فلا يُشهد على معيّن من أهل القبلة بالنار لفوات شرط أو لحصول مانع، وهكذا الأقوال الذي يكفر قائلها، قد يكون القائل لها لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو قد عرضت له شبهات يعذره الله به، فمن كان مؤمناً بالله وبرسوله مُظهراً للإسلام محباً لله ورسوله فاَنّ الله يغفر له ولو قارف بعض الذنوب القولية أو العملية، سواء أُطلق عليه لفظ الشرك أو لفظ المعاصي، هذا الذي عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجماهير أئمة الإسلام، لكن المقصود أنّ مذاهب الائمة مبنية على هذا التفصيل بالفرق بين النوع والعين، بل لا يختلف القول عن الامام أحمد وسائر أئمة الإسلام كمالك وأبي حنيفة والشافعي أنهم لا يكفّرون المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول لا عمل، ونصوصهم صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، واَنما كان الإمام أحمد يطلق القول بتكفير الجهمية لأنه ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كانوا يكفّرون أعيانهم، فاَن الذي يدعو الى القول أعظم من الذي يقوله ولا يدعو اليه، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفّر مخالفه أعظم من الذي يعاقب، ومع هذا فالذين من ولاة الاُمور يقولون بقول الجهمية: إنّ القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة، وان ظاهر القرآن لا يحتج به في معرفة الله ولا الأحاديث الصحيحة، وأن الدين لا يتم الا بما زخرفوه من الآراء والخيالات الباطلة والعقول الفاسدة، وأن خيالاتهم وجهالاتهم أحكم في دين الله من كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنّ أقوال الجهمية والمعطّلة من النفي والاثبات أحكم في دين الله، بسبب ذلك امتحنوا المسلمين وسجنوا الامام أحمد وجلدوه وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين، ومع ذلك لا يطلقون أسيراً ولا يُعطون من بيت المال إلاّ من وافقهم ويقرّ بقولهم، وجرى على الإسلام منهم اُمور مبسوطة في غير هذا الموضع، ومع هذا التعطيل الذي هو شرّ من الشرك فالإمام أحمد ترحم عليهم واستغفر لهم، وقال: ما علمت أنهم مكذّبون للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا جاحدون لما جاء به، لكنهم تأولوا فأخطأوا، أو قلّدوا من قال ذلك، والإمام الشافعي لما ناظر حفص الفرد من أئمة المعطلة في مسألة القرآن وقال: القرآن مخلوق، قال له الإمام الشافعي: كفرت بالله العظيم، فكفّره ولم يحكم بردته بمجرد ذلك( [136] )، ولو اعتقد ردّته وكفره لسعى في قتله، وأفتى العلماء بقتل دعاتهم مثل غليان القدري( [137] ) والجعد بن درهم( [138] ) وجهم بن صفوان( [139] ) إمام الجهمية وغيرهم، وصلّى الناس عليهم ودفنوهم مع المسلمين، وصار قتلهم من باب قتل الصائل لكفّ ضررهم لا لردّتهم، ولو كانوا كفاراً لرآهم المسلمون كغيرهم، وهذه الاُمور مبسوطة في غير هذا الموضع انتهى كلام الشيخ (رحمه الله) .



وإنّما سقته بطوله لبيان ما تقدم مما أشرت اليه، ولما فيه من إجماع الصحابة والسلف وغير ذلك مما فصّل، فإذا كان هذا كفر هؤلاء وهو أعظم من الشرك كما تقدم بيانه مراراً من كلام الشيخين، مع أَن أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم الى زمن أحمد بن حنبل هم المناظرون والمبيّنون لهم، مع أن قولهم هذا خلاف الكتاب والسنّة واجماع سلف الاُمة من الصحابة فمن بعدهم وهو خلاف العقل والنقل مع البيان التام من أهل العلم، ومع هذا لم يكفروهم، حتى دعاتهم الذين قُتلوا لم يكفّروهم [ يكفرهم ] المسلمون، اما في هذا عبرة لكم؟ تكفّرون عوام المسلمين وتستبيحون دماءهم وأموالهم وتجعلون بلادهم بلاد حرب ولم يوجد منهم عشر معشار ما وجد من هؤلاء؟ وإن وجد منهم شيء من أنواع الشرك سواء شرك أصغر أو أكبر فهم جهّال لم تقم عليهم الحجة الذي يكفر تاركها، أتظنون أن اُولئك السادة أئمة أهل الإسلام ما قامت الحجة بكلامهم وأنتم قامت الحجة بكم؟ بل والله تكفّرون من لا يكفّر من كفّرتم، وإن لم يوجد منه شيء من الشرك والكفر، الله أكبر لقد جئتم شيئاً إدّاً.



يا عباد الله اتقوا الله، خافوا اذاً البطش الشديد، لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات، (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)( [140] )، والله ما لعباد الله عند الله ذنب إلاّ أنهم لم يتّبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة بإسلامه، وأجمع المسلمون على إسلامه، فاَن اتبعوكم أغضبوا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن عصوا آراءكم حكمتم بكفرهم وردّتهم، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لست أخاف على اُمتي جوعاً يقتلهم ولا عدواً يجتاحهم، ولكن أخاف على اُمتي أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم وإن عصوهم قتلوهم رواه الطبراني( [141] ) من حديث أبي اُمامة، وكان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يقول: أطيعوني ما أطعت الله وان عصيت فلا طاعة لي عليكم( [142] ) ويقول: أنا اُخطئ واُصيب وإذ أضرّ به أمرٌ جمع الصحابة واستشارهم، وعمر يقول مثل ما قال أبو بكر ويفعل مثل ما يفعل، وكذلك عثمان وعلي ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ .



وأئمة أهل العلم لا يلزمون أحداً أن يأخذ بقولهم، بل لما عزم الرشيد بحمل الناس على الأخذ بموطأ الإمام مالك (رضي الله عنه) قال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين فاَنّ العلم انتشر عند غيري( [143] ) أو كلاماً هذا معناه، وكذلك جميع العلماء أهل السنّة لم يلزم أحد منهم الناس الأخذ بقوله، وأنتم تكفّرون من لا يقول بقولكم ويرى رأيكم، سألتك بالله أنتم معصومون فيجب الأخذ بقولكم ؟



فاَن قلت: لا ، أسألك بالله، أهَل ( هل ) اجتمع في رجل منكم شروط الإمامة التي ذكرها أهل العلم، أو حتى خصلة واحدة من شروط الإمامة؟ بالله عليكم انتهوا واتركوا التعصيب [ التعصب ]، هبنا عذرنا العامي الجاهل الذي لم يمارس شيئاً من كلام أهل العلم، فأنت ما عذرك عند الله اذا لقيته؟ بالله عليك تنبّه واحذر عقوبة جبار السماوات والأرض، فقد نقلنا لك كلام أهل العلم وإجماع أهل السنّة والجماعة الفرقة الناجية، وسيأتيك إن شاء الله ما يصير سبباً لهداية من أراد الله هدايته.



/ 4