"مقدمة المجمع" - قیادة الامام الصادق (ع) (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قیادة الامام الصادق (ع) (1) - نسخه متنی

سید علی خامنه ای؛ مترجم: محمد علی آذرشب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید





قيادة الامام الصادق/ص6-56 قيادة الامام الصادق (عليه السلام) سماحة آية اللّه السيد علي الخامنئي دام ظلّه ترجمة الدكتور محمد علي آذرشب


"مقدمة المجمع"





تتميز حياة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام باءنها سلسلة مترابطة الحلقات محكمة البناء، وكانت طبيعة المرحلة التي يعيشها كل امام تفرض عليه موقفاً قد يبدو ظاهرياً يختلف اختلافاً جذرياً عن موقف من سبقه أو لحقه ، كـما في موقفي الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام . وهذا في الحقيقة ليس اختلافاً، بل هو استجابة لما تمليه الظروف ، بحيث يكون الموقف حيال هذه الاستجابة مكملاً للدورالذي كان يقوم به الامام السابق ، أو هو ممهد للدور الذي سوف يضطلع به الامام اللاحق .



ونتيجة لعدم وضوح الرؤية عند البعض ممن تعرّض لحياة الأئمة بالبحث كانت تظهر نظريات وتطرح آراء لتحليل واقع وطبيعة الدورالذي كان كل إمام يقوم به ، وهذه النظريات والآراء ليس منشاءهاالفهمُ الصحيح المدرك لحقيقة الموقف ، بل هو التحليل الخاطئوالدراسة الهامشية التي لا تستند إلى اُسس الامامة والعصمة ، بل تبتني على أسس واهية تتعارض كلياً مع الايمان بالقيادة المعصومة التي كان ينتهجها كل امام بناءً على ما يفهمه الامام نفسه من ظروفه المحيطة به وطبيعة المرحلة التي تكتنفه ، وأيضاً بناءً على كون موقفه ليس موقفاً تتحكم فيه الأهواء الشخصية أو المصالح الذاتية أوالاستجابات الانفعالية وإنما هو موقف حكيم مدروس بعناية ومسددباللطف الالهي.



وهذا التحليل الخاطئ شمل حياة جميع الأئمة ، فاءضفى عليهم طابع الاندفاع الانفعالي تارة ، كما في موقف الامام الحسين عليه السلام وثورته . أو طابع الركون إلى الهدوء والعزلة عن معترك الحياة السياسية ، كما في موقف الامام السجاد عليه السلام . أو طابع الانسجام مع الحكّام الظالمين كما في موقف الامام الصادق عليه السلام .



والكتاب الذي بين أيدينا هو محاضرة ألقاها سماحة ولي أمرالمسلمين السيد الخامنئيدام ظله ، قبل قيام الثورة الاسلامية المباركة فيإيران ، يتعرض فيها لهذه النظريات الخاطئة ويفنّدها باءدلة علمية وتاريخية متينة ، ثم هو يطرح طرحاً واعياً ودقيقاً النظرة الصحيحة التي تفسر الموقف الذي كان يتحرك من خلاله كل إمام ليمهد الطريق للامام الذي يليه ، حتى وصل الامر إلى الامام الصادق عليه السلام الذي لم تكن قيادته خاضعة للأهواء أو المصالح أو الخوف من الظالمين ، بل كان موقفه ـ كما ذكرنا ـ موقفاً مبدئياً معصوماً، رسمه له اللّه سبحانه ومهّده له آباؤه المعصومون ، وطبّقه هو بحنكته السياسية ووعيه الربّاني، ليقود دفّة السفينة الاسلامية إلى شاطئ النجاة والأمان ، وليحفظ للمسلمين دينهم وعقيدتهم وفق اسسها المحمدية الصحيحة التي حاولت الأيدي الظالمة على امتداد التاريخ طمس معالمها وإطفاء نورها.



وانطلاقاً من مسؤولية المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام فإنه يقوم بطبع هذا الكتاب ونشره ليكون نقطة إضاءة في الفكر الاسلاميوالتاريخ الصحيح ، وليكشف للمتطلّعين إلى أهل البيت عليهم السلام الوجه الناصع لمسيرتهم المباركة .



المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام




"مقدمة المترجم"





لهذه المحاضرة قصّة ..



والقصّة تبين مشهداً من مشاهد الساحة الايرانية قبل انتصارالثورة الاسلامية بكل ما كان فيها من نشاط اسلامي، ومن تحديات وعقبات .



في شهر شوال سنة 1353 هجرية شمسية (1394هـ .ق ) دقّ جرس الهاتف في منزل الاستاذ المحاضر بمدينة مشهد. كان على الخط الاستاذالشهيد الدكتور محمد مفتّح من طهران . بعد تبادل التحايا طلب الشيخ مفتح من صاحب المحاضرة أن يقدم الى طهران في يوم 25 شوال (يوم وفاة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ) ليلقي محاضرة عن الامام الصادق .



كانت ظروف صاحب المحاضرة صعبة آنذاك، بسبب زحمة الاعمال والدروس وكثرة المراجعات من جميع أرجاء ايران . كان يلقيالمحاضرات في مسجد الامام الحسن ثم في مسجد الكرامة فيمشهد الواقعة شرق ايران ، وينتقل منها الى غرب ايران ليحاضر فيهمدان وكرمانشاه . وفى مشهد يدرس التفسير ونهج البلاغة والحديث ... اضافة الى دروس تخصصية في الفقه واصول الفقه .



كل هذا كان يقوم به في ظروف ضاغطة جدا... ظروف مالية صعبة ، وظروف سياسية قاسية ... لقد كان يعيش في فقر مدقع دون أن يعلم بذلك أحد، ودون أن يشكو ذلك لأحد. والسلطة كانت تحصيعليه انفاسه وتتابعه وتراقبه بشدّة . أغلقت مسجد الكرامة في هذاالعام بالذات ، فاكتفى بمسجده الصغير مسجد الامام الحسن يواصل فيه نشاطه .. ثم اعتقلته في شتاء ذلك العام . وبذلك دخل سجنه الخامس في قصة يطول ذكرها.



في مثل هذه الظروف جاء طلب الشيخ مفتّح لإلقاء محاضرة عن الامام الصادق عليه السلام ، في طهران بمسجد جاويد حيث كان الشيخ مفتح يؤم الناس فيه .



اعتذر صاحب المحاضرة عن الحضور للاسباب المذكورة ، ولعلمه بوجود اساتذة يملأون الفراغ في طهران من مثل الشيخ مفتح نفسه ولكن الشيخ أصرّ.. وأصرّ.. وما كان من المحاضر إلاّ الامتثال .



بعد أيام دقّ جرس الهاتف ثانية ، وكان الشيخ مفتح على الخط من طهران وقال :



ان الشرطة منعت المحاضرة !



تنفس الاستاذ المحاضر الصعداء، وأحسّ بالراحة وحمد اللّه على ذلك.



ولكن الاستاذ مفتح مالبث أن اتصل ثالثة وقال :



لقد رُفع المنع والحمد للّه ، ولابدّ أن تحضر في الوقت المقرّر. حاول السيد المحاضر أن يعتذر ولكن الشيخ قال له : لقد أعلنا نباء المحاضرة فيالجامعات . حاول المحاضر أن يتعلل بصعوبة الحصول على تذكرة الطائرة . لكن الشيخ أبدى استعداده لتوفيرها... لابدّ من السفر إذن !



في يوم القاء المحاضرة نفسه غادر مشهد، وقبل ساعات من بدئهاوصل طهران واتجه مباشرة الى المسجد.



فرح الشيخ كثيراً حينما رآه ، وكان هو وما يقرب من مائتي شاب مستعدين للصلاة . وفي اثناء الصلاة التحق عدد آخر من الشباب فاصبحوا بضع مئات . وبعد دقائق تدفقت افواج الطلبة فجاءة على المسجد، بعد انتهاء الدروس في الجامعة .



غصّ المسجد وفناؤه والزقاق المجاور له بالناس .. بدأ السيدالاستاذ يلقي محاضرته وبيده أربعون ورقة كتب فيها مذكرات ترتبط بالمحاضرة . واستمر يتحدث ويتحدث والجالسون منشدّون إليه ،وكاءن على رؤوسهم الطير. واستمرت المحاضرة 3 ساعات ، وخلالهاتناول بالشرح بضعا من الورقات الاربعين التي أعدها مذكرات لمحاضرته . واختتم المحاضرة رافعاً الاوراق الاربعين الى الحاضرين مشيراً إلى أنه بيّن قليلاً من كثير مما أعدّه .



ولم يمض طويلا على هذه الحادثة إذ اعتقل الشيخ مفتح ومنع من الصلاة في مسجد جاويد فانتقل بعد الافراج عنه إلى الصلاة فيمسجد قبا .



وهنا لابدّ من التنويه إلى أمر هام وهو: إن السيد الاستاذ حفظه اللّه القى هذه المحاضرة قبل عشرين عاما، وبعدها كانت له مطالعات ودراسات واسعة في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وربما عنّت له نظرات جديدة ، أو تغيّر رأيه في مساءلة معينة من المسائل المطروحة فيالمحاضرة . وكم كنّا نودّ أن نرى رأيه فيها لنحصل على آخر نظراته قبل أن نقدم على نقلها إلى اللغة العربية . ولكن عظم المسؤوليات وزحمة الاعمال وتراكمها حال دون ذلك، لذلك نقدمها الى القارئ الكريم كماهي، ففيها من الجديد الشيء الكثير، وفيها من تراثيات الفكرالاسلامي المطروح في ايران قبل انتصار الاسلام ما يهمّ كل متتبع .



ويلاحظ في المحاضرة ان السيد الاستاذ يواجه تيارين طالماواجههما في محاضراته ودروسه وهما: التيار اليساري المتحامل على الاسلام وعلى رموز الاسلام ، والذي يصف رجال الاسلام باءنهم لم يتصدوا للدفاع عن المحرومين والمظلومين بل كانوا سنداً للظالمين والمترفين !! والتيار المهزوم القاعد الذي يحاول أن يجد في حياة ائمة الاسلام ما يبرر قعوده وسكونه ، وهذان التياران كان لهما ثقلهما فيالساحة الايرانية قبل تنامي الثورة الاسلامية ، وكانا يشكلان عقبة أمام العاملين نحو دفع المجتمع على المسيرة الاسلامية .



الدكتور محمد علي آذرشب



(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّهَ عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً )



( وجعلناهم أئمة يهدون باءمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لنا عابدين )


"نظرتان خاطئتان"





الحمد للّه والصلاة والسلام على رسول اللّه وعلى آله ومن اهتدى بهداه



ثمة نظرتان خاطئتان بشاءن الامام الصادق عليه السلام ، ناشئتان عن لونين من التفكير; ومن الغريب أنهما على اختلافهما تتقاربان فيالشكل والمحتوى والمنشاء، بل يمكن القول ان النظرتين تشتركان فيبعض المحاور اشتراكا تاما:



النظرة الاولى : نظرة مدافعة يبديها أولئك الذين يخالون أنهم من أتباع الامام ومواليه .. إنها نظرة شيعة الامام الصادق عليه السلام بالقول ، لا بالعمل ، وتتلخص بما يلي:



إن الامام الصادق عليه السلام توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده ، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين ، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم . جلس في بيته ، وفتح صدره للمراجعين ، وتصدّى للتدريس ونشرِ المعارف ، وارتوى كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة . اشترك في مجلس درسه أربعة آلاف تلميذ، وعن طريق هؤلاء التلاميذ انتشرت علوم الامام الصادق ، منها العلوم الدينية : كالفقه والحديث والتفسير، ومنها العلوم الانسانية : كالتاريخ والاخلاق وعلم الاجتماع .



وتصدّى الامام لمناقشة المنتمين الى الافكار الدخيلة ، والردّ على الزنادقة والماديين والملحدين ، مباشرة أو عن طريق تلاميذه ، وقارع أصحاب النحل المنحرفة بقوّة . ولكل مجالٍ من مجالات الدين ، ربّى كوكبة من الطلبة والمتخصصين .



ويقول أصحاب هذه النظرة أيضا: إن الامام ـ وحرصا على استمرار هذا المشروع العلمي ـ اضطر الى عدم التدخل في السياسة ،فلم يُقدِم على أي عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فانه سلك طريقايتماشى مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم ، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحوم حول نشاطه . لذلك لم يجابههم ، ومنع أيضا أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب اليهم وينال جائزتهم وحظوتهم ، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن ـ نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام ـ يتجه الامام عليه السلام الى استمالة الحاكم ومجاملته .



ويورد اصحاب هذه النظرة شواهد تاريخية ، من ذلك رواية ربيع الحاجب وأمثالها، التي تصوّر الامام في مجلس المنصور وهو يبديالاعتراف بالتقصير واعلان الندم ، وتنقل عن الامام عبارات مدح وثناء يبديها تجاه الخليفة المنصور، مما لا يشك الانسان في كذب صدورها عن الامام الصادق عليه السلام تجاه طاغية كالمنصور. هذه العبارات تصور المنصور باءنه كيوسف وسليمان وأيوب ، وتطلب منه أن يصبر على ما يرى من اساءات الامام او إساءات بني الحسن : إن سليمان أعطي فشكر، وإن ايوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر،وأنت من ذلك السنخ (1) .



(... هذه نظرة تصور الامام عالما، باحثا، واستاذا كبيرا انتهل من بحرعلمه ابو حنيفة ومالك و... لكنه كان بعيدا كل البعد عن كل مقاومة لعدوان السلطة على الدين ، وعن كل ما تتطلبه مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر امام السلطان الجائر ... كان بعيدا كل البعد عن الثوار من امثال : زيد بن علي ومحمد بن عبداللّه والحسين بن عليشهيد فخ ، بل عن الجنود المقاتلين مع هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أيرد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الاسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة ، ولا بما كان يعاني منه ابناء رسول اللّه فيجبال طبرستان ومازندران ، وفي رساتيق العراق وايران من جوع ،بحيث لا يجدون ما يسدّ رمقهم ، ولا ما يسترهم إذا ارادوا الصلاة جماعة !! ولا يهتمّ بما كان يتعرض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريدوهم صفر اليدين من كل متاع يتنعم به الافراد العاديون من ابناءالمجتمع آنذاك!!



في ظن اصحاب هذه النظرة أن الامام الصادق لم يبد أية حساسية تجاه هذا الوضع ، بل كان قانعاً باءن ياءتيه من مثل ابن ابي العوجاء،فيقارعه بالحجج والبراهين ويغلبه ، ويخرج من بيته مهزوما.. دون أن يؤمن طبعا.



هذه هي صورة الامام الصادق كما يرسمها اصحاب النظرة الاولى .



النظرة الثانية : يحملها اولئك الذين لا يعترفون بامامة الصادق ،وهي نظرة متحاملة على الامام ترى انه عليه السلام وقف تجاه ماكان يحيق بالمجتمع من ظلم موقف عدم اكتراث . فالمجتمع في زمانه كان يضجّ بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة على أموال الناس (2) وانفسهم وأعراضهم ، واكثر من ذلك على عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم . حتى لم تعد الامة تتمتع باءبسط الحقوق الانسانية ، بما في ذلك القدرة على الانتخاب . مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيف ما شاءوا، ويبنون القصورالفارهة ، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي يعيش فيهاالبؤساء من عامة الشعب .. في مثل هذا المجتمع المليء باءلوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق الى البحث والدراسة وتربية الطلبة ،ويصبّ اهتمامه على تخريج الفقهاء والمتكلمين.. !!.



إن كلا النظرتين مجحفتان ، لا تقومان على أساس ولا تستندان الى دليل واقعي. غير أن النظرة الاولى أشد إجحافا واكثر ظلما للامام الصادق عليه السلام لانها صادرة عن لسان من يدعي أنه من شيعته واتباعه .



لا أريد أن أنهج هنا اسلوب البحث العلمي المتداول في الدراسات بعرض جميع النصوص الواردة عن حياة الامام الصادق عليه السلام واُقارن بينها من حيث المتن والسند لأخرج بنتيجة ، فذلك له مجاله فيمجالس البحث العلمي.



اريد هنا أن اطرح نظرة ثالثة مقابل تينِك النظرتين .. واقرن هذه النظرة باءدلة مستقاة من مصادر موجودة بين ايديكم ، كي تستطيعوا ـمثل حَكَم محايد ـ أن تتطلعوا من خلالها الى الوجه الحقيقي للامام عليه السلام ..



وقبل أن ادخل في صميم البحث يلزمني أن اُشير الى أن كلاالنظرتين لا تقومان على أساس صحيح موثوق به .



فكما ذكرت أن النظرة الاولى تستند الى عدد من الروايات (اوضحت وضع اسنادها في الهامش ). وهذه الروايات تنسجم طبعامع طالبي الراحة ومحبّي العافية ، فيتذرّعون بها باعتبارها حجة قاطعة . انها كافية لأن تكون مبرّراً للانتهازيين من ذوي النفوس الضعيفة المهزوزة .



فهذه الروايات تصور الامام باءنه راح يتملّق المنصور لحفظ حياته ، مع أنه كان قادراً أن يحتوي الموقف باسلوب حكيم . واذا كان ذلك شاءن القدوة فما بالك بالمقتدي؟



نعتقد أن نصّ هذه الروايات كاف لاثبات زيفها. فالامامُ كان قادراً على دفع شرّ المنصور عنه بطرق اُخرى كما حدث في مواقف عديدة تنقلها روايات موثوقة ، فلا دليل إذن على أن يعمد الامام الى هذا الملق الزائف والثناء الكاذب ، ليضفي على المنصور خصالاً ليست فيه ومكانة لا يستحقها. فمكانة الامامة ارفع من ذلك بكثير دون شك،وأسمى من أن تتلوث بمثل هذه المواقف المنحطّة.



ومن حيث السند، فإن تحرّي الدقة في الرواة يكشف لنا عن أشياءكثيرة . ففي عدد من هذه الروايات نرى الاسناد ينتهي بالربيع الحاجب . والربيع حاجب المنصور! وما أعدله من راو؟! ويظهر من المصادر أن الربيع كان أقرب الناس الى المنصور، وأكثرهم زلفة لديه .استوزره المنصور سنة 153ه'''''''''''''''' (5 سنوات بعد وفاة الامام الصادق )،أي نال رفعة في المقام .. (ولعلّه نال هذا الترفيع ثمناً لما نسبه للصادق عليه السلام من أكاذيب.



مثل هذا الشخص الذي ثبت اخلاصه ووفاؤه لجهاز الخلافة



لايستبعد منه أن يختلق الاكاذيب ، فينسب كلام الملَق الى الامام الصادق أو يغيّر كلاماً حادّاً قاله الامام الى كلام تضرّع والتماس . هذاليس بغريب على هذا الحاجب ، لكن الغريب أن يصدق عاقلٌ قولَأحد بطانة الخليفة بشاءن عدو الخليفة ، ومقولة تشيّع هذا المفتري، وهيمقولة تشكل جزءاً من المؤامرة الدنيئة .



والنظرة الثانية ايضا واهية بالدرجة نفسها الدرجة وغير علمية .انها تشبه أحكام المستشرقين المنطلقة عن غرض أو جهل ، ومن روح مادية محضة لا تنسجم اطلاقا مع طبيعة الاحداث الاسلامية . ولقدشاهدنا تلك الاحكام الفجّة التافهة التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الاسلام وأئمة اهل البيت عليهم السلام . كقول احدهم



عن الامام الحسن المجتبى أنه باع الخلافة بالمال ! وقضى عمره بين العطروالمرأة والترف ! وقول مستشرق آخر (5) إن الاسلام نقل المجتمع من مرحلة الرقّية الى مرحلة الاقطاع !!



والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاءالمستشرقين في السطحية والتسرّع والمنطلق المادّي.



والطريف أن الوثائق التي يعتمد عليها أصحاب النظرة الثانية ليست سوى ما يلفّقه أصحاب النظرة الاولى من أحكام !!


"النظرة الصحيحة"





النظرة الثالثة : والآن نبدأ بالنظرة الثالثة بشاءن الامام الصادق ،وهي نظرة يمكن أن يستنبطها كل ثاقب نظر بالرجوع الى المصادروالمراجع . وهذا الاستنباط لا يختص بحياة الامام الصادق وحده ، بل يشمل كل أئمة اهل البيت ، مع الفارق في خصائص عمل كل منهم حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان ، وهذا الاختلاف فيالخصائص لا يتنافى مع وحدة روح العمل المشترك وحقيقته ومع وحدة الهدف والمسير.



من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الائمة (6) ، علينا أولا أن نتبين فلسفة الامامة . التيار الذي عرف في مدرسة اهل البيت باسم الامامة ، والذي تتكون عناصره الاصلية من أحد عشر شخصاً توالواخلال قرنين ونصف القرن تقريباً، انما هو في الواقع امتداد للنبوة .



فالنبي يبعثه اللّه سبحانه بمنهج جديد للحياة ، وبعقيدة جديدة ،وبمشروع جديد للعلاقات البشرية ، وبرسالة الى الانسانية . ويطويحياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل ، ليؤدي مهمة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود.



وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده ; كي تبلغ الرسالة أعلى الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف . ويجب أن يحمل أعباءالمواصلة من هو أقرب الناس إلى صاحب الرسالة في جميع الابعاد;كي يبلغ بالأمانة الى محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة .



هؤلاء هم الائمة وأوصياء النبي. وكل الائمة العظام واصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء. ومن أجل أن نعرف مهمة الامام ،لقد(لا بد أن نعرف مهمة النبي. والمهمة يبيّنها القرآن الكريم إذ يقول : (أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (7)



هذه إحدى الآيات التي تبين علّة النبوة ، وتبين من جهة اُخرى مهمة الانبياء. فالانبياء ابتعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذورالفساد، ولاعلان ثورة على جاهلية زمانهم ، وقلب مجتمعاتهم .وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي عليه السلام في مطلع استلام مهام حكومته بقوله : .. حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم اسفلكم . (8)



(... انها عملية صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعيوتكريم الانسان ، وتحريره ، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والافراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار،وافساح المجال للطاقات والكفاءات الانسانية ، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير.. انها عملية اقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سموّ الانسان في جميع الابعاد الاساسية ، ويندفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية على ساحة التاريخ .



هذه هي المهمة التي بعث اللّه الانبياء من أجلها، ونستنتج من ذلكأن الامامة ، باعتبارها امتدادا لمهام النبوة ، تتحمل نفس هذه الاعباء.لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عاش 250 عاما، فماذا كان يفعل يا ترى ؟ وكيف كان يتحرك على طريق الدعوة ، نفس هذه العملية نهض بها الائمة . هدف الامامة هو نفسه هدف النبوة ، والطريق هوالطريق ، أي إيجاد مجتمع اسلامي عادل ، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة .



مقتضيات الزمان مختلفة طبعاً، وبنفس النسبة يختلف التكتيكوالاسلوب . النبي صلّى اللّه عليه وآله نفسه كان يعمل في بداية الدعوة باسلوب يختلف عن اسلوبه حين قطع شوطاً من الطريق نحو تحقيق هدفه المنشود.



حين كانت الدعوة في بداية الطريق ، وكانت محفوفة باءلوان التهديدات والتحديات تطلّب الامر تدبيراً خاصاً لمواصلة حمل الرسالة ، وحين ترسّخت قواعد النظام الاسلامي، وضرب الاسلام بجرانه في الجزيرة العربية اختلف التدبير والاسلوب ... والثابت والباقي هو الهدف الاسمى الذي أنزلت الرسالة من اجله .. وهو السعيلايجاد مجتمع يستطيع الانسان فيه أن يطوي مسيرته التكاملية فيجميع الابعاد، وأن تتفجر فيه الطاقات الخيّرة والقوى الكامنة الانسانية ، ومن ثم صيانة هذا المجتمع ونظامه الاسلامي.



كان أئمة الشيعة يتجهون ـ كالنبي ـ نحو هذا الهدف نفسه ، نحو إقامة نظام عادل اسلامي بنفس الخصائص وعلى نفس المسير. وفي حالة قيام هذا النظام تتجه الجهود نحو صيانة مسيرته واستمرارها.



ما الذي تتطلبه اقامة نظام اجتماعي أو مواصلة مسيرة هذا النظام ؟تتطلب اولاً ايديولوجية موجّهة وهادية ينبثق عنها ذلك النظام وتصوغه بصياغتها. ثم تحتاج ثانياً الى قوة تنفيذية تستطيع أن تشق الطريق وسط الصعاب والمشاكل والعقبات نحو تحقيق الهدف . نعرف أن ايديولوجية الائمة هي الاسلام . والاسلام رسالة البشرية الخالدة ..رسالة تحمل في مضمونها عناصر بقائها وخلودها (9)



وبملاحظة هذه الامور، نستطيع بسهولة أن نفهم المنهج العام لائمة أهل البيت واوصياء النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله .



هذا المنهج ذو جانبين متلازمين : الاول يرتبط بالعقيدة ، والثانيبتوفير القدرة التنفيذية والاجتماعية . ففي الجانب الأول تتجه جهودهم وهممهم الى نشر مفاهيم الرسالة وبلورتها وترسيخها، والكشف عن الانحرافات التي تصدر عن المغرضين والمنحرفين ، وبيان الاطروحة الاسلامية لما يستجدّ من اُمور، واحياء ما اندثر من معالم الرسالة بسبب اصطدامها مع مصالح ذوي القدرة والنفوذ، وتوضيح ما خفيعلى الاذهان العاديّة من كتاب اللّه العزيز وسنّة نبيّه .. فمهمة الجانب الاول تتلخص إذن بصيانة الرسالة الاسلامية حيّة بنّاءة متحركة على مرّ الاجيال .



وفي الجانب الثاني، كانوا يسعون ، وفقا لما تقتضيه الظروف السياسية والاجتماعية والعالمية في المجتمع الاسلامي، الى إعدادالمقدمات اللازمة لاستلام زمام قيادة الحكم في المجتمع باءنفسهم بشكل عاجل ، او التمهيد لكي يستلمها على المدى البعيد من يواصل مسيرتهم في المستقبل .



هذا موجز هدف حياة الائمة الاطهار، وهذه هي الخطوط العامة لاهدافهم . من أجلها عاشوا، ومن أجلها استشهدوا.



وإذا كان ما وصلنا من تاريخ حياة الائمة لا يثبت ما ذهبنا اليه ،فان عقيدتنا في الائمة كافية لأن تصوّر حياتهم بهذا المنظار لا غير، فمابالك إذا كان التاريخ يشهد بما يقنع كل باحث أن حياة ائمة آل البيت كانت في هذا الاتجاه ؟


"مراحل مسيرة الامامة"





استمرت مسيرة الامامة منذ رحلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شهر صفر سنة 11 هجرية ، حتى وفاة الامام الحسن العسكريعليه السلام في ربيع الاول سنة 260ه'''''''''''''''' . وخلال هذه السنين طوت المسيرة اربع مراحل كان للأئمة في كل منها موقف متميز تجاه حكام المجتمع الاسلامي:



المرحلة الاولى : مرحلة السكوت ، أو مرحلة التعاون مع الحاكم .



تميزت هذهِ المرحلة باءن المجتمع الاسلامي الوليد كان محفوفاًباءخطار الاعداء الذين تربّصوا بالاسلام من الخارج بعد أن أحسّوابخطر الرسالة عليهم ، وكان هناك أعداد غفيرة من جماعات حديثة العهد بالاسلام لا تطيق أن ترى تشتتاً في المجتمع الاسلامي، وكل ثغرة في جسد الامة تشكل تهديداً لأساس المجتمع الاسلامي ووجوده .



ومن جانب آخر لم يكن منحنى الانحراف قد ارتفع بحيث لم يعدقابلاً للتحمّل بالنسبة لشخص مثل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي هو أحرص الناس على سلامة الرسالة وسلامة المجتمع الاسلامي. ولعل هذه الحالة التي حدثت في المجتمع الاسلاميهي التي أشار اليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حين اوصى تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها.



لقد استوعبت هذه المرحلة حياة الامام علي عليه السلام منذ وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى تولّيه الخلافة . وقد شرح الامام موقفه في هذه المرحلة خلال الكتاب الذي وجههُ الى أهالي مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها إذ جاء فيه :



فاءمسكت يدي، حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد صلّى اللّه عليه وآله فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّأعظم من فوت ولايتكم .. فنهضت في تلك الأحداث (10)



(... حين عزفت عنه الولاية سكت في سبيل الاسلام ، وحين واجه المجتمع أخطاراً جسيمة ، قام ينافح عن الاسلام والمجتمع الاسلاميهادياً وموجهاً وعاملاً في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية .وفي نهج البلاغة وسيرة علي عليه السلام ما يدل بيقين على طبيعة تحرّك الامام خلال هذه الفترة .



المرحلة الثانية : مرحلة استلام الحكم . وهذه استغرقت اربعة اعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام . وبضعة اشهرمن خلافة ولده الحسن عليه السلام . ومع كل ما اكتنف هذه المرحلة من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب تكتنف عادة كل حكومة ثائرة ،فانها سجلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الاسلامية ،بما قدمته من طريقة انسانية في التعامل ، ومن عدل والتزام دقيق باءحكام الاسلام باءبعاده المختلفة في ادارة المجتمع الاسلامي، هذا الى جانب الحزم والصراحة والجرأة في التطبيق واتخاذ المواقف .



هذه المرحلة من تاريخ الامامة كانت النموذج الذي دعا ائمة اهل البيت عليهم السلام خلال القرنين التاليين الى تطبيقه في الحياة السياسية والاجتماعية . وأتباع مدرسة اهل البيت منشدّون باستمرارالى تلك الفترة التاريخية ، ينشدون استعادتها في حياتهم ، ويتخذونهاأساساً في تقويم أنظمة زمانهم .



وبهذا المعيار يدينون الأنظمة المنحرفة عن النهج الاسلامي، كماكانت هذه الفترة تجربة ودرساً لحكومة اسلامية ثورية تماماً في مجتمع عصفت به الأهواء والانحرافات . وكانت حالة المجتمع هذه قد القت عب ءاً ثقيلاً ومسؤولية كبيرة على الائمة التالين .



المرحلة الثالثة : هي التي استوعبت السنوات العشرين بين صلح الامام الحسن عليه السلام سنة 41ه'''''''''''''''' ، وشهاة الامام الحسين عليه السلام سنة 61ه'''''''''''''''' .



بعد صلح الحسن عليه السلام بدأ نوع من العمل شبه سرّي، هدفه إعادة القيادة الاسلاميّة الى أصحابها الحقيقيين ، إذ كان الامر يتطلّب التريّث ريثما تنتهي مدة حكم معاوية ، وخلال هذه المدة القصيرة توجهت الجهود البناءة للتمهيد الى المرحلة التالية. (11)



المرحلة الرابعة : هي التي نحتاج الى ان نقف عندها ولو قليلاً، لأنهاهي التي تعنينا في دراسة حياة الامام الصادق عليه السلام . في هذه المرحلة التي استمرت قرابة قرنين ، تواصلت مسيرة الامامة ضمن خطة بعيدة المدى لتغيير المجتمع وفق نظرة الاسلام في جميع المجالات ،بما في ذلك القيادة السياسية . كانت مفعمة بالانتصارات والانتكاسات ، ومقرونة بنجاح باهر في مجال العمل الفكريوالعقائدي، وممتزجة باءلوان الاساليب الرائعة في العمل التكتيكي المناسب ، ومزدانة باءسمى وأروع مظاهر الاخلاص والتضحية والتفاني والعظمة الانسانية على الطراز الاسلامي.



هذه المرحلة بدأت من محرم سنة 61 هجرية ، بعد استشهاد الامام الحسين بن علي عليهما السلام وبدء امامة علي بن الحسين عليهماالسلام . وفي هذه المرحلة نشط الائمة ـ كما ذكرنا ـ في الحقل الايديولوجي ومكافحة الانحرافات والتحريفات التي خلّفتها مراكزالقدرة والاذهان الجاهلة ، الى جانب العمل على المدى البعيد لاقامة حكم اسلامي ينتهج القرآن وسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويتمثّل نموذج حكومة علي عليه السلام .



واضح أن تنفيذ منهج ثوري أصيل عميق في مجتمع مرّت عليه سنون من الانحراف الفكري والعملي يستدعي تكتيكاً دقيقاً وتخطيطاًاساسياً. فالمجتمع الاسلامي آنئذ قد مرّت عليه فترة حكومة معاوية بكل ما فيها من تخدير وتحريف وتزييف وابتعاد عن الروح الرسالية وحرمان من القيادة المبدئية ، مما أدّى الى تفاقم خطر الانحراف ، حتى إنّ الأمر آل الى مقتل ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في كربلاءعلى مسمع ومرآى من هذا المجتمع المرعوب المشلول المهزوم أمام الارهاب الاُموي.



لا بدّ إذن من عمل كبير يعيد الى هذا المجتمع معنوياته المفقودة وشخصيته المسحوقة ، انها لعملية تغيير كبرى يحتاجها هذا المجتمع كييعود مرّة اخرى مؤهلا لحمل الرسالة والنهوض باءعباء المسؤولية الثقيلة . لا بد من ثورة كالتي اعلنها رسول اللّه في المجتمع الجاهلي، ثم تولّي قيادة هذا المجتمع انطلاقاً من هذه الثورة .



ان إعادة الحياة الثورية وتجديدها عملية لا تقلّ صعوبة وأهمية عن خلق الثورة وإيجادها. عملية التجديد الثوري بحاجة الى ايمان عميق ، وعزم راسخ ، وعقل مدبر، وفكر يقظ وواع وفعّال . فمن الذي يحمل عبء هذه المسؤولية ؟



تلك الفئة التي ما استطاعت أن تسير وراء الامام الحسن عليه السلام وما ارتفعت الى مستوى مناصرة الامام الحسين عليه السلام غير قادرة دون شك على عملية الإحياء هذه . والاعتماد على هذه الفئة ليس وراءه الا الفشل والخسران .



إن تجربة التوابين ثم قيام المختار وابراهيم بن مالك خير دليل على ما ذهبنا اليه .


"موقف الامام السجاد (عليه السلام)"





والامام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام يقف الآن بعدحادثة عاشوراء على مفترق طريقين :



إما ان يعمد الى دفع أصحابه نحو حركة عاطفية هائجة ، ويدخلهم في مغامرة ، لا تلبث شعلتها ـ بسبب عدم وجود المقوّمات اللازمة فيهم ـ أن تخمد وجذوتها أن تنطفئ، وتبقى الساحة بعد ذلك خالية لبنيامية ، يتحكّمون في مقدّرات الامة فكرياً وسياسياً.. أو أن يسيطر على العواطف السطحية والمشاعر الفائرة ، ويعد المقدمات للعملية الكبرى ،المقدمات المتمثلة في الفكر الرائد والطليعة الواعية الصالحة لإعادة الحياة الاسلامية الى المجتمع ، وأن يصون حياته وحياة المجموعة الصالحة لتكون النواة الثورية للتغيير المستقبلي، ويبتعد عن أعين بنيأمية ، ويواصل نشاطه الدائب على جبهة بناء الفكر وبناء الافراد.وبذلك يقطع شوطاً على طريق الهدف المنشود، ويكون الامام الذييليه أقرب الى هذا الهدف .



فاءي الطريقين يختار؟



لا شك أن الطريق الاول هو طريق التضحية والفداء، لكن القائدالذي يخطط لحركة التاريخ ، ولمدى أبعد بكثير من حياته ، لا يكفي أن يكون مضحّياً فقط ، بل لا بد أيضا أن يكون عميقاً في فكره واسعاً فيصدره ، بعيداً في نظرته ، مدبّراً وحكيما في اموره .. وهذه الشروط تفرض على الامام انتخاب الطريق الثاني.



والامام علي بن الحسين عليه السلام اختار الطريق الثاني مع كل ما يتطلبه من صبر ومعاناة وتحمّل ومشاق ، وقدّم حياته على هذاالطريق (سنة 95 هجرية.



وقد صوّر الامام الصادق عليه السلام وضع الامام الرابع ودوره الرائد بقوله:



(ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام الا ثلاثة : ابو خالد الكابلي ، ويحيى بن أم الطويل ، وجبير بن مطعم ، ثم إن الناس لحقوا وكثروا،وكان يحيى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه. (12) (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء( وآله ويقول :



هذه الرواية تصوّر حالة المجتمع الاسلامي بعد مقتل الحسين عليه السلام .



إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الاسلامي ابان وقوع هذه الحادثة . فماءساة كربلاء كانت مؤشّرا على هبوط معنويات هذا المجتمع عامة ، حتى شيعة اهل البيت . هؤلاء الشيعة الذين اكتفوابارتباطهم العاطفي بالائمة ، بينما ركنوا عملياً الى الدنيا ومتاعهاوبريقها.. ومثل هؤلاء كانوا موجودين على مرّ التاريخ ، وليسوا قليلين حتى يومنا هذا.



فمن بين الآلاف من مدّعي التشيّع في زمن الامام السجاد عليه السلام بقي ثلاثة فقط على الطريق .. ثلاثة فقط لم يرعبهم الارهاب الاُموي ولا بطش النظام الحاكم ، ولم يثن عزمهم حبّ السلامة وطلب العافية ، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات .



هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجرّ كالرعاع وراء ارادة الحاكم الظالم ، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيى بن ام الطويل فيمسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت ، معلناً براءته منهم ـ كما مرّ ـ ويستشهد بما قاله ابراهيم عليه السلام واتباعه لمعارضي. (13) ) كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء( زمانه :



أراد ابن ام الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاءلأهل البيت عليهم السلام أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين : جبهة الرساليين الملتزمين ، وجبهة الخلود الى الارض والانحطاط إلى مستوى الأماني الرخيصة والانشدادات المادية التافهة . وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهية . والامام الصادق عليه السلام عبّر عن هذا الانفصال بين الجبهتين بقوله : من لم يكن معنا كان علينا أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت ، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين ، ولا معنى للحياد في هذا الانتماء.



إن يحيى ابن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة ، وبين اولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالامام .



هذا الانفصال يعني ـ طبعاً ـ الترفّع عن الانجرار وراء الأكثرية الضالّة ، ولا يعني اهمال هؤلاء الضالين . من هنا اتجهت هذه المجموعة الصالحة الى انتشال من له قابلية التحرر من الإصر والأغلال ،وكثرت بالتدريج هذه الفئة المجاهدة الصابرة ، والى هذا يشير الامام الصادق عليه السلام في قوله المذكور آنفا: ثم إن الناس لحقواوكثروا . وبذلك واصل الامام السجاد عليه السلام نشاطه . وكان هذا النشاط وبعض المواقف الاخرى التي سنذكرها مما ادّى الى استشهاده ، واستشهاد بعض المقربين من أتباعه .



لم أر في حياة الامام السجاد عليه السلام ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم ، والحكمة كانت تقتضي ذلك ـ كما ذكرنا ـلأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الامام موسى بن جعفر عليه السلام وبعده من الائمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّر للامام الباقر عليه السلام فرصة نشاط واسع ، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله .



في مواقف نادرة نلمس من الامام عليه السلام رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة ، ولكن ليس على مستوى المواجهة ، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ وليجعل المحيط القريب منه على قدر من العلم بعمله وحركته .



من تلك المواقف ، رسالة تقريع صارخة وجهها الامام عليه السلام الى رجل دين مرتبط بجهاز بني أمية هو محمد بن شهاب الزهري .ونستطيع أن نفهم من الرسالة أن الامام يخاطب بها الاجيال على مرّالعصور، لا الزهري. لأن الزهري لم يكن بالشخص الذي يستطيع أن يتحرر من الاغلال التي تشدّه الى موائد بني أمية وقصاعهم ولهوهم ومناصبهم وجاههم . ولم يستطع بالفعل . لقد قضى عمره في خدمتهم ،ودوّن كتاباً، ووضع حديثاً ليتزلف اليهم (14)



هذه الرسالة إذن وثيقة توضح موقف الامام من أوضاع زمانه .ونصّها موجود في كتاب تحف العقول (15) .



وثمة وثيقة اخرى هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الامام عليه السلام الى عبدالملك بن مروان بعد ان ارسل الثاني رسالة يعيّر فيهاالامام بزواجه من أمته المحررة ، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للامام عليه السلام أنه محيط بكل ما يفعله حتى في اموره الشخصية ، كما ارادأيضا ان يذكّر الامام بقرابته منه طمعاً في استمالته .



والامام عليه السلام في رسالته الجوابية يوضح رأي الاسلام فيهذه المساءلة ، ويؤكد أن امتياز الايمان والاسلام يلغي كل امتياز آخر.ثم باسلوب كناية في غاية الروعة يشير الامام الى جاهلية آباءالخليفة ، بل لعله يشير أيضاً الى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذيقول له : فلا لؤم على امرئ مسلم ، إنما اللؤم لؤم الجاهلية .



وحين قرأ الخليفة الاُموي عبارة الامام عليه السلام أدرك معناهاتماماً، كما أدرك المعنى ابنه سليمان إذ قال له : يا أمير المؤمنين لَشَدَّمافخر عليك علي بن الحسين !! .



والخليفة بحنكته السياسية يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له : يابنيّ لا تقل ذلكفانها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتصنّع الناس . (16)



ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الامام عليه السلام على طلب تقدم به عبدالملك بن مروان . كان عبدالملك قد بلغه أن سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند الامام . فبعث اليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة ، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه .



فكتب اليه الامام عليه السلام :



اما بعد فان اللّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ،إن اللّه لا يحب كل (والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جلّ ذكره : فانظر أيّنا أولى بهذه الآية (17) (خّوان كفور) .



وفي غير هذه المواقف نرى الامام السجاد عليه السلام يتحركبهدوء وباستتار في اتجاه تربية الافراد وصنع الشخصية الاسلامية وفق مدرسة أهل البيت ومحاربة الانحرافات و... وبذلك قطع في الواقع الخطوة الاساسية الاولى على طريق تحقيق هدف مدرسة أهل البيت المتمثل بإقامة المجتمع الإسلامي المستظل بحكومة اسلامية صالحة على نموذج حكومة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلي بن ابي طالب عليه السلام . وكما ذكرنا من قبل لم يسلم الامام عليه السلام واتباعه رغم هذا النهج ـ المسالم على الظاهر ـ من بطش الجهاز الاُمويوتنكيله . فمن أتباعه من قتل بشكل فظيع ، ومنهم من سجن ، ومنهم تشرّد بعيداً عن الأهل والديار، والامام عليه السلام نفسه في مرة واحدة على الاقل سيق مقيّداً بالاغلال في حالة مؤلمة من المدينة الى الشام ، وتعرّض مرات لألوان الأذى والتعذيب . ثم دسّ الخليفة الاُموي الوليد بن عبدالملك له السمّ واستشهد سنة 95 هجرية. (18)


"حياة الامام الباقر عليه السلام"





استمرار منطقي لحياة الامام السجاد عليه السلام



اصبح اتباع أهل البيت مجموعة متميزة ذات وجود مستقل ،ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميكبسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرّة وثورة التوابين وبسبب بطش الاُمويين ، قد اصبح لها وجود منتشروواضح في كثير من الاقطار الاسلامية خاصة في العراق والحجازوخراسان ، وأصبح لها تنظيم فكري وعملي. وولّت تلك الايام التيقال الامام السجاد عليه السلام عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيهاعلى عشرين شخصا. واضحى الامام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من اصقاع العالم الاسلامي، يساءلونه عن رأيالاسلام في مختلف شؤون الحياة . ويفد عليه امثال طاووس اليمانيوقتادة بن دعامة وأبو حنيفة وآخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علم الامام أو ليحاجّوه في أمور مختلفة . وبرز شعراءيدافعون عن مدرسة اهل البيت ، ويُعبّرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكريوالعاطفي لآل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . وتناقلت الألسن هذه الروائع الادبية وحفظتها الصدور.



ومن جهة أخرى فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوعٍ من الطماءنينة ، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبدالملك بن مروان (ت 86هـ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين . وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصربالأمن والاطمئنان الى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة ، لا كاءسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّى الى انشغالهم باللهو والملذات التيتصاحب الشعور بالاقتدار والجاه والجلال .



مهما يكن الأمر فإن حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة اهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الامام وأتباعه في ماءمن تقريباًمن مطاردة الجهاز الحاكم .



وكان من الطبيعي أن يقطع الامام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت ، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة . وهذا ما يميّز حياة الامام الباقر عليه السلام .



ويمكن تلخيص حياة الامام الباقر عليه السلام خلال الاعوام التسعة عشر من امامته (95 ـ 114هـ) بما يلي:



إن أباه الامام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر ابنائه وعشيرته وسلّمه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم .. وتذكر أن فيه سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال له : يا محمد هذاالصندوق فاذهب به الى بيتك. ثم قال : أما إنه لم يكن فيه دينار ولادرهم ، ولكنه كان مملوءاً علما. (19) لعل هذا الصندوق يرمز الى أن الامام السجاد سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم ) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي).



ومع بدء الامام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت عليهم السلام ، يتسع نطاق انتشار الدعوة ، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة ، وتجد لها شيوعاً في اصقاع بعيدة عن مركز السلطة الاُموية ، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كماتحدثنا الروايات التاريخية . (20)



ان الواقع الفكري والاجتماعي المزري للناس كان يدفع الامام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذاالواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الانحراف .



إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنوأمية ، فغرقوا الى الأذقان في مستنقع حياة آسنة موبوءة ، حتى أضحواكحكّامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصيخون لنصيحة سمعاً إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا. (21)



ومن جهة اخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسيرتنحو منحى استرضاء الطاغوت الاُموي وتلبية رغباته . ومن هنا فان كل ابواب عودة الناس الى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة اهل البيت بواجبها وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (22)



اتجهت مدرسة أهل البيت فيما اتجهت الى تقريع اولئك الذين باعواذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة الى ايقاظ ضمائرهم أو ضمائراتباعهم من عامة الناس.



نرى الامام يقول للكميت الشاعر مؤنباً:



امتدحت عبدالملك؟ قال : ما قلت له يا إمام الهدى ، وإنما قلت ياأسد، والأسد كلب ، ويا شمس ، والشمس جماد، ويا بحر، والبحرموات ، ويا حيّة ، والحيّة دُويبة منتنة ، ويا جبل ، وإنما هو حجر أصمّ.فتبسم الامام وأنشد الكميت بين يديه :



من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة ولا أحلام (23) وبهذه الميمية يضع الحدّ الفاصل بين الاتجاه العلوي والاتجاه الاُموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة .



وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع آنذاك، يذهب لمقابلة الامام ، فيؤخذ بهيبة الامام وشخصيته ووقاره ومعنويته وفكره ، فيقول له : يابن رسول اللّه لقدجلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره ، فما أدركني ماأدركني آنفاً .



فقال له الامام : إنك بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه. (24)



ومن الابعاد الاخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط باءهل بيت رسول اللّه وأتباعهم من ظلم واضطهادوقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة ،وتحريك ضمائرهم الرخوة ، واستنهاض عزائمهم الراكدة ، وتوجيههم وجهة ثورية حركية .



عن المنهال بن عمر قال : كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر عليه السلام اذ جاءه رجل فقال له : كيف انتم ؟ فقال الامام الباقر:



أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن ؟ إنما مثلنا في هذه الاُمة مثل بني اسرائيل ، كان يذبّح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، ألا وإن هؤلاءيذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا. زعمت العرب أن لهم فضلاً على العجم ، فقالت العجم : وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم :صدقتم . وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب ، فقالت لهم العرب من غيرهم : وبما ذاك؟ قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم :صدقتم . فان كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس لأنا ذرية محمد،وأهل بيته خاصة وعترته ، لا يشركنا في ذلك غيرنا. فقال له الرجل :واللّه إني لاُحبكم أهل البيت . قال : فاتخذ للبلاء جلبابا، فواللّه إنه لأَسرع الينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم. (25)



فما إن بدت على الرجل علامات الهياج جرّاء استثارات الامام حتى سارع الامام الى رسم الطريق أمامه . إنه طريق مفروش بالدماءوالدموع ، والامام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أولاًقبل أن يصيب شيعته .



وفي دائرة أضيق نرى أن علاقة الامام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة ، نراه بين هؤلاء الاتباع كالدماغ المفكر بين اعضاء الجسدالواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.



وتتوفر باءيدينا وثائق تبين هذا الارتباط متمثلا باعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الاتباع ، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم .



منها وصية الامام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في اول لقاء له بالامام أن لا يقول لأحد أنه من الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة . وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الامام فيه قدرة على حفظ الاسرار، درس الكتمان .. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعدذلك صاحب سرّ الامام . ويبلغ به الامر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير:



كنت ملازما لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنّا بالمدينة ، دخل على أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حتى وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة ) يوم جمعة فصلّينا الزوال فلمانهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم (أسمر) معه كتاب فناوله ، فقبّله ووضعه على عينيه ، واذا هو من محمد بن علي (الباقر) الى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب . فقال له : متى عهدك بسيّدي؟ فقال :الساعة فقال له : قبل الصلاة أو بعد الصلاة ؟ فقال : بعد الصلاة . قال :ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره ، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة .



يقول النعمان بن بشير: فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلماأصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاما له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين ) وهو يقول : أجدمنصور بن جمهور.. أميراً غير ماءمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر فيوجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له ، وأقبلت أبكيلما رأيته ، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس ، وجاء حتى دخل الرّحبة ، وأقبل يدور مع الصبيان ، والناس يقولون : جُنّ جابر بن يزيد. فو اللّه ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبدالملك الى وإليه أن انظر رجلاً يقال له : جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه . فالتفت الى جلسائه فقال لهم : من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك اللّه كان رجلاً له علم وفضل وحديث ، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم . قال :فاءشرف عليه فاذا هو مع الصبيان يلعب على القصب . فقال : الحمد للّه الذي عافاني من قتله. (26)



هذا نموذجٌ من نماذج الارتباط بين الامام وخاصةِ أتباعه ، يوضّح دقّة التنظيم والارتباط ، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الاتباع ، ويؤكّد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الامام باءتباعه المقربين ، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها (27)



وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الامام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فصلاً آخر في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام .



النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بهاالامام . وهذا يعود الى عوامل كثيرة منها جوّ البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر التقية بين اتباع الامام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الامام السياسية .. ولكن ردود الفعل المتشدّدة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذجهاز حاكم مقتدر كجهاز عبدالملك بن مروان ، الذي يعتبر اقوى حاكم أموي، ضد الامام الباقر عليه السلام كل أسباب الشدّة والحدّة ،فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الامام وأتباعه . لو كان الامام منهمكاً فقط بنشاط علمي،لا ببناء فكري وتنظيمي، فان الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الامام ، لأن ذلك يدفع بالامام وباءتباعه الى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة .



باختصار، موقف السلطة المتشدّد من الامام الباقر عليه السلام يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان يمارسه الامام من عمل معارض للسلطة .



من الأحداث الهامة في اواخر حياة الامام الباقر عليه السلام استدعاء الامام الى الشام عاصمة الخلافة الاموية . فالخليفة الامويأراد أن يستوثق من موقف الامام تجاه الجهاز الحاكم فاءمر باعتقاله وارساله مخفوراً الى الشام . (وفي بعض الروايات أن الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضا جعفراً الصادق.



يؤتى بالامام الى قصر الخليفة . وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة الامام لدى وروده . تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم على الامام ، وكان يستهدف في ذلك امرين : اولهماإضعاف معنويات الامام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه .والثاني: محاولة إدانة الامام في مجلس يضمّ زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الامامة )، ثم نقل هذه الادانة عن طريق ابواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصارا على خصمه .



يدخل الامام مجلس الخليفة ، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة المؤمنين ، يتوجه إلى كل الحاضرين ، ويشيراليهم جميعا ويقول : السلام عليكم .. ودون أن ينتظر الاذن بالجلوس ياءخذ مكانه في المجلس . وهذا الموقف من الامام أضرم نار الحسدوالحقد في قلب هشام .. وبدأ هشام على الفور يقول : يا محمد بن علي لايزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين ، ودعا الى نفسه ، وزعم أنه الامام سفها وقلة علم ، وجعل يوبّخه (28) .



وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ ..والامام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الاجابة ..وحين افرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على المجلس ،نهض الامام وتوجه الى الحاضرين ، وبعد أن حمد اللّه واثنى عليه وصلى على نبيه ، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير اسلامية ، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان ، فقال :



ايها الناس ! اين تذهبون ؟ واين يراد بكم ؟ بنا هدى اللّه أولكم ،وبنا يختم آخركم ، فان يكن لكم ملك معجّل ، فإن لنا ملكاً مؤجلاً،وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة . يقول اللّه عزّ وجل : والعاقبة للمتقين (29) .



عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ في جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على سامعها الايمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوى الامر بسجن الامام .



الامام في سجنه واصل عمله التغييري فاءثّر على من معه فيالسجن . بلغ الامر هشاما فكَبُر عليه أن يرى حدوث مثل ذلك فيعاصمته المحصّنة من التاءثير العلوي. فاءمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع (البريد) ويُرسل الى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته ، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام . (30)



مرّت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام . ووصلوا مدين . وأغلق اهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر ابواب مدينتهم ، وأبوا أن يبيعوا متاعا. اشتد على أتباع الامام الجوع والعطش . صعد الامام على مرتفع يطل على المدينة ونادى باءعلى صوته :



بَقية اللّه خير( يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية اللّه . يقول اللّه : .)لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ



يقول الراوي: وكان بين اهل المدينة شيخ كبير فاءتاهم فقال : ياقوم هذه واللّه دعوة شعيب عليه السلام . واللّه لئن لم تخرجوا الى هذاالرجل بالاسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقونيوأطيعوني.. فاني لكم ناصح.



استجاب اهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا الى أبيجعفر واصحابه الاسواق . (31)



وآخر فصل في هذه الرواية يبين أيضاً بطش الخليفة العباسيوتجبّره . فبعد أن فتح اهل المدينة أبوابها للامام وصحبه ، كُتب بجميع ذلك الى هشام . فكتب هشام إلى عامله على مدين ياءمره باءن ياءخذالشيخ فيقتله رحمة اللّه عليه وصلواته. (32)



ومع كل ذلك، يتجنب الامام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم . فلا يعمد الى سيف ، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة الى السلاح أن تشهره ، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان أيضاً لايشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الاساسي الجذري ذلك. ولايسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيمّاثورة ، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام على التوجيه الثقافيوالفكري.. وهو بناء اساس ايديولوجي في اطار مراعاة التقية السياسية .



ولكن هذا الاسلوب لم يكن يمنع الامام ـ كما اشرنا ـ من توضيح حركة الامامة لأتباعه الخلّص . وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهوإقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحيانا الى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق .والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد من السبل التي مارسها الامام الباقرعليه السلام مع أتباعه . وهو يشير ايضاً الى تقويم الامام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة .



يقول الحكم بن عيينة : بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص باءهله إذ أقبل شيخ يتوكّاء على عنزة (عكازة ) له حتى وقف على باب البيت فقال : السلام عليك يابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته .ثم سكت فقال ابو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته . ثم اقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال : السلام عليكم ، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام . ثم أقبل بوجهه على الامام وقال : يابن رسول اللّه أدنني منك جعلني اللّه فداك. فواللّه إنيلأحبكم وأحب من يحبكم ، وواللّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لاُبغض عدوكم وأبرأ منه ، وواللّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍكان بيني وبينه . واللّه إني لأحل حلالكم واُحرّم حرامكم ، وانتظرأمركم ، فهل ترجو لي جعلني اللّه فداك؟ فقال الامام : إليَّإليَّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال :



ايها الشيخ ، إن أبي عليّ بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فساءله عن مثل الذي ساءلتني عنه فقال له أبي عليه السلام : إن تمت ترد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين ، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين ... وإن تعش ترى ما يقرّ اللّه به عينك، وتكون معنا في السنام الاعلى . قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى : كيف يا أبا جعفر؟ فاءعاد عليه الكلام ، فقال الشيخ :اللّه اكبر يا أبا جعفر، إن انا متُ أرد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرُ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي واُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لوقد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش ارى ما يقرُ اللّه به عيني، فاكون معكم في السنام الاعلى ؟ ثم اقبل الشيخ ينتحب حتى لصق بالأرض . وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ . ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الامام ان يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه ، ثم ضمّها الى صدره ، وقام فودّع وخرج والامام ينظر اليه ويقول : من أحبّ أن ينظر الى رجل من أهل الجنة فلينظر الى هذا (33) .



مثل هذه التصريحات ، تذكي روح الامل في قلوبٍ تعيش جوّالاضطهاد والكبت ، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الاسلامي العادل .



تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت على هذاالخط المستقيم المتماسك الواضح .. تسعة عشر عاماً من التعليم الايديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم ، وصيانة وجهة الحركة ، والتقية ، وإذكاء روح الأمل .. تسعة عشر عاماً من مسيرشائك وعر يتطلب كثيراً من الجدّ والجهد. وحين أشرفت هذه الاعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب ، تنفّس اعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارةٍ طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم . لكنّالامام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة ، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة ، ووسيلة توعية مستمرة ! لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الاخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الامام الباقر عليه السلام والاسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة . في الرواية عن ابي عبداللّه الصادق عليه السلام قال : قال لي أبي: يا جعفر أوقف ليمن مالي كذا وكذا النوادب تندبني (34) عشر سنين بمنى أيام منى . (35)



وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الامام الباقر وغفلواعما فيها من دلالات كبيرة . لقد خلّف الامام (800) درهم ، وأوصى أن يخصص جزء منها لمن يندبه في منى .. وندب الامام في منى له معنى كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة .



واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الاسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة فيموسم الحج . فكل مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة ، الاّ في منى ، حيث يبيت الليلتين او الثلاث ، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع . وندب الامام في هذا المكان سيثيرالتساؤل عن شخصية هذا المتوفّى ، من هو؟ فيحصلون على الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه . انه من أبناء رسول اللّه ، واستاذالفقهاء والمحدّثين . ولماذا يندب في هذا المكان ؟ الم يكن موته طبيعياً؟من الذي قتله أو سمّه ؟ هل كان يشكل خطراً على الجهاز الاُموي؟ و..و.. عشرات الاسئلة كانت تثار حين يندب الامام في هذا المكان . ثم يحصل السائلون على الاجابة .. وتنتشر الاخبار في اطراف البلادوأكنافها بعد عودة الحجيج الى أوطانهم . وكان هناك في مواسم الحج من ياءتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين ، وليبثّ روح التشيّع من خلال أعظم قناة إعلامية آنذاك.



هكذا عاش الامام ، وهكذا خطط لما بعد وفاته ، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل اللّه ويوم يبعث حيا.



توفّي الامام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره ، على عهد هشام بن عبدالملك، وهو من اكثر ملوك بني اُمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الاُموية آنذاك من مشاكل ومتاعب ، فإن ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة ،أي الامام الباقر، فاءوعز هشام الى عملائه أن يدُسّوا السم للإمام ،وحقق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.





- هذا المضمون نقل في ثماني عبارات اخرى ، دون ذكر السند اصلاً، وثمة رواية اُخرى فيها سلسلة رواة غير ان الراوي الاصلي غير معلوم لانه لا يوجد بين الرواة من كان حاضرا في مجلس المنصور.وتوجد رواية واحدة فقط ينقلها الراوي عن الامام الصادق عليه السلام مباشرة بسند غيرموثوق به . (راجع : البحار، ج 47 ص 182 رواية 28 باب 6 ، وقاموس الرجال ج 9 ص 509.





حين مات المنصور كان في خزانته من الاموال النقدية ستمائة مليون درهم واربعة عشر مليون دينار(عصر الازدهار ص 60 ـ 70.





هو ثاني وآخر وزراء المنصور. كان رجلاً ذا دهاء وتدبير وله هيبة وفصاحة .. بقي في منصب الوزارة حتى آخر حياة المنصور (سنة 158هـ ). ويكفيه دليلا على وفائه للمنصور ولبني العباس أنه أنقذالخلافة العباسية من انفجار كاد يقضي عليها اثناء احتدام الخلاف بين مدّعي وراثة المنصور.



فقد زوّر وصية على لسان المنصور في آخر لحظات حياته تاءمر جميع حكام الولايات بالبيعة للمهدي ابن المنصور، فما كان من طلاب الخلافة الا الاستسلام . (راجع : عصر الازدهار ص 59 ـ70.





فيليب حتي، تاريخ العرب .





بطورشفسكي، الاسلام في ايران .





من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى وفاة الامام الحسن العسكري عليه السلام .





الحديد: 25.





نهج البلاغة خ 16، لما بويع في المدينة ، وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول اليه احوالهم.





من تلك الخصائص تشريع النظام وفق المتطلبات الاساسية الثابتة للانسان ، والمرونة التي تسمح باستقطاب العناصر العلمية والمنطقية من كل مكان ومن كل نوع . (مع الاحتفاظ بالاتجاه المبدئيللرسالة وبشرط الانسجام مع نظرة الرسالة الى الكون والحياة.





الرسالة 62 من نهج البلاغة .





شرحت بالتفصيل طبيعة هذه الفترة في محاضرات متعددة مستنداً الى الوثائق التاريخية المتوفرة .





بحار الانوار، ط : الاسلامية ، ج 46 ص 144. وفي رواية اخرى أضيف جابر بن عبداللّه الانصاريالى هؤلاء الثلاثة . وفي رواية اخرى بدل جابر بن عبداللّه ورد ذكر سعيد بن المسيب المخزومي. وفيرواية اخرى أضيف الى هؤلاء جميعا سعيد بن جبير، وبدلاً من جبير بن مطعم ذكر اسم محمد بن جبير بن مطعم (رجال الكشي، ط : مصطفوي، ص 115)، ويرى العالم الرجالي المعاصر المحقق الشوشتري أن اسم جبير بن مطعم في هذا الحديث محرّف من حكيم بن جبير بن مطعم : (قاموس الرجال ، ج 9، ص 399.





الممتحنة : 4





راجع : أجوبة مسائل جار اللّه ، للسيد شرف الدين العاملي، ص 59 و60 ، وكذلك: دراسات فيالكافي والصحيح ، ص 261.





تحف العقول عن آل الرسول 272 ـ 277 ط : جماعة المدرسين ـ قم .





بحار الانوار ج 46 ص 165، ط : بيروت ، نقلاً عن الكافي ج 5 ص 344.





المصدر نفسه ص 95 .





حياة الامام السجاد عليه السلام بابعادها الجهادية وما اكتنفها من احداث من اروع مقاطع حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام وتحتاج الى مقال مستقل .





بحار الانوار 46: 229 باب 4. عن البصائر 4: 44.





من ذلك رواية ابي حمزة الثمالي يقول : حتى أقبل ابو جعفر عليه السلام وحوله اهل خراسان وغيرهم يساءلونه عن مناسك الحج (بحار الانوار 46: 357 ط : بيروت )، وانظر حديث أحد علماءخراسان مع عمر بن عبدالعزيز، وفيه اكثر من عبرة ودلالة . (بحار الانوار 46: 366.





من حديث للامام الباقر عليه السلام في ارشاد الشيخ المفيد: 284، وبحار الانوار 46 : 288.





بحار الأنوار 46: 288.





المناقب 4: 207 وهذه الميمية من هاشمياته وفيها يخاطب أئمة اهل البيت عليهم السلام فيقول : ساسة لا كمن يرى رِعية الناسِ سواء ورِعية الانعام وهو بيت له دلالته الكبيرة .





بحار الانوار 46: 258.





بحار الانوار 46: 360 رواية 1 ـ باب 100 نقلاً عن امالي الطوسي: 95.





بحار الانوار 46: 282 ـ 283 نقلاً عن الكافي 1: 396.





يؤيد هذه الحقيقة ، اضافة الى قضية جابر ونظائرها، رواية عبداللّه بن معاوية الذي يسلّم الامام الباقر عليه السلام رسالة تهديد من حاكم المدينة (بحار الانوار 46: 246. الباب 16 الرواية 34.





بحار الانوار 46: 263 رواية 63 باب 5 .





بحار الانوار 46: 264 الباب 16 الرواية 63.





ويروى أنه أشاع بين اهالي المدن الواقعة على الطريق أن محمد بن علي وجعفر بن محمد تنصّراوخرجا من الاسلام (بحار الانوار 46: 306). وشبيه ذلك ما وقع لمولانا وهو من زعماء الحركة الاسلامية المناهضة للاستعمار البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر. فقد أشاعوا عنه أنه وهابي.وكانت هذه التهمة كافية لاسقاط هذا الرجل المناضل من أعين الناس البسطاء السذّج . الوهابية كانت مقرونة في اذهان الناس بتلك العصابة التي روّعت حجاج بيت اللّه واستباحت دماء المسلمين في الحجاز.. فكانت كريهة لديهم ومقيتة . وتهمة الوهابية الصقت بهذا الرجل فتقبلتها الاذهان الساذجة دون أن تساءل عن مبرر هذه التهمة وعن امكان أن يكون رجل مناضل مثل مولانا معتنقالفكرة جاء بها الانجليز الى العالم الاسلامي (راجع كتاب : المسلمون في حركة تحرير الهند (بالفارسية )ط آسيا) حين ارى موقف الناس من الامام الباقر عليه السلام بعد اتهامه بالنصرانية في ذلكالزمان وموقفهم من مولانا بعد اتهامه بالوهابية في القرن الماضي اتعجّب من وحدة المواقف ،واردّد ما = = يقوله الشاعر العربي: الناس كالناس والايام واحدة ..





بحار الأنوار 46: 264.





بحار الانوار 46: 313.





بحار الانوار 46: 362 ـ 363.





هكذا في الأصل ، ولعل الصحيح : لنوادب يندبنني.





بحار الانوار 46: 220.





/ 3