دور اهل البیت (ع) فی بناء الجماعة الصالحة جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دور اهل البیت (ع) فی بناء الجماعة الصالحة - جلد 1

سید محمد باقر الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

المشروع الثاني: المؤسسات الثقافية والعلمية([114])

لقد اهتم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ بعد أن شخصوا مصادر الثقافة الاسلامية والمناهج العامة لضبطها وتعليمها ـ ببناء المؤسسات الثقافية والعلمية، والتشجيع على إيجادها وتأسيسها وتنشيطها، سواء المؤسسات الثقافية التي كانت معروفة ومتداولة بين المسلمين، مثل (المسجد) الذي يعتبر أول مؤسسة ثقافية عبادية عرفها المسلمون في مجتمعاتهم، أو المؤسسات الثقافية التي لم تكن معروفة بين المسلمين مثل المجالس الخاصة التي أسسها أهل البيت لتداول ثقافتهم، والمعلومات الخاصة بالجماعة المؤمنة التي كانوا يعملون لبنائها، هذه المجالس التي تحوّلت فيما بعد إلى مؤسسة ثقافية واسعة، من ضمنها ما يعرف الان بـ المجالس الحسينية.

وكان هذا الاهتمام بالمؤسسات الثقافية لسببين رئيسين يرتبطان بالجانب الثقافي:

الاول: تطبيق هذه المناهج الثقافية لان وضع المناهج دون تطبيقها يجعل تحقيق الغرض منها مرهوناً بالصدفة والاتفاق.

الثاني: انّ هذه المناهج المتميزة بمحتواها ومضمونها وسعتها وشموليتها لا يمكن أن تستوعبها المؤسسات العامة مهما كانت كفوءةً، عدا ان فرصة استفادة اتباع أهل البيت(عليهم السلام) من هذه المؤسسات هي فرصة محددة، ولذلك اهتموا بتأسيس هذه المؤسسات الخاصة.

ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى مؤسسات عرفها أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وكان لها تأثير كبير في الجانب الثقافي لحياتهم الانسانية:

الحوزات العلمية

لقد كان للمسلمين منذ اليوم الاول لحياتهم حلقات يتداولون فيها علومهم المختلفة، وقد تحوّلت هذه الحلقات إلى مدارس في التأريخ الاسلامي فكانت مدرسة الكوفة، والمدينة، والبصرة، ومكة، والقاهرة، والاندلس، وغيرها. وتسمى هذه المدارس في عرف أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بـ الحوزات العلمية.

وانسياقاً مع هذا النهج العام المعروف بين المسلمين، اهتم أهل البيت بتأسيس المدارس ليس على الصعيد العام الاسلامي فحسب، حيث كان لهم دور متميّز في تنشيط المدارس العامة والعلوم الاسلامية في جميع حواضر العالم الاسلامي، وأصبح ذلك واضحاً في زمان الصادقين الامامين الباقر والصادق(عليهما السلام). وكان لهم تأثير كبير في الثقافة والمعرفة في جميع أنحاء مجتمع المسلمين، وقد تتلمذ على أيديهم كبار علماء الاسلام كما أشرنا إلى ذلك سابقاً([115]).

بل كان لهم دور متميز في تأسيس المدارس الخاصة بأتباعهم وشيعتهم، ضمن نهج خاص وضعوه لبناء هذه الجماعة الصالحة، إيماناً منهم بأهمية الثقافة، وينبع ذلك من الايمان بأهمية دور المؤسسة الثقافية في ترسيخ دعائم الثقافة.

مدرسة الكوفة وقم:

كانت مدرسة (الكوفة) من المدارس المتميزة في تاريخ حياة أهل البيت(عليهم السلام) باعتبار أن التشيع دخل العراق مع النخبة الاولى من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي أول الفتح الاسلامي، أمثال حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي اللذين كانا اول من تولى العراق للخلافة الاسلامية في المدائن، ثم عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وغيرهم.

ثم كانت مدرسة (قم) التي تفرعت عن مدرسة الكوفة وتحولت إلى مدرسة خاصة بشيعة أهل البيت(عليهم السلام)، لان تأسيسها كان على أيدي المخلصين من أتباع أهل البيت الذين تعرضوا للمطاردة، كما تأثرت بمدرسة الكوفة وقم مدارس أخرى في الشرق الاسلامي في ري، وخراسان، واصفهان، وافغانستان، وجبل عامل...

وتطورت مدرسة الكوفة بعد ذلك ـ التي كانت تضم في بعض أدوارها الاولى أيام الامام الصادق(عليه السلام)، زهاء أربعة آلاف محدّث كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد الصادق ـ لتمتد إلى بغداد في عصر الامام الحسن العسكري(عليه السلام)والنواب الاربعة في الغيبة الصغرى حتى تطورت في عهد الشيخ المفيد والمرتضى والشيخ الطوسي بشكل متميز، وتحولت إلى النجف الاشرف في عهد الشيخ الطوسي، ثم إلى الحلة وكربلاء، واستقرت بعد ذلك استقراراً اساسياً في النجف في القرنين الاخيرين.

وبقيت مدرسة قم تتأرجح في أدوارها وتتوسع أو تضمر حتى أصبحت في العصر الحديث ثاني مدرستين مهمتين في العالم الشيعي أجمع، هما النجف الاشرف، وقم([116]).

تخريج المجتهدين:

وقد اهتم الائمة الاطهار(عليهم السلام) بتأسيس هذه المدارس من خلال حثّهم لاتباعهم على التصدّي إلى التدريس والفتيا وعقد المجالس والحلقات الخاصة بذلك. وقد تم وضع نظام قوي ومتين لهذه المدارس من أجل أن تحقق مجموعة من الاهداف العلمية والتربويّة والروحية. فضلاً عن مساهمتها في المجالات الاخرى الاجتماعية والسياسية والتنظيمية على ما سوف نشير إليه.

وكان أهم أهدافها إدامة زخم حركة الاجتهاد وتخريج المجتهدين حيث كان أهم منظور لعموم النظام الدراسي الذي وضعه أهل البيت(عليهم السلام) من هذه المدارس ـ والذي بقي ثابتاً مدة طويلة حتى برزت الحاجة في العصر الحديث لادخال بعض التغييرات عليه ـ هو تخريج المجتهدين والمحققين في الفقه والاصول ومقدماتهما والعلوم الاسلامية الاخرى مضافاً إلى تخريج المبلغين من علماء البلاد التي يسكنها اتباع أهل البيت(عليهم السلام).

ولذلك نراها تزخر بعدد كبير من المجتهدين في كل عصر، بل في كل جيل وطبقة، وتتمايز المدارس بينها في هذا الجانب وفي عمق الدراسات الفقهية والاصولية والاسلامية التي تشتمل عليها.

وبالرغم من أن هذا الاهتمام المتزايد في تحقيق هذا الهدف كانت له آثار سلبية كبيرة على طبيعة الانتاج العلمي لهذه المدارس، وقدرتها على تحقيق بقية أهدافها، حيث يلاحظ أحياناً وجود فراغات واسعة أو محدودة في نتاج العلوم الاسلامية الاخرى كالتفسير والعقيدة والفلسفة والاخلاق والحديث والتأريخ والادب; بسبب الشعور بالحاجة الملحة إلى الاجتهاد في خصوص الفقه والاصول وعدم وقوع هذه العلوم في سلسلة الاجتهاد فيهما([117]). إلاّ أنها تمكنت من أن تحقّق قفزة كبيرة في مجال فتح باب الاجتهاد والمحافظة على إدامة تخريج المجتهدين في مختلف العلوم الاسلامية حتى في أشد الظروف الحالكة التي مرّ بها العالم الاسلامي.

وتمكنت أيضاً أن تصمد أمام محاولات التحريف والمسخ التي واجهتها المدارس الاخرى في العالم الاسلامي، كما حصل للازهر و الزيتونة ومدارس شبه القارة الهنديّة، فضلاً عمّا تعرضت له مدارس مكة والمدينة وبغداد وغيرها.

تخريج المبلغين:

كما أنّ من جملة أهداف هذه المدارس الاخرى تخريج الخطباء والمبلّغين والمعتمدين من العلماء في البلاد الاخرى والمدرسين للحوزات العلميّة الفرعية.

وفي هذا المجال واجهت هذه المدارس مشكلة كبيرة هي عدم وجود أو تطور المنهج الدراسي المناسب في الشكل والمضمون القادر على تحقيق هذه الاهداف الاخرى، تحقيقاً مباشراً، وبوتيرة زمنية كفيلة بالاستجابة لمتطلبات الحاجات الجديدة والمراحل المختلفة خصوصاً في المناطق والمساحات الجديدة لاتباع أهل البيت(عليهم السلام) كما أشرنا إليه في الهدف الاول.

ذلك ان مستوى المعرفة في الامة وكذلك نوع المعرفة والمشكلات الحضارية والثقافية اصبح مختلفاً عن السابق ومتطوراً، كما ان تعدد المعرفة وتشعبها وتبادلها ووجود الوسائل العلمية والفنية الجديدة وغير ذلك من التطورات، يحتاج إلى معالجة جديدة للمناهج على مستوى الشكل والمضمون يوفر على الطالب الوقت ويلخص له المعرفة ويقدم له ما ينفعه في عمله الميداني الفعلي.

وبذلك تصبح فكرة التخصص في المجالات المتعددة فكرة عملية وواقعية تلبي المتطلبات الفعلية.

التغلب على المشكلات الجديدة:

ومع ذلك كله تمكنت هذه المدارس أن تتغلب على هذه المشكلة ولو جزئياً عن طريق تصعيد الكفاءة العلمية الذاتية، بحيث تجعل الطالب قادراً على تحصيل الامكانات العلمية والقدرات الفنية بجهده الشخصي ومن خلال فتح آفاق المعرفة وتناول الخبرات امام قدراته وامكاناته.

وقد ساعد على ذلك النظام القوي لهذه المدارس الذي يتسم بحرية الفكر والبحث أولاً، وحرية اختيار الدروس والاستاذ ثانياً، وحرية التحكم في الاوقات واستثمارها بطريقة ملائمة ثالثاً، والنظام المالي الذي تتحكم فيه ـ إلى حد بعيد ـ الحاجات الاجتماعية والثقافية للجماعة رابعاً، ونظام العلاقات الاجتماعية الطبيعية التي تفرض على الطالب الاستجابة إلى هذه المتطلبات الثقافية للامة لسد حاجاتها المتنامية من ناحية، والوفاء بتعهداته وعلاقاته الاجتماعية تجاه مواطنيه الاصليين من ناحية أخرى.

وكذلك ساعد على حل هذه المشكلة المنهج المتبع في الحوزات العلمية في تصعيد روح الشعور بالمسؤولية الشرعية، والدرجة العالية من التقوى والزهد والتربية الروحية والنفسية، التي تجعل الطالب يندفع ذاتياً لملء هذه الفراغات والصمود أمام المغريات.

المحافظة على التراث الاسلامي:

ومن جملة أهداف هذه الحوزات المحافظة على التراث الاسلامي، وخصوصاً تراث أهل البيت(عليهم السلام) وثقافتهم، ومدّ الفكر الاسلامي والعقيدة الاسلامية والتأريخ وغيرها من الابحاث ذات العلاقة بالعلوم الاسلامية، بالفكر الجديد الاصيل الصافي الذي يعتمد على المصادر الاسلامية النقية من ناحية، ويواجه التيارات الفكرية الاخرى من ناحية ثانية. ولذا نجد في هذه المدارس استمرار البحوث العميقة، والمشاريع الثقافية الواسعة التي يكون هدفها المحافظة على هذا التراث، مثل أبحاث علم الرجال، والموسوعات الاسلامية، سواء على مستوى الحديث، أو البحث الفقهي.

لهذه الاسباب وغيرها كانت هذه المدارس قادرة على انتاج المجددين والعلماء الكبار في التأريخ الاسلامي وعلى شتى الاصعدة العلمية أمثال: ابن سينا، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وأخيه السيد الرضي، والشيخ الطوسي، والشيخ نصير الدين الطوسي، والمحقق الحلي، والعلامة الحلّي، والشيخ الطبرسي، والشهيدين الاول والثاني، وابن طاووس، والشيخ البهائي، والسيد الداماد، والملا صدرا، والمجلسيين الاول والثاني، والفيض الكاشاني، والمحقق الكركي، والوحيد البهبهاني، والسيد بحر العلوم، والشيخ كاشف الغطاء، وصاحب الجواهر والشيخ الانصاري، والمجدد الشيرازي.

وفي القرن الاخير: جمال الدين الافغاني، والشيخ الاخوند الخراساني، والشيخ المامقاني، والشيخ النائيني، والمحقق العراقي، والسيد البروجردي، والعلاّمة كاشف الغطاء، والعلاّمة شرف الدين، والعلاّمة السيد محسن الامين، والعلاّمة الشيخ البلاغي، والامام الحكيم، والعلاّمة الطباطبائي، والامام الخميني، والشهيد المطهري، والشهيد الصدر، والامام الخوئي، وغيرهم كثيرون ممن كان له دور مهم ليس على مستوى العالم الشيعي فحسب، بل على مستوى العالم الاسلامي أجمع. حيث أغنوا المدارس العلمية بالنظريات الجديدة، وكتبوا الموسوعات العلمية، والدراسات الفقهية، والقرآنية والاسلامية العامة، والتأريخية والعقائدية. مضافاً إلى مواقفهم العظيمة في خدمة الاسلام ونهضته المباركة ومواجهة الاستكبار والكفر العالمي والطغيان المحلي.

المسجد والحسينية

لقد كان المسجد منذ الصدر الاول للاسلام مؤسسة ثقافية بالاضافة إلى الابعاد الدينية والادارية لهذه المؤسسة; فقد كانت الخطب والدروس والمحاضرات تُلقى في المساجد على الناس، وكان الناس ولا زالوا يترددون على المساجد من أجل أن يرتووا من منهل الثقافة الاسلامية.

وقد جرى أتباع أهل البيت على هذا المنوال انسجاماً مع الطرح الاسلامي لدور المسجد الذي يربط الثقافة العامة بالالتزامات الدينية، وينطلق فيها من العقيدة والايمان بالله تعالى، ويمنحها القدسية فتصبح واجباً من الواجبات الشرعية كما ورد في الحديث الشريف: طلب العلم فريضة على كل مسلم.

وهم يتأسّون في ذلك برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الكرام وفي مقدمتهم سيد الاوصياء الامام علي(عليه السلام) الذي حوّل المسجد طيلة خلافته إلى مؤسسة إسلامية متكاملة في الحكم والقضاء والجهاد والاجتماع، وأصبحت الثقافة أحد معالمها الاساسية.

الجماعة الصالحة والمسجد:

إلاّ أن أتباع أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يواجهون مشكلة في مختلف أنحاء العالم الاسلامي وهي مشكلة العدوان والمطاردة لهم ولثقافتهم وأفكارهم وعقائدهم من قبل الطغاة والظالمين، كما كان يتعرض أئمتهم إلى ذلك أيضاً. حيث سوف نشير إن شاء الله في بحث (نظام أمن الجماعة) وغيره إلى سباب ذلك.

ومن هنا لم يكونوا يجدون الفرصة دائماً للاستفادة في الجانب الثقافي من المسجد باعتباره مؤسسة تخضع عادة لادارة السلطان ونظامه، فكانوا يضطرون أحياناً إلى اختيار أماكن أخرى بعيدة عن عيون الطغاة وأعوانهم، من أجل أن يتعلموا ويعلموا الاخرين، ويتدارسوا ويتحادثوا في مختلف الشؤون الحيوية والثقافية.

ولكنهم مع ذلك لم يكونوا ليتخلوا عن المسجد والارتباط به في إقامة الشعائر الاسلامية حتى في أشد الظروف قسوة; لان المسجد بالنسبة إليهم لم يكن مجرد مكان للدرس والمعرفة، بل كان قبل ذلك محلاً للعبادة والدعاء والمناجاة لله تعالى، كما أنّه كان يمثل وسيلة الارتباط مع بقية اجزاء الامة وأوساطها.

وقد حرص أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على ابقاء هذا الارتباط والمحافظة عليه حرصاً شديداً، وسوف نشير إلى ذلك في بحث نظام العلاقات ونظام أمن الجماعة.

ولذلك كان أتباع أهل البيت(عليهم السلام) كلما وجدوا الفرصة مواتية لان يكون المسجد منطلقاً للعمل الثقافي أيضاً توجهوا إلى ذلك. وقد عرفنا أن مسجد الكوفة كان مركزاً مهماً لمدرسة أهل البيت طيلة عهود من الزمن.

وكذلك كانت المساجد في المناطق التي يجد فيها أتباع أهل البيت(عليهم السلام) شيئاً من الحرية والامن مراكز للثقافة الاسلامية لا يستبدلون بها شيئاً آخر، كما في إيران والعراق واليمن ولبنان وغيرها، كما أنهم اهتموا ببناء المساجد وتشييدها والاعتناء بها، كما تشهد بذلك جميع حواضر البلدان التي يسكنها أتباع أهل البيت.

الجماعة الصالحة والحسينية:

وأما في المناطق التي لم يكونوا ليجدوا فيها الحرية والامن، فقد كانوا يتخذون أماكن أخرى للمحافظة على ثقافتهم وعقائدهم وتأريخهم، فنشأت بذلك فكرة تأسيس ما يسمى الان بـ (الحسينية)([118]); حيث كانت البداية تنطلق من فكرة اتخاذ مركز يتحدثون فيه بحرية وأمان، كما تحدثت بذلك روايات أهل البيت(عليهم السلام) وكان أكثر ما يجري فيه الحديث هو حديث الحسين(عليه السلام)ومظلوميته، فتطورت هذه الفكرة حتى أصبح أتباع أهل البيت(عليهم السلام) يؤسسون الحسينيات ويبنونها ويتخذونها مراكز ثقافية واجتماعية.

ولكنهم يجعلون أحيانا قسماً من البناء مسجداً حرصاً على البعد الديني والشعائري للمسجد، وقسماً من البناء حسينية تمجيداً لذكرى أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) من ناحية، ولضمان المزيد من الحرية في العمل والنشاط من ناحية أخرى. وتنزيهاً للمسجد مما يمكن أن تتعرض له هذه الاماكن من مكروهات ومحضورات شرعية من ناحية ثالثة، خصوصاً أن جمهور فقهاء مذهب أهل البيت(عليهم السلام) يعتقدون بوجوب تنزيه المساجد من النجاسات والاقذار وحرمة استقرار الحائض والجنب في المساجد وكذلك كراهة الاكل والنوم وحضور الاطفال فيها. وهذه الاحكام لا تجري بطبيعة الحال على الحسينيات، كما أنه يكره القيام ببعض الاعمال في المساجد مما لا يسري إلى الحسينيات.

مضافاً إلى ممارسة بعض النشاطات الاجتماعية والثقافية فيها، مثل مجالس العزاء والافراح الخاصة أو الاحتفالات العامة التي قد تضايق المصلين، أو تأسيس صناديق القرض أو المكتبات العامة فيها.

وبذلك تحولت الحسينية إلى مؤسسة ثقافية أخرى اعتمد عليها أتباع أهل البيت(عليهم السلام) لنشر الثقافة الاسلامية، وأصبحت منطلقاً لمشروع مؤسسة ثقافية واسعة ثالثة اختص بها أهل البيت(عليهم السلام) وهي الشعائر الحسينية. ولكن مؤسسة الحسينية إنما هي في الحقيقة امتداد لمؤسسة المسجد الاسلامية.

الشعائر الحسينية

لقد كانت إحدى المؤسسات الهامّة التي أسسها أهل البيت للعمل الثقافي، والتي اختص بها أتباعهم ومحبوهم هي مؤسسة الشعائر الحسينية كالمجالس الحسينية، والزيارات وغيرها مما سوف نشير إليه في هذا الحديث.

إن الشعائر الحسينية ـ في الحقيقة ـ هي أحد الخطوط الهامّة التي اعتمدها أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة عموماً، كما أنها كانت القاعدة الهامّة التي يرتكز عليها تحركهم في الامة; لانها تستلهم من ثورة الحسين(عليه السلام) وتمجدها وتؤكد أهدافها، وهي أهداف ذات جوانب متعددة سياسية وثقافية وعقائدية وروحية.

وقد وضع الائمة(عليهم السلام) التصميم العام لهذه الشعائر، وأعطوها أبعادها الدينية الكاملة، وحددوا الشكل والمضمون الذي يتناسب مع الدور المهم الذي لابد لها أن تؤديه; بحيث تنسجم من ناحية الشكل مع ظروف المأساة وأتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ومن ناحية المضمون مع الابعاد السياسية والروحية والثقافية والعقائدية.

ولاشكّ أن نهضة الحسين(عليه السلام) كان لها تأثير بالغ وكبير في حركة التأريخ الاسلامي وحياة المسلمين عامة، بحيث أدت تفاعلاتها الواقعية في حركة الامة إلى حفظ الاسلام والامة الاسلامية من كثير من مخاطر الانحراف. ولكن الشعائر الحسينية كان لها دور آخر مكمّل لدور الثورة نفسها ويكاد يختص هذا الدور بالكتلة الصالحة وأبنائها، وإن كان له بعض التأثير في أوساط المسلمين عامة أيضأً.

ولما كانت الشعائر الحسينية ذات أهداف متعددة الجوانب، وكان الجانب الثقافي أحد الاهداف الاساسية والمهمة منها بالاضافة إلى الجوانب الاخرى، رأينا أن نفرد للشعائر الحسينية حديثاً فيه شيء من الشمول لبقية الجوانب في هذا الباب، إكمالاً للفائدة. وسوف نحاول أن نحيل عليه عند الحديث عن الجوانب الاخرى.

الشعائر الحسينية والجماعة الصالحة

يمكن تقسيم الشعائر الحسينية من الناحية الواقعية بحسب الشكل والمضمون إلى قسمين رئيسيين:

الشعائر المسنونة:

القسم الاول: الشعائر الحسينية المنصوصة، أي التي ورد فيها نص ثابت وصريح عن أهل البيت(عليهم السلام)، وهذه الشعائر هي التي تتصف بالثبات بحسب الاداء، وهي:

أ ـ البكاء:

انّ شعار البكاء وكذلك جميع مظاهر التعبير عن الحزن والاسى والتظلّم المعقول وردت فيها أحاديث كثيرة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) تذكر أهميتها والاثار المترتبة عليها، وذلك لما فيها من التعبير عن التفاعل العاطفي والروحي مع مأساة الامام الحسين(عليه السلام). وكذلك وردت النصوص الكثيرة عن قيام أئمة أهل البيت(عليهم السلام)بالبكاء على الحسين(عليه السلام) خصوصاً وقد وضع أسس هذا الشعار ورفعه في مداه الواسع الامام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام).

فقد روى ابن قولويه في كامل الزيارات أن مولىً للامام علي بن الحسين(عليه السلام) اشرف عليه وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا علي بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك ـ أو ثكلتك أمك ـ والله لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل ما رأيت حين قال: (يا أَسَفا على يوسف)([119]) وإنه فقد ابناً واحداً، وإني رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبَّحون حولي.

وروى أيضاً عن الامام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: بكى علي بن الحسين على الحسين بن علي صلوات الله عليهم أجمعين عشرين سنة ـ أو أربعين سنة ـ وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى على الحسين(عليه السلام) حتى قال له مولىً له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين! فقرأ: (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون). إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك العبرة([120]).

ولا يمكن أن نحمل هذه الممارسة الواسعة والممتدة للامام زين العابدين(عليه السلام)على أنها مجرد انفعال عاطفي بالمشاهد التي عاشها أيام محرم الحرام، بحيث لم يكن قادراً على ضبط أحاسيسه وعواطفه طيلة هذه الفترة من الزمن، وإنّما ينبئ هذا ـبالاضافة إلى ذلك ـ عن تصميم وتخطيط محكم كان يمارسه الامام زين العابدين(عليه السلام) يعتمد على الحقيقة المأساوية التي عاشها سلام الله عليه شخصياً، ويؤكد عمقها وهولها لتبقى قضية تعيشها الامة الاسلامية، وتتحرك على أساسها الجماعة الصالحة.

وقد أعطى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بعد الامام زين العابدين عمقاً آخر لهذا الشعار عندما طرحوه مصداقاً ثالثاً من مصاديق تعظيم شعائر الله، واسلوباً للتعبير عن استنكار الظلم، والتفاعل الذاتي مع قضية كربلاء وأهدافها، ومنهجاً لتزكية النفس وتهذيبها، بحيث تحول إلى عبادة يمارسها الانسان بطريقة فردية أو جماعية.

فقد ورد التأكيد عن أهل البيت على أهمية البكاء أو التباكي على الحسين(عليه السلام) والثواب المترتب عليه، بحيث أصبح مصداقاً آخر من مصاديق البكاء المحبوب لله تعالى، يشبه البكاء من خشيته سبحانه وتعالى.

فقد روي عن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال لفضيل: تجلسون وتحدّثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال: إن تلك المجالس اُحبّها فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر([121]).

وعن أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) فقال لي: أنشدني، فأنشدته فقال: لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره، فأنشدته:

امرر على جدث الحسين فقل لاعظمه الزكية

قال: فلما بكى أمسكت أنا، فقال: مرّ فمررت، قال: ثم قال: زدني. قال: فأنشدته:

يا مريم نوحي على مولاك وعلى الحسين فأسعدي ببكاك

قال: فبكى وتهايج النساء. قال: فلما أن سكتن قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة، ثم جعل ينتقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة. ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنّة([122]).

فلسفة البكاء:

ويفسر لنا هذه الاهمية في البكاء إذا لاحظنا الاثار التالية المترتّبة عليه:

أولاً: أن البكاء له بعد سياسي لانه طريقة فضلى إنسانية واجتماعية ـسليمة وهادئة ـ لاستنكار الظلم والتعبير عن عمق المأساة والمظلومية التي تعرض لها الامام الحسين(عليه السلام) وأهدافه النبيلة.

وتظهر أهمية هذا الاسلوب في هذا البعد السياسي في ظروف المحنة والقمع والارهاب، عندما تعجز بقية الاساليب عن التعبير عن ذلك.

وقد كان شيعة أهل البيت يعيشون في مختلف الادوار ظروفاً صعبة وقاسية، فيصبح هذا الاسلوب أفضل أسلوب للتعبير عن موقفهم السياسي وبقائهم مشدودين إلى هذا الموقف.

بهذا يمكن أن نفهم واضحاً اهتمام الامام زين العابدين بهذا الاسلوب بالذات، بالاضافة إلى الواقع النفسي الذي كان يعيشه بسبب حضوره في كربلاء.

وهذا يؤكد حقيقة مهمة في تخطيط أهل البيت(عليهم السلام) تجاه القضية السياسية، وهي أن الانسان المؤمن لابد له أن يقرن إيمانه السياسي بالقضية بموقف عملي تجاهها مهما كانت الظروف، ولو كان هذا الموقف العملي هو أضعف الايمان، ولا يصح له بأي حال من الاحوال أن يقف موقف اللامبالاة تجاه الفكر السياسي أو العقيدة السياسية.

وهذا ما تؤكده أيضاً الروايات التي وردت في موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من جوب انكار المنكر ولو بالقلب إن لم تكن المراتب الاعلى مقدورة أو كانت محظورة، ولذا عبر عنها بأنها أضعف الايمان.

ثانياً: أن البكاء يجسد في نفس الوقت تفاعلاً ذاتياً اخلاقياً مع مأساة كربلاء، ولكن بالحد الادنى من التفاعل، ويشد عواطف الانسان المسلم بالقضية وأهدافها ورجالها، ويبعده وينفّره طبيعياً عن أعدائها وأخلاقهم ومقاصدهم.

وهذا البعد الاخلاقي في البكاء كان أحد الاسباب الطبيعية التي تمكّن أهل البيت(عليهم السلام) من خلالها أن يحفظوا في الجماعة الصالحة أخلاقية الانضمام والوقوف إلى جانب الحق والمواجهة للظلم، بالرغم من الضغوط التي كانوا يواجهونها سواء على المستوى الاجتماعي أو الفردي، وسواء على المستوى الخارجي كالضغوط التي يمارسها الطغاة ضدهم، أو على المستوى الداخلي كضغوط الشهوات والرغبات.

ثالثاً: أن البكاء يمثل منهجاً في تزكية النفس وتطهيرها من الادران، ويرفع درجة الاحساس في الانسان بآلام الانسانية، والانحرافات الاجتماعية، والوعي لقضايا الظلم والعدل; ذلك لانه يؤثر في رقّة القلب ويقظة الضمير ووعي الوجدان.

وقضية قسوة القلب ورقّته وخشوعه من أهم القضايا التي تؤثر في مسيرة الانسان الذاتية; ولذا عالجها القرآن الكريم في مواطن كثيرة، وانتقد بشدة قسوة القلب، كما كان يمجّد رقة القلب وخشوعه.

ومن الايات الواردة في ذم قسوة القلب ومدح رقته قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)([123]). وقال: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)([124]). وقال: (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)([125]). وقال متحدثاً عن اليهود: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون)([126]). وقال: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)([127]). وقال: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)([128]).

وقضية وهن القلب والطبع والختم على القلب التي يتحدث عنها القرآن الكريم، إنّما تنطلق من قسوة القلب. وفي مقابل ذلك طهارة القلب وخشوعه ووجله ولينه واطمئنانه.

ولا شك أن البكاء يمثل افضل وسيلة لغسل درن القلب، وتهيئة الارضية الصالحة فيه للتفاعل والتأثر. ومن هنا جاء الحث الشديد من الشارع المقدّس على البكاء من خشية الله تعالى، وأصبحت العين الباكية من خشية الله في صف العين التي تكف عن محارم الله أو تسهر في سبيل الله كما ورد في الحديث([129]).

وبهذا يكون للبكاء بعد روحي ووجداني بالاضافة إلى بعده السياسي والاخلاقي.

مضافاً إلى ذلك يمكن أن نتصور في البكاء بعداً ثقافياً يرتبط بموضوع العدل والظلم، حيث إن دوافع البكاء التي تثير في الانسان هذا الاحساس العاطفي والوجداني لاشك أن لها تأثيراً في ثقافة الانسان وفهمه للحياة وتفاعله مع قضاياه. وعندما يتم التركيز على الاثارة تجاه المظلومية والتعرض للعدوان، ويتفاعل الانسان مع هذه الاثارة فلا شك أن الانسان سوف يكون تصوراً عن اسباب الظلم ورفضها وعن مقاييس العدل والالتزام بها حيث يتم شرح ذلك عادة وتفصيله في مثل هذه الاثارات.

ب ـ الزيارة واهميتها:

شعار الزيارة: زيارة الامام الحسين(عليه السلام) كانت في الاساس حضوراً إلى جانب قبر الامام الحسين(عليه السلام)، ثم أخذت بعداً أوسع في تعظيم أهل البيت حيث أصبحت مطلوبة في مختلف الاوقات ولو كانت من مكان بعيد، وأصبحت بعد ذلك منطلقاً لزيارة مشاهد قبور الائمة الاطهار جميعاً والصالحين من أولادهم وأتباعهم.

ولعل أول من قام بزيارة قبر الامام الحسين(عليه السلام) هو الامام زين العابدين في يوم الاربعين من شهادته على ما تذكر بعض النصوص، وذلك عند رجوعه من الشام في طريقه إلى المدينة المنورة.

ثم ندب أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بعد ذلك إلى زيارة قبر الحسين(عليه السلام)، ونصّت بعض الروايات الاتية على أنها فريضة على من يؤمن بإمامته من شيعة أهل البيت(عليهم السلام). كما تحدثت النصوص الصحيحة التي وردت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)عن الثواب والاجر العظيم الذي يترتب على هذا العمل العبادي الشريف وأفضليته على العمرة والحج المندوبين.

فقد روى الشيخ الطوسي(رحمه الله) في المصباح زيارة اخرى غير الزيارة المعروفة في يوم عاشوراء، كما رواها بطريق معتبر صاحب المزار الكبير عن عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد(عليهما السلام) في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط فقلت: يابن رسول الله، ممَّ بكاؤك لا أبكى الله عينيك؟ فقال لي: أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي(عليهما السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟!

قلت: يا سيدي فما قولك في صومه؟ فقال لي: صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملا، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فانه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الارض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مصرعهم، ولو كان في الدنيا يومئذ حياً لكان صلوات الله عليه وآله هو المعزّى بهم... يا عبد الله بن سنان، إن أفضل ما تأتي به في هذا اليوم أن تعمد إلى ثياب طاهرة فتلبسها وتتسلّب، قال: وما التسلّب؟ قال: تحلل أزرارك وتكشف عن ذراعيك كهيئة أصحاب المصايب، ثم تخرج إلى أرض مقفرة أو مكان لا يراك به أحد أو تعمد إلى منزل لك خال، أو في خلوة منذ حين يرتفع النهار، فتصلي أربع ركعات تحسن ركوعها وسجودها وتسلّم بين كل ركعتين، تقرأ في الركعة الاولى سورة الحمد و (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية الحمد و (قل هو الله أحد) ثم تصلّي ركعتين تقرأ في الركعة الاولى الحمد وسورة الاحزاب، وفي الثانية الحمد وسورة (إذا جاءك المنافقون)، أو ما تيسر من القرآن، ثم تسلّم وتحول وجهك نحو قبر الحسين(عليه السلام)ومضجعه فتمثل لنفسك مصرعه ومن كان معه من ولده وأهله وتسلّم وتصلي عليه، وتلعن قاتليه فتبرأ من أفعالهم، يرفع الله عزّوجلّ لك بذلك في الجنّة من الدَّرجات ويحطُّ عنك من السيئات.

ثم تسعى من الموضع الذي أنت فيه إن كان صحراء أو فضاء أو اي شيء كان خطوات تقول في ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون رضاً بقضائه وتسليماً لامره، وليكن عليك في ذلك الكآبة والحزن، وأكثر من ذكر الله سبحانه والاسترجاع في ذلك.

فإذا فرغت من سعيك وفعلك هذا فقف في موضعك الذي صلّيت فيه ثم قل: اللهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك واستحلوا محارمك، والعن القادة والاتباع، ومن كان منهم فخبّ وأوضع معهم أو رضي بفعلهم لعناً كثيراً. اللهم وعجّل فرج آل محمد، واجعل صلواتك عليهم واستنقذهم من أيدي المنافقين والمضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم رَوحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً.

ثم ارفع يديك، واقنت بهذا الدعاء، وقل وأنت تومي إلى أعداء آل محمد صلوات الله عليه ...([130]) الحديث.

والبحث في المداليل السياسيّة والاخلاقيّة والاجتماعية والروحية لهذا الشعار العظيم يحتاج إلى حديث طويل خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجانب التأريخي وردود الفعل من السلطة الغاشمة تجاه هذا الشعار في مختلف الادوار. ولكن نشير هنا اجمالاً إلى عدة أبعاد اساسية:

الأول: أبعاد شعار الزيارة:

أن هذا الشعار يعبر عن مجموعة الابعاد التي تعبر عنها شعائر الحج في النظرية الاسلامية، ولكن في إطار خاص وهدف محدود وهو تربية الجماعة الصالحة والخط الاصيل المتمثل بأتباع أهل البيت(عليهم السلام) على مضمون نهضة الحسين، ويتم ذلك على مستوى الولاء لهذا المحور الاسلامي وهو الحسين والتلبية لندائه باعتباره داعياً إلى الله لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري، سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعول([131])، أو على المستوى الثقافي لهذه الشعائر أو السياسي وحتى الاقتصادي لها.

الثاني: ربط حركة الكتلة والخط الاسلامي الاصيل بهذا المحور الاسلامي ومواقفه الشرعية، فإنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ باعتبار اختلاف ظروفهم ومن ثم اختلاف مواقفهم السياسية المرحلية ـ كانوا دائماً بحاجة إلى أن يؤكدوا خطاً ثابتاً في مسيرتهم وموقفاً واضحاً في مذهبهم، وهو خط الرفض للطغيان والظلم الذي أعلنه الامام الحسين(عليه السلام) وتحدّث عنه في أول خطبة ألقاها على أهل الكوفة:

أيها الناس، إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بقول ولا فعل كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وإني أحق بهذا الامر([132]).

وقد اهتم أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بترسيخ هذا الخط الثابت في موقفهم ترسيخاً واضحاً لالبس فيه من خلال التركيز على محور زيارة الحسين(عليه السلام) وتجديد البيعة له وتلبية ندائه.

الثالث: تثقيف الجماعة الصالحة على الالتزام بالمفاهيم العقائدية والاخلاقية والسياسية التي تضمنتها نصوص الزيارات التي وردت للحسين(عليه السلام)في الايام المخصوصة المختلفة، حيث كانت الزيارة تكريساً لموسم خاص للتعبير عن هذا الالتزام تجاه هذه المفاهيم ذات الابعاد المتعددة. الامر الذي أوجد خطاً ثقافياً واعياً وثابتاً في وسط هذه الجماعة الصالحة.

الرابع: التعبير السياسي والاجتماعي عن وجود الجماعة الصالحة من ناحية، وفتح الابواب أمام بقية المسلمين للالتحاق بحركة هذه الجماعة من ناحية أخرى، وذلك من خلال الارتباط بحركة الامام الحسين(عليه السلام) التي أصبحت حركة معترفاً بها من جميع أوساط المسلمين عموماً.

ولعل هذه الحقيقة تفسّر ظاهرتين بارزتين في تاريخ هذه الزيارة ووجودها:

إحداهما: الممارسات القمعية العدوانية التي كانت ترتكبها السلطات الجائرة والطغاة المجرمون بحق أبناء المسلمين الذين كانوا يتوافدون على زيارة المرقد الشريف للامام الحسين(عليه السلام) حيث كان يتعرض هؤلاء الزوّار إلى القتل أو فرض الاتاوات أو التنكيل بقطع الايدي والمطاردة في بعض الادوار، أو يتعرض القبر إلى الهدم المتعمد، كما حصل في زمن المتوكل العباسي، والوهابيين عند غزوهم العراق في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، أو حكومة العفالقة([133])في العراق في العقد الاخير من القرن الرابع عشر الهجري.

ثانيتهما: تأكيد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على شيعتهم ضرورة ممارسة هذا الشعار بالرغم من المخاطر التي كانت تحفّ الزائرين، وبالرغم من نهج التقيّة الذي التزموا به وحرص الائمة(عليهم السلام) على المحافظة على شيعتهم وتجنيبهم مختلف المخاطر والالام بحيث تكاد ان تتحول الزيارة في نظرهم إلى قتال في سبيل الله.

عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين بن علي(عليهما السلام); فإن اتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين(عليه السلام) بالامامة من الله عزّوجلّ([134]).

وقال أبو عبد الله الصادق(عليه السلام): لو أن أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين ابن علي(عليهما السلام) لكان تاركاً حقاً من حقوق الله وحقوق رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لان حق الحسين(عليه السلام)فريضة من الله عزّوجلّ واجبة على كل مسلم([135]).

ج: المجالس الحسينيّة:

المجالس الحسينية: هي الاجتماعات التي يعقدها أتباع أهل البيت سواء في أيّام المصيبة العظمى من شهر محرّم وصفر، أو في الايام الاُخرى من العام، والتي يتداولون فيها حوادث هذه المأساة وغيرها من القضايا الدينيّة. وقد جاءت في البداية تعبيراً عن الحزن العميق لمصاب الامام الحسين(عليه السلام) وتجسيداً لعظم المصيبة التي نزلت به وبأهل بيته والابعاد المأساوية التي اشتملت عليها حادثة كربلاء، وكذلك الوحشية التي اتّسمت بها الطغمة الاموية وبالخصوص الطاغية يزيد، والتي كشفت عن عمق الحقد والعداء الذي تكنّه هذه العصابة المجرمة ضدّ الاسلام ورسوله وأهل بيته الكرام.

ثمّ تطورت هذه الشعائر الحسينيّة إلى مدرسة سيّارة لاتباع أهل البيت(عليهم السلام) تلبّي جميع الحاجات الثقافية والسياسية والعاطفية والاجتماعية لهذه الجماعة الصالحة، وتتمكّن من التحرّك في وسطها في مختلف الظروف.

وقد بدأت هذه المجالس منذ الايّام الاولى للمأساة في مدينة الشام عندما بدأ يزيد بالتراجع أمام بدايات الوعي الجماهيري لابعاد المصيبة، من خلال التوعية الشاملة التي قامت بها العقيلة زينب الكبرى والامام زين العابدين(عليهما السلام)عند ورود موكب السبايا إلى الشام وحضورهم في مجلس يزيد بن معاوية، حيث تشير بعض الروايات إلى أنّ الامام زين العابدين عقد مجلساً تأبينيّاً في الشام مدّة ثلاثة أيّام([136]).

كما أقام أهل البيت(عليهم السلام) وبعض زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كأمّ سلمة مجالس العزاء في المدينة المنوّرة عند رجوع عيالات الامام الحسين ومعهم الامام زين العابدين إلى المدينة([137]).

وبقي أهل البيت(عليهم السلام) يعقدون هذه المجالس كلّما أتيحت لهم الفرصة وخصوصاً في أيّام عاشوراء، ويحثّون شيعتهم ومواليهم على عقدها. وقد تقدّمت الاشارة الى بعض النصوص التي تتحدث عن هذه الممارسة لاهل البيت(عليهم السلام).

والحديث عن المجالس الحسينيّة (تأريخها وأبعادها وآثارها وفلسفتها) حديث واسع، ولكن نشير هنا إجمالاً إلى بعض هذه الابعاد.

اهمية المجالس الحسينية وابعادها:

الاول: المحافظة على هذا الحدث المهم الذي يمثّل أطروحة إلهيّة لتوعية الامّة الاسلامية لحفظ الرسالة الخاتمة من الضياع أو التشويه والتحريف.

حيث أنّ السلطة الغاشمة حاولت منذ البداية أن تضيّع الحقيقة حينما طرحت قضية الحسين(عليه السلام) على أنّها عملية خروج على السلطة الشرعية واطلقت عليهم اسم (الخوارج)، وعلى أنّها شق لعصا المسلمين ووحدتهم، وحاولت أن تغطّي على شخصيّة الامام الحسين وأهدافه وخلفية نهضته وأسبابها والظروف المحيطة بها، لانّ كلّ ذلك هو الذي يمكنه أن يوضح الحقيقة الناصعة التي قامت على أساسها هذه الثورة العظيمة في تأريخ المسلمين، حتى أنّ يزيد ـ مثلاً ـ حاول في بدايات الامر أن يتنصّل من مسؤولية هذا الحدث ويلقي تبعته على ابن زياد. ولكن التخطيط الواعي لاهل البيت(عليهم السلام) من خلال المجالس الحسينيّة تمكّن من حفظ معالم هذه الثورة من الضياع، وبقيت محفوظة في التأريخ الاسلامي وفي حياة المسلمين بجميع تفاصيلها وخصوصياتها([138]).

الثاني: إبقاء الحدث حيّاً وفاعلاً ومؤثّراً في عدد من الجوانب المهمة في الحياة الاسلامية عامة وفي أوساط الجماعة الصالحة خاصة:

اولاً: الجانب الوجداني لضمير الانسان المسلم، لانّ أحد الاهداف الرئيسيّة لهذه الثورة هو هزّ هذا الضمير وإحياؤه وتحريكه عندما يتعرّض إلى الموت أو الخدر الحضاري، أو يقع تحت تأثير الضغوط النفسيّة أو أساليب الارهاب، بحيث ينتهي بالانسان إلى فقدان الارادة مع إدراكه للحقيقة([139]).

وبهذا أصبحت هذه المأساة عاملاً محرّكاً ليس للجيل المعاصر لها فحسب، بل أصبحت عاملاً محرّكاً على مستوى الوجدان والضمير والاحساس على مرّ العصور والاجيال.

وقد كان للصور الرائعة التي قدّمها أهل البيت في تجسيد المأساة، وساهم في رسمها والتعبير عنها شعراء هذه المدرسة في ملاحمهم على مختلف العصور دور رائد في هذا المجال.

وبهذا يمكن أن نفهم معنى الروايات التي وردت في الحث على قول الشعر وانشاده في مصيبة الامام الحسين(عليه السلام) خصوصاً([140])، وكذلك يمكن أن نفهم هذا الحجم الضخم من الشعر في الامام الحسين(عليه السلام) الذي لا يكاد يوجد له نظير في الادب الانساني.

ثانياً: جانب الوعي السياسي للاحداث التي تمرّ بالامّة خصوصاً في إطار الجماعة الصالحة التي تميّزت من بين جميع المذاهب الاسلامية بهذا الوعي العميق والاصيل للاحداث السياسية، والتزمت جانب المبادئ الاسلامية والاخلاق الثوريّة.

ثالثاً: جانب الرؤية الاسلامية الصحيحة للحكم الاسلامي ومقوّماته، والقدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ في ممارسات هذا الحكم، مع القدرة على تمييز الخطوط الخضراء والحمراء التي يصحّ السكوت عنها رعاية للمصلحة الاسلامية، أو التي تشكّل تهديداً للاسلام بحيث تفرض الثورة والتصدّي.

الثالث: المحافظة على العلاقات الانسانية والاجتماعية بين أفراد الجماعة الصالحة ومن يتفاعل معها من المسلمين، ولكن ضمن الاطار الصحيح لهذه العلاقات المتمثّل بالاهداف والاخلاق الحسينيّة.

فقد أصبحت المجالس الحسينيّة مجالاً لتأكيد هذه العلاقات وتمتين أواصر المحبّة والصلة بين أفراد الجماعة، وفرصة للتعبير عن روح التعاون والاخوة، ومضافاً إلى ذلك اصبحت هذه المجالس في الوقت نفسه فرصة للانفاق والبذل والعطاء ورعاية الضعفاء والفقراء والتعرّف على أوضاعهم حيث يشارك ويساهم في هذه المجالس أكبر مساحة من الجمهور المسلم وبمختلف مستوياته الاجتماعية والدينيّة.

وقد حفظ هذا البعد في التخطيط وحدة الجماعة الصالحة في حركتها الاجتماعيّة والانسانيّة في مسيرة التأريخ بالرغم من المصاعب والمحن والالام.

الرابع: نشر الثقافة الاسلامية الصحيحة التي كانت تواجه في بعض الادوار التأريخيّة محاولات الحظر والارهاب الفكري والجسدي، أو تواجه مشكلات عدم توافر الوسائل والامكانات البشرية أو المادية لنشر هذه الثقافة.

فقد كانت ثقافة مدرسة أهل البيت بمختلف أبعادها العقائديّة والاخلاقية والسلوكية والتأريخية ذات ميزات وخصائص ترتبط بالخصائص التي يتميّز بها الخط الاصيل للاسلام الذي انتهجه أهل البيت(عليهم السلام). ولم تكن الفرصة مهيأة ـبل كانت في بعض الاحيان محظورة ـ لنشر هذه الثقافة، كما إنّ المؤسسات الدينية كالمدارس والمساجد والمراكز الثقافية الاخرى لم تكن متميّزة أو متوافرة، الامر الذي كان يهدّد هذه الجماعة الصالحة بالذوبان أو الضياع أو الجهل والتعصّب الاعمى، فكانت المجالس الحسينيّة المدرسة الثقافية المتحركة التي تلبّي هذه الحاجات المختلفة.

فقد روى الكليني بطريق معتبر عن ميسر عن ابي جعفر(عليه السلام) قال: قال لي: اتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت: أي والله اننا لنخلو ونتحدث ونقول ما شئنا. فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن، وأما والله اني لاحب ريحكم وأرواحكم، وانكم على دين الله ودين ملائكته فاعينوا بورع واجتهاد([141]).

الاهداف الاساسيّة للشعائر الحسينيّة:

ومن هذا الاستعراض للشعائر الحسينيّة وأهدافها وآثارها يمكن أن نعرف أنّ هذه الشعائر كلما اقتربت من تحقيق أهدافها مع وضعها في الاطار الصحيح للممارسة كانت مؤدّية لوظيفتها الحقيقيّة التي أرادها أهل البيت(عليهم السلام)، وبدون ذلك تصبح شكلاً بدون مضمون، وتكون نظير الصلاة التي لا يُقبل فيها الانسان على الله تعالى.

ويمكن تلخيص هذه الاهداف بالامور التالية:

الاوّل: الارتباط الروحي والنفسي والعاطفي بالامام الحسين(عليه السلام) وأهل البيت وأهدافهم في هذه النهضة العظيمة.

الثاني: الرؤية السياسية والدينيّة الصحيحة لقضية الحكم والاحداث السياسية الاخرى التي تواجهها الامّة الاسلامية في قضايا الظلم والعدل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحكم الالهي.

الثالث: التربية الاخلاقية الاصيلة في الحركة السياسية والاجتماعية التي تتمثّل في التضحية والفداء والصبر والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا المسلمين، والتزام جانب الحق والوفاء بالعهد والميثاق والاخلاص لله تعالى، والصمود والثبات على المبادئ.

الرابع: نشر الثقافة والوعي الاسلاميين في مختلف أبعادهما الاسلامية في معرفة الاسلام والتفقه فيه ورفع درجة الاحساس والشعور في النفس الانسانيّة، وإيقاظ الوجدان والضمير.

الخامس: ترسيخ علاقات الاخوّة والمودة والتعاون بين المؤمنين، والاهتمام بأمورهم والنصيحة لهم وإعانة فقرائهم وضعفائهم، وايجاد المزيد من التكافل بينهم واظهارهم بمظهر القوة والمنعة والوحدة.

الشعائر المبتكرة

القسم الثاني: الشعائر الحسينيّة التي لم يرد النصّ فيها عن أهل البيت(عليهم السلام)والتي تمّ ابتكارها واختراعها من قبل أتباعهم، مثل المواكب الحسينيّة، وشعائر تشبيه وتمثيل مشاهد المأساة التي جرت على الحسين(عليه السلام)، أو المسيرات الشعبية، وغيرها من الشعائر التي يمارسها المسلمون من أتباع أهل البيت في الادوار المختلفة أو التي يمكن أن يتمّ اختراعها في المستقبل.

والحديث في هذا القسم يقع في نقطتين:

الاولى: في المبرّرات الشرعية لاداء مثل هذه الشعائر التي لم يرد النصّ فيها عن أهل البيت(عليهم السلام) (النصّ على مستوى القول أو الفعل أو الاقرار).

ولعلّ أفضل المبرّرات لذلك هو أنّ أيّ ممارسة أو أداء يمكن أن يكون تعبيراً عرفياً عن تعظيم الحسين أو اظهار الحزن عليه خصوصاً إذا كان الاسلوب والممارسة متداولاً في زمن الائمة(عليهم السلام)، أو كان تذكيراً عرفياً للمسلمين بمصابه وأهدافه فهو أمر مشروع تصدق عليه القاعدة القرآنية، وهي قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّها مِنْ تَقْوى القُلوب)([142]) ذلك أنّ الحسين(عليه السلام)(ثار الله) شعيرة من شعائر الله تعالى، وتعظيمه تعظيم لشعائر الله تعالى، كما أنّه وردت نصوص عامة تدعو إلى اظهار الحزن على الحسين(عليه السلام) والتظلم له في أيام عاشوراء.

الثانية: في الحدود والاطار الذي لابدّ أن تمارس فيه هذه الشعائر التي يبتكرها الانسان بحيث تكون مصداقاً للقاعدة القرآنية التي أشرنا إليها. ذلك أنّ القسم الاول من الشعائر يصحّ أن نمارسه في جميع الاحوال، حيث ورد النصّ على شكله ومضمونه معاً عن أهل البيت(عليهم السلام)، وهو يمثل خطاً ثابتاً في هذه الشعائر.

وأمّا القسم الثاني فلابدّ أن يكون في مشروعيّته مشتملاً على المضمون والمحتوى الذي وضعه الله تعالى لها، وهو أن تكون تعظيماً لشعائر الله، وإلاّ فمجرّد أن يدّعي الانسان أنـّه يؤدّي هذا العمل من أجل الحسين لا يكفي أن يكون تعظيماً للحسين(عليه السلام)، ما لم يكن الشكل يعبر عن أسلوب عرفي عقلائي للتعظيم، بل يجب أن يكون في نفس الوقت مرتبطاً بالمحتوى والمضمون الشرعي لنهضة الحسين(عليه السلام) الذي شرحناه سابقاً.

ويمكن أن يوضع هذا المضمون في خطّين أساسيين:

أحدهما: الخط الايجابي، وهو الاهداف التي وضعت للشعائر الحسينيّة في الخطّ الثالث لها، وهي النقاط الستّ السابقة. وبمقدار ما تحققه هذه الشعائر من تلك الاهداف تصبح هذه الممارسات تعظيماً لشعائر الله تعالى.

ثانيهما: الخط السلبي، وهو أن لا تكون هذه الممارسات سبباً لهتك حرمة الاسلام، أو مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، أوتشويه الرؤية له كأن تكون ذات شكل لا ينسجم مع الاهداف الحقيقيّة لاهل البيت. حيث يمكن أن نشاهد ذلك في بعض الممارسات التي لا نجد لها مثيلاً في أي لون من ألوان العبادات والسلوك الذي أقرّه الشارع المقدّس في مقام التعبير عن الارتباط بالله تعالى والحب له، أو التعظيم والتمجيد لذاته المقدّسة، أو عرفها العقلاء من الناس في حياتهم الاجتماعية.

وكذلك الممارسات التي يتنفّر منها الوجدان الصافي والذوق الانساني السليم، أو التي لا يجد لها تفسيراً منطقياً ينسجم مع العقل والفطرة الانسانيّة السليمة، بل هي تعبّر عن انفعالات صاخبة وعواطف هوجاء وتصوّرات لا تستند إلى أيّ مستند شرعي، إذ لا يوجد لها أيّ نظير في الممارسات الشرعية، ولذلك تمارس في الاوساط التي تتسم بالسذاجة وقلّة المعرفة بالثقافة الاسلامية، ولا يمارسها الفقهاء أو العلماء الربانيون.

الفصل الرابع

الجانب الروحي والمعنوي

يعتبر الجانب الروحي والمعنوي الذي يرتبط بقضيّة المشاعر والعواطف والاحساسات الروحية والمعنوية جانباً مهمّاً في النظرية الاسلامية، ولعلّه يأتي في المرتبة الرابعة من حيث الاهميّة بعد العقيدة والاخلاق والثقافة; ذلك أنّ سلوك الانسان الذي هو نتاج طبيعي لارادته وعزمه، يتأثّر بشكل مباشر بهذا الجانب. وتمثل الجوانب الاخرى السابقة الاساس والخلفية والقاعدة التي يمكن أن ترتكز عليها هذه العواطف والمشاعر، أو تنطلق منها أو توجهها الوجهة التي تنسجم معها، لانّ المشاعر والعواطف والاحاسيس تمثل الطاقة المحرّكة التي تمد السلوك الانساني بالحركة والفاعليّة والنشاط، بالرغم من أنّ هذا السلوك يخضع لارادته ومعلول لهذه الارادة.

ومن هنا نجد هذه العلاقة والتناسب والموازنة بين مشاعر الانسان وأحاسيسه، وحركته ونشاطه، فكلما كان الانسجام قائماً بين هذه المشاعر والاحاسيس من ناحية ومنطلقاته العقلية والاخلاقية والثقافية من ناحية أخرى، كان عزمه وصموده وإرادته أقوى وأشدّ. وكلّما كان العزم والارادة والصمود أقوى، كان اندفاعه وحركته ونشاطه أقوى وأقدر على الاستمرار والبقاء.

ومن هذا المنطلق اهتمّ أهل البيت(عليهم السلام) في بناء (الجماعة الصالحة) بالجانب الروحي والمعنوي وتوجيهه الوجهة الصحيحة التي تنسجم مع عموم الاهداف من ناحية، والمنطلقات العقائدية والاخلاقية والثقافية من ناحية أخرى.

ويمكن أن نلاحظ في هذا المجال مجموعة من النقاط ترسم لنا الخطوط الرئيسيّة التي وضعها أهل البيت لبناء هذا الجانب الروحي والمعنوي، نجدها فيما وصلنا من آثارهم وتوجيهاتهم لاتباعهم ومعالجتهم لقضاياهم:

الاولى: روح التقوى ومزج الايمان بالعمل:

تصعيد روح التقوى والتأكيد على قضية الارتباط بالله تعالى وذلك من خلال ثلاثة خطوط رئيسيّة:

أولها: منهج الصلاة والدعاء والمناجاة، حيث يلاحظ هذا الاهتمام العظيم في مدرسة أهل البيت بقضيّة الدعاء، وهذه الثروة الغنية والكنوز الثمينة من الادعية الشريفة، سواء في أعقاب الصلوات أو في تفاصيل اليوم والليلة، أو في الايّام المختلفة من السنة، أو المواسم الدينيّة الاسلامية كشهر رمضان وشعبان ورجب وذي الحجة، والايّام الشريفة مثل الاعياد الاسلامية أو المناسبات الاسلامية الاخرى، أو الصلوات المختلفة ذات المناسبات أو الابعاد، بحيث نجد في تراثهم كتباً واسعة معروفة ومتداولة في جميع العصور.

بالاضافة الى الادعية الواسعة والكبيرة ذات الطبيعة التربويّة والثقافية أمثال: دعاء الامام علي(عليه السلام) الذي يرويه كميل بن زياد النخعي، ودعاء الامام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة، ودعاء الامام زين العابدين الذي يرويه أبو حمزة الثمالي، ودعاء الجوشن وأدعية الصحيفة السجادية وغيرها كثير.

وهذه الادعية والصلوات بالاضافة إلى جانبها الثقافي الذي أشرنا إليه، تمثل بعداً روحياً عظيماً في بناء قاعدة الارتباط بالله تعالى والتقوى والخوف والرجاء في نفس الانسان المتعبّد.

ثانيها: نهج الوصية والموعظة الحسنة المدونة أو الملقاة بشكل محدد والذي ذكرنا سابقاً أنّه يمثل خطاً تربوياً ليس في الجانب الثقافي فحسب، بل في الجانب الروحي والتربوي أيضاً.

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد(عليهما السلام)، عن آبائه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يحسن الوصية عند موته كان نقصاً في عقله ومروءته. قالوا: يا رسول الله، وكيف الوصية؟ قال: إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس إليه قال: اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إني أعهد اليك أني أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأنَّ محمداً عبدك ورسولك، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور وأن الحساب حقّ، وان الجنّة حقّ، وما وعد الله فيها من النعيم ومن المأكل والمشرب والنكاح حقّ، وأن النار حقّ، وأن الايمان حقّ وأن الدين كما وصفت، وأن الاسلام كما شرَّعت، وأن القول كما قلت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحقّ المبين.

وإني أعهد إليك في دار الدنيا أني رضيت بك رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)نبياً وبعليّ إماماً، وبالقرآن كتاباً، وأن أهل بيت نبيك عليه وعليهم السلام أئمتي.

اللهم أنت ثقتي عند شدتي، ورجائي عند كربتي، وعدتي عند الامور التي تنزل بي وأنت وليّي في نعمتي، وإلهي وإله آبائي، صل على محمد وآله، ولا تلكني إلى نفسي طرفة عين أبداً، وآنس في قبري وحشتي واجعل لي عندك عهداً يوم ألقاك منشوراً.

فهذا عهد الميت يوم يوصي بحاجته والوصية حق على كل مسلم([143]).

ثالثها: ربط الايمان بالعمل الذي يمثل ـ مضافاً إلى جانبه العقائدي في فهم حقيقة الايمان والكفر ـ جانباً روحياً ومعنوياً في بناء روح التقوى والارتباط بالله تعالى، حيث لا يكمل هذا الايمان إلاّ بالعمل والسلوك والالتزام.

وسوف يأتي تأكيد الروايات أن الشيعة هم أهل الورع والاجتهاد والصبر على المحنة والبلاء وهم أهل العبادة والزهد.

الثانية: أنصار الحقّ الحقيقيين:

الربط العاطفي والوجداني بالجماعة والكتلة الصالحة من خلال اضفاء صفات الاصالة والحقيقة عليها واعطائها الجذر التاريخي العميق وتصعيد درجة الايمان بالخط والمذهب الى مستوى عال، وتطوير العقيدة التي يؤمن بها الانسان الصالح من خلال الموازين والبراهين والادلّة المنطقيّة من مجرد حالة عقلية إلى التزامات روحية ونفسية ومشاعر إيمانية. وذلك عن طريق تأكيد أنّ عقيدتهم ومذهبهم هو المذهب الحقّ الذي لا تشوبه شائبة من الشكّ أو الشبهة، وأنّ جماعتهم هي خير الفرق والجماعات، وأنهم من أهل البيت(عليهم السلام) لانهم أولى الناس بهم، وأنهم الاوفياء بالميثاق الالهي، وأن حبهم وولاءهم هو الذي ينفعهم دون الاخرين في يوم القيامة، وأن مفزعهم إلى رسول الله يوم القيامة ولهم البشارة بذلك إلى غير ذلك من الاساليب.

فقد ورد عن عدد من الائمّة(عليهم السلام) تأكيد هذه الحقيقة من أجل تصعيد هذه الدرجة الايمانية بنصوص كثيرة في أزمنة مختلفة وبصيغ وأساليب متعددة، الامر الذي يدل على وجود قصد وهدف معين كان يهتمّ به الائمّة ويسعون لتحقيقه، وهو رفع درجة الزخم العاطفي والوجداني وتعميق الالتزام والثقة بالمنهج والطريق الذي يؤمن به شيعتهم.

ونشير إلى نماذج منها توضيحاً لهذا الامر:

1 ـ عمران بن ميثم عن حبابة الوالبية، قال: دخلت عليها فقالت: أحدّثنك بحديث سمعته من مولاك الحسين بن علي(عليه السلام). إنّي سمعته يقول: والذي جعل أحمس خير بجيلة، وعبد القيس خير ربيعة، وهمدان خير اليمن، إنّكم خير الفرق، ثمّ قال: ما على ملّة إبراهيم إلاّ نحن وشيعتن([144]).

2 ـ عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): أنتم والله من آل محمد، فقلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم والله من أنفسهم ـ ثلاثاً ـ ثمّ نظر إلىّ ونظرت إليه، فقال: يا عمر، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (إنّ أوْلى النّاس ِ بإبْراهيمَ لَلّذينَ اتّبَعوهُ وَهذا النّبيُّ وَالّذينَ آمَنوا وَاللهُ وَلِىُّ المُؤمِنين)([145]).

3 ـ عن أبي ذرّ قال: والله ما صدق أحد ممن أخذ الله ميثاقه فوفى بعهد الله غير أهل بيت نبيّهم وعصابة قليلة من شيعتهم، وذلك قوله تعالى: (وَما وَجَدْنا لاكْثَرِهمْ مِنْ عَهْد وَإنْ وَجَدْنا أكْثَرَهُمْ لَفاسِقين)([146]).

4 ـ يونس بن عبد الرحمن عن كليب الاسدي قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: أما والله إنّكم لعلى دين الله وملائكته فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد. عليكم بالصلاة والعبادة. عليكم بالورع([147]).

5 ـ عن أبي الطفيل قال: قام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) على المنبر فقال: إنّ الله بعث محمّداً بالنبوة، واصطفاه بالرسالة فأنال في الناس وأنال، وعندنا أهل البيت مفاتيح العلم وأبواب الحكمة وضياء الامر وفصل الخطاب، ومن يحبنا أهل البيت ينفعه إيمانه ويتقبل منه عمله، ومن لا يحبنا أهل البيت لا ينفعه إيمانه ولا يتقبل عمله وإن أدأب الليل والنهار لم يزل([148]).

6 ـ بريد العجلي وزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم (والخبر صحيح) قالوا: قال لنا أبو جعفر الباقر(عليه السلام): ما الذي تبغون؟ أما لو كانت فزعة من السماء لفزع كلّ قوم إلى مأمنهم ولفزعنا إلى نبيّنا وفزعتم إلينا، فأبشروا ثمّ أبشروا ثمّ أبشروا. لا والله لا يسوّيكم الله وغيركم ولا كرامة لهم([149]).

الثالثة: الحب والولاء لاهل البيت(عليهم السلام):

التأكيد على جانب المشاعر والعواطف في علاقة الجماعة الصالحة بهم، وعدم الاكتفاء بالارتباط العقلي والمنطقي فقد سلك أهل البيت(عليهم السلام) في ترسيخ الايمان والعقيدة والالتزام بالمذهب الصحيح على مستوى الجانب الروحي والمعنوي منهج تصعيد درجة الحبّ والولاء لهم، وتعميق جذوره وأصوله وربطه بالكثير من المعاني والقيم والمثُل من ناحية، وبالنتائج والاثار في مستقبل حياة ابناء الجماعة من ناحية أخرى. ولم يقتصروا في ذلك على الادلّة والبراهين والبيانات الصحيحة، بل استخدموا المشاعر والعاطفة في ترسيخ ذلك.

وقد كان لهذا الحبّ دور عظيم في صمود أتباع أهل البيت في مواجهة الضغوط والالام التي كانوا يتعرّضون لها، حتّى إنّهم كانوا على استعداد لان يتنازلوا عن حياتهم وكلّ أموالهم ويتعرّضوا لالوان المحن والالام من أجل هذا الحبّ والودّ الذي كانوا يحملونه لاهل البيت(عليهم السلام).

وقد كان لهذه التربية ـ التي بدأها القرآن الكريم ـ أثر عظيم ليس على شيعتهم وأتباعهم فحسب، بل في أوساط المسلمين عامة، بحيث أصبحت قضيّة الحبّ لاهل البيت ميزاناً يتميّز به الانسان المسلم المتّزن في سلوكه وعواطفه عن الانسان الذي يدّعي الاسلام ويتظاهر به، ولكنّه يفقد المشاعر الانسانيّة والاسلاميّة الصحيحة، حيث يُبتلى بالنصب والحقد على أهل البيت(عليهم السلام) والعداء لهم.

ولما كان هذا الحبّ والمودّة في القربى ذات أصل إلهي، حيث أكّدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (قُلْ لا أسألـُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودّةَ فِي القُرْبى)([150])، وأكدتها السنّة النبويّة الشّريفة المتواترة نصّاً ومعنى، وجاءت الصلاة عليهم (اللهم صل على محمد وآل محمد) جزءاً من الصلاة الواجبة، كان من الطبيعي أن يكون لهذا الحبّ هذا الاثر في أوساط المسلمين، وأخذ يشكل ظاهرة عامّة فيهم. وسوف يأتي في بحث العبادات في موضوع الذكر والصلاة على محمد وآله عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بيان فضل هذه الصلاة وآثارها وثوابها.

وقد عُرف عن الشافعي أبيات تعبّر عن وجود هذا الاثر العام، وتشير إلى بعض الصّراعات السياسيّة التي كانت تحارب هذا الحبّ لاهداف سياسيّة لا دينيّة:

يا آل بيت رسول الله حبّكم فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنـّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له

وقوله أيضاً:

إن كان رفضاً حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أنـّي رافضي

وهذا الحبّ له دور عظيم معنوي وله دور ثقافي وسياسي أيضاً، حيث كان دوره الثقافي هو أنـّه كان يفتح القلوب إلى الهدى والصلاح والتأثّر بثقافة أهل البيت وتعاليمهم.

وكان دوره السياسي هو إيجاد المزيد من الحماية لاهل البيت وأتباعهم، وتهيئة الفرص المناسبة للايمان بولايتهم ودورهم في التاريخ الاسلامي.

ولذلك كانت الحرب السياسيّة الّتي مارسها الاعداء السياسيّون لاهل البيت تحاول اطفاء شعلة هذا الحب والولاء وطرح البدائل والولاءات الاخرى، أو توهين ذلك الولاء لاهل البيت(عليهم السلام) ومحاربة قضية الحبّ والمودّة. ولذلك أيضاً كان التعصّب والنصب والحقد صفة لاولئك الاعداء السياسيين الذين كانوا على استعداد لارتكاب كلّ الجرائم الوحشية ضدّ أهل البيت وأتباعهم.

مع أنّ قضية الحبّ والمودّة كانت واضحة على جميع المستويات: على مستوى النّصوص الاسلاميّة الشرعيّة، وعلى مستوى الوقائع التأريخيّة، وعلى مستوى الممارسة في عصر النبي والصحابة والتابعين وبقية المسلمين الصالحين.

وهناك المئات من النصوص الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أهل البيت تكرّس قضية حبّ أهل البيت باعتباره هدفاً أساسياً ووسيلة للوصول إلى ثواب الله تعالى ورضوانه ومغفرته.

عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الاسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوفاء، ومروّته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شيء أساس وأساس الاسلام حبّنا أهل البيت([151]).

وقال الامام علي(عليه السلام): عليكم بحبّ آل نبيّكم، فإنه حقّ الله عليكم، والموجب على الله حقّكم، ألا ترون إلى قول الله تعالى: (قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدّةَ فِي القُرْبى)؟([152]).

وفي المحاسن عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): ذكرنا أهل البيت شفاء من الوعك والاسقام، ووسواس الريب، وحبّنا رضا الرب تبارك وتعالى([153]).

وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنا شافع يوم القيامة لاربعة اصناف ولو جاءوا بذنوب أهل الدنيا: رجل نصر ذريتي، ورجل بذل ماله لذريتي عند الضيق، ورجل أحب ذريتي باللسان والقلب، ورجل سعى في حوائج ذريتي إذا طردوا أو شردو([154]).

وعن حنان بن سدير، عن ابي جعفر(عليه السلام) قال: ما ثبت الله حبَّ علي(عليه السلام) في قلب أحد فزلّت له قدم إلاّ ثبتت له قدم أخرى([155]).

وعن الفضيل، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) حبنا ايمان وبغضنا كفر([156]).

الرابعة: التضحية والفداء:

ترسيخ روح التضحية والفداء، والاستعداد للتنازل عن الدنيا وشهواتها من أجل العقيدة والمبدأ، وإشاعة روح الجهاد والكفاح من أجل المبادئ السامية والاهداف النبيلة.

وقد استخدم الائمّة(عليهم السلام) من اجل تحقيق ذلك مختلف الاساليب، تبدأ بتحملهم الالام والمحن وكذلك تضحيتهم بالجانب المعنوي الشخصي لهم في سبيل المصالح الاسلامية العامة أو استعدادهم للبذل والعطاء بأعلى الدرجات، من قتل النفس والاهل والاصحاب الى سبي العيال والعدوان على المال والجاه بحيث كانوا هم الهدف الذي يتعرّض لسهام الاعداء ومؤامراتهم. وأصبحت قضية الامام الحسين(عليه السلام) القمّة في هذه التضحية والعنوان البارز لها، وكذلك الامام علي والامام الحسن(عليهما السلام) من قبله وبعده الائمّة الاطهار وفي جميع المجالات.

وإلى جانب التضحية المباشرة التي كانت تعتبر الاسوة لدى شيعتهم يقوم أئمة أهل البيت بالتربية على روح التضحية والفداء من خلال التأكيد لهذه الملحمة والمصيبة العظيمة فيالتأريخ الاسلامي وهي ملحمة الامام الحسين(عليه السلام)ليس من أجل كشف المظلومية وإزالة القناع عن الوجه القبيح للعهد الاموي فحسب، بل من أجل جعل التضحية مناراً يقتدي به السائرون في طريق الجهاد أيضاً.

الابعاد المعنوية في ثورة الامام الحسين(عليه السلام)

يحسن بنا هنا أن نتناول الابعاد المعنوية في ثورة الامام الحسين(عليه السلام)بشيء من التحليل، فقد تناولنا في الجانب الثقافي وفي موضوع الشعائر قضية الامام الحسين(عليه السلام)من خلال الابعاد الثقافيّة والاخلاقيّة والعقائديّة، ولكن يمكن أن نرى فيها على مستوى الجانب الروحي والمعنوي ـ بالاضافة إلى الخصوصيات السابقةـ الابعاد التالية:

1 ـ الصراع بين الحق والباطل:

أنّ قضية الامام الحسين(عليه السلام) تمثّل قضيّة الصراع بين الحقّ والباطل والايمان والكفر، ولكن ليس على مستوى الاسلام والكفر الصريح كما كان يحصل في حركة الانبياء، بل تمثّل الصراع بينهما على مستوى الانحرافات الحادّة التي تنتهي إلى الكفر وإفراغ النظرية الاسلامية من محتواها الحقيقي في داخل المجتمع الاسلامي وهي إلى جانب ذلك تمثّل موقف الحقّ الذي لا شبهة فيه مطلقاً، في الوقت الذي يتعرّض فيه الحقّ إلى هذا القدر من الظلم والاستهتار والهوان.

وعلى هذا الاساس نجد أنّ موقف الامام الحسين وهذه الرؤية تكاد تكون مسلّمة ومقبولة لدى جميع المسلمين بدون استثناء، ويتفاعل معها المسلمون في كلّ زمان بالرغم من المحاولات السياسيّة والثقافية التي بذلها الامويون وأتباعهم لتشويه هذه القضيّة واضفاء الشرعية على موقف يزيد والامويين، أو في محاولة تركيز ثقافة السكوت والاستسلام للظالم والقبول بولايته وشرعيّتها بعد فرض السيطرة والهيمنة على الاوضاع العامة على ما أشرنا إلى ذلك في بعض الابحاث.

وبقيت قضية الامام الحسين(عليه السلام) مناراً يهتدي به الضّلال والتّائهون في ظلمات التزوير والخداع، كما يستمد منه المجاهدون والثائرون والمناضلون الرؤية والقوّة والعزيمة.

2 ـ القيم الاخلاقية:

القيم الاخلاقيّة الانسانيّة الّتي تجسّدها هذه الملحمة التأريخية، حيث تمثل مدرسةً في هذا الجانب الانساني العظيم.

ولعلّ سرّ استمرار بقاء هذه الملحمة في قدرتها على التأثير والتفاعل هو هذا المضمون الاخلاقي الرائع لها الذي ينسجم مع أوليّات الفطرة الانسانية. حيث تجسّد في تفاصيل مجراها معاني العزّة والكرامة والاباء والشجاعة والايثار والرأفة حتى بالاعداء، والشعور بالمسؤولية تجاه الاسلام والمسلمين، والثبات على المبادئ، والصبر على النوائب والالام والمصاعب، وبذل الجهد وإفراغ الوسع في هداية الناس وإنقاذهم، وكذلك العلاقات الانسانيّة الرفيعة في دائرة الارحام والاصدقاء والاولياء، والقيادة والامّة، ومع ابناء الشعوب والقوميات المختلفة الذين كانوا مع الامام الحسين(عليه السلام).

إنّ هذه القيم والمثل عندما تُجسَّد عملياً في ساعات المحنة وتُرسم معالمها بالدماء والتضحيات يكون لها مدلول يختلف في عمقه ودرجته ومستواه عن مداليلها عندما تطرح شعاراً أو ثقافة عامّة عند الامّة.

3 ـ حجم التضحية الكبير:

الدّرجة العالية والحجم الكبير في التضحية والفداء من أجل الاسلام ومصالح الامّة الاسلاميَّة.

فإنّ القضية الحسينيّة تتميّز بهذه الميزة التضحوية العظيمة حيث لم تكن التضحية بالنفس وبالمال والولد والاخوة والاصحاب وحدها، بل كان إلى جانب ذلك كلّه التضحية بالاهل، وتعريض النساء إلى محنة الاسر والعدوان، وقد شملتهم العناية الالهيّة فأنقذتهم من آثارها ونتائجها المأساويّة الاخرى.

كما كانت أيضاً تضحية عظيمة بالجاه والاعتبار وبالنخبة الصالحة وبالعلماء والافاضل الّذين كانوا إلى جانب الامام الحسين(عليه السلام)، والذين كان من الممكن أن يتحوّل كلّ واحد منهم إلى مدرسة عظيمة في المعرفة والاخلاق وإلى هاد ومرشد في الامة.

إنّ الانسان عندما يواجه مثل هذه الاخطار في صراعه مع الكفر والانحراف، قد يقف متردّداً، وقد يختار السكوت والاستسلام باعتبار حجم التضحية الكبير، كما يفعل الكثير من الناس في التأريخ. أُولئك الّذين يحملون المشاعر الطيبة والافكار الصحيحة والرؤية الواضحة، ولكنّهم يقفون أو يتردّدون أو يسقطون بسبب حجم الضغط المعادي.

وقد وجدنا هذه الحقيقة ماثلة في موقف بعض الصّالحين في عصر الامام الحسين(عليه السلام)، فضلاً عن العصور الاخرى، حيث نصحه بعضهم بعدم الخروج إلى العراق انطلاقاً من هذه الحقيقة، أمثال محمد بن الحنفيّة، وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عباس، الذين يمثّلون أقرب الناس إلى الامام الحسين(عليه السلام)، وكانوا يمتلكون نفس الرؤية الّتي كان يمتلكها الامام الحسين(عليه السلام) في النظام الحاكم، ولكنّهم لم يكونوا يملكون هذا الفهم للتضحية والفداء.

4 ـ الوضوح في طلب الحق:

الوضوح في الحق والمظلوميّةفي جانب الامام الحسين وفي الباطل والعدوان في جانب يزيد، هذا الشيء الذي يهزّ المشاعر ويفتح الطريق امام تفاعل الامة واندماجها بالمأساة واهدافها، وقد كان هذا الوضوح ضمن اهداف التخطيط لهذه النهضة حيث أنّ الامام الحسين تمكّن أن يمهّد الطريق لنهضته من خلال العمل الاعلامي الجيّد، والخطاب السياسي القوي، والتحرّك على الامّة، والتجاوب مع متطلّبات المرحلة وحاجاتها، بحيث أدّى ذلك كلّه إلى أن تطلب منه الاُمّة بنفسها التصدّي لقيادة المسيرة، والقيام لمواجهة الظالمين، فأصبحت القاعدة الشعبيّة مهيّأة ومتجاوبة مع هذه النهضة، وتؤمن بأهدافها ومنطلقاتها، وإن كانت الامّة لم ترتفع إلى مستوى الارادة الشجاعة والعزيمة القوية للوقوف إلى جانب الامام الحسين(عليه السلام) في هذه النهضة.

ولا شكّ بأنّ اقتران قضيّة الامام الحسين(عليه السلام) بهذا العامل، وكذلك ما واجهه من خذلان وغدر بعد دعوته من قبل الامة للقيام والنهوض، كان له تأثير كبير في تأجيج الروح المعنوية لدى هذه الجماعة الصالحة التي كانت تشعر بالاسى والالم والندم، وتحرص دائماً أن لا تتكرر في أوساطها هذه التجربة المؤلمة.

وليس من الضروري أن يتفاعل مع هذا الجانب خصوص أولئك الذين ارتكبوا الذنب ليحصل عندهم الشعور بالندم، بل يمكن أن يتفاعل مع هذا الجانب جميع أولئك الذين يشاهدون هذه التجربة أو يعقلونها في حياتهم ليشعروا بالاسى والندم على ما فاتهم من المساهمة في هذه النهضة، أو السماح للاوضاع السياسية أن تنتهي إلى هذه الدرجة من الانحطاط والتردي. وكذلك حذراً من الوقوع في نفس المستنقع الّذي وقع فيه الاخرون أو الانتهاء إلى نفس مصيرهم.

5 ـ المأساة المتعددة الابعاد:

المأساة المتعدّدة الابعاد والجوانب، فإنّ مأساة الامام الحسين(عليه السلام) لم تكن ذات بعد واحد، بل فيها أبعاد متعدّدة يكاد الانسان يجد في معالمها جميع الابعاد المأساويّة التي يواجهها في حياته الشخصيّة أو الاجتماعيّة.

فقتل الابناء والاخوة والارحام والاطفال والشباب والشيوخ والنساء، والاصدقاء والاولياء والضعفاء، والقادة والسادة والعلماء، والنهب والسلب والاسر، والتمثيل والتعذيب النفسي والجسدي، والعدوان المادّي والمعنوي بمختلف أشكاله، إلى غير ذلك من المعالم كلّها نجدها في هذه المأساة المروّعة. ويعطي هذا الجانب زخماً روحيّاً ومعنويّاً آخر لهذه القضيّة العظيمة.

6 ـ العزم على الشهادة:

العزم والتصميم على الشهادة والفداء والثبات والصمود عليها والاستعداد لها حتى لو تكررت هذه التجربة سبعين مرة، بالرغم من أن الظروف السياسيّة المنظورة كانت تنبّئ بهذه النتائج، وأن هذه الحركة ليست بقادرة على الاطاحة بنظام يزيد.

وهذا الفهم لهذه الظروف كان واضحاً من تصريحات الامام الحسين(عليه السلام)، ونصائح معاصريه، والنتائج التي انتهت إليها المعركة، بالرغم من السعي الحثيث والواسع الّذي بذله الامام الحسين للتمهيد لهذه الحركة، بهدف بقاء آثارها المعنويّة.

فشهادة الامام الحسين(عليه السلام) واصحابه كانت مع التصميم على هذه الشهادة، وارادتها عن حسن اختيار وهذا يعطيها زخماً معنوياً عالياً. إذ إن كلّ شهادة تقترن بهذا التصميم والعزم يكون لها أثر روحي ومعنوي عظيم.

7 ـ ابن الرسالة والرسول:

أنّ الشهيد هو ابن الرّسالة الاسلاميّة الذي تربّى في أحضانها، فهو ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذي كان يوليه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عناية خاصة متعمّدة ومقصودة بهدف إيجاد التأثير لهذه الواقعة في نفوس المسلمين. وقد كان الامام الحسين وأخوه الامام الحسن واختهما السيدة زينب سلام الله عليهم يمثلون الذريّة الباقية لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم تكن له ذريّة غيرها.

وهو في نفس الوقت ابن الامام علي(عليه السلام) الذي كان له موقع خاص بين المسلمين جميعاً.

وكان إلى جانب الامام الحسين أيضاً الذريّة الطاهرة لابيه واخوته وأولاده وأخواته وأهل بيته. كلّ ذلك كان له تأثير كبير في إيجاد هذه الروح المعنويّة العالية. وكذلك مجموعة صالحة ونخبة طيبة من الاصحاب والمخلصين المعروفين في المجتمع الاسلامي.

الخامسة: المحنة والروح المعنوية:

انّه مضافاً إلى تضحية الائمة(عليهم السلام) وتأكيدهم للتضحية من خلال التأكيد لقضية الامام الحسين(عليه السلام)، نجد تأكيد الائمّة(عليهم السلام) في أحاديثهم ومخاطباتهم لشيعتهم لما يستلزمه الانتماء لهم والارتباط بهم من التعرّض إلى مختلف أنواع البلاء والمحن.

فقد نقل السيد الرضي في نهج البلاغة أن امير المؤمنين علياً(عليه السلام) ـ لما توفي سهل بن حنيف الانصاري بالكوفة بعد مرجعه من صفين وكان احب الناس اليه ـ قال: لو أحبني جبل لتهافت وقد فسره الرضي(رضي الله عنه) بأن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب اليه ولا يفعل ذلك إلاّ بالاتقياء الابرار والمصطفين الاخيار، وأن هذا مثل قوله(عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباب([157]).

بل إنّ البلاء والامتحان لازم ضروري للايمان، بحيث يعبّر الامتحان والابتلاء عن مقياس لدرجة الايمان التي يتّصف بها الانسان المؤمن.

1 ـ فقد روى الكليني بسند معتبر عن عبدالرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبدالله(عليه السلام) البلاء وما يخصّ به المؤمن فقال: سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال: النبيّون ثمّ الامثل فالامثل، ويُبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله، فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه([158]).

2 ـ عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: إنّ الله ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرّجل أهله بالهديّة من الغيبة، ويحميه الدّنيا كما يحمي الطبيب المريض([159]).

3 ـ عن الحسين بن علوان عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال ـ وعنده سدير ـ : إنّ الله إذا أحبّ عبداً غته بالبلاء غتاً، وإنّا وإيّاكم يا سدير لنصبح به ونمسي([160]).

كما أنّ الائمّة(عليهم السلام) تحدّثوا مع شيعتهم أنّ هذه الصفة وهي التشيع لا يستحقّها إلاّ أولئك الاشخاص الّذين لديهم ذلك الاستعداد إلى التضحية العالية. وكانوا يختبرون إخلاصهم وصدقهم من خلال هذا الاستعداد.

وقد وصف الامام علي(عليه السلام) الصالحين من اصحابه بهذه الصفة: أنتم الانصار على الحق الاخوان في الدين، والجُنَن يوم البأس، والبطانة دون الناس، بكم أضرب المدبر وارجو طاعة المقبل فاعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب فوالله اني لاولى الناس بالناس([161]).

وفي نفس الوقت وردت عنهم أحاديث كثيرة تحثّ أتباعهم على التضحية والفداء والبذل والعطاء والجهاد في سبيل الله.

وإليك نماذج من هذه الحقائق والتعليمات والارشادات:

1 ـ عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): كانت وصيّة أمير المؤمنين(عليه السلام)لاصحابه: اعلموا أنّ القرآن هدى الليل والنهار، ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة، فإذا حضرت بليّة فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه، والحريب من حرب دينه، ألا وإنّه لا فقر بعد الجنّة، وأنّه لا غنى بعد النار، لا يُفكّ أسيرها ولا يبرأ ضريره([162]).

2 ـ عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام): أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجُنّته الوثيقة، من تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، ودُيّث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالاسهاب، واديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف([163]).

3 ـ روى الكليني في الكافي، عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السّيف، ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار([164]).

وهذا التقييم والفهم الشامل للجهاد له دلالات واسعة، ولكنّ الائمّة لم يكتفوا بذلك، بل بيّنوا وشرحوا أحكامه وأعطوه مداليل واسعة في الحياة العملية، تشمل مجالات الكلمة الحقة والسلوك المتميز والمواقف الصالحة.

ومن خلال هذه التربية نجد أنّ أحد المعالم الاساسيّة الّتي يتّصف بها أتباع أهل البيت(عليه السلام)، والتي عرفها فيهم أعداؤهم وأصدقاؤهم هي هذه الروح العالية في الاستعداد للتضحية والفداء. ومن خلالها تمكّنوا ـ أيضاً ـ أن يديموا هذا الزخم الروحي في الامّة الاسلاميّة في مواجهة مختلف الظروف التي تعرّضت لها الامّة.

السادسة: المقاومة والصبر

روح المقاومة والصبر، و لا شكّ أنّ روح المقاومة والصمود والتحمّل والصبر على المكاره والالام والمحن من أهمّ الصفات المعنويّة التي تؤهّل الجماعة للبقاء والاستمرار من ناحية، وللقيادة والريادة للجماعات الاسلامية الاخرى في المواجهات العامّة التي تمرّ بها الامّة من ناحية ثانية، وإلى تحقيق النصر والغلبة على الاعداء من ناحية ثالثة.

ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكّد كثيراً أهميّة الصبر، ويقدّم النصح للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال، ويستخلص العبرة من الانبياء السابقين. قال تعالى: (فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُل)([165]). وقال تعالى: (قَالَ الَّذينَ يَظُنّونَ أنـّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ كَمْ مِنْ فِئَة قَليلة غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرين* وَلَمّا بَرَزوا لِجالُوتَ وَجُنودِهِ قَالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبّتْ أقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرينَ * فَهَزَموهُمْ بِإذْنِ اللّهِ)([166]).

وقد حاول أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أن يعالجوا هذا الجانب ويبعثوا روح الصمود والصبر والتحمّل بأساليب متعدّدة نجدها في أحاديثهم ووصاياهم وأعمالهم، نشير إلى جوانب منها:

1 ـ التأكيد لاهميّة الصبر ودوره من خلال لفت النظر إلى ما أكّده القرآن الكريم بهذا الصدد، أو الحديث عن الصبر تأكيداً مباشراً، حيث وردت أحاديث كثيرة عنهم(عليهم السلام) في هذا المجال، وقد عُقد في الوسائل باب مستقل تناول هذا الموضوع، كما وردت أحاديث متفرّقة أخرى في مجالات عديدة.

ومن الواضح خلال هذه الاحاديث أن الائمّة كانوا يريدون أن يعالجوا هذا الجانب في أتباعهم.

ففي الكافي عن حفص بن غياث قال: قال ابو عبد الله(عليه السلام): يا حفص، إن من صبر صبر قليلاً، وإن من جزع جزع قليلاً. ثم قال: عليك بالصبر في جميع امورك; فإن الله عزّوجلّ بعث محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره بالصبر والرفق، فقال: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً * وذرني والمكذبين أولي النَّعمة).

وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم) فصبر حتى نالوه بالعظائم، ورموه بها فضاق صدره فانزل الله عليه: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين) ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل الله: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) فألزم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى فكذبوه فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزّوجلّ: (فاصبر على ما يقولون) فصبر في جميع أحواله، ثم بشر في عترته بالائمة(عليهم السلام) ووصفوا بالصبر فقال جلّ ثناؤه: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) فعند ذلك قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر من الايمان كألراس من الجسد، فشكر الله ذلك له فأنزل الله: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فقال: إنه بشرى وانتقام، فأباح الله له قتال المشركين فأنزل الله: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد واقتلوهم حيث ثقفتموهم) فقتلهم الله على يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأحبائه وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الاخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه مع ما يدخر له في الاخرة([167]).

وعن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): سيأتي على الناس زمان لا ينال فيه الملك إلاّ بالقتل، والتجبر، ولا الغنى إلاّ بالغصب والبخل، ولا المحبة إلاّ باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبّة، وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ آتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممّن صدّق بي([168]).

2 ـ تفسير البلاء والمحنة على أنـّه يمثّل قربى من الله تعالى و اصطفاءً واختياراً منه تعالى لعبده الممتحن، وقدّموا أنفسهم قدوة في هذا المجال، حيث تعرّفنا على بعض الاحاديث في هذا المجال في النقطة السابقة.

3 ـ بيان أن التسليم والرضا بالبلاء والامتحان يمثّلان في نفسهما درجة عالية من الايمان بالله تعالى لا ينالها إلاّ الخاصّة من عباده. الامر الذي يبعث في النفس حالة الرضا والاطمئنان والصمود والمقاومة: اللهم فاجعل نفسي مطمئنّة بقدرك راضية بقضائك... صابرة على نزول بلائك([169]).

فعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أوكره. ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره إلاّ كان خيراً له فيما أحب أو كره([170]).

وعن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: الزهد عشرة أجزاء، أعلا درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرض([171]).

4 ـ التأكيد أن مصير أتباعهم هو مصيرهم وأن مستقبلهم مقرون بمستقبل الائمّة أنفسهم، كما مرت الاشارة إلى ذلك في النقطة الثانية.

5 ـ بيان تفاصيل الاجر والثواب العظيم الذي ينتظرهم بسبب هذا الانتماء وهذه المعاناة، وأنّ هذا الانتماء والمعاناة هي التي تكون سبباً لقبول الاعمال والنجاة في يوم القيامة.

ففي مجالس المفيد عن العلاء عن محمد قال: سألت ابا جعفر(عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً)فقال(عليه السلام): يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يقام بموقف الحساب، فيكون الله تعالى هو الذي يتولى حسابه لا يطلع على حسابه أحداً من الناس، فيعرفه ذنوبه، حتى إذا أقرَّ بسيئاته قال الله عزّوجلّ للكتبة: بدِّلوها حسنات، وأظهروها للناس، فيقول الناس حينئذ: ما كان لهذا العبد سيئة واحدة، ثم يأمر الله به إلى الجنّة فهذا تأويل الاية، فهي في المذنبين من شيعتنا خاصة([172]).

وعن الرضا، عن آبائه(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): حبنا أهل البيت يكفر الذنوب، ويضاعف الحسنات، وإن الله تعالى ليتحمّل عن محبيّنا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، إلاّ ما كان منهم فيها على إضرار وظلم للمؤمنين فيقول للسيئات كوني حسنات([173]).

وفي باب الصفح عن الشيعة من الجزء 65 من البحار احاديث عديدة وصحيحة تدل على هذا المضمون. وإذا جمعنا بينها وبين احاديث الورع والاجتهاد يمكن أن نفهم أن الانسان لا يكون شيعياً من الجماعة الصالحة إلاّ إذا اتصف بالورع والاجتهاد، ولكنه إذا تعرض لذنب فسوف يغفر له بسبب ولائه وتحمله الالام لهذا الولاء.

السابعة: معالجة الضغوط النفسية:

العمل لمعالجة الضغوط النفسية التي تتعرّض لها الجماعة الصالحة من أعدائهم، ومواجهة تفاصيل الحرب النفسية، والهجمة السياسية والاعلامية التي كان يتعرّض لها أتباع أهل البيت(عليهم السلام).

وتلاحظ في هذا المجال ـ مضافاً إلى الاثارات والشكوك حول مصداقية مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الذي كان يقوم بها اعداء أهل البيت وشيعتهم للضغط عليهم وكذلك الحصار السياسي والاقتصادي، والمطاردة القمعية التي كان يتعرّض لها هؤلاء الاتباع ـ قضيّتان رئيسيتان لهما تأثير نفسي سلبي قوي على الجماعة:

الاولى: هي قضية قلّة عدد الجماعة في خضمّ العدد الكبير الذي كان يكوّن مجموع الامة الاسلامية، خصوصاً في عصور الائمة أنفسهم، حيث كانت الجماعة الصالحة تعيش ضمن المجتمعات الاسلامية الواسعة، دون أن يكون لها كيان مستقل أو مجتمعات مستقلة، فكانوا يشعرون بالضيق الروحي والنفسي من هذه الناحية.

وهذه الظاهرة النفسية تواجهها عادة الجماعات القليلة المؤمنة كافّة عبر تأريخ الرسالات الالهية، وقد عالجها القرآن الكريم في آيات عديدة عندما تحدّث عن القلّة والكثرة، وأكد ان الصلاح في جانب القلة والضلال والانحراف في جانب الكثرة في مثل قوله تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)([174]). وقوله تعالى: (وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُور)([175]). وقوله تعالى: (وَما كان أكْثَرُهُم مُؤمِنين)([176]). وقوله تعالى: (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم)([177]).

الثانية: الاتهام بالرفض وشقّ عصا المسلمين والخلاف مع الجماعة، إلى غير ذلك من الاتهامات التي تحاول محاصرة الجماعة وجعلها غريبة وبعيدة أو معزولة عن المجتمع الاسلامي، حيث تطوّرت بعض هذه الاتهامات إلى الحكم بكفر الجماعة وانحرافها وخروجها عن الاسلام، واستحقاقها للقتل أو النفي.

وكان أتباع أهل البيت يشعرون بالضيق النفسي الشديد بسبب هذا النوع من الاتهامات والمحاصرة.

وقد حاول الائمة(عليهم السلام) معالجة هاتين القضيتين، علاجاً مباشراً تارة من خلال معالجة هذين العنوانين، وأخرى غير مباشر، وذلك من خلال تأكيد أن هذا الاختيار كان من قبل الله تعالى، والاشارة إلى ما يترتب على ذلك الاذى من الاجر العظيم، أو من خلال تأكيد وحدة مصيرهم مع أتباعهم ـ كما سبق ـ أو الاشارة إلى ذكرهم في القرآن الكريم.

ونستعرض هنا بعض نماذج الروايات التي تتحدث عن ذلك:

روي في المحاسن، عن عتيبة بيّاع القصب، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: والله لنعم الاسم الذي منحكم الله ما دمتم تأخذون بقولنا، ولا تكذبون علينا قال: وقال لي ابو عبد الله(عليه السلام): هذا القول، أني كنت خبرّته أن رجلاً قال لي: إياك أن تكون رافضي([178]).

وعن أبي بصير قال: قلت لابي جعفر(عليه السلام): جعلت فداك، اسم سُمينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا. قال: وما هو؟ قال: الرافضة، فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّ سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون، فأتوا موسى(عليه السلام)فلم يكن في قوم موسى أحد اشد اجتهاداً وأشد حباً لهارون منهم، فسمّـاهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني نحلتهم، وذلك اسم قد نحلكموه الله([179]).

وعن علي بن عقبة بن خالد، عن ابيه قال: دخلت أنا ومعلّى بن خنيس على أبي عبد الله(عليه السلام) وليس هو في مجلسه، فخرج علينا من جانب البيت من عند نسائه وليس عليه جلباب، فلما نظر الينا رحّب فقال: مرحباً بكما وأهلاً، ثم جلس وقال: أنتم أولو الالباب في كتاب الله. قال الله تبارك وتعالى (إنما يتذكر أولو الالباب) فأبشروا أنتم على إحدى الحسنيين من الله. أما إنكم إن بقيتم حتى تروا ما تمدوّن إليه رقابكم شفى الله صدوركم وأذهب غيظ قلوبكم، وأدالكم على عدوِّكم، وهو قول الله تبارك وتعالى: (ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم) وإن مضيتم قبل أن تروا ذلك، مضيتم على دين الله الذي رضيه لنبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعث عليه([180]).

وعن محمد بن إسحاق الثعلبي قال: سمعت جعفر بن محمد (الصادق)(عليهما السلام)يقول: نحن خيرة الله من خلقه، وشيعتنا خيرة الله من أمّة نبيه([181]).

وعن محمد بن قيس وعامر بن السمط، عن أبي جعفر (الباقر)(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يأتي يوم القيامة قوم عليهم ثياب من نور، على وجوههم نور، يعرفون بآثار السجود، يتخطّون صفّاً بعد صفّ، حتّى يصيروا بين يدي ربّ العالمين، يغبطهم النبيّون والملائكة والشهداء والصالحون ثم قال: أولئك شيعتنا وعليٌّ إمامهم([182]).

وعن أبي بصير قال: سمعت جعفر بن محمد (الصادق)(عليه السلام) وهو يقول: نحن أهل بيت الرحمة، وبيت النعمة، وبيت البركة، ونحن في الارض بنيان، وشيعتنا عُرى الاسلام، وما كانت دعوة إبراهيم إلاّ لنا وشيعتنا، ولقد استثنى الله إلى يوم القيامة إلى اِبليس فقال: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان)([183]).

الثامنة: شعلة الامل التي لا تنطفئ:

ابقاء شعلة الامل بالمستقبل وروح التفاؤل والنظر إلى تكامل المسيرة عبر الالام والمحن والمعاناة، حيث إن ذلك من العوامل المؤثّرة في بقاء واستمرار الحركات والوصول إلى تحقيق أهدافها.

ولا شكّ أن أيّ حركة تريد أن تبقى وتستمر وتسعى إلى تحقيق أهدافها، لا بدّ لها أن تعيش هذه الروح وتُبقي هذه الشعلة.

ولذلك نجد الرسالة الاسلامية تحث في مختلف مراحلها على استشعار الامل، وتحرّم اليأس والقنوط مهما كانت الظروف والعقبات والالام. قال تعالى: (حتّى إذا اسْتَيأسَ الرُّسلُ وَظنّوا أنـّهُمْ قَدْ كُذبوا جاءَهم نَصْرُنا فَنُجّي مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأسُنا عَن القَوْمِ الُمجْرِمين)([184]). وقال تعالى: (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلوا الجَنّةَ وَلَمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلوا مِنْ قَبْلِكُمْ مسّتهمُ البأساءُ والضرّاءُ وزُلزلوا حتّى يقولَ الرّسولُ والّذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصرَ اللّهِ قريبٌ)([185]).

وقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدّث في أشدّ المحن مع أصحابه ويعدهم فتح بلاد كسرى وقيصر، كما يحدّثنا التأريخ في وقعة أحد والاحزاب.

ويحاول أعداء الاسلام والمنافقون والذين في قلوبهم مرض أن يثيروا الشكوك ويزرعوا اليأس والقنوط في النفوس ليحقّقوا أغراضهم، لانـّه بمجرّد أن تنطفئ شعلة الامل ويدبّ اليأس في النفوس ينهزم الانسان ويستسلم أمام الضغوط ويتحوّل اليأس إلى سلاح قاتل.

وتتركّز الحرب النفسيّة دائماً على هدف رئيسي لها وهو إطفاء روح الامل في المشاعر الانسانيّة.

وقد عالج أهل البيت هذا الجانب بأساليب متعدّدة يمكن أن نشاهد بعضها في النقاط السابقة، إلاّ أن أهمّ نقطة كانت في بناء الجماعة الصالحة في هذا المجال هي قضيّة الانتظار لظهور الامام القائم، حيث لم يكتفِ الائمّة(عليهم السلام) في الحديث عنه بمجرّد طرح هذه الحقيقة وطلب الايمان بها من أتباعهم، بل كانوا يسعون دائماً إلى أن يجعلوا شيعتهم يعيشون حالة الانتظار الحقيقي للظهور وللقيام في مختلف العصور حتّى في عصر الائمّة أنفسهم، بحيث كان أتباعهم يعيشون احتمال أن يكون كلّ واحد من الائمّة هو الامام القائم بالامر. الامر الذي اعطى الجماعة الصالحة عاملاً معنوياً حركياً واملاً كبيراً في تحقيق النصر والاهداف والتغلب على الاوضاع الاجتماعية الفاسدة والانحرافات العقائدية والاخلاقية.

وبالرغم من أن هذا الطرح كان له بعض الاثار السلبيّة في حياة الجماعة الصالحة، كما حصل في بعض عصور الائمّة حيث اعتقد البعض بأنّه هو الامام القائم، ومن ثم لم يكن على استعداد من الناحية النفسيّة أن يقتنع بموت هذا الامام عند موته. وأحد الامثلة على ذلك هو الامام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام)، لان حركته السياسية كانت من القوة بحيث اعتقد بعض اصحابه أنه الامام القائم بالامر، وعندما قتل في السجن مسموماً لم يقتنع هؤلاء الاصحاب بموته وأدّى ذلك إلى القول بالوقف عليه بالامامة وظهرت مشكلة بين الجماعة الصالحة بعد وفاته; حيث انقسمت إلى من يؤمن بإمامة علي بن موسى الرضا وإلى من يقف على الامام موسى الكاظم، حتى تمكن الامام الرضا من التغلب عليها بعد ذلك([186]).

إلاّ أنّ هذه الاثار السلبيّة سرعان ما كانت تزول ويتغلّب عليها الائمّة(عليهم السلام)بسبب قدرتهم على الاقناع، ووضوح الحقّ إلى جانبهم. ويبقى الاثر الايجابي هو السائد في أوساط الجماعة.

وعلى هذا الاساس أصبح الانتظار عبادة يمارسها أبناء الجماعة الصالحة، ويتحرّكون على أساسها، وأصبح من ثم التمهيد للظهور أحد معالم هذا الانتظار، وأحد العوامل المؤثّرة في التحرّك من أجل إقامة حكومة العدل المطلق في تأريخ هذه الجماعة.

ولعلّ لقضيّة الامام المهدي عجّل الله فرجه بعد ذلك والتأكيد لخصوصيّة وصفة الانتظار في الغيبة الصغرى والكبرى الاثر الكبير في هذا الجانب المعنوي الذي تميّزت به هذه الجماعة. وهذا الاثر مما لا نشاهده ولا نعرفه في بقيّة الجماعات الاسلاميّة، لا لانّها لا تؤمن بفكرة الامام المهدي(عليه السلام) ـ لانّ هذه القضيّة من القضايا الّتي يُجمع عليها المسلمون ولا يختلف فيها أحد منهم ـ وإنّما بسبب أن التأكيد والممارسة والربط بهذه القضيّة، وكذلك الاعتقاد بوجود وحياة الامام المهدي عجّل الله فرجه الشريف ليس موجوداً بهذا المستوى وهذا الشكل في الحياة الاسلاميّة للجماعات الاخرى.

قضية الامام المهدي(عليه السلام)

إن قضية الامام المهدي كقضية الامام الحسين(عليه السلام) لها أبعاد كثيرة ـ في بناء الجماعة الصالحة ـ عقائدية وأخلاقية وثقافية ومعنوية. والحديث فيها واسع([187])، حيث إنها تمثّل تفسيراً للتأريخ يتطابق مع النظرية القرآنية التي ترى وراثة الارض للصالحين من عباد الله.

قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أنّ الارْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُون)([188]).

وقال: (وَعَدَ اللّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الارْض ِ كَما اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَُيمَكّنَنّ لَهُم دِينَهُمُ الّذي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدونَنِي لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئاً)([189]).

والذي يعنينا في هذا المقطع من الحديث هو الاشارة إلى الجانب المعنوي والروحي فيها، بالقدر الذي يساهم في فهم منهج الائمة(عليهم السلام) في بناء الجانب المعنوي للجماعة الصالحة من خلال قضية الامام المهدي(عليه السلام).

فإن قضية الامام المهدي(عليه السلام) من وجهة نظر أتباع أهل البيت وشيعتهم تمثّل تجسيداً حيّاً للحقيقة التأريخية السالفة الذكر، ليس على مستوى المستقبل غير المنظور فحسب، بل على مستوى الحاضر المعاش الذي بدأ يجسّد هذا المستقبل من خلال وجوده الشريف وحياته الفعلية; لانهم يعتقدون بحياته وبولادته، وأنه يعيش الان جميع ظروف الحاضر الصعبة التي يواجهها المسلمون، ويشاهد كل التجارب الانسانية والاجتماعية التي تمر بها البشرية ويتفاعل معها، ليحقق حكومة العدل الالهي المطلق في مستقبل مسيرتها.

ويعطي هذا الاعتقاد وضوحاً في الرؤية للتأريخ الانساني، وفهماً للسنن الالهية في التأريخ التي تحدّث عنها القرآن الكريم.

فإن الانسان المؤمن الذي يمرّ بالالام والمعاناة والمحن قد يصيبه شيء من الشكّ، أو الغموض والابهام في مصداقية الحقائق والسنن التاريخية التي تحدّث عنها القرآن الكريم مثل: سنّة الغلبة للصالحين، أو سنّة غلبة الحق على الباطل. قال تعالى: (وَقُلْ جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كان زَهُوقاً)([190]). وقال تعالى: (إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الاشْهادُ)([191]). وقال تعالى: (هُو الّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ على الدينِ كُلّهِ(([192]).

ومثل سنّة الاستبدال في الجماعات الانسانية. قال تعالى: (يا أيّها الّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتي اللّهُ بِقَوْم يُحِبّهُم وَيُحِبّونَهُ أذِلّة على المُؤمِنينَ أعزّة على الكافِرينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذَلكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)([193])، وقال تعالى: (وَإنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونوا أمْثالَكُم)([194]).

ومثل سنّة الارتباط بين مجتمع التقوى ونزول الخيرات والبركات، قال تعالى: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفَتحنا عليهم بركات من السماء والارضِ ولكنْ كذّبوا فأخذناهمْ بما كانوا يكسبونَ)([195]).

ومثل سنّة اتجاه الفطرة الانسانية نحو التكامل والايمان بالله تعالى. ومثل حقيقة خلافة الانسان لله تعالى، وتفضيله على الملائكة في الخلافة. قال تعالى: (وَإذْ قالَ رَبُّكَ لِلملائِكَةِ إنّي جاعِلٌ في الارْض ِ خَلِيفةً قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُون)([196]).

وقضية تطور الرسالات والرسالة الخاتمة.

كل هذه السنن والحقائق قد تواجه هذا السؤال الكبير في ذهن الانسان المؤمن، عندما يرى الالام والمحن والفساد قد عمّت الارض، وأن الحق والمعروف لا يعمل به، وأن الباطل لايُتناهى عنه.

ولكن عندما يضع أمام عينيه حقيقة وجود الامام المهدي عجّل الله تعالى فرجه، وأنه سوف يحقق كل هذه الامال ويجسّد مصداقية كلّ هذه الحقائق والسنن، تصبح الرؤية لديه واضحة بيّنة.

وإلى جانب ذلك كلّه يمكن أن نجد الامور المعنوية التالية في هذه القضية المركزية في بناء الجماعة الصالحة:

أ ـ الوضوح في التكليف:

الوضوح في الاحساس بالواجب الالهي والتكليف الشرعي عند القيام بمختلف النشاطات الاسلامية والدينية، حيث يشعر الانسان المؤمن بالامام المهدي(عليه السلام) ووجوده، وأنه يؤدّي أعماله وخدماته، ويمارس جهاده وتضحياته تحت رايته الشريفة ورعايته الخاصة.

ويعطي هذا الوضوح زخماً معنوياً كبيراً للتحرّك والعمل، يشبه الزخم المعنوي الذي كان يحصل عليه أولئك المجاهدون الذين كانوا يقاتلون تحت راية الانبياء والمرسلين، والذين تمكّنوا أن يحققوا الانتصارات الكبرى، وعملية التغيير الواسعة في المجتمع الانساني، اِذ كلّما ازداد الشعور بالقرب من الحقيقة الربانية والرعاية الالهية والقوة الحقيقية المتمثلة بالله تعالى، كان شعور الانسان بتحقيق النصر وأداء الواجب أكبر، ولا شكّ أنّ الاحساس برعاية الامام المعصوم والانتساب إليه في الحركة والنشاط، يجعل الانسان يشعر بالقرب من الله ورعايته وامتثال أوامره شعوراً أفضل.

ب ـ الاحتفاظ بالقيم الربانية:

الاحتفاظ بالمبادئ والقيم والمثل الربانية في المسيرة، والسعي الدائم إلى تحقيق الكمال الانساني بعيداً عن مفاهيم الربح والخسارة الدنيوية والكسب المادّي، أو الوصول إلى القدرة والتسلط والهيمنة.

فان المسيرة التي تنتسب إلى الله تعالى والرسالة الالهية ـ وهما من عالم الغيب ـ وإلى الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه ـ وهو من عالم الشهود ـ الذي يقوم بهذا الدور العظيم في التأريخ الانساني ـ وهو إقامة حكومة العدل الالهي المطلق ـ سوف تستوحي منه ومن أهدافه ـ التي لابدّ أن تتحقق ـ كلّ هذه المعاني. ولابد ان يكون الاحساس والشعور بهذه المعاني اكثر رسوخاً وعمقاً. وبذلك يحتفظ الانسان في مسيرته بهذه الروح المبدئية العالية، التي تتحرّك على أساس القيم والمثل الانسانية الرفيعة.

ج ـ روح الصبر والثبات:

روح الصبر والثبات والتكامل من خلال هذا الصبر والثبات، والقدوة في تحمل المعاناة والامتحان، لان الامام المهدي ـ بوجوده الشريف ـ يمثّل القدوة الرائعة العظيمة في الصبر والثبات، حيث أنه يشاهد كلّ هذه الالام والمحن ويتعرّض لها في حياته، ويتحسس بها ويتفاعل معها بطبيعة الحال، ومع ذلك فهو صابر ممتحن في ذات الله من أجل الاهداف العظيمة، وينتظر الفرصة للقيام بدوره العظيم. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، فإن جانباً من تفسير طول الغيبة بعد وجوده الشريف هو أن يتكامل وتتكامل المسيرة من خلال التجارب والمعاناة التي يمر بها، بحيث يصبح مؤهّلاً للقيام بهذا الدور الفريد في التأريخ الانساني، وتصبح الاوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية والنفسية للبشرية مؤهّلة لقيام مثل هذه الحكومة، بسبب هذه المعاناة والتجارب.

وكلّ ذلك يعطي زخماً عظيماً وروحاً معنوية عالية في الصبر والثبات، والاستفادة منها في مسيرة التكامل الانساني.

د ـ المساهمة في العدل:

شعور الانسان المؤمن بفكرة الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه بأنّ مجمل أعماله ونشاطاته هي مساهمة في الدور التأريخي وأداء له في التمهيد لقيام حكومة العدل الالهي المطلق، التي يحققها الامام المهدي(عليه السلام).

فبدلاً من أن ينظر الانسان المؤمن إلى تقويم دوره وأعماله ونشاطاته من خلال الاهداف المنظورة في حياته الشخصية القصيرة، أو من خلال ما يمكن أن يحققه أو يتحقق من إصلاحات في المجتمع الانساني، وعندئذ قد يرى كلّ تلك الاعمال والنشاطات محدودة التأثير والاهداف فيزهد فيها، نرى أن الانسان المؤمن بفكرة الامام المهدي إنما يقوم بدوره الخاص في سلسلة المراحل والاهداف والاعمال التي تنتهي مجتمعة إلى إقامة ذلك المجتمع الانساني الفاضل.

وهذا بطبيعة الحال يمنح الانسان مستوىً عالياً من الروح المعنوية في التعامل مع نشاطاته وأعماله وتضحياته، حيث يصبح الهدف كبيراً وعظيماً يغطّي كلّ هذه النشاطات والاعمال والجهود والتضحيات مهما كانت كبيرة وصعبة، أو صغيرة ومحدودة.

هـ ـ الامل الكبير:

الامل الكبير الذي لا يتوقف ولا ينطفئ في تحقيق الانتصار مهما طال الامد، والشعور بأن الشوط سوف يصل إلى نهايته، والتطلّع إلى المستقبل تطلعاً مستمراً ودائماً.

ولا شكّ أن روح الامل هي من أعظم المعنويات التي تمدّ الانسان بالقدرة على الاستمرار في الحركة والثبات والصبر والتضحية.

فالجندي الذي يشعر بأن مسيرته سوف يكملها جنود آخرون يحققون النصر والفتح من بعده، يكون على استعداد للتضحية والفداء أكثر بكثير من ذلك الجندي الذي يشعر أنه عندما يسقط تتوقف المسيرة وتكون المعركة خاسرة.

وكذلك الجندي الذي يخوض المعركة ويشعر أن معارك أخرى يمكن أن يخوضها بنفسه لتحقيق النصر، لا يتوقف عندما يخسر المعركة الاولى، بل يستمر في الحركة. وهذا لا يتوفر إلاّ في أولئك الذين يؤمنون بفكرة الامام المهدي(عليه السلام)الذي يقود المعركة، وسوف يستمرّ في قيادتها حتى الوصول إلى نهايتها. وهذا مما يجعل الامل حيّاً ومتوقّداً يدفع الانسان إلى الحركة والنشاط في كلّ الظروف.

و ـ الانتقام للمظلومين:

الشعور والاحساس بأن جميع المظالم والالام التي يتعرّض لها المؤمنون سوف يتمكّنون في النهاية من أخذ الثأر لها، والانتقام من أولئك المجرمين الذين ارتكبوا كلّ هذه الجرائم والجنايات بحق البشرية.

ومع قطع النظر عن الدور الشخصي في عملية الثأر والانتقام هذه ـ حيث إن ذلك يرتبط بفكرة الرجعة([197]) ومدلولها السياسي والاجتماعي ـ فإن هذا الثأر والانتقام يتحقق بالنسبة إلى أولئك السائرين على خطّ أسلافهم من المجرمين، حيث يكوّن جميع هؤلاء أمة واحدة في التفكير والسلوك والاهداف والمصير، ويكون الانتقام من آخرهم انتقاماً من الاوائل أيضاً.

وفكرة الانتقام والثأر ـ بالمعنى السليم لها الذي يعني الثأر للقيم والمبادئ والحق والعدل ـ هي فكرة صحيحة وإسلامية تحدّث عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع مثل قوله تعالى: (قاتِلُوهُم يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدورَ قَوْم مُؤمِنينَ)([198]).

كما تحدّثت النصوص عن ذلك عندما وصفت الامام الحسين(عليه السلام) بأنه ثار الله([199])، وأن الامام المهدي يثأر للحسين(عليه السلام)، ويكون أحد شعاراته هو يا لثارات الحسين([200])، وكذلك ما ورد في زيارته الشريفة من قوله: واقرن ثأرنا بثأره.

وهذا الاحساس والشعور يمثّل قوة معنوية كبيرة في داخل الانسان لان الله تعالى أودع في الانسان هذا اللون من الاحساس، ولذلك ينزع إليه الانسان بشكل طبيعي في حياته ويمثّل أحد الدوافع لمسيرته وحركته ونشاطه.

وقد اهتمّ الاسلام بتوجيه هذا الدافع والاحساس، لكي لا ينحرف فيتحول إلى مجرّد تعبير عن الغريزة دون أن يصب في مسيرة الكمال الانساني، فوضع الثأر والانتقام والتشفّي في طريق القيم والمبادئ ـ لا لمجرّد التعبير عن الاحساس النفسي والنزعة الشهوية ـ شأنه في ذلك شأن بقية الاحاسيس والغرائز التي اهتم بها الاسلام عاملاً محركاً باتجاه الكمال.

ومن الواضح أن مسألة الثأر والانتقام في قضية الامام المهدي(عليه السلام) ليست انتقاماً وثأراً من الاشخاص، بل هي انتقام وثأر من الواقع الفاسد الذي كان يعيشه الانسان، وذلك بتغييره وتحويله إلى واقع العدل والحق والخير.

الباب الثالث

النظام العام للجماعة الصالحة

الفصل الاول:

المرجعية الدينية

الفصل الثاني:

الهوية وابعادها

الفصل الثالث:

العلاقات الداخلية والخارجية

الفصل الرابع:

الخطوط الثابتة والمنطلقات

تمهيد:

لابدّ في البداية من توضيح المقصود من عنوان هذا الباب (النظام العام للجماعة الصالحة). فقد اهتم أهل البيت(عليهم السلام) من أجل تحقيق الاهداف التي اشرنا اليها في الباب الاول ان يضعوا للجماعة الصالحة مجموعة من الانظمة والخطوط العملية العامة والتفصيلة الثابتة والمتحركة، وذلك من اجل المحافظة على شخصية الجماعة وهويتها ووحدتها من ناحية، والقيام بتلبية حاجاتها وأداء واجباتها ومسؤولياتها من ناحية اخرى. وتحدد لها علاقاتها المختلفة الداخلية والخارجية من ناحية ثالثة، والسير بها في طريق النمو والتكامل من ناحية رابعة، وايجاد الحماية لها ضد الاخطار الخارجية والداخلية وضد عمليات القمع والعدوان من ناحية خامسة.

وبهذا الصدد نجد أنّ أهل البيت قاموا بخطوتين متكاملتين:

الاولى: هي وضع التطور العام لنظام الجماعة والذي يشتمل على الابعاد التالية:

1 ـ الهيكل العام لنظام الجماعة والمسؤوليات والواجبات العامة التي يقوم بها لتلبية حاجاتها.

2 ـ الهوية وطبيعة العلاقات العامة، سواء بين القيادة الشرعية وأفراد الجماعة الصالحة من ناحية، والعلاقات العامة الداخلية من ابناء الجماعة الصالحة انفسهم من ناحية اخرى، أو العلاقات الخارجية مع الجماعات الاخرى من ناحية ثالثة.

3 ـ المنطلقات والخطوط السياسية والاجتماعية الثابتة التي تلتزم الجماعة الصالحة بالسير على منهاجها في حركتها التكاملية.

الثانية: هي وضع الانظمة التفصيلة للمجالات المختلفة ذات العلاقة بالجماعة الصالحة.

وفي هذا الباب سوف نتناول الخطوة الاولى بأبعادها الثلاثة المذكورة أعلاه في فصول ثلاثة. ونترك الحديث في الخطوة الثانية إلى الابواب التالية من هذا الكتاب.

وقد أخذ أهل البيت(عليهم السلام) ـ منذ البداية بنظر الاعتبار ـ أن يكون هذا النظام العام قادراً على التحرّك ضمن النظام الاسلامي والحكومة الاسلامية في المجتمع العام للمسلمين ويتكيف بظروفها.

الفصل الأول

المرجعية الدينية

1 ـ المرجعية الدينية امتداد للإمامة

2 ـ المواصفات والشروط

3 ـ المهمات والمسؤوليات

1 ـ المرجعية الدينية امتداد للامامة

ينطلق تصور الهيكل العام لنظام الجماعة من نظرية الامامة التي تؤمن بها الجماعة الصالحة، هذه النظرية التي تؤمن بأن ولاية أمر المسلمين وإمامتهم بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي للائمة الاثني عشر من أهل البيت(عليهم السلام)([201]) وان هذه الامامة هي امتداد لحركة الانبياء والمرسلين. سواء في تشخيص طبيعة هذا الحق والمنصب من حيث انه منصب الهي يستحقه الانسان من خلال التعيين المباشر له من قبل الله تعالى، كما هو الحال في الانبياء والمرسلين، أو بالواسطة، كما هو الحال في الائمة والاوصياء، حيث أوصى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) أن يكون إماماً من بعده، وهكذا بالنسبة إلى بقية الائمة(عليهم السلام).

أو في خصائص الشخص ومميزاته، حيث يشترط في النبي والامام المنصوب الدرجة العالية من الكمالات الالهية التي يعبّر عنها بالعصمة.

أو في طبيعة المسؤوليات والواجبات والحقوق تجاه الامة أو الحقوق التي تجب على الامة، حيث تجب له الطاعة، وله حق ولاية الامر، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وعليه أن يتحمل مسؤولية إبلاغ الرسالة، وتزكية المؤمنين وتربيتهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، ورعاية شؤونهم والمواساة لهم في حياتهم. (هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

إن النظام الذي وضعه أهل البيت(عليهم السلام) لتنظيم الجماعة يرتكز على هذه القاعدة النظرية، فإن الامام في زمن حضوره وشهوده، وإن لم تكن بيده السلطة، ولا يكون مبسوط اليد في القدرة، إلاّ أنه مع ذلك كله لا بدّ فيه من توفّر هذه الخصوصيات، ويتحمل أيضاً هذه المسؤوليات والواجبات وله هذه الحقوق، ولكن بالقدر الذي تسمح به الظروف المعاشة له وللجماعة الصالحة التي يتولى شؤونها. وتتناسب الواجبات والحقوق في السعة والضيق مع هذه الظروف المتاحة.

وأما في عصر الغيبة فإن المجتهد الجامع للشرائط هو الذي يقوم بهذا الدور باعتباره الوريث الطبيعي للانبياء والائمة(عليهم السلام)، لانهم لم يورثوا ذهباً ولا فضة ولا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا شيئاً من العلم والحكمة.

عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): العلماء مصابيح الارض وخلفاء الانبياء، وورثتي وورثة الانبياء([202]).

عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: إن العلماء ورثة الانبياء، وذاك أن الانبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين([203]).

وهذا التسلسل الطبيعي في الخلافة والمنصب الالهي الذي ذكرناه هو الذي تشير إليه الاية الكريمة في قوله تعالى: (إنّا أنْزَلْنا التّوراةَ فيها هُدىً وَنورٌ يَحْكُمُ بِها النّبيُّونَ الّذينَ أسْلَمُوا لِلّذينَ هادُوا وَالرّبانِيّونَ وَالاحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاس وَاخْشَوْني وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ اللّهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ)([204]).

عن ابي عمرو الزبيري عن ابي عبد الله(عليه السلام): ان مما استحقت به الامامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار، ثم العلم المكنون بجميع ما يحتاج إليه الامر من حلالها وحرامها، والعلم بها خاصة وعامة، والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرايب تأويله وناسخه ومنسوخه. قلت: وما الحجة بان الامام لا يكون إلاّ عالماً بهذه الاشياء التي ذكرت؟ قال: قول الله فيمن اذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها: (انا انزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار)فهذه الائمة دون الانبياء الذين يرثون الناس بعلمهم، واما الاحبار فهم العلماء دون الربانيين، ثم أخبر فقال: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ولم يقل بما حملوا منه([205]).

فالمجتهد الذي يمثل الاحبار في هذه الاية الكريمة لا بد أن يتصف بالخصائص المطلوبة في الائمة الربانيين ولكن بالقدر الذي يتناسب معه ومع مسؤولياته وحقوقه، وهي: العلم بالشريعة، والعدالة العالية، والصفات الشخصية المناسبة من الخبرة والشجاعة، والمواساة للمؤمنين والقدوة في السلوك. وكذلك تثبت له الحقوق والواجبات نفسها، ولكن بالمقدار المناسب لهذا المستوى من الولاية.

إن هذا المنطلق في فهم ورؤية النظام العام للجماعة الصالحة هو أمر مهم فيما يتفرع عنه من مسؤوليات وعلاقات وسياسات وأنظمة ومناهج ومواقف تنسجم مع الفهم النظري لحركة الانبياء ودورها في التاريخ الانساني والسنن المؤثرة في هذا التاريخ.

نظام المرجعية الدينية:

وعلى اساس هذه القاعدة النظرية وضع الائمة(عليهم السلام) نظام المرجعية الدينية أو (ولاية الفقيه); فإن هذا النظام يتلخص في تنصيب المجتهد([206]) من علماء مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الجامع للشرائط التي أشرنا إليها آنفاً (مرجعاً) لاتباعهم، وذلك، للقيام بالوظائف الاساسية للامامة، وهي (الولاية) لشؤون المسلمين و(الافتاء) لبيان مفاهيم الرسالة الالهية بيان معالم الدين وابلاغها والتبشير والانذار بها، و(القضاء) في موارد النزاع والتداعي والفصل للخصومات.

ويبدو من خلال مراجعة تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) أنهم كانوا في الوقت الذي يمارسون فيه هذا الدور للامامة ـ ممارسة محدودة في أوساط الجماعة الصالحةـ بدأوا بتأسيس هذا (النظام) عندما أخذت الجماعة الصالحة تنمو وتكبر، وتتسع دائرة أعمالها ونشاطاتها ووجودها، حتى أصبح هذا النظام هو نظام الجماعة العام بعد الائمة.

فقد قام أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بتأسيس هذا النظام للجماعة الصالحة في زمان حضورهم وشهودهم ـ كما سوف نلاحظ ـ ليكون له دوره النسبي في تكوين الجماعة الصالحة، وإدارة بعض شؤونها في عصرهم، وليصبح نظاماً متكاملاً وفاعلاً يمكن الاعتماد عليه والاكتفاء به بعد غيبة الامام المهدي عجّل الله فرجه.

ولعلّ الدور المهم والاساس لائمة أهل البيت الثلاثة الجواد والهادي والعسكري(عليهم السلام) هو إرساء وترسيخ دعائم هذا النظام، على ما سوف نعرف ذلك إن شاء الله عند دراستنا استعراض الادوار الخاصة التي قام بها الائمة(عليهم السلام)في كل عصر.

ومن أجل اكمال وتوضيح صورة (المرجعية الدينية) يحسن أن نتحدث قليلاً عن المواصفات التي لابد ان يتصف بها (المرجع) وكذلك المهمات التي يتحمل مسؤولية القيام بها والخطوات التي قام بها أهل البيت(عليهم السلام) من اجل تنظيم هذه الحالة.

2 ـ المواصفات والشروط

اما المواصفات المهمة التي لا بدّ ان يتصف بها (المرجع) فهناك ثلاث صفات رئيسية لا بدّ من توفرها في المرجع مضافاً إلى الصفات الاساسية كالعقل والحرية والايمان، وهذه الصفات هي:

أ ـ الاجتهاد: وهي ان يعرف المرجع الاحكام الشرعية من الحلال والحرام والمفاهيم الاسلامية بحيث يكون قادراً على معرفتها من الادلة الشرعية كالقرآن الكريم، والسنة النبوية المروية عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)وغيرهما من الادلة، واستخدام القواعد والاصول العملية التي وضعها الشارع المقدس لتحديد الموقف الشرعي العملي.

وهذه الصفة هي التي تشير اليها الاية الكريمة السابقة من سورة المائدة بعنوان (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء).

كما انه ورد التأكيد على هذه المعرفة في روايات أهل البيت(عليهم السلام)، مثل ما ورد في باب اختيار القاضي في المتخاصمين في حديث معتبر عن الامام الصادق(عليه السلام)ينظر ان من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكم([207]).

وكذلك ما ورد عن الامام الباقر(عليه السلام) عن علي(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارحم خلفائي ـ ثلاثاً ـ قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي([208]).

وكذلك ما ورد عن الامام صاحب الزمان(عليه السلام) في التوقيع المعروف واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله([209]).

وكذلك الروايات التي تنص على ارجاع شيعتهم الى المجتهدين من اصحابهم، أو التي تطلب من المجتهدين من اصحابهم ان يتصدوا الى الفتوى، كما سوف نشير إلى بعضها قريباً.

ب ـ العدالة: وهي كما عرّفها الفقهاء (بانها عبارة عن الاستقامة فيجادة الشريعة المقدسة وعدم الانحراف عنها يميناً أو شمالاً، بأن لا يرتكب معصية بترك واجب أو فعل حرام من دون عذر شرعي، ولا فرق في المعاصي من هذه الجهة بين الصغيرة أو الكبيرة)([210]) أو (الاستقامة على خط الاسلام بنحو لا يرتكب كبيرة أو صغيرة، على شرط ان تكون هذه الاستقامة طبعاً له وعادة([211]) أو (عبارة عن الملكة المانعة غالباً عن الوقوع في المعاصي الكبيرة التي وعد الله سبحانه عليها النار، فلا يقدح في وجودها حصول الندم بمجرد سكون الشهوة أو الغضب مع الالتفات الى وقوع المعصية)([212]).

وقريب من هذا الرأي ما ذكره الامام الخميني في تحرير الوسيلة([213]).

ويبدو من الامام الحكيم(قدس سره) انه يرى ان المرتكز في اذهان المتشرعة ـ وهم المؤمنون المتدينون ـ بأن العدالة التي يجب توفرها في المرجع هي مرتبة عالية لا تزاحم ولا تُغلب بالشهوات أو الغضب على نحو لا يجدي عندهم التوبة فيها والندم، ثم قال: والانصاف انه يصعب جداً بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى ـ كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة ـ إذا لم تكن بمرتبة قوية عالية ذات مراقبة ومحاسبة فان ذلك مزلة الاقدام ومخطرة الرجال العظام ومنه سبحانه نستمد الاعتصام([214]).

وقد جاء التأكيد على العدالة في الشهود وفي امام الجماعة وفي الامام الذي يتولى الجهاد في سبيل الله وفي الامامة وغيرها من الموارد بحيث ان العلماء فهموا من ذلك انها شرط في (المرجع العام) فاجمعوا على هذا الشرط فيه.

وان السيرة العقلائية التي أمضاها الشارع المقدس تقر هذا الشرط أيضاً. وهو مما اكده علماء الفريقين السنة والشيعة([215]).

فقد ورد في الحديث عن ابي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح الامامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال ورع يحزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم([216]).

كما روى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال: سمعت ابا جعفر (الباقر(عليه السلام)) يقول: ... والله يا محمد من اصبح من هذه الامة لا امام له من الله عزوّجلّ ظاهر عادل اصبح ضالاً تائهاً، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد ان أئمة الجور واتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا....([217]).

ج ـ الكفاءة: وهي القوة والتمكن والقدرة على ادارة الامر المفوض اليه، فتشمل: العقل الوافي والتدبير والشجاعة وحسن السياسة والادارة والرعاية وغير ذلك من المواصفات الشخصية التي تعتمد عليها الكفاءة.

وقد اكد العلماء في فتاواهم على هذا الشرط، فقد ذكر العلامة الحلي في (تذكرة الفقهاء) شرط الكفاية على انه من الشروط المسلمة لدى الفقهاء، فقال: يشترط في الامام امور فذكر الشرط السابع ان يكون شجاعاً والمثامن ان يكون ذا رأي وكفاية مضافاً إلى ان يكون صحيح السمع والبصر والنطق كما اشترط فيه ان يكون افضل أهل زمانه([218]).

وقد ورد التأكيد على ذلك في عدة روايات، فقد روي عن امير المؤمنين علي(عليه السلام) انه قال: ايها الناس ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليه، واعلمهم بأمر الله فيه، فإن شَغب شَاغِب استعتِب، فَإن أَبى قُوتل([219]).

والمراد بالقوة القدرة على ادارة الامر المفوض اليه.

وعن امير المؤمنين أيضاً انه قال: والثاني ان يكون اعلم الناس بحلال الله وحرامه وضروبه وأحكامه وأره ونهيه وجميع ما يحتاج اليه الناس، فيحتاج اليه الناس ويستغني عنهم([220]).

وفي صحيحة العيص بن القاسم عن الامام الصادق(عليه السلام) قال: وانظروا لانفسكم، فوالله ان الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فاذا وجد رجلاً اعلم بغنمه من الذي هو فيها يمجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو اعلم بغنمه من الذي كان فيه([221]).

وقد مر في الصفة السابقة في حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) انه يشترط في الامام حسن الولاية وهو عنوان ينسجم مع الكفاية...

وما ورد في اصول الكافي عن الرضا(عليه السلام) انه قال: والامام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل ... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالامامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بامر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله([222]).

/ 7