برزخ نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

برزخ - نسخه متنی

جعفر باقری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

هيئة بقاء الأرواح

يبقى الكلام في الكيفية التي ستؤول إليها روح الإنسان في الحياة البرزخيّة ، والطور الذي تكون عليه . وفي الواقع أننا لا نمتلك أي دليل قاطع على نحو الماهيّة التي تكون عليها الأرواح ، والشكل الذي تتخذه في عالمها الخاص ، والمكان الذي تحلّ فيه بالتحديد ، ولكن ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) أنّ الله يخلق لهذه الأرواح أبداناً كأبدانها التي كانت تحلّ بها في الحياة الدنيوية ، وقوالب كقوالبها المادية السابقة ، إلاّ أنها قوالب شفافة غير مادية ، تسكن فيها الأرواح وتتعارف من خلالها ، وتبقى على هذه الهيئة إلى قيام الساعة .

فقد قيل للإمام الصادق(عليه السلام) :

جعلت فداك ! يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال : لا . المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، ولكن في أبدان كأبدانهم ( [171] ). وفي رواية اُخرى عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : ... فإذا قبضه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدُّنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدُّنيا ( [172] ). وعنه أيضاً في جوابه عن سؤال عن أرواح المؤمنين قال(عليه السلام) : في الجنة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت فلان ( [173] ). وجاء عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال : إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنة تعارف وتسأل ، فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول : دعوها فإنّها قد أَفْلَتت من هول عظيم ، ثم يسألونها : ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم : تركته حيّاً ، ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى! هوى ( [174] ). وعن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) ، قال : إنَّه ذكر الأرواح ـ أرواحَ المؤمنين ـ فقال(عليه السلام) : يلتقون . قلتُ : يلتقون ؟! قال(عليه السلام) : نعم ، ويتساءلون ، ويتعارفون حتى إذا رأيتَه قلتَ : فلان ( [175] )

ويسلّط العلاّمة الشهيد دستغيب الضوء على ماهيّة هذا البدن المثالي في كتابه ( اُصول الدين ) بالقول : وجسدك أيضاً يكون جسداً مثالياً في عالم البرزخ ، يعني أنّه نفس هذا الجسد من حيث الشكل ، لكنه لا يكون ماديّاً ، بل يكون لطيفاً وألطف من الهواء ، بحيث لا يمنعه أي مانع ، فأينما يكون يمكنه أن يرى كلّ شيء فلا يقف الحائط مثلاً حائلاً أمام الرؤية . والإمام الصادق(عليه السلام) يقول : لو رأيته ـ البدن المثالي ـ لقلت هو هو .

فلو أنَّكَ رأيت أباك في المنام فإنك تراه بنفس ذلك الجسد الدنيوي ، لكنَّ الجسم المادي له في القبر ، فهو الصورة والبدن المثالي له .

والبدن البرزخي له عين تشبه هذه العين أيضاً ، لكن ليس لها شحم ولا يصيبها الألم ، وبإمكانها أن ترى إلى قيام القيامة ، وتشاهد بصورة جيدة ، وليست مثل هذه العين التي تكون ضعيفة في بعض الأحيان ، وتحتاج إلى النظّارات .

وقد شبّه العلماء والمتكلمون البدن المثالي بالصورة التي تظهر في المرآة إلاّ أنه يحتوي على خاصيتين :

إحداهما : هو أنه قائم بذاته ، بحيث يكون مستقلاً في تحققه في الخارج وليس في المرآة .

والأُخرى : الإِدراك والشعور . فالبدن المثالي قائم بنفسه وذو شعور وإدراك .

ومثال ذلك ما نشاهده في المنام حيث نستطيع أن نطوي المسافات البعيدة في لحظة واحدة ، ونكون في مكة أو مشهد مثلاً ، وتوجد في ذلك العالم أنواع المأكولات واالمشروبات والمناظر الجميلة والخلاّبة ، والنغمات البديعة ، بحيث لا يطيقها أحد من أهل الدنيا ، وتعيش الأرواح متنعمة في ذلك البدن المثالي من كلّ تلك النعم ( [176] ). ومما يرويه ( البرسي ) في ( مشارق أنوار اليقين ) بهذا الشأن :

إنَّ أمير المؤمنين(عليه السلام) اضطجع في نجف الكوفة على الحصى ، فقال قنبر: يا مولاي ألا أفرش لك ثوبي تحتكَ ؟ فقال(عليه السلام) : لا ، إن هي إلاّ تربة مؤمن ، أو مزاحمته في مجلسه ، فقال الأصبغ بن نباتة : أمّا تربة مؤمن فقد علمنا أنَّها كانت أو ستكون ، فما معنى مزاحمته في مجلسه ؟ فقال(عليه السلام) : يابنَ نباتة إنَّ في هذا الظهر أرواح كلّ مؤمن ومؤمنة في قوالب من النور على منابر من نور( [177] ). وورد فيبعض الروايات أنَّ أرواح المؤمنين في شجرة من الجنّة ، وأنَّها تجتمع هناك بَعدَ أن تتلبَّس بجسد معنوي لطيف ينسجم مَعَ ذلك العالم المجرَّد .

فقد جاءَ عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنَّه قال : إنَّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنّة يأكلونَ من طعامها ، ويشربونَ من شرابها ، ويقولون : ربَّنا أقم الساعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأوَّلنا ( [178] ). وفي روايات اُخرى إنَّ أرواح المؤمنين في حجرات الجنّة يتمتعون من نعيمها حتى يقيم الله الساعة ، ويبعث الناس ليوم الحساب الأكبر . ويشير إلى هذا المعنى ما نقله لنا ( أبو بصير ) عن الصادق(عليه السلام) حيث سأله عن أرواح المؤمنين فقال له(عليه السلام) : في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربَّنا أقم السّاعة لنا ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأوَّلنا( [179] ) . وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) أنَّها : في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة ( [180] ). من هنا يقول الشيخ ( المفيد ) في ( أجوبة المسائل السرويّة ) :

وأمّا كيفيَّة عذاب الكافر في قبره ، ونعيم المؤمن فيه ، فإنَّ الأَثر أيضاً قد ورد بأنَّ الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنّاته يُنَعِّمه فيها إلى يوم الساعة ، فإذا نُفخَ في الصور أنشأ جسده الذي بَليَ في التراب وتمزَّق ، ثمَّ أعاده إليه ، وحشره إلى الموقف ، وأمَرَ به إلى جنّة الخُلد، فلا يزال منعّماً ببقاء الله عزَّ وجلَّ .

غير أنَّ جسده الذي يُعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا ، بل يُعَدِّلُ طباعه ، ويُحَسِّنُ صورته ، فلا يهرم مَعَ تعديل الطباع ، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب ، والكافر يُجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محلِّ عذاب يُعاقب فيه ، ونار يعذَّب بها حتى الساعة ، ثم يُنْشَأ جسده الذي فارقه في القبر ، ويُعاد إليه ، ثم يعذّب به في الآخرة عذاب الأبد ، ويُركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه ... ( [181] ) .

مقرُّ الأرواح

وأمّا بشأن مكان الأرواح ومقرِّها بعد الموت فقد دلَّت بعض الأخبار على أنَّ مكان الأرواح السعيدة هو ( وادي السلام ) في النجف الأشرف ، ومكان الأرواح الشقيّة هو صحراء ( برهوت ) في اليمن .

ونحن لا نمتلك دليلاً قاطعاً على شيء محدد في هذا المجال ، ولسنا مضطرّين لأن نخوض في مثل هذهِ التفاصيل إلاّ بمقدار ما يتناسب حجماً مَعَ الأدلة النقلية الواردة بشأنه ، ومقدار البيان الشرعي الذي أفصح عنه .

فأمّا بخصوص أرواح المؤمنين فقد وردَ عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنَّه قال: ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض الاّ قيل لروحه : إلحقي بوادي السلام ، وإنَّها لبقعة من جنّة عدن ( [182] ). وعن أبي عبد الله(عليه السلام) أنَّه سأله شخص قائلاً :

إنَّ أخي ببغداد وأخاف أن يموتَ بها ، فقال(عليه السلام) : ما تبالي حيثما مات ، أما إنَّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها الاّ حشر الله روحه إلى وادي السلام ، فقال الرجل : وأين وادي السلام ؟ فقال(عليه السلام): ظهر الكوفة ، أما إنّي كأنّي بهم حلقٌ حلقٌ قعودٌ يتحّدثون( [183] ). وبخصوص أرواح الكفّار وردَ عن أبي عبد الله(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أنَّه قال : شرُّ اليهود يهود بيسان ، وشرُّ النصارى نصارى نجران ، وخير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، وشرُّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت ، وهو واد بحضرموت يرد عليه هام الكفّار وصداهم ( [184] ). وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنَّه قال : شرُّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت ، وهو الذي بحضرموت ترده هام الكفّار ( [185] ). وعنه(عليه السلام) أيضاً أنَّه قال : شرُّ بئر في النار برهوت الذي فيه أرواح الكفّار ( [186] ). وفي بعض الروايات الأخرى أنَّهم في النار يعرضون عليها ويعذّبون فيها. فعن أبي عبد الله(عليه السلام) أنَّه قال : إنَّ أرواح الكفّار في نار جهنَّم يُعرضون عليها يقولون : ربَّنا لا تُقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولا تلحق آخرنا بأوّلنا ( [187] ). وسأل ( أبو بصير ) الإمام الصادق(عليه السلام) عن أرواح المشركين فقال(عليه السلام) : في النار يعذَّبون يقولون : ربَّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ولا تلحق آخرنا بأوَّلنا ( [188] ) .

انتفاع الميّت بعمل الأحياء

ذهب البعض إلى القول بعدم انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء والأعمال التي يهدونها إليهم بشكل مطلق . وأنّ الإنسان إذا ما فارق الدنيا ، فقد أُغلق سجلّ أعماله ، وطويت صفحة كدِّه وسعيه ، ولا يمكن أن يصل إليه ثواب عمل يتبرع به الأحياء إليه . واستثنى البعض منهم من ذلك الاُمور التي تسبَّب الميت نفسه في حصولها أثناء حياته كولد صالح يدعو له ، وصدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، استناداً إلى الحديث الوارد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الشأن حيث يقول(صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا مات الإنسان انقطع عَملُه إلاّ من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يَدعُو لَهُ ( [189] ). واستندوا في دعواهم إلى الآيات الدالة على عدم انتفاع الإنسان بعلم غيره وأنّ الثواب إنّما يترتب على سعيه وكدّه ، كقوله تعالى :

( وَأَنْ لَيْسَ للإنسان إلاّ ما سَعَى )( [190] ). ولكن ظواهر الأخبار المستفيضة الواردة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) تسير بعكس هذا الاتجاه المزعوم ، وتدل على انتفاع الميت بكل ما يُهدى إليه من قبل الأحياء من أعمال البرّ والإحسان والمعروف . وقد اشتملت كتب الفريقين على الكثير من الأخبار الدالة على هذا المعنى .

وأمّا الآية الكريمة فهي لا تدل على ما ذهب إليه أولئك المانعون ، باعتبار أنّ الثواب الذي يُقدِّمه الإنسان الحي إلى الميت كالدعاء وقراءة القرآن والصدقة ... وغير ذلك إنّما حصل من جرّاء سعي الإنسان في هذه الحياة الدنيا ، ونتيجة العمل المعروف الذي كان يقوم به ، والأعمال الصالحة التي انعكست آثارها على المجتمع وبين الناس ، مما جعل الآخرين يذكرونه بالخير والدعاء والصلاح ، ويهدون أعمال البرّ له بعد وفاته . وأمّا الإنسان الذي لم يترك في الحياة عملاً صالحاً ولا سعياً محموداً ولم يبقَ منه إلاّ الأثر السيّئ والعمل المنكر ، فلا يذكره أحد بثواب أو معروف ، إن لم تُصبّ عليه اللعنات والويلات !

وعلى هذا فإنّ ثواب العمل الذي يحصل عليه الميت بعد وفاته ، سواء أتسبب فيه بشكل مباشر أم لم يتسبّب به كذلك ، بأن تطوع له الآخرون بالثواب والإحسان ، فإنّما هو ناشئ ومسبَّب عن سعيه في الحياة الدنيا ، وعمله الصالح ، وهديه القويم ، وسلوكه النافع للمجتمع الإنساني من حوله.

قال تعالى :

( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثارَهُم )( [191] ). وقال عزَّ وجلَّ :

( لِيَحملُوا أَوزارهُم كاملةً يومَ القيامةِ ومِن أَوزارِ الَّذينَ يُضلُّونهم بغير عِلم )( [192] ). ومن هنا ورد الحديث النبوي المشهور : مَن سنَّ في الإسلام سنّةً حسنةً كان له أجرها وأجر مَن عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ، ومَن سنَّ في الإسلام سنّةً سيئة كانَ عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء ( [193] ). فلا يوجد إذن أيُّ تناف بين هذهِ الآية الكريمة وما شاكلها في الدلالة وبين انتفاع الميّت بعمل الأحياء له وتبرعهم في الإهداء إليه ، لا سيما إذا نظرنا إلى العدد الغفير من الروايات الدالة على جواز ذلك بما لا يقبل الإنكار أو التأويل .

فهناك أحاديث جمّة تدل على مطلوبية ذكر الأموات بالقرآن والدعاء والزيارة وأعمال البرّ الاُخرى بشكل عام ، سواء أتسببَ بها صاحبها مباشرة أم لم يكن الأمر كذلك ، فقد دلَّت بظواهرها على أنَّ ثواب تلك الأعمال يصل إلى الميِّت فيقبره وينتفع به .

ولكن مما يؤسف له أنَّ البعض قد رمى مثل هذهِ التبرّعات المندوبة بالابتداع ، وحاول أن ينال من عقائد المسلمين السليمة ، والمستمدّة من صميم التشريع ، فنرى من يطلُع علينا بالقول فيما يعدّ من البدع المحرّمة :

ومنها إقامة المآتم على الأموات ، وصناعة الأطعمة ، واستئجار المقرئين . ويزعمونَ أنَّ ذلكَ من العزاء ، وأنَّ ذلك ينفع الميّت ، وكل ذلك بدعة لا أصل لها ، وآصار وأغلال ما أنزلَ الله بها من سلطان( [194] ).

ويقول آخر :

يعتقد بعضُ الناس أنَّ ما يُقال عند القبر يسمعه الميِّت ، لذا صارَ المشركون يدعون الأموات ، ويستغيثون بهم عند قبورهم ، وربّما احتجّوا بما ذهبَ إليه بعض العلماء من سماع الميِّت لسلام المسلِّم . ومن العلماء مَن قال : إنَّ الميِّت في قبره لا يسمع ، وهو الذي يدلّ عليه القرآن ، وبه قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وغيرها ، واستدلَّت عليه من القرآن بقوله تعالى : (فإنَّكَ لا تُسمِعُ الَمْوتى )( [195] ) ، وقوله سبحانه : ( وما أنتَ بمسمع مَن في القبور )( [196] ). وردّوا على حديث إنَّه يسمع سلام المسلِّم ، بأنَّه ضعيف لا يُحتج به . وعلى حديث سماعه خفق نعال المشيعين ، بأنَّها حالة خاصة بوقت ، ولا علاقة له بخطاب الأحياء له . وردّوا على قصة خطابه(صلى الله عليه وآله وسلم) لقتلى بدر من المشركين أنَّها خاصة به(صلى الله عليه وآله وسلم) .

ويضيف :

أما زيارة القبور ، وما يُسمّى بالمشاهد ، لقصد الذبح عندها ، أو دعاء أهلها ، أو الاستغاثة بهم ، أو طلب النصر منهم ، أو طلب تفريج الكرب ، أو قضاء الحوائج ، أو طلبهم بشفاء مريض ، أو ردِّ الغائب ، أو جلب الرزق من زوج أو ولد أو مال ، ونحو ذلك ، فهذا شرك أكبر ، وهو عمل مشركي الجاهلية الذينَ اتخذوا القبور أوثاناً يعبدونها ، ومَن هذا عملُه فهو مشرك ، وعملُه حابط ( [197] ). ولا يخفى على القارئ المنصف ما يطفح به هذا الكلام من التحميل ، ولا يمكن أن يغيب عن بال أحد أنَّ الله سبحانه وتعالى عندما يشبّه الكفّار والمشركين بالموتى ، وينص على أنَّ الاموات الراقدين في القبور لا يسمعون الكلام فإنَّه لا يعني أكثر من أنَّ الله قد نزَّل هؤلاء المشركين منزلة الأجساد الميّتة التي لا وعي ولا روحَ ولا حراك فيها ، لأنَّها غير قادرة على الفهم والسماع . وأما الأرواح المجرّدة فهي باقية ولا علاقةَ لها بالخطابين المذكورين، وأن مسألة بقاء الروح من الضروريات التي صدعَ بها القرآن الكريم بشكل صريح وتضافرت بشأنها الأحاديث الجمّة .

ومن ثمَّ فأي داع يدعونا لأن نتصرف فيما صحّ من أحاديث مستفيضة بشأن سماع الأموات لكلام الأحياء ووصول المثوبات إليهم، ونحاول أن نجعل البعض منها خاصاً بوقت معيَّن أو شخص معيَّن أو واقعة معيَّنة ... أو ما إلى ذلك من تأويلات بعيدة المنال ؟

ولكنَّ المطّلع عل أدلّة الجواز في كتب الفريقين ، والمتمعّن في خلفيات هذهِ المسألة ، يدرك أنَّ النبرة التي يتحدَّث بها هؤلاء ، واللهجة القاسية التي يتَّهمون بها الموحِّدين من أبناءِ الإسلام بالشرك والابتداع ، إنَّما تنطلق من واقع خدمة الفرقة والتفتّت بين المسلمين ، وإثارة الخلافات التي لا تعود عليهم إلاّ بالضعف والتشتيت .

إنَّنا عندما نخاطب الأموات ونسلّم عليهم ، أو نتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى ، أو نهدي لهم شيئاً من الذكر والقرآن ، فإنَّنا لا نريد بذلك إلاّ وجه الله الكريم ، وقد سرنا وفق منهج الرسالة وتعاليمها الحقّة ، وأدلّتها القاطعة ، ولا نعتقد بأكثر من أنَّ هؤلاء الأولياء الأبرار هم عبادٌ لله تعالى اصطفاهم وفضلهم على العالمين ، وأنَّ العبادة لا تكون إلاّ لله وحده ، ولا تتعداه إلى غيره بشكل قاطع ومطلق .

وأين هذا من عمل الجاهلية ؟ وأين هذا من عبادة الأصنام والأوثان ؟ ولماذا هذا التسرّع في اتهام الملايين من المسلمين بمختلف الأباطيل .

إنَّ من الحريّ بنا قبل أن نسارع إلى مثل هذهِ الأحكام الصعبة أن ننظر فيما يفعله اُولئك الموحّدون الذين يرتادون المشاهد المقدسة ، وخصوصاً مراقد أهل البيت(عليهم السلام) ، الّذين أطبقت الاُمّة على فضلهم وعلمهم وإخلاصهم لله تعالى وجهادهم في سبيله ، وكونهم القدوة المثلى في تطبيق تعاليم السماء ... لننظر في ما يمارسه هؤلاء من أدب إسلامي رفيع في الزيارة والدعاء ، ومن إخلاص رسالي فائق في إظهار عظمة الله تعالى ووحدانيته وتخصيصه بالعبادة والخضوع ; لنرى أنَّ هؤلاء الموالين لا ينطلقون في هذا الأمر إلاّ من جهة كونه أمراً مستقىً من أصل التشريع ومبادئه ومبانيه ، ولا يستجيبون إلاّ لنداء الله الذي جعل هؤلاء الأبرار طريقاً إليه ووسيلةً تُبتغى لبلوغ رحمته ورضوانه .

فلنقرأ ـ مثالاً على ما نقول ـ الدعاء المأثور في الزيارة ، الذي يلهج به أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) بعد أداء صلاة الزيارة التطوعيَّة ; لنرى مدى جور الاتهامات التي تُنسب ظلماً إلى هؤلاء الأبرياء : اللهمَّ إنّي صلّيتُ وركعتُ وسجدتُ لكَ وحدَكَ لا شريكَ لكَ ، لأنَّ الصلاةَ والركوع والسجود لا يكون إلاّ لكَ ، لأنَّكَ أنتَ الله لا إله إلاّ أنت . اللهمَّ صلِّ على محمّد وآلِ محمد ، وأبلغهم عنّي أفضل السلام والتحيّة، واردد عليَّ منهم السلام ... ( [198] ). فهل أدلّ على إخلاص التوحيد ، وحقيقة الطاعة وأكثر وضوحاً من هذا البيان العريض ؟! ثمَّ تعالَ بنا أيُّها القارئ الكريم إلى ما ينقله لنا علماء العامة أنفسهم من آثار وأحاديث في أصحّ ما كتبوه عن مشروعية السلام على الأموات ، وزيارتهم ، وإهداء المثوبات إليهم ، وذكرهم بالخير والصدقة والتلاوة والدعاء والاستغفار ، وأنَّهم يسمعونَ مَن يخاطبهم ويعلمون بكلِّ ما يُهدى إليهم .

ولنطالع أولاً مجمل آراء المذاهب الاسلاميّة وأعلامها في هذا المجال.

قال ( ابن القيّم ) في كتاب ( الروح ) :

المسألة السادسة عشرة : وهي : هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء أم لا ؟

فالجوابُ : أنَّها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين مُجمع عليهما بين أهل السنّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير :

أحدهما : ما تسببَ إليه الميِّت في حياته .

والثاني : دعاء المسلمين له ، واستغفارهم له ، والصدقة والحج ، على نزاع ما الذي يصل من ثوابه ، هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل ؟ فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه ، وعند بعض الحنفيّة إنَّما يصل ثواب الإنفاق .

واختلفوا في العبادة البدنيّة كالصوم ، والصلاة ، وقراءة القرآن ، والذكر. فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف ، وصولها ، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة .

نصَّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحّال ، قال : قيل لأبي عبد الله : الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمِّه؟ قال : أرجو ، أو قال : الميِّت يصل إليه كلّ شيء من صدقة أو غيرها ، وقال أيضاً : إقرأ آية الكرسي ثلاث مرّات ، وقل هو الله أحد، وقل : اللهمَّ إنَّ فضله لأهل المقابر .

والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أنَّ ذلك لا يصل .

وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنَّه لا يصل إلى الميت شيء البتة لا دعاء ولا غيره ( [199] ). وجاءَ في ( صاروخ القرآن والسنّة ) :

قال مفتي الديار الحضرميّة في رسالته المذكورة : أما قراءة القرآن العظيم للأموات ، ثم الدعاء بعدها بأن يوصل ثواب القراءة إلى روح فلان... إلخ ، فقد كفانا المؤونة في ذلك الامام العلاّمة الشيخ محمد العربي التباني ، المدرس بالمسجد الحرام ، وأحد أساتذة مدرسة الفلاح بمكّة سابقاً ، فإنَّه صنَّف في هذا الموضوع رسالةً سمّاها ] إسعاف المسلمين والمسلمات بجواز القراءة ووصول ثوابها للأموات [ ، ذكر في صدرها أنَّ قراءة القرآن على الأموات جائزة ، يصل ثوابها لهم عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل السنّة ، وإن كانت باُجرة على التحقيق ...

ثم نقل عن الامام شيخ الاسلام زكريا في ] شرح الروض [ ما مثاله: ]فرع[ : الإجارة للقراءة على القبر مدّة معلومة ، أو قدراً معلوماً، جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حين يُقرأ القرآن ، كالاستئجار للأذان ، وتعليم القرآن، ويكون الميِّت كالحي الحاضر ، سواء عقَّب القرآن بالدعاء ، أو جعل أجر قراءته له ، أم لا ، فتعود منفعة القرآن إلى الميِّت في ذلك ...

ثم قال : بل قال السبكي تبعاً لابن الرفعة : على أنَّ الذي دلَّ عليه الخبر بالاستنباط أنَّ القرآن إذا قُصد به نفعُ الميِّت نفعه .

ثم نقل عن الإمام الرملي في ] النهاية [ والشبراملسي في حاشيته عليها، وعن شيخ الإسلام في فتاويه ، وعن الحافظ السيوطي ، وابن الصلاح ما يؤيّد ذلك .. إلى أن قال : وقال النووي(رحمه الله) في ] شرح المهذّب [ : يستحب لزائر القبور أن يقرأ ما تيسَّر من القرآن ، ويدعو لهم عقبها ، نصَّ عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ، وزاد في موضع آخر : إن ختموا القرآن على القبر كان أفضل اهـ .

ثم نقل عن علماء بقية المذاهب الأربعة ما لا يخرج عمّا ذكر ، إلى أن قال في الخاتمة : والخلاصة ، قد تحقق وتلخص من كلام العلماء كابن قدامة، وابن القيِّم ، وغيرهما ، المنقول عن الأئمة الأقدمين من أهل الأثر ، أنَّ القراءة على الأموات فعلها السلف الصالح ، وأنَّ عمل المسلمين شرقاً وغرباً لم يزل مستمرّاً عليها ، وأنَّهم وقفوا على ذلك أوقافاً ، وأطالَ في ذلك.

ثم نقل عن الشيخ تقي الدين أبي العبّاس أحمد بن تيمية أنَّه قال : مَن اعتقدَ أنَّ الانسان لا ينتفع إلاّ بعمله فقد خرقَ الإجماع ، وذلك باطل من وجوه كثيرة : أحدها : أنَّ الانسان ينتفع بدعاء غيره ، وهو انتفاع بعمل الغير. وأطال إلى أن عدَّ واحداً وعشرين وجهاً .

ثم قال : ومَن تأمَّل العلم وجد من انتفاع الانسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى انتهى كلام ابن تيمية ( [200] ). وبعد هذا العرض الموجز لآراء أعلام العامة في مسألة انتفاع الميِّت بعمل الأحياء ننتقل إلى عرض طائفة من الروايات المتعلقة بهذا المطلب ضمن العناوين التالية :

الميِّت يسمع السلام ويردُّه

روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين حين يقال له : يا هذا ، من ربك وما دينك ومن نبيك ( [201] ). وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في نفس المعنى أنَّه قال : إنَّ الميِّت إذا وُضع في قبره ، وتولّى عنه أصحابه ، إنَّه ليسمع خفقَ نعالهم ( [202] ). وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) : ما من مسلم يمرُّ على قبر أخيه كانَ يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلاّ ردَّ اللهُ عليه روحه حتى يرد عليه السلام ( [203] ). وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) : ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردَّ عليه حتى يقوم ( [204] ). وجاءَ في ( سنن النسائي ) عن عائشة أنَّها قالت :

إنَّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فأمرني ربّي أن آتي البقيع فاستغفر لهم .

قلتُ : كيف أقول يا رسول الله ؟

قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون( [205] ).

وفي حديث آخر أنَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاءَ الله بكم لاحقون ، أنتُم لنا فرط ونحن لكم تَبَع ، أسأل الله العافية لنا ولكم ( [206] ). وعن ( عبد الله بن سنان ) أنَّه قال :

قلتُ لأبي عبد الله(عليه السلام) : كيف التسليم على أهل القبور ؟ فقال : نعم ، تقول : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، أنتم لنا فرط ، ونحن ـ إن شاء الله ـ بكم لاحقون ( [207] ). وعن ( جّراح المدائني ) أنَّه قال :

سألتُ أبا عبد الله(عليه السلام) : كيف التسليم على أهل القبور ؟ قال(عليه السلام) : تقول: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، رحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا ـ إن شاءَ اللهُ ـ بكم لاحقون( [208] ).

وعن ( محمد بن مسلم ) أنَّه قال :

قلتُ لأبي عبد الله(عليه السلام) : الموتى نزورهم ؟ قال : نعم ـ إلى أن قال ـ قلتُ: فأيَّ شيء نقول إذا أتيناهم ؟ قال(عليه السلام) : قل : اللهَّم جافِ الأرضَ عن جنوبهم ، وصاعد إليك أرواحهم ، ولقِّهم منكَ رضواناً ، وأسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم ، وتؤنس به وحشتَهم، إنَّكَ على كلِّ شيء قدير( [209] ). وقد علَّمت الشريعة الإسلامية أتباعها السلام على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بعد التشهد في الصلاة اليوميّة ، وهذا التسليم واجب في نظر الكثير من علماء المسلمين ، ومستحب في نظر البعض الآخر ، وشرعيته مستمدة من صميم التعاليم الإسلامية المقدسة ، وهو إن كان دليلاً على شيء فهو دليل على أنَّ الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يسمع السلام ويردّ عليه ، خلافاً لما يقول به المتزمّتون من السلفية . ولذا روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : مَن صلّى عليَّ عند قبري سمعتُه ، ومَن صلّى عليَّ من بُعد اُبلغتُه( [210] ).

وفي هذا المعنى روى ( أبو داود ) في سننه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : ما من أحد يسلِّم عليَّ إلاّ ردَّ اللهُ روحي حتى أردَّ عليه السلام( [211] ). وفي حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : وحيثما كنتم فصلّوا عليَّ ، فإنَّ صلاتكم تبلغني ( [212] ). ويمارس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) زيارة قبور المؤمنين ، ويعلِّم الصحابة كيفية السلام عليهم ، ليوافق فعلُه قولَه ، وتكون الحجة في مشروعية هذا العمل أكثر شدةً وتوكيداً ، لذا يروي لنا ( مسلم ) في صحيحه ما نصُّه :

زارَ النبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أُمِّه ، فبكى وأبكى مَن حوله ... وقال : استأذنتُهُ ]ربّي [في أن أزور قبرها ، فأذن لي ، فزوروا القبور فإنَّها تُذَكّرُ كم الموت( [213] ).

وفيه أيضاً عن عائشة أنّها قالت : كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ] كلّما كان ليلتها مِن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) [ يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون ، غداً مؤجّلون ، وإنّا إنْ شاءَ الله بكم لاحقون ، اللهمَّ اغفر لأهل بقيع الغرقد ( [214] ). وفي حديث آخر أنَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزور المقابر مَعَ جماعة من أصحابه ويعلِّمهم كيفية الزياره والسلام على الأموات . فقد جاءَ في صحيح مسلم :

كان رسول الله يعلِّمهم ـ إذا خرجوا إلى المقابر ـ فكان قائلهم يقول : السلامُ على أهل الديار ، أو السلام عليكم أهل الديار ، من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ( [215] ). وفي ( سنن النسائي ) عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه كان يقول عند زيارة البقيع : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا وإيّاكم متواعدون غداً أو مواكلون ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهمَّ اغفر لأهل بقيع الغرقد( [216] ). وفي ( صحيح الترمذي ) روي عن ( عبد الله بن عباس ) أنَّه قال :

مرَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقبور أهل المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه ، فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، ويغفر الله لنا ولكم ، أنتم لنا سلف ، ونحن بالأثر ( [217] ). وفي ( سنن أبي داود ) عن ( أبي هريرة ) :

إنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاءَ الله بكم لاحقون ( [218] ). وفي الجانب المقابل نرى أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب المشركين الذين قاتلوه في ( بدر ) بعدما اُلقيت أجسادهم في القليب بالقول : يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان أيسرُّكم أنّكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتُم ما وعد ربّكم حقاً ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : والذي نفسُ محمد بيدهِ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ( [219] ). وقد مرَّ معنا الحديث الذي نقله الشيخ ( المفيد ) من مخاطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) لقتلى حرب الجمل على غرار خطاب رسول(صلى الله عليه وآله وسلم)لمشركي بدر، وأنه قال بعد أن سُئل عن ذلك : يا رجل واللهِ لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله .

ومضافاً إلى كلِّ ذلك نرى أن مصدر التشريع الأول وهو القرآن الكريم يصدع صريحاً بالسلام على الأنبياء السابقين ، ولا شك في أنَّ لهذا السلام مغزاه ومعناه الحقيقي الذي يصف مخاطبة أرواح هؤلاء الأولياء الباقية والمنعّمة ، وأن هذا السلام عبارة عن تحيّة خالدة ورحمة متواصلة وعزّة أبديّة تشمل أرواح هؤلاء الأبرار وتصل إليهم آثارها بعد أن فارقوا هذهِ الحياة ، ولذا نقرأ في ذلك قوله تعالى :

( سلامٌ على نوح في العالمين )( [220] ). وقوله : ( سلامٌ على إبراهيم )( [221] ). وقوله : ( سلام على موسى وهارون )( [222] ). وقوله : ( سلام على آل ياسين )( [223] ). وقوله : ( وسلام على المرسلين )( [224] ). ويؤيّد ما ذكرناه ما رواه ( ابن القيِّم ) في ( الروح ) عن ( بشر بن البراء ) حيث قال :

لما مات بشر بن البراء بن معرور وَجَدَت عليه أُم بشر وجداً شديداً ، فقالت : يا رسول الله إنَّه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى ، فأرسل إلى بشر بالسلام ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): نعم و الذي نفسي بيده يا أُم بشر ، إنَّهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رؤوس الشجر.

وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلاّ جاءته أُم بشر فقالت : يا فلان عليك السلام ، فيقول : وعليكِ ، فتقول : إِقرأ على بشر السلام( [225] ). وعن كعب بن مالك قال :

لمّا حضرتْ كعباً الوفاة ، أَتَتهُ اُمُّ بشر بن البراء بن معرور ، فقالت : يا أبا عبد الرحمن ! إن لقيتَ فُلاناً فاقرأ عليه منّي السلام . قال : غفر اللهُ لكِ يا أُمَّ بشر ! نحن أشغلُ من ذلك . قالت : يا أبا عبد الرحمن ! أما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقولُ : إنَّ أرواح المؤمنين في طير خُضر ، تَعلقُ بشجرِ الجنةِ ؟ قال: بلى . قالت: فهو ذاكَ ( [226] ) .

الدعاء والاستغفار وقراءة القرآن

قال الله تعالى :

( والّذينَ جاءوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبقونا بالإيمان )( [227] ). فلا شك في أنَّ إطراء الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القائلين بهذا الدعاء دليل على انتفاع السابقين بدعاء الأحياء لهم وطلب المغفرة إليهم ، وهذا يعني انتفاع الميت باستغفار الحي ودعائه له .

وكذلك ورد الأمر بالدعاء للميِّت عند الصلاة عليه والاستغفار له ، وهذا دليل على انتفاعه بذلك وإلا لكان لغواً لا طائل تحته ولا فائدة فيه. لذا ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : إذا صلّيتُم على الميِّت فأخلصوا له الدعاء ( [228] ). وجاء في ( صحيح مسلم ) عن ( عوف بن مالك ) أنَّه قال :

صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على جنازة فحفظتُ من دعائه وهو يقول : اللهمَّ اغفر له وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، وأوسع مُدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقَّه من الخطايا كما نقَّيت الثَّوبَ الأبيض من الدَّنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنّة ، وأعذه من عذاب القبر أو عذاب النار ( [229] ). وعن ( واثلة ابن الأسقع ) قال :

صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على رجل من المسلمين فسمعته يقول : اللهمَّ إنَّ فلاناً ابن فلان في ذمّتك ، وحبل جوارك ، فقهِ من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق ، فاغفر له وارحمه ، إنَّك الغفور الرحيم( [230] ).

وفي ( سنن أبي داود ) عن ( عثمان بن عفّان ) أنَّه قال :

كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه ، فقال : استغفروا لأَخيكم وسلوا له التثبيت ، فإنَّه الآن يُسأل ( [231] ). وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) كان يقول بعد ما يفرغ من دفن الميت: اللهم هذا عبدُك ، نزلَ بك ، وأنتَ خير منزول به ، فاغفر له ، ووسِّع مدخله ( [232] ). وروي عن ( عبد الله بن عجلان ) أنَّه قال :

قامَ أبو جعفر(عليه السلام) على قبر رجل من الشيعة فقال : صِلْ وحدته ، وآنس وحشته ، وأسكن إليه من رحمتك ما يستغني بها عن رحمة مَن سواك ( [233] ). وفي حديث آخر أنَّه(عليه السلام) أضاف : وألحقه بمن كان يتولاّه ( [234] ). وفي ثالث :

ثم قرأ(عليه السلام) : ( إنّا أنزلناهُ في ليلةِ القَدرِ ) سبع مرّات( [235] ). وروي عنه(عليه السلام) أيضاً أنَّه قال : إذا قرأ المؤمن آية الكرسي ، وجعل ثواب قراءته لأهل القبور ، جَعَل الله له من كلِّ حرف ملكاً يسبِّح له إلى يوم القيامة ( [236] ). وروي عن الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنَّه قال : مَن أتى قبر أخيه ، ثمَّ وضع يده على القبر ، وقرأ : ( إِنّا أنزلناهُ في ليلةِ القدرِ ) سبع مّرات أمن يوم الفزع الأكبر أو يوم الفزع ( [237] ). وعنه(عليه السلام) : ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عنده : ( إنّا أنزلناهُ في ليلة القدر )سبعَ مرّات إلاّ غفر الله له ولصاحب القبر ( [238] ). وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : اقرؤوها على موتاكم يعني يس( [239] ). وفي رواية أُخرى عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : ... ويس قلبُ القرآن ، لا يقرؤها رجل يريدُ الله تبارك وتعالى والدارَ الآخرة إلاّ غُفر له ، واقرؤوها على موتاكم ( [240] ). والظاهر أنَّ المراد من قراءة سورة يس هو قراءتها عليهم بعد الموت ، واستظهر جماعة أنَّ المراد قراءتها عند الاحتظار .

وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : مَن مرّ على المقابر فقرأ فيها إحدى عشرة مرةً : ( قُل هُوَ اللهُ أحَدٌ )ثمَّ وهبَ أجره الأموات ، اُعطي من الأجر بعدد الأموات ( [241] ). وعن ( أبي هريرة ) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : مَن دَخَل المقابر ، ثم قرأ فاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد ، وألهاكم التكاثر ، ثم قال : إنّي جعلتُ ثواب ما قرأتُ من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات ، كانوا شفعاء له إلى الله تعالى( [242] ). وجاءَ في كتاب ( الروح ) :

قال الخلاّل : وأخبرني الحسن بن أحمد الورّاق ، حدّثني علي بن موسى الحدّاد وكان صدوقاً قال : كنتُ مَعَ أحمد بن حنبل ، ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة ، فلَّما دُفن الميّت ، جلسَ رجل ضرير يقرأ عند القبر ، فقال له أحمد : يا هذا إنَّ القراءة عند القبر بدعة !

فلّما خرجنا من المقابر ، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي ؟ قال : ثقة ، قال : كتبتَ عنه شيئاً ؟ قال : نعم ، قال : فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنَّه أوصى إذا دُفِنَ أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها ، وقال : سمعتُ ابن عمر يوصي بذلك ، فقال له أحمد : فارجع وقل للرجل يقرأ( [243] ).

وجاءَ في ( وفاء الوفاء ) :

روى سفيان بن عنبر عن العتبي أنَّه قال : كنتُ جالساً عند قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليكَ يا رسول الله ، سمعتُ الله يقول: ( ولو أنَّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوكَ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسولُ لو جدوا اللهَ تواباً رحيماً )( [244] ). وقد جئتُكَ مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بكَ إلى ربّي .

ثمَّ بكى وأنشأ يقول :

يا خيرَ مَن دُفنت في القاعِ أعظمُهُ***فطابَ من طيبهنَّ القاعُ والأكمُ

نفسي الفداء لقبر أنتَ ساكنُه***فيه العفاف وفيه الجودُ والكرم

ثم استغفر وانصرف ( [245] ). وعن ( أبي سعيد السمعاني ) عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنَّه قال : إنَّ أعرابيّاً جاءَ بعد ثلاثة أيّام من دفن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فرمى بنفسه على القبر الشريف وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسولَ الله ! قلتَ فسمعنا قولكَ ، ووعيتَ عن الله ما وعينا عنكَ ، وكانَ فيما أنزله عليك : ( ولو أنَّهم إذ ظلموا أنفسَهم ... ) وقد ظلمتُ نفسي وجئتُكَ تستغفر لي إلى ربّي ( [246] ). وجاءَ في كتاب ( الروح ) :

حدّثني محمد ، حدَّثني يحيى بن بسطام ، حدّثني عثمان بن سودة الطفاوي قال ـ وكانت اُمُّه من العابدات وكان يُقال لها راهبة ـ قال : لمّا احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي ومَن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي لا تخذلني عند الموت ، ولا توحشني في قبري، قال : فماتت ، فكنت آتيها في كلِّ جمعة فأدعو لها واستغفر لها ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي ، فقلتُ لها : يا أمه كيف أنت ؟ قالت : أي بني ، إنَّ للموت لكربة شديدة، وإنّي بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان ، ونتوسَّد فيه السندس والاستبرق إلى يوم النشور ، فقلتُ لها : ألكِ حاجة ؟ قالت : نعم ، قلتُ وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا فإنّي لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يُقال لي : يا راهبة هذا ابنكِ قد أقبل ، فأُسرُّ ويُسرُّ بذلك من حولي من الأموات ( [247] ). وجاءَ فيه أيضاً :

إنَّ عبد الله بن عمر أمر أن يُقرأ عند قبره سورة البقرة ...

وقال ( الحسن بن الصباح الزعفراني ) :

سألتُ الشافعي عن القراءة عند القبر فقال : لا بأسَ بها .

وذكر ( الخلال ) عن ( الشعبي ) أنَّه قال :

كانت الأنصار إذا مات لهم الميِّت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن...

وعن ( أبي يحيى الناقد ) أنَّه قال :

سمعت الحسن بن الجروي يقول : مررتُ على قبر اُخت لي ، فقرأتُ عندها تبارك ، لما يُذكر فيها ، فجاءني رجل فقال : إنّي رأيتُ اُختك في المنام تقول : جزى الله أبا علي خيراً فقد انتفعتُ بما قرأ .

وعن ( الحسن بن الهيثم ) أنَّه قال :

سمعتُ أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر ابن التمّار يقول : كان رجل يجيء إلى قبر اُمّه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس ، فجاءَ في بعض أيّامه فقرأ سورة يس ثمَّ قال : اللهمَّ إن كنتَ قسمتَ لهذهِ السورةِ ثواباً فاجعله في أهل هذهِ المقابر، فلمّا كان يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت : أنتَ فلان ابن فلانة ؟ قال : نعم ، قالت : إنَّ بنتاً لي ماتت فرأيتُها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلتُ : ما أجلسك ها هنا ، فقالت : إنَّ فلان ابن فلانة جاءَ إلى قبر أُمِّه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر ، فأصابنا من روح ذلك أو غفر لنا ونحو ذلك ( [248] ). وعن ( بشر بن منصور ) أنَّه قال :

لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز ، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال : آنـَس الله وحشتكم، ورحم غربتكم ، وتجاوزَ عن مسيئكم ، وقبل حسناتكم . لا يزيد على هؤلاء الكلمات .

قال : فأمسيتُ ذات ليلة ، وانصرفتُ إلى أهلي ولم آتِ المقابر فأدعوا كما كنتُ أدعو ، فبينا أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني ، فقلتُ: ما أنتم ؟ وما حاجتكمُ ؟ قالوا : نحن أهل المقابر ، قلتُ : ما حاجتكم ؟ قالوا : إنَّكَ عوَّدتنا منكَ هديةً عند انصرافك إلى أهلك ، فقلتُ : وما هي ؟ قالوا : الدعوات التي كنتَ تدعو بها ، قال : قلتُ : فإنّي أعود لذلك .

قال : فما تركتها بعد ( [249] ). وقال ( سليمان بن نعيم ) :

رأيتُ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم فقلتُ : يا رسول الله ! هؤلاء الذين يأتونَكَ ويسلِّمون عليكَ أتفقه منهم ؟ قال : نعم وأردُّ عليهم ( [250] ). وذكر ( عبد الحق ) عن بعض الصالحين أنَّه قال :

مات أخ لي فرأيتُه في النوم ، فقلتُ : يا أخي ما كان حالكَ حين وضعتَ في قبرك ؟ قال : أتاني آت بشهاب من نار ، فلولا أنَّ داعياً دعا لي لهلكتُ( [251] ). وقال ( شبيب بن شيبة ) :

أوصتني اُمّي عند موتها فقالت : يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري وقل : يا اُمّ شبيب قولي : لا إله إلاّ الله ، فلمّا دفنتها قمتُ عند قبرها فقلتُ : يا أُمّ شبيب قولي : لا إله إلاّ الله .

ثم انصرفتُ ، فلما كان من الليل رأيتُها في النوم فقالت : يا بني كدتُ أهلك لولا أن تداركني لا إله إلاّ الله ، فقد حفظت وصيتي بابني( [252] ) .

الأعمال الصالحة

ورد عن ( عائشة ) أنها قالت :

إنَّ رجلاً قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ اُمّي افتُلِتَتْ نفسُها ، وإنّها لو تكلَّمت تَصدَّقت ، أفأتصدق عنها ؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم . فتصدَّق عنها ( [253] ). وعن ( كعب بن عجرة ) قال :

قلت : يا رسول الله ! إنّي اُكثر الصلاة عليك ، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال : ما شئت . قال : قلتُ : الربع ؟ قال : ما شئت ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك . قلتُ : النصفَ ؟ قال : ما شئتَ ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك ، قال : قلتُ: فالثلثين ؟ قال : ما شئِتَ ، فإن زدتَ فهو خيرٌ لك . قُلتُ : أجعلُ لك صلاتي كُلَّها ؟ قال : إذاً تُكفى همَّك ، ويُغفرُ لكَ ذَنبُك ( [254] ). وجاء في ( سنن الترمذي ) عن ( عبد الله بن عبّاس ) :

أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله إنَّ اُمّي توفيتْ أفينفعها إن تصدَّقتُ عنها ؟ قال : نعم . قال : فإنّ لي مَخرفاً فأُشهدكَ أني قدْ تصدَّقتُ بهِ عنها ( [255] ). وفي ( صحيح مسلم ) عن ( أبي هريرة ) أنَّه قال :

إنَّ رجلاً قال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنَّ أبي ماتَ وتركَ مالاً ولم يوصِ ، فهل يُكفِّر عنه أنْ أَتصدَّقَ عنه ؟ قال : نعم ( [256] ). وفي ( مسند أحمد ) :

إنَّ سعد بن عبادة قال : يا رسول الله إنَّ اُم سعد ماتت ، فأيُّ الصدقةِ أفضل ؟ قال : الماء ، فحفرَ بئراً وقال : هذهِ لأُم سعد ( [257] ). وفيه أيضاً عن ( عبد الله بن عمرو ) :

إنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة ، وإنَّ هشام بن العاص نحر حصّته خمسين بدنة ، وإنَّ عمراً سأل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : أما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد ، فصمت وتصدَّقتَ عنه نفعه ذلك ( [258] ). وعن ( ابن عباس ) أنَّه قال :

جاءَ رجل إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول الله إنَّ اُمّي ماتت وعليها صوم شهر ، أفأقضيه عنها ؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان على أمِّكَ دينٌ أكنتَ قاضيه عنها ؟ قال : نعم ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : فدين الله أحقّ أنْ يُقضى( [259] ). وفي رواية :

جاءت امرأة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : يا رسول الله ! إنَّ اُمّي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : أرأيتِ لو كان على اُمِّك دين فقضيته أكان يُؤدِّي ذلك عنها ؟ قالت : نعم ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : فصومي عن اُمِّك( [260] ). وعن ( بريدة ) أنَّه قال :

بينا أنا جالسٌ عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أَتتْهُ امرأةٌ فقالتْ : إنّي تصدَّقتُ على اُمّي بجارية ، وإنَّها ماتتْ ، قال : فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : وجبَ أجركِ وردّها عليك الميراث ، قالت : يا رسولَ الله ! إنَّه كان عليها صومُ شهر أَفأصومُ عنها ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) صومي عنها ، قالت : إنَّها لم تحجَّ قط أفأحجُّ عنها ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : حجِّي عنها ( [261] ). وعن ( عائشة ) أنَّها قالت : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : مَن مات وعليه صيام صامَ عنه وليُّه ( [262] ). وعن ( ابن عباس ) انَّه قال :

إنَّ امرأةً ركبت البحر فنذرت إن الله نجّاها أن تصومَ شهراً ، فنجّاها اللهُ فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت بنتُها أو اُختُها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فأمرها أن تصوم عنها ( [263] ). وفي ( صحيح البخاري ) عن ( ابن عباس ) :

إن امرأة جاءت إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت : إن اُمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم ، حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أُمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت ، نعم ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فاقضوا الذي له ، فإن الله أَحق بالوفاء ( [264] ). وعن ( ابن عباس ) أيضاً :

إنَّ امرأةً سألت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابنها ماتَ ولم يحجَّ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : حجّي عن ابنك ( [265] ). فهذه الأحاديث ، وكثيرٌ غيرها تدل بوضوح على مطلوبية ذكر الأموات بالقرآن ، والدعاء ، وأعمال البرّ الاُخرى بشكل عام ، سواء أتسبّب بها صاحبها مباشرة أم لم يكن الأمر كذلك ، فقد دلت بظواهرها على أنَّ تلك الأعمال تصل إلى الميِّت في قبره وينتفع بها .

وفي الحقيقة إنّ هذه المعزوفة التي يترنّم بها ( الوهابيون ) اليوم لا تهدف إلاّ لشق عصا وحدة المسلمين ، والنيل من تآلفهم على مبادئ الإسلام المثلى، وإلاّ فكيف يمكن أن نبرّر اتهام الملايين من المسلمين الذين يمارسون مثل هذا العمل المشروع بأنهم مبتدعون ؟ وكيف نبرّر هذا التسامح الخطير في إطلاق هذه اللفظة على الموحّدين في الصغيرة والكبيرة من أعمالهم الدينية المشروعة ؟

وعلى أية حال فإن لهذا البحث موضعه المفصل والخاص ، وقد تناولناه في كتابنا البدعة فمن أحبَّ الإطلاع فليراجع هناك( [266] ) .

الاُمور التي ترفع أو تخفف عذاب القبر

هناك مجموعة من الاُمور التي يمكن استخلاصها من الروايات الدالة على تخفيف العذاب أو رفعه في الحياة البرزخية من خلال الروايات المتنوعة التي تناولت هذا الموضوع ، وسوف نقوم باستعراض لمجمل هذه الاُمور : 1 ـ العمل الصالح :

لا شك في أنّ العمل الصالح هو قرين الإنسان في قبره ، وهو من أعظم الاُمور التي تحميه بعد الممات ، وتذبّ عنه ، وتدفع عنه السوء والبلاء .

فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لقيس بن العاصم : لابدّ لك يا قيس ! من قرين يُدفن معك ـ وهو حيّ ـ وتدفن معه وأنت ميّت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يحشر إلاّ معك ، ولا تبعث إلاّ معه ، ولا تُسأل إلاّ عنه ، فلا تجعله إلاّ صالحاً ، فإنّه إن صلح أنست به ، وإن فسد فلا تستوحش إلاّ منه ، وهو فعلك ( [267] ). وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : أَعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم ( [268] ). وورد في الكافي بإسناده عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : إنَّ ابن آدم إذا كان آخر يوم من أيام الدنيا وأَوَّل يوم من أيّام الآخرة ، مُثِّل له ماله وولده وعمله ; فيلتفت إلى ماله فيقول : والله ! إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول : خذ منّي كفنك . قال : فيلتفت إلى ولده فيقول : والله ! إنّي كنت لكم محبّاً وإنّي كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها . قال : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله ! إنّي كنت فيك لزاهداً ، وإن كنت عليِّ لثقيلاً ، فماذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك ، حتى أُعرض أنا وأنت على ربّك قال : فإنْ كان لله وليّاً أتاه أطيب النّاس ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً فقال : أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم . فيقول له: من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ... ( [269] ). وروي عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنَّه قال : إذا وُضع الميِّت في قبره مثل له شخصٌ فقال له : يا هذا كنّا ثلاثة : كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك ، وكان أهلك فخلّفوك وانصرفوا عنكَ ، وكنت عملك فبقيتُ معكَ ، أما إنّي كنتُ أهون الثّلاثة عليك ( [270] ). وعنه(عليه السلام) أنَّه قال : ما من موضع قبر إلاّ وهو ينطق كلَّ يوم ثلاثَ مرات : أنا بيت التراب، أنا بيت البلاء ، أنا بيت الدُّود ، قال : فإذا دخله عبدٌ مؤمنٌ قال : مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت اُحبُّكَ وأنتَ تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني ؟! فسترى ذلك . قال : فُيفسح له مدّ البصر ، ويُفتح له باب يرى مقعده من الجنّة ، قال : ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه ، فيقول : يا عبد الله ما رأيتُ شيئاً قط أحسن منك ، فيقول : أنا رأيك الحسن الذي كنتَ عليه ، وعملك الصالح الذي كنتَ تعمله . ثمَّ تؤخَذ روحه فتوضع في الجنّة حيث رآى منزله ، ثمَّ يُقال له : نم قرير العين ، فلا تزال نفحة من الجنّة تصيب جسده يجد لذَّتها وطيبها حتى يُبعث وإذا دخل الكافر قال : لا مرحباً بكَ ولا أهلاً ، أما واللهِ لقد كنت اُبغضك وأنت تمشي على ظهري ، فكيفَ إذا دخلت بطني ؟ سترى ذلك، فتضم عليه فتجعله رميماً ، ويُعاد كما كان ، ويُفتح له باب إلى النار ، فيرى مقعده من النار ثمَّ قال : ثمَّ إنَّه يخرج منه رجلٌ أقبح مَن رأى قطُّ قال : فيقول : يا عبد الله! مَن أنت ؟ ما رأيتُ شيئاً أقبح منك ، قال : فيقول : أنا عملك السيء الذي كنت تعمله ، ورأيك الخبيث قال : ثمَّ تؤخذ روحه فتوضع حيث رآى مقعده من النار ، ثمَّ لم تزل نفخة من النار تصيب جسده ، فيجد ألمها وحَّرها في جسده إلى يوم البعث ( [271] ). وروي عن ( عبد الرحمن بن سمرة ) أنَّه قال :

خرج علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن في صفة بالمدينة ، فقام علينا فقال: إنّي رأيت البارحة عجباً ، رأيتُ رجلاً من اُمتي أتاه ملَك الموت ليقبض روحه، فجاءه برُّه بوالديه فردَّ ملَك الموت عنه . ورأيتُ رجلاً من اُمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاء ذكر الله فطير الشياطين عنه . ورأيتُ رجلاً من اُمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم . ورأيتُ رجلاً من اُمتي يلهث عطشاً كلّما دنا من حوض مُنع وطُرد ، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه . ورأيتُ رجلاً من اُمتي ورأيت النبيين جلوساً حلقاً حلقاً كلما دنا إلى حلقة طُرد ومُنع ، فجاءه غُسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي . ورأيتُ رجلاً من اُمتي من بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن يساره ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، وهو متحيِّر فيه ، فجاءه حجُّه وعمرتُه فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور . ورأيتُ رجلاً من اُمتي يتقي وهج النار وشررها ، فجاءته صدقتُه فصارت ستراً بينه وبين النار وظلاًّ على رأسه . ورأيتُ رجلاً من اُمتي يكلِّم المؤمنين ولا يكلِّمونه ، فجاءته صلتُه لرحمه فقالت : يا معشر المؤمنين إنَّه كان وصولاً لرحمه فكلِّموه ، فكلَّمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم . ورأيتُ رجلاً من اُمتي قد احتوشته الزبانية ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة . ورأيتُ رجلاً من اُمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب ، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عزَّ وجلَّ . ورأيت رجلاً قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفُه من الله عزَّ وجلَّ فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه . ورأيتُ رجلاً من اُمتي خفَّ ميزانه فجاءه أفراطه( [272] )فثقَّلوا ميزانَه ورأيتُ رجلاً من اُمتي قائماً على شفير جهنَّم ، فجاءه رجاؤُه من اللهِ عزَّ وجلَّ فاستنقذه من ذلك ومضى . ورأيتُ رجلاً من اُمتي قد هوى في النار فجاءته دمعتُه التي قد بكى من خشية الله عزَّ وجلَّ فاستنقذته من ذلك . ورأيتُ رجلاً من اُمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف ، فجاءه حسنُ ظنِّه بالله عزَّ وجلَّ فسكنَ روعه ومضى . ورأيتُ رجلاً من اُمتي يزحف على الصراط يحبو أحياناً ويتعلق أحياناً ، فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته . ورأيتُ رجلاً من اُمتي انتهى إلى أبواب الجنّة ، فغلقت الأبواب دونَه فجاءته شهادة أن لا إله إلاّ الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنّة( [273] ).

وروي عن علي بن الحسين السجّاد(عليه السلام) أنَّه قال : ما ندري كيف نصنع بالناس ؟! إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا قال : فقال ضمرة بن معيد : حدِّثنا، فقال : هل تدرون ما يقول عدوُّ اللهِ إذا حُمل على سريره ؟ قال : فقلنا : لا، قال: فإنَّه يقول لحملته : ألا تسمعون ؟ إنّي أشكو إليكم عدوَّ اللهِ خدعني وأوردني ثمَّ لم يصدرني ، وأشكو إليكم إخواناً واخيتهم فخذلوني ، وأشكو إليكم أولاداً حاميت عنهم فخذلوني ، وأشكو اليكم داراً أنفقتُ فيها حريبتي فصار سكّانها غيري ، فارفقوا بي ولا تستعجلوا .

قال : فقال ضمرة : يا أبا الحسن ، إن كان هذا يتكلم بهذا الكلام يوشك أن يثب على أعناق الذين يحملونه .

قال : فقال علي بن الحسين(عليهما السلام) : اللهمَّ إن كان ضمرة هزأ من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فخذه أخذَ أسف .

قال : فمكث أربعين يوماً ثمَّ مات ، فحضره مولى له قال : فلمّا دُفنَ أتى عليُّ بن الحسين(عليه السلام) فجلسَ إليه فقال : من أينَ جئتَ يا فلان؟ قال : من جنازةِ ضمرة ، فوضعتُ وجهي عليه حينَ سُوّيَ عليه، فسمعتُ صوتَه ، واللهِ أعرفه كما كنتُ أعرفه وهو حيٌّ يقول : ويلكَ يا ضمرة بن معبد ! اليوم خذلك كلُّ خليل ، وصارَ مصيرُكَ إلى الجحيم ، فيها مسكنك ، وفيها مبيتُك والمقيل، قال :

فقال علي بن الحسين(عليه السلام) : أسأل اللهَ العافية ، هذا جزاء مَن يهزأ من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ( [274] ). 2 ـ الولد الصالح :

ورد عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : مرَّ عيسى بن مريم(عليه السلام) بقبر يُعذّب صاحبه ، ثمَّ مرَّ به من قابل ، فإذا هو ليس يعذَّب ، فقال : يا ربِّ ! مررتُ بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذَّب، ثمَّ مررتُ به العام فإذا هو ليس يعذَّب . فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه : يا روح الله إنَّه أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً ، وآوى يتيماً ، فغفرت له بما عمل ابنه ( [275] ). 3 ـ التلقين :

روي عن يحيى بن عبد الله أنّه قال : سمعت الإمام الصادق(عليه السلام)يقول : ما على أهل الميّت منكم أن يدرأوا عن ميّتهم لقاء منكر ونكير؟ قال: قلت كيف نصنع ؟ قال : إذا أُفرد الميّت فليستخلف عنده أولى الناس به ، فيضع فمه عند رأسه ، ثم ينادي بأعلى صوته: يا فلان ابن فلان ! أو يا فلانة بنت فلان ! هل أنت على العهد الذي فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله سيّد النبيّين ، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين وسيّد الوصيين ، وأنّ ما جاء به محمّد حقّ وأنّ الموت والبعث حقّ وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ قال : فيقول منكر لنكير : انصرف بنا عن هذا ، فقد لُقّن حُجّته ( [276] ). وعنه(عليه السلام) أنّه قال : ينبغي أن يتخلف عند قبر الميّت أولى الناس به بعد انصراف الناس عنه، ويقبض على التراب بكفّيه ، ويلقّنه برفيع صوته ، فإذا فعل ذلك كفى الميّتَ المسألة في القبر ( [277] ). وفي الحقيقة إنّ هذا لا يعني لقلقة اللسان المحضة ، وإنّما يعني ترتّب الأثر على يقين الإنسان وإيمانه بما يُلقّن ، واستجابته للعملية السابقة لما يقال له حال التلقين ، فلا شك في أن ذلك يدرأ عنه عذاب القبر ويجيره منه.

4 ـ الجريدتان :

يُستحب أن يوضع مع الميّت حال الدفن جريدتان رطبتان . وقد ورد أن الجريدة تنفع الميِّت في درء العذاب عنه . فقد جاء عن زرارة أنّه قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) :

أرأيت الميّت إذا مات ، لمَ تجعل معه الجريدة ؟ فقال(عليه السلام) : يتجافى عنه العذاب والحساب ما دام العود رطباً . إنّما الحساب والعذاب كلّه في يوم واحد في ساعة واحدة قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم، وإنّما جعلت السعفتان لذلك ، فلا يصيبه عذاب ولا حساب بعد جفوفهما إن شاء الله ( [278] ). وفي مسند أبي داود الطيالسي : عن ( ابن عبّاس ) أنَّه قال :

مَرَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على قبرين فقال : إنَّهما يعذَّبان وما يعذَّبان في كبير، أمّا هذّا فكان لا يَستنزهُ من البول ، وأمّا هذا فكان يمشي بالنميمة . ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ، ثم غرس على هذا واحداً ، وعلى هذا واحداً . وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : لَعلَّهُ يُخفَّفُ عنهما ما لم ييبسا ( [279] ). وقد ورد بهذا المضمون أخبار أُخر في كتب الحديث المختلفة( [280] ). 5 ـ وضع تربة الإمام الحسين(عليه السلام) مع الميّت :

وقد وردت في هذا الأمر المندوب أخبار كثيرة في كتب الحديث أيضاً( [281] ).

6 ـ الصدقة والدعاء :

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : اهدوا لموتاكم ، فقالوا : يا رسول الله ! وما هدية الأموات ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : الصدقة والدعاء ، نعم حتى إنّه ليكون في ضيق فيوسع الله عليه ذلك الضيق ، فيقال له : خُفف عنك الضيق بصلاة فلان أخيك عنك ( [282] ). وورد في جامع الأخبار عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : إنّ أرواح المؤمنين تأتي بكل جمعة إلى سماء الدنيا بحذاء دورهم وبيوتهم ينادي كل واحد منهم بصوت حزين باكين ، يا أهلي وولدي يا أبي واُمي وأقربائي اعطفوا علينا يرحمكم الله بالذي كان في أيدينا ، والويل والحساب علينا والمنفعة لغيرنا ... اعطفوا علينا بدرهم ، وبرغيف ، وبكسوة ، يكسوكم الله من لباس الجنة( [283] ). 7 ـ الاعتناء بالصلاة وإتمام الركوع :

قال الإمام الباقر(عليه السلام) : من أتمَّ ركوعه لم تدخله وحشة في القبر ( [284] ). 8 ـ الحذر من الغيبة والنميمة والاحتراز من البول :

ورد عن ( ابن عباس ) :

أنّ عذاب القبر يكون أثلاثاً : ثلث من الغيبة ، وثلث من النميمة والفتنة، وثلث من عدم الاحتراز من البول ( [285] ). وعن الصادق(عليه السلام) أنّه قال : إنّ عمدة عذاب القبر من البول ( [286] ). وفي حديث آخر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : إنَّ جلَّ عذاب القبر في البول ( [287] ). وفي حديث آخر : استنزهوا من البول فإنّ عامّة عذاب القبر منه ( [288] ). 9 ـ الاعتناء بالوضوء ونصرة الضعيف :

روى ( الصدوق ) في العلل عن أبي عبد الله أنّه قال : أُقعد رجل من الأحبار في قبره ، فقيل له : إنّا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله ، فقال : لا أُطيقها ، فلم يفعلوا حتى انتهوا إلى جلدة واحدة ، فقالوا: ليس منها بدّ ، قال: فيم تجلدونيها ؟ قالوا : نجلدك لأنك صلّيت يوماً بغير وضوء ، ومررت على ضعيف فلم تنصره ، قال : فجلدوه جلدة من عذاب الله تعالى ، فامتلى قبره ناراً( [289] ). 10 ـ مداراة الأهل والإحسان إليهم :

روى الصدوق وغيره عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : أُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل له : إنّ سعد بن معاذ قد مات ، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقام أصحابه معه ، فأمر بغسل سعد ، وهو قائم على عضادة الباب، فلمّا أن حُنّط وكُفّن وحُمل على سريره ، تبعه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا حذاء ولا رداء ، ثم كان يأخذ بيمنة السرير مرة ، ويسرة السرير مرة ، حتى انتهى به إلى القبر ، فنزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحده، وسوّى اللبن عليه ، وجعل يقول : ناولوني حجراً ، ناولوني تراباً رطباً ، يسدُّ به ما بين اللبن ، فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه ، وسوّى قبره ، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّي لأَعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه ، ولكن الله يحب عبداً إذا عملَ عملاً أحكمه . فلما أن سوّى التراب عليه ، قالت أم سعد : يا سعد هنيئاً لك الجنة! فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا أمّ سعد مَهْ ! لا تجزمي على ربِّك فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة . قال فرجع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورجع الناس ، فقالوا له : يا رسول الله! لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد : إنّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء . فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسيت بها . قالوا : وكنت تأخذ يمنة السرير مرّة ، ويسرة السرير أُخرى . قال : كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ ، قالوا : أَمرتَ بغسله وصلّيتَ على جنازته ولحدتَه في قبره ثم قلتَ : إنّ سعداً قد أصابته ضمّة ! قال : فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : نعم، إنّه كان في خُلقه مع أهله سوء ( [290] ). وفي رواية اُخرى أنَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنَّ سعداً كانَ في لسانه غلظ على أهله ( [291] ). وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنَّه قال : عذاب القبر يكون من : النميمة ، والبول ، وعزب الرجل عن أهله( [292] ).

وقيل : إنَّ قوله(عليه السلام) : ( وعزب الرجل عن أهله ) يعني : بعده واعتزاله عن أهله، ولعلَّه كناية عن نشوزه عليها .

11 ـ الشهادة والمرابطة في سبيل الله :

روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامِه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأُجري عليه رزقه ، وأمن الفتَّان ( [293] ) . والفتان : هو عذاب القبر .

وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : كلّ مَيِّت يُختم على عمله ، إلاّ الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنّه يُنْمى له عملُهُ إلى يومِ القيامةِ ، ويأمَنُ مِنْ فِتنَةِ القَبْرِ ( [294] ). وسُئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلاّ الشهيد ؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً ( [295] ). وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنّه قال : للشهيد عند الله ستّ خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنّة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويُحلّى حُلّة الإيمان ، ويزوّج من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه( [296] ). 12 ـ الموالاة لأهل البيت(عليهم السلام) واتّباع سيرتهم :

في اللحظات الاُولى التي تنتقل فيها روح الإنسان من هذه الدنيا إلى حيث العالم البرزخي الجديد يبدأ بمواجهة ما قدمت يداه ، ويدرك ثمار أعماله الصالحة إن كان محسناً ، ويبوء بالنكال والخسران ، ويواجه الأهوال المترتبة على أعماله القبيحة إن كان مسيئاً . ومن أبرز الأعمال التي يقطف الإنسان المؤمن ثمارها عند الموت هو حبّه لأهل البيت(عليهم السلام)واتّباعه نهجهم ، وسيره على هداهم من خلال لقائه في اللحظات الاُولى لذلك الانتقال بهم ، ورؤيته إيّاهم وهم يحفّون به ، ويدرأون عنه الأهوال والعذاب.

وليس بالضرورة أن تكون مشاهدة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) حال الاحتضار وبعد مرحلة الحياة مشاهدة حيّة ـ وإن كان هذا ممكناً أيضاً ـ ولكن الفرق الأصلي هو أنّه سوف يشاهد ويعاين حقيقة الأثر المترتب على موالاة هؤلاء الأبرار ، ويدرك ثمار حبِّه واتِّباعه لهم(صلوات الله عليهم أجمعين ) .

فقد ورد في الكافي عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنّه قال : منكم والله يُقبل ، ولكم والله يغفر ، إنّه ليس بين أحدكم وبين أن يغتبط ويرى السرور وقرّة العين ، إلاّ أن تبلغ نفسه ههنا ـ وأومأَ بيده إلى حلقه ـ ثم قال : إنّه إذا كان ذلك واحتُضر ، حضَره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وجبرائيل وملك الموت(عليهم السلام) فيدنو منه عليّ(عليه السلام)فيقول: يا رسول الله ! إنَّ هذا كان يحبّنا أهل البيت فأَحِبَّه . ويقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا جبرائيل ! إنَّ هذا كان يحبّ الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأَحبَّه ، ويقول جبرائيل لملك الموت إنّ هذا كان يحبُّ الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأَحِبَّه وارفق به . فيدنو منه ملك الموت فيقول : يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت أمان براءتك ؟ تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا ؟ قال : فيوفّقه الله عزَّ وجلَّ فيقول : نعم فيقول : وما ذاك ؟ فيقول : ولاية عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، فيقول : صدقت . أمّا الذي كنت تحذره فقد آمنك الله منه ، وأمّا الذي كنت ترجوه فقد أدركته، أبشِر بالسلف الصالح ومرافقة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ وفاطمة(عليهما السلام) ثم يسلّ نفسه سلاًّ رفيقاً . ثم ينزل بكفنه من الجنة ، وحنوطه من الجنة بمسك أذفر ، فيكفّن بذلك الكفن ، ويُحنّط بذلك الحنوط ، ثم يُكسى حُلّةً صفراء من حلل الجنة ، فإذا وضع في قبره فتح الله له باباً من أبواب الجنة يدخل عليه من رَوحها وريحانها ، ثم يفسح له عن أمامه مسيرة شهر ، وعن يمينه وعن يساره . ثم يقال له : نم نومة العروس على فراشها ، ابشِر برَوح وريحان وجَنَّة نعيم ورب غير غضبان . ثم يزور آل محمد في جنان رضوى ، فيأكل معهم من طعامهم ، ويشرب من شرابهم ، ويتحدث معهم في مجالسهم حتى يقوم قائمنا أهل البيت ، فإذا قام قائمنا بعثهم الله فأقبلوا معه يلبّون زمراً زمراً ، فعند ذلك يرتاب المبطلون، ويضمحلّ المحلّون ـ وقليلٌ ما يكونونـ هلكت المحاضير ، ونجا المقرّبون من أجل ذلك . قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) : أنت أخي وميعاد ما بيني وبينك وادي السلام . قال : وإذا احتُضر الكافر حضره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليٌّ وجبرئيل وملك الموت(عليهم السلام) فيدنو منه عليّ(عليه السلام) ، فيقول : يا رسول الله ! إنّ هذا كان يبغضنا أهل البيت فأَبغِضه . ويقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا جبرئيل! إن هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأَبغِضْه، فيقول جبرئيل: يا ملك الموت إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأَبغِضه واعنف عليه ، فيدنو منه ملك الموت فيقول : يا عبد الله ! أخذت فكاك رهانك ؟ أخذت أمان براءتك ؟ تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا ؟ فيقول : لا. فيقول: أبشر يا عدوّ الله بسخط الله عزّ وجلّ وعذابه والنار . أمّا الذي كنت تحذره فقد نزل بك ، ثمّ يسلّ نفسه سلاًّ عنيفاً ، ثم يوكّل بروحه ثلاثمئة شيطان كلّهم يبزق في وجهه ويتأذى بروحه ، فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار ، فيدخل عليه من قيحها ولهبها( [297] ). وورد مثل هذا الحديث عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أيضاً .

وهناك أحاديث مستفيضة أُخر تؤكد المضمون المذكور نفسه في هذا الحديث ، يمكننا ذكرها ضمن هذا العرض الموجز( [298] ). وأمّا في المرحلة اللاحقة لهذه المرحلة فنجد أنّ ثمرة اتِّباع أهل البيت(عليهم السلام)والسير على هداهم والمعرفة بالامام المفترض الطاعة ستؤتي ثمارها بشكل أجلى وأوضح من خلال انطلاق لسان المتّبع لمنهج أهل البيت(عليهم السلام) في الإجابة عن سؤال الملكين الداخلين عليه في قبره عن أساسيات دينه . ومن ذلك سؤاله على نحو الخصوص عن إمامه ووليّه . وقد مرت الإشارة إلى هذا المعنى قبل قليل .

وقد دلّت عليه أحاديث كثيرة ، منها ما ورد في اُصول الكافي من أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) أتى رسول الله عند وفاة أُمه فاطمة بنت أسد وهو يبكي فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ما يبكيك ؟ فقال : ماتت اُمي فاطمة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأُمّي والله ! وقام مسرعاً حتى دخل ، فنظر إليها وبكى ، ثم أمر النساء أن يغسلنها وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا فرغتُنّ فلا تُحدِثْن حتى تُعلِمنني . فلما فرغن أعلمْنه بذلك، فأعطاهنّ أحد قميصيه الذي يلي جسده وأَمَرَهُنَّ أن يكفّنَّها فيه وقال للمسملين : إذا رأيتموني قد فعلت شيئاً لم أفعله قبل ذلك فَسَلوني لِمَ فعلته؟ فلما فرغن من غسلها وكفنها دخل(صلى الله عليه وآله وسلم) فحمل جنازتها على عاتقه ، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها ، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه ، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر ، ثم انكبَّ عليها طويلاً يناجيها ويقول لها : ابنُكِ ابنُكِ ، ثم خرج وسوّى عليها ، ثم انكبَّ على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلاّ الله ، اللّهم إنّي استودعها إياك . ثم انصرف . فقال له المسلمون : إنّا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم ، فقال : اليوم فقدت برَّ أبي طالب ، إن كانت لَيكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها . وإنّي ذكرتُ القيامة وأنّ الناس يحشرون عراة فقالت: واسوأتاه ! فضمنت لها أن يبعثها الله كاسيةً . وذكرت ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه ! فضمنتُ أن يكفيها الله ذلك، فكفنتها بقميصي ، واضطجعت في قبرها لذلك ، وانكببت عليها ، فلقّنتها ما تُسأل عنه ، فإنّها سُئلت عن ربِّها فقالت ، وسُئلت عن رسولها فأجابت ، وسُئلت عن وليّها وإمامها فارتجَّ عليها ، فقلت : ابنُكِ ابنُكِ ( [299] ). وقد نظم السيد الحميري القصة المشهورة لمقولة أمير المؤمنين(عليه السلام)للحارث الهمداني أنه ما من ميّت إلاّ ويراه(عليه السلام) . وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الرؤية لا تعني بالضرورة المشاهدة الحسية ، وإن لم يكن مانع يمنع من ذلك. إلاّ أنّ المصداق الأجلى لها أنّ الميت المؤمن سوف يتحسس بعد وفاته ثمرة حبّه لأهل البيت(عليهم السلام) واتّباعه لهم خصوصاً من غلب عليه ذكرهم . وأنّ الكافر المبغض سوف يذوق الحسرة والندم على ما فرَّط في حقّهم المفترض ، فيقول السيد الحميري . من بحر المنسرح :

قولُ عليٍّ لحِارث عجبٌ***كم ثمَّ أُعجوبة له حملا

يا حار همدان مَن يمت يرني***من مؤمن أو منافق قُبُلا

يَعرفني طَرْفُه وأعرفُه***بَنَعتِه واسمِه وما فعلا

وأنتَ عند الصراطِ تعرِفني***فلا تخَفْ عثرةً ولا زللا

اُقول للنّارِ حين تُعرضُ للِــ***ــعَرض : دَعيهِ لا تقبلي الرَّجُلا

دعيه لا تَقربيهِ إنَّ له***حبلاً بحبلِ الوصيِّ مُتَّصِلا( [300] ). وورد في الكافي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : يُسأل الميت في قبره عن خمس : عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهلَ البيت ، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع : ما دخل فيكنَّ من نقص فعليّ تمامه ( [301] ). وفي تفسير الإمام العسكري(عليه السلام) قال عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) : من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه، لقّنه الله يوم يُدلى في قبره أن يقول : الله ربي ، ومحمّد نبيّي ، وعليّ وليّي ، والكعبة قبلتي ، والقرآن كتابي وعدّتي، والمؤمنون إخواني، والمؤمنات أخواتي . فيقول الله : أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة ، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة ( [302] ). وروي في ( رجال الكشي ) عن الامام علي الرضا(عليه السلام) أنَّه قال بعد موت (ابن أبي حمزة ) : إنَّه اُقعد في قبره فسُئِل عن الأئمة(عليهم السلام) فأخبر بأسمائهم حتى انتهى إليَّ فسُئِل فوقف ، فضرب على رأسه ضربةً امتلأ قبره ناراً( [303] ). وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : إنَّ لله تعالى ملكين يقال لهما ناكر ونكير ، ينزلان على الميِّت فيسألانه عن ربِّه ونبيِّه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحق سلَّموه إلى ملائكة النعيم ، وان ارتجَّ عليه سلَّموه إلى ملائكة العذاب ( [304] ). وعن ( أبي بصير ) أنه قال :

قال لي أبو عبد الله(عليه السلام) : يا أبا محمد ، إنَّ الميِّت منكم على هذا الأمر شهيد ، قال : قلتُ : وإن مات على فراشه ؟ قال : إي والله وإن مات على فراشه حي عند ربِّه يُرزق ( [305] ). وروي عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنَّه قال : إنَّ المؤمن إذا اُخرج من بيته شيَّعته الملائكة إلى قبره يزدحمون عليه حتّى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض : مرحباً بك وأهلاً ، أما والله لقد كنت اُحبُّ أن يمشي عليَّ مثلك ، لترينَّ ما أصنع بك ، فتوسّع له مدَّ بصره ويدخل عليه في قبره ملكا القبر وهما قعيدا القبر منكر ونكير ، فيلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقعدانه ويسألانه فيقولان له : مَن ربك ؟ فيقول : الله ، فيقولان : ما دينك ؟ فيقول : الإسلام ، فيقولان : ومن نبيّك ؟ فيقول : محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيقولان : ومن إمامك ؟ فيقول : فلان ، قال : فينادي مناد من السماء : صدق عبدي افرشوا له في قبره من الجنّة وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنّة ، وألبسوه من ثياب الجنة ، حتى يأتينا وما عندنا خيرٌ له، ثم يقال له : نم نومة عروس ، نم نومة لا حُلم فيها ... ( [306] ). وروى البرقي في المحاسن عن أبي بصير عن أحدهما ] الامام الباقر أو الصادق(عليهما السلام) [ قال : إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّ صور ، فيهنّ صورة أحسنهنّ وأبهاهنّ هيئةً ، وأطيبهنّ ريحاً ، وأنظفهنّ صورة ، قال : فتقف صورة عن يمينه واُخرى عن يساره ، واُخرى بين يديه ، واُخرى خلفه ، واُخرى عند رجليه . تقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه ، فإن أُتيَ عن يمينه منعته التي عن يمينه ، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الستّ ، قال : فتقول أحسنهنّ صورة : من أنتم جزاكم الله عني خيراً ؟ فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة . وتقول التي عن يساره : أنا الزكاة وتقول التي بين يديه : أنا الصيام . وتقول التي خلفه : أنا الحج والعمرة ، وتقول التي عند رجليه : أنا برُّ مَنْ وصلْتَ من إخوانك . ثم يقُلنَ : من أنتِ ؟ فأنتِ أحسنُنا وجهاً وأطيبُنا ريحاً ، وأبهانا هيئة فتقول : أنا الولاية لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)( [307] ) .

والحمد الله رب العالمين

الفهرست

الموضوع الصفحة

مقدمة 5

البرزخ في اللغة والاصطلاح العام 9

البرزخ في الاصطلاح الشرعي 11

ضرورة الايمان بالبرزخ 16

البرزخ في القرآن الكريم 21

ثبوت البرزخ في القرآن 30

البرزخ في الحديث 43

رومان فتان القبور 55

منكر ونكير ومبشّر وبشير 58

ضغطة القبر 65 الموضوع الصفحة

موت الأرواح 68

هيئة بقاء الأرواح 85

مقرّ الأرواح 91

انتفاع الميت بعمل الأحياء 94

الميت يسمع السلام ويردّه 105

الدعاء والاستغفار وقراءة القرآن 113

الأعمال الصالحة 123

الاُمور التي ترفع أو تخفف عذاب القبر 128

/ 4