تقیة عند اهل البیت ع نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تقیة عند اهل البیت ع - نسخه متنی

مصطفی قصیر العاملی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



التقيـةعند أهل البيت (ع)بحث تحليلي يتناول التقية على ضوءالنصوص والواقع التاريخيبقـلممصطفى قصير العامليالقسم العقائدي في المعاونية الثقافيةللمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)1415هـ .ق


هوية الكتاب:الكتاب: التقية عند أهل البيت(ع) المؤلف:الشيخ مصطفى قصير العاملي الناشر:المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت(ع)المطبعة: اميرالتاريخ: 1414هـ .ق


كلمة لابدّ منها


الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله الطاهرين.


البعض قد يتصور أن الحديث عن الوحدة الإسلامية معناه أن ينضوي المسلمون جميعاً تحت ظل دولة واحدة وعلم واحد، فيرى أن الحديث عن ذلك في أجواء التمزق والتشرذم التي يعيش فيها العالم الإسلامي، وفي نظام دولي يقدس الخطوط الحمراء التي رسمت على الخارطة الجغرافية فجعلت من هذا العالم مجموعة كبيرة معقدة من الهياكل، يرى أن الحديث عن ذلك في مثل تلك الظروف بعيد جداً عن الواقعية.


ولكن... ليس الأمر كذلك..


صحيح أن الدولة الإسلامية الكبرى، والكيان السياسي الواحد، الذي يجمع تحت لوائه كل المسلمين يعدّ من أكمل مظاهر الوحدة الإسلامية التي نصبو إليها، وغاية ما يتطلع إليه كل مسلم، إلاّ أن ملاحظة الظروف والعوامل التي تشكّل عقبة أمام تحقيق ذلك الهدف العظيم، أو تلك التي تشكّل محفزاً له لابد منها في دراسة الواقع، والتخطيط بما يتناسب معه، والعمل على إزالة تلك العقبات والعوائق وتنمية العوامل المحفزة.


الخطوة الاُولى في هذا السبيل تنطلق من الرؤية الصحيحة للواقع الذي أدّى بالمسلمين إلى ماهم عليه الآن من انقسامات وتشتت، فإن الكثير من الدارسين، والعديد من رواد الوحدة الإسلامية، انطلقوا في عملهم، ومارسوا أنشطتهم، وبذلوا جهوداً عظيمة في هذا المجال، على رؤية مفادها أن الاختلافات الفكرية على مستوى المعتقد وعلى مستوى المنهج الفقهي والاُصولي هي التي شيدت حاجزاً كبيراً، ووضعت سداً محكماً أمام تقارب المذاهب الإسلامية. ولأجل هذا كرّسوا جهودهم في مجال ردم الهوة الفكرية ومعالجة المشكلة من هذا الجانب، فراحوا يبحثون عن نقاط الالتقاء، وحاولوا حل النزاعات المذهبيّة اعتقاداً منهم بأن هذا هو السبيل الوحيد الناجح للتأليف بين القلوب وجمع الشتات وتحقيق وحدة المسلمين. وربما حققوا في هذا المضمار خطوات موفقة، إلاّ أن المشكلة لا تزال قائمة مستعصية.


والحقيقة أن الاختلافات الفكرية والمذهبية ليست هي العامل الوحيد، بل ليست من عوامل الفرقة والانقسام، وإنما هي عبارة عن أدوات تستعمل في اثارة النزاعات، هي عبارة عن أسلحة تستخدم لبث الفرقة، ومن الواضح أن السلاح لا يشكل عاملاً في نشوب الحرب، ولكن هناك عوامل خاصة تؤدي عادة إلى اتخاذ قرار الحرب، فإذا اتخذ القرار صار للسلاح دور فعال في الفتك والحسم.


صحيح أن نزع السلاح من شأنه أحياناً أن يوقف رحى الحرب، إلاّ أنه عادة يكون حلاً مؤقتاً، لا يعالج النار التي تبقى تحت الرماد تنتظر الفرصة المناسبة والظرف الملائم لتتأجج من جديد.


وعندما تكون الأسلحة من قبيل الخلافات الفكرية فإنه يعسر نزع السلاح بل ربما يستحيل، إذ إن القناعات الفكرية والامور الاعتقادية لا يتيسر للإنسان التخلي عنها غالباً، وإذا رضي بكتمانها وأعرض عن اظهارها خوفاً أو حرصاً على مصلحة أكبر، فذلك لا يعدو أن يكون حالة مؤقتة سرعان ما تزول.


من هنا كان علينا أن ندرس العوامل الحقيقية التي دفعت بالمسلمين إلى ساحة الصراعات، وأدت بهم إلى هذا الواقع المؤلم الذي لا يحسدون عليه، وأن ندرس الأساليب العمليه لنزع تلك العوامل واستبدالها بما يحقق الهدف المنشود، ولو كان ذلك في خطة طويلة الأمد، فالمهم أن نحدّد المسار الصحيح، ونضع يدنا على ذلك الفايروس الفتاك، وننطلق بالخطوة الاُولى، وسنجد أن الخطوات التالية تتابع بشكل طبيعي.


في هذا المجال نحن بحاجة ماسة لدراسة تاريخنا دراسة متأنّية وعميقة، وبروح علمية متجردة; فهذا الكنز الدفين يحوي الكثير مما ننشده، فإن الواقع الذي نعيش فيه له جذور ممتدة عبر التاريخ، لابد من الوصول إليها واكتشاف بداياتها، وربطها بالحاضر، بالضبط كما يفعل الطبيب في حالة الأمراض الوراثية والمتجذّرة، فما لم يصل إلى تلك الجذور لن يوفق في اكتشاف العلاج الناجع.


والذي أعتقده أن حالة التمزق والانشقاق في جسم العالم الاسلامي لم تنشأ من عوامل ذاتية، وانما هي من صنع أياد غريبة عن الإسلام، فمما لاشك فيه أنه كان هناك في كل عصر بعض العناصر الذين يهتمون بإثارة النزاعات بين المسلمين وزرع الفتن والخلافات بأدوات وأساليب مختلفة، وفي العصر الحاضر يكاد يكون هذا الأمر بديهياً.


يعني أنه دائماً يكون هناك طرف مستفيد من حالة الخلاف وحالة التفرق، هذا الطرف مرة يكون سلطاناً وحاكماً يطلب الملك والقدرة، ومرة اُخرى يكون دولة عظمى تريد وضع اليد على مقدرات المسلمين وخيراتهم، واليوم نحن المسلمين في كل بقاع العالم نعاني من هذا الكابوس ونكتوي بناره، وفي بعض الأحيان يكون ذلك الطرف عنصراً شيطانياً شريراً أو فريقاً كذلك يحب الفتنة والنزاعات، فيجد المستفيدون فيه أفضل أداة يستخدمونها في سبيل مآربهم.


فالبداية من هنا..أولاً: أن يشخّص المسلمون عدوّهم الأول، عدوّهم الأخطر، وأن يدركوا أن إخوانهم الذين يختلفون معهم في المذهب أو في بعض الفروع الفقهية أو المسائل التي ترجع إلى عالم السياسة والحكم ليسوا أعداءهم، ولا يشكلون خطراً عليهم، أو على الأقل ليسوا الغريم الأخطر.ثانياً: لابد من حصر النزاعات والخلافات المذهبية في إطارها الصحيح، وعدم السماح لأعدائنا باستغلالها واستثمارها بما يحقق أهدافهم.ثالثاً: نحن لا ندعو إلى التخلّي عن القناعات الفكرية والمعتقدات الخاصة، وإنما ندعو المسلمين جميعاً أن ينظروا إلى الجوامع والمشتركات قبل أن ينظروا إلى مواطن الخلاف المذهبي بينهم.


وبعبارة اُخرى علينا أن نرتفع بطريقة قراءتنا للمذاهب الاُخرى، التي نختلف معها في بعض الاُمور، فلا نقرأها بخلفيّة الباحث عن العيوب والثغرات، والمتلمس للعثرات; فإن هذه الطريقة عادة يتّبعها من اتخذ قرار الحرب ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وقطع حبل الوصال، وانما نقرأها بخلفية الباحث المتجرد عن الحقد والعصبية وطالب المعرفة. ولا شك أن هذه الطريقة سوف تكشف عن الكثير من نقاط الالتقاء، والجوانب الإيجابية العديدة في فكر الطرف الآخر الذي نريد دراسته.


ولعل أفضل الوسائل العملية لتحقيق هذا المستوى من القراءة والنظر، أن يزال الحاجز النفسي الذي اُقيم بين المسلمين. فنحن ندعو المجامع العلمية عند المذاهب الاسلامية كافة أن تنفتح على بعضها، ومن هذا المنطلق ندعو علماء المذاهب والفرق الإسلامية كافة لزيارة حوزاتنا العلمية وحضور الندوات والمباحثات. لا نريدها زيارات رسمية دبلماسية، وإنما نعني بها زيارات استطلاعية علمية، مفتوحة من جهة الزمان. كما أدعو المجاميع العلمية في الحوزات العلمية الشيعية أن يقوموا بمثل هذه الخطوات باتجاه المذاهب الاُخرى.


وهناك دعوة مخلصة للقيّمين على الجامعات والمؤسسات العلمية بافتتاح اقسام خاصة بدراسة المذاهب الإسلامية، شرط أن يدعى لها أساتذة متخصصون من نفس تلك المذاهب. لماذا يضع كل فريق سداً فولاذياً أمام المطبوعات والمنتجات الفكرية للفريق الآخر، ولا تدرس إلاّ بخلفيّة البحث عن الثغرات والعيوب؟!


ولا يفوتني هنا أن اُسجّل أسفي على ما يعانيه الكتاب الشيعي في البلاد الاسلامية، فكثيراً مّا يقف عاجزاً عن اقتحام حواجز الأجهزة الأمنّية والجمركية، وربما اُعيد من حيث أتى، وربما اقتيد إلى مستودعات الكتب المحظورة.


لماذا يمنع الملايين من المسلمين المثقفين من الاطلاع على واقع المذاهب الاُخرى من خلال كتبهم، بينما يسمح بدراسة كتب الضلال والمطبوعات المشحونه بالكفر والانحراف والفساد الأخلاقي؟ لماذا يسمح للإعلام المعادي للإسلام أن يأخذ مكانه في كل بيت ومكتب ومدرسة وإدارة في بلادنا الإسلامية، ولا يسمح للإعلام الإسلامي بشيء من ذلك؟


إنه الواقع الأليم الذي نعيش فيه، إنها سياسة التجهيل التي تمارس في هذا القرن الذي يُدّعى أنه قرن العلم والانفتاح والحرية.


فالخطوة الاُولى نحو الوحدة الإسلامية هي أن ينفتح المسلمون جميعاً على بعضهم، ويعرف بعضهم بعضاً، ويثق بعضهم بالبعض الآخر.


نسأل الله سبحانه أن يجمعنا على التقوى، وأن يوحد قلوبنا ويؤلف بيننا، وأن يصلح كل فاسد من أمورنا، بحق صاحب هذه المناسبة التي نعيش ذكراها، الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).


مصطفى قصير العاملي


لبنان


تمهيد


الحمدلله رب العالمين، خالق الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن أرسله الله رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين المنتجبين.


لقد وقع اختياري على هذا الموضوع لأكتب فيه، وليطرح ضمن أبحاث مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي ينعقد في طهران، لعدة حيثيات:الاُولى: أن التقية من الموضوعات التي اُسيء الاستفادة منها، واستخدمت للطعن على الشيعة، والايقاع بينهم وبين الفرق الاسلامية الاُخرى، من خلال التفسير الخاطئ لها، وتحميل المفهوم الكثير من المعاني البعيدة عن الحقيقة والواقع.الثانية: أن التقية اُسلوب عمل لجأ إليه الشيعة بتوجيه من أئمتهم، بهدف التخفيف من حالة الانشقاق الحاصلة في الاُمة، التي وضع بذورها وأجج نارها حكام الجور.الثالثة: التقية تصنف ضمن شعارات التشيع، في حين أنها لا تختص به، وكل ما في الأمر أن الشيعة لجأوا إلى التقية نتيجة للحملات الشعواء التي تعرضوا لها قروناً متطاولة بهدف تصفيتهم والقضاء عليهم، فالتصقت بهم. وأما الآخرون فلم تلجئهم الظروف للعمل بها إلاّ نادراً.الرابعة: أن العديد من الكتاب والباحثين الشيعة فضلاً عن السنة لم يدركوا حقيقة التقية بدقة، ونتيجة لذلك وقعوا في أخطاء فاحشه في دراسة أخبارها وفي تطبيقها واستنباط الأحكام منها.


هذه الحيثيات مجتمعة دعتني للخوض في غمار هذا البحث الذي لا يخلو عن صعوبة ومشقة، لأنه يرتبط بشكل وثيق بتاريخ أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الذي لم يلق عليه الضوء الكافي لحد الآن، وبقيت الكثير من جوانبه غامضة نتيجة للظروف الصعبة التي مرّت بهم وبشيعتهم الأبرار.المفهوم في اللّغة والإصطلاح:


التقيّة: من اتقى ووقى. ومعناها الحذر.


قال في اللسان: وقد توقّيت واتَّقيتُ الشيء وتَقَيْتُه أتّقيه وأتْقيه تُقىً وتَقيَّةً وتِقاءً: حذرته( [1]).


وقال ابن الأعرابي: التُّقاة والتقّية والتقوى والاتقاء كله واحد( [2]).


وقد غلب استعمال التقاة والتقيّة في الحذر من غوائل الناس، بينما غلب استعمال التقوى في الخوف والحذر من عقاب الله سبحانه وتعالى.


وفي الرواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام): التقّية معاملة الناس بما يعرفون وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم( [3]).


والمعنى الاصطلاحي للتقية: إظهار خلاف الواقع في الاُمور الدينية بقول أو فعل خوفاً وحذراً على النفس أو المال أو العرض( [4]).


يقول الشيخ الأنصاري(رحمه الله): إنها التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق( [5]).


عرّفها محمد رشيد رضا بأنها: ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق لأجل توقي الضرر( [6]).


وعرّفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنها: أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى( [7]).


وعرّفها السرخسي بأنها: أن يقي الانسان نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه( [8]).


وعرفها ابن حجر العسقلاني بأنها: الحذر من اظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير( [9]).أدلّـة شرعيّتـها:1 ـ الكتاب الكريم:


ورد في القرآن الكريم عدة آيات دلت على مشروعية التقيّة نذكرها تباعاً:أولاً: قوله تعالى: (وقالَ رجلٌ مؤمنٌ مِنْ آلِ فرعونَ يكتُم إيمانَه: أَتَقْتُلونَ رجلاً أَنْ يقولَ ربِّيَ اللهُ)( [10]).


ولا يكون كتمان الإيمان إلاّ بممارسة التقية، وقد مدحه الله على ذلك.ثانياً: قوله تعالى: (لا يَتّخذِ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ منْ دونِ المؤمنين، وَمَنْ يفعلْ ذلكَ فليسَ مِنَ اللهِ في شْيء إلاّ أنْ تتّقُوا مِنهمْ تُقاةً، ويحذّرُكمُ اللهُ نفسَهُ وإلى الله المصير)( [11]).


قال العلامة الطباطبائي: وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)( [12]).


وفي الرواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: وأما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإن الله نهى المؤمن أن يتخذ الكافر ولياً، ثم منّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقيّة في الظاهر، أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلي بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك، موسعاً عليه فيه، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الاُمة. قال الله تعالى: (لا يتَّخِذ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دُونِ المؤمنينَ ومَن يفعَلْ ذلكَ فليسَ مِن اللهِ في شيء إلاّ أنْ تتَّقوا مِنهم تُقاةً ويُحذِّركُم اللهُ نفسَه) فهذه رخصة تفضل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر( [13]).ثالثاً: قوله تعالى: (مَنْ كفَر باللهِ مِنْ بعد إيمانهِ إلاّ مَنْ أُكرهَ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمانِ ولكنْ مَنْ شرحَ بالكفرِ صدراً فعليهمْ غضبٌ مِنَ اللهِ ولهم عذابٌ عظيم)( [14]).


والإكراه هنا إنما يكون على التظاهر بالكفر الذي يصدق مع كون القلب مطمئناً بالإيمان، والآية ـ كما ذكر جميع المفسرين ـ نزلت في صدر الدعوة الإسلامّية حيث كان المستضعفون من المسلمين الأوائل يتعرضون لأقسى المحن لصرفهم عن دينهم، وقد استشهد في هذه الظروف العصيبة ياسر وزوجته سميّة، إلاّ أنّ عماراً أعطاهم بلسانه ما كانوا يريدون وقلبه مطمئن بالإيمان.


فأمضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عمله وقال له: إن عادوا فعد، وفيه نزلت هذه الآية( [15]).


وهذه الآيات وإن دلّت على جواز التقية من الكفار، إلاّ أنه لابد من التوسع إلى غير الكفار من أهل الظلم والجور الذين يسعون لفتنة الإنسان عن دينه ومعتقده الحق. وذلك لوحدة المناط، فإن تولي الظالمين منهي عنه ايضاً، والرخصة إنما هي لحفظ النفس وهي في الموردين سواء.رابعاً: قوله تعالى: (يُريدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ)( [16]).خامساً: قوله تعالى: (وما جعَل عليكُم في الدّينِ مِنِ حَرَج)( [17]).سادسهاً: قوله تعالى: (فمَن اضْطُرَّ غيرَ باغ ولا عاد فلا إثمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ)( [18]).


وقوله تعالى: (فمَن اضْطُرَّ غيرَ باغ ولا عاد فإنَّ ربَّكَ غفورٌ رحيمٌ)( [19]).


وقوله تعالى: (فمَن اضْطُرَّ غيرَ باغ ولا عاد فانَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ)( [20]).


فجوزت هذه الآيات تناول لحم الميتة عند الضرورة لأجل حفظ النفس، وهي تدل على أن الضرورة حاكمة على الأدلة الشرعية، وموارد التقية من هذا القبيل.2 ـ السنة الشريفة:


هناك الكثير من الروايات الصحيحة والمعتبرة التي دلّت على مشروعيّة التقية وهي طوائف:الطائفة الاُولى: ما دلّ على أن الأحكام الشرعية الأولية ترتفع عند الضرورة من قبيل حديث الرفع الذي رواه الخاصة والعامّة.


فقد روى الصدوق بسنده عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن اُمتي تسعة الخطأ والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة( [21]).


ورواه الكليني أيضاً بسنده مع اختلاف يسير( [22]).


فقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): وما اضطروا إليه صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحظورات، وموارد التقية كلها من هذا القبيل.


روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: ليس شيء مما حرّم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه( [23]).


ومن هذه الطائفة: حديث لا ضرر ولا ضرار المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)( [24]). وفي بعضها زيادة في الإسلام أو على المؤمن وكلها تؤدي المطلوب، وهو انتفاء الضرر، ولا شك بأن تحمل الإنسان القتل والسجن والاعتداء عليه وعلى أعراضه وأمواله ضرر منفي بهذا الحديث، فله اتقاؤه.الطائفة الثانية: ما ورد في الترخيص بالكذب والتورية لدفع الظلم.


عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا كذب على مصلح، ثم تلا: (أيَّتُها العيِرُ إنَّكُم لَسارقونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب، ثم تلا: (بَلْ فَعلهُ كبيرُهم هذا فاسألوهُم إنْ كانوا ينطِقونَ) ثم قال: والله ما فعلوه وما كذب( [25]).


وروي عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول يوسف(عليه السلام): (أيَّتُها العيرُ إنّكم لَسارقون فقال: والله ما سرقوا وما كذب... فقال أبو عبدالله(عليه السلام): .. إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين، أحب الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح، إن ابراهيم(عليه السلام) قال: (بَلْ فعَله كبيرُهم هذا) ارادة الإصلاح، ودلالة على أنهم لا يفعلون، وقال يوسف ارادة الإصلاح( [26]).


ونفي الكذب هنا إما باعتبار كونه مع قصد التأويل، فيخرج من الكذب ويدخل في التورية، أو لكونه خارجاً عن الكذب المحرم، وكلاهما يؤدي الغرض.


وقد ورد في قوله (فقال إنّي سقيمٌ) قال أبو عبدالله(عليه السلام): والله ما كان سقيماً وما كذب، وإنما عنى سقيماً في دينه مرتاداً..( [27]).


قال أبو حامد الغزالي: قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرايت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك، فقال: أرأيت فلاناً؟ ما كنت قائلاً؟ ألست تقول: لم أره، وما تصدق به؟ وهذا الكذب واجب.


قال أبو حامد: كما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم فيه مقصود الحرب أو اصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلاّبكذب فالكذب مباح( [28]).


فإذا كان الكذب يباح لدفع الظلم والإصلاح، وقد يجب أحياناً، كما إذا توقف عليه انقاذ النفس، وحقن الدماء، فالتقية من باب أولى; لأنها لا تستلزم الكذب في كل حالاتها، وإنما تتحقق أحياناً بالكتمان والإتيان ببعض العبادات على نحو يوافق رأي المتّقى منه ومذهبه.


ولو توقفت على الكذب فهو كذب ضروري خارج عن الحرمة كما في موارد الإصلاح، بل هي من أبرز مصاديق الإصلاح; لأن فيها حفظ الحقوق وحقن الدماء. والعجيب ممن يشنع على الشيعة فيجعل التقيّة كذباً محضاً، بل يتمادى فيقول: إنهم (أي الشيعة) سمّوا الكذب تقيّة( [29])، وغاب عن هذا أن الكذب انما يحرم إذا لم يكن لأجل الإصلاح، ولا لأجل دفع الظلم والجور، ولا لحقن دماء المسلمين، بل غاب عنه أن المحرمات إذا زاحمت ما هو أهم منها في الشريعة الإسلامية تسقط ويباح ارتكابها.


يقول السيد محمد بن عقيل العلوي: اتفق أصحابنا على جواز الكذب عند الضرورة بل وللمصلحه وهو عين التقية، لكن إن عبّرت عنه بلفظ التقيّة منعه كثير منهم، لكونه من تعبيرات الشيعة، فالخلاف فيما يظهر لفظيّ، والله أعلم( [30]).الطائفة الثالثة: رواياتنا الخاصة المستفيضة في الأمر بالتقية والحث عليها:


روي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال: إن التقية ترس المؤمن ولا ايمان لمن لا تقية له( [31]).


وقال: اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية; فإنه لا ايمان لمن لا تقية له( [32]).


وقال: ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء، قيل وما الخبء؟ قال: التقية( [33]).


وقال: التقية ترس الله بينه وبين خلقه( [34]).


قال العلامة المجلسي: ترس الله: أي ترس يمنع الحق من عذاب الله أو من البلايا النازلة من عنده( [35]).


وروي أنه(عليه السلام) قال: كان أبي(عليه السلام) يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية؟! إن التقيّة جنة المؤمن( [36]).


وسئل أبو الحسن(عليه السلام) عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر(عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي ولا ايمان لمن لا تقية له( [37]).


وروي عن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال: خالطوهم بالبرّانية وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية( [38]).


وعن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: يا مدرك، رحم الله عبداً اجتر مودّة الناس إلى نفسه، فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون( [39]).


وعنه(عليه السلام) قال: .. عليكم بمجاملة أهل الباطل، تحمّلوا الضيم منهم، وإياكم ومماظّتهم، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم( [40]).


وروي عن أمير المؤمنين(عليه السلام):... وآمرك أن تستعمل التقّية في دينك فإن الله يقول: (لا يتَّخِذ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دُونِ المؤمنينَ ومَنْ يفعلْ ذلكَ فليسَ مِن اللهِ فِي شيء إلاّ أنْ تتَّقوا مِنهُم تُقاةً) وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا علينا إن ألجأك الخوف إليه، وفي اظهار البراءة إن حملك الرجل عليه( [41])... الحديث.


وعن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ: (اُولئِكَ يُؤتَونَ أَجرَهُم مرَّتينِ بما صَبروا) قال: بما صبروا على التقية،ويَدرَؤونَ بالحسَنةِ السيّئة) قال: الحسنة: التقيّة، والسيئة: الاذاعة( [42]).


أقول: هذا ليس من باب التأويل كما توهم بعضهم، وإنما هو من باب التطبيق والجري.


هذا غيض من فيض الروايات الواردة في التقية من طرقنا، ومن أراد الاستقصاء فليراجع المصادر وكتب الحديث الموسعة.3 ـ دليل العقل وسيرة العقلاء:


التقية من الضرورات التي يفرضها العقل بالإضافة إلى الشرع الذي حث عليها وأجازها كما تقدم.


إن فكرة التقية ليست من مختصات الشيعة ولا من مخترعاتهم، بل إن العقلاء بطبعهم مفطورون على التهرب من الضرر والفرار منه، بحسب الوسائل المتاحة، التي تضمن لهم السلامة والنجاة والأمن، وعندما يرى العقلاء أنفسهم عاجزين عن دفع الضرر بالقوة وغيرها من وسائل الحماية والدفاع، يلجأون إلى مجاراة الغير ممن يخاف ضرره ومداراته لدفع شره، وربما التظاهر بالتسليم له في الفعل والقول، إن لم يمكن بالقول فقط، خاصة عندما يكون منشأ الخوف العقيدة التي يلتزم بها الإنسان والأفعال المترتبة عليها.


بل إن العقلاء يعدّون ترك التقية أحياناً خلاف العقل، وذلك عندما لا يكون هناك أية ثمرة مادية ولا معنوية تعود بالنفع على الإنسان من خلال تعريض نفسه للتلف والأخطار.


نعم إن العقلاء يعتبرون التضحية والفداء من الكمالات، لكن عندما يكون هناك مواجهة ويكون هناك غاية يأمل الإنسان تحقيقها من خلال ذلك، وهذا خلاف فرضنا.


وقد أقرت الشريعة هذه السيرة العقلائية وأمضتها بالجملة.


التقيّة عند أهل السنّة:


ابن عباس: التقية باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل( [43]).


الحسن البصري: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس التي حرّم الله( [44]).


الشافعي: جوّز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافرين محاماة على النفس( [45]).


الفخر الرازي والنيسابوري: تُجوَّز التقية لصون المال ـ على الأصح ـ كما تُجوَّز لصون النفس( [46]).


السيوطي: يجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر، ولو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه( [47]).


الشاطبي: أنكر على الخوارج قولهم: ان التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الاطلاق والعموم، ووصف ذلك بأنه مخالف لكليات شرعية أصلية وعملية( [48]).


الجصاص: وقوله تعالى: (إلاّ أنْ تتَّقوا مِنهُم تُقاةً) يعني أن تخافوا تلف النفس وبعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ; وعليه الجمهور من أهل العلم( [49]).


ابن الحنفية (لرجل من عزة): لا تفارق الاُمة، اتق هؤلاء القوم بتقيتهم، ولا تقاتل معهم، (قال الراوي: يعني بني اُمية)، قال: قلت وما تقيتهم؟ قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم فيدفع الله بذلك عنك عن دمك ودينك، وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به منهم...( [50]).


ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلاّ كنت متكلماً به( [51]).


وقد كان حذيفة يقول: فتنة السوط أشد من فتنة السيف. قال السرخسي: وكان حذيفة ممن يستعمل التقية( [52]).


وفي الروايات: جابر بن عبدالله(رضي الله عنه) قال: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا اكرهني عليها( [53]).


وقد اتقى الشعبي عندما أنكر على احد القصاصين في الشام فضربوه حتى قال برأي شيخهم نجاة بنفسه( [54]).


في قصة عبدالله بن وهب وحبيب بن زيد المازني لما أخذهما مسيلمة الكذاب فقال: اتشهدان أني رسول الله؟ فأبى حبيب أن يشهد له فقتله وقطعه عضواً عضواً، وأقر له عبدالله بن وهب وقلبه مطمئن بالإيمان فلم يقتله وحبسه، وبقي حتى جاء المسلمون وأنقذوه( [55]). وكان هذا بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).


وروي أن مسيلمة كان أخذ رجلين من اصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فخلاّه. ثم دعا الآخر وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثاً، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه( [56]).


بريد بن عميرة: فلحقت بعبد الله بن مسعود فأمرني بما أمره به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن اُصلي الصلاة لوقتها وأجعل صلاتهم تسبيحاً (قال ابن عساكر: يعني أن الاُمراء إذا أخروا الصلاة اُصليها لوقتها، ثم اُصلي معهم نافلة مخافة الفتنة)( [57]).


وروي هذا المعنى عن أبي ذر(رضي الله عنه) أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة؟! ثم قال: صلّ الصلاة لوقتها ثم انهض فإن كنت في المسجد حتى تقام الصلاة فصل معهم( [58]).


ومن الواضح أن الصلاة معهم تقية ولأجل المداراة، ولم يقل: أعدها معهم ليكون من أجل ادراك الجماعة.


وروي أن الحجاج بن علاط السلمي قال بعد أن أسلم: يا رسول الله، إن مالي عند امرأتي بمكة ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي فلا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، لابدّ لي من أن أقول، (أي أتقّول وأذكر ما هو خلاف الواقع، أي ما أحتال به لما يوصل إلى أخذ مالي)، قال: قل... الحديث( [59]).


وروي أنه قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئاً، فأذن له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول ما شاء( [60]).تقيّة ابن عمر وغيره في الزكاة:


قال أبان: دخلت على الحسن وهو متوار زمان الحجاج في بيت أبي خليفة، فقال له رجل: سألت ابن عمر أدفع الزكاة إلى الاُمراء؟ فقال ابن عمر: ضعها في الفقراء والمساكين. قال: فقال لي الحسن: ألم أقل لك إن ابن عمر كان إذا أمن الرجل قال: ضعها في الفقراء والمساكين( [61]).


وكان الثوري يقول: إن اكرهوك (يعني على دفع الزكاة) فهو يجزي عنك، ولا تدفعها إليهم( [62]).


وكان معمر يقول: ما أخذوا منك أجزأ عنك وما خفي عنهم فضعها في مواضعها( [63]).


أقوال المفسرين:النيسابوري:


وللتقيّة عند العلماء أحكام:


منها: أنه إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه...


ومنها: أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم. قال أتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، فتركه. ودعا الآخر وقال: أتشهد أن محمد رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني اصم ـ ثلاثاً ـ فقدّمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه، ونظير هذه الآية: (إلاّ مَن اُكرِهَ وقَلبه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ).


ومنها: أنها تجوز فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما الذي يرجع إلى ضرورة كالقتل والزنا وغصب الإموال وشهادة الزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتة.


ومنها: أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوزها بين الكافرين محاماة على النفس.


ومنها: أنها جائزة لصون المال ـ على الأصح ـ كما أنها جائزة لصون النفس لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): حرمة مال المسلم كحرمة دمه، ومن قتل دون ماله فهو شهيد.


قال مجاهد: كان هذا أول الاسلام فقط لضعف المسلمين. وروى عوف عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة وهذا أرجح عند الأئمة( [64]).الفخر الرازي:


قريب منه جداً( [65]).القرطبي:


قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جدّة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوّهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً. وقال الحسن التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل... والتقية لا تحل إلاّ مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم..( [66]).ابن كثير:


... إلاّ من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته( [67]).الطبرسي:


... التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا: إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز في الأفعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين( [68]).الطوسي:


والتقيّة ـ عندنا ـ واجبة عند الخوف على النفس، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها( [69]).الطباطبائي:


وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة، والاعتبار العقلي يؤيده، إذ لا بغية للدين ولاهمّ لشارعه إلاّ ظهور الحق وحياته، وربما يترتب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها. وإنكار ذلك مكابرة وتعسف( [70]).موارد التقية:


من خلال الاستعراض السابق لما في كتب الفقهاء والمفسرين والروايات عند الطرفين يظهر اتفاق الجميع على جواز التقية في الجملة. لكن هناك خلافات في التفاصيل والأحكام والموارد.


ففي زمان التقية ذهب مجاهد إلى حصر جوازها في صدر الإسلام زمان ضعف المسلمين، وأما بعد قوتهم وعزّتهم فلا. وهذا بالحقيقة يرجع إلى دعوى انتفاء موضوعها الذي هو الاضطرار ولأجله لم يوافقه على ذلك المحققون وأهل العلم.


وباعتبار المتقى منه يظهر من اكثر العبارات أن التقية الجائزة عند تسلط الكفار والخوف على النفس منهم فللمسلم اظهار كلمة الكفر، كما هو مورد الآيات الشريفة المستدل بها وبعض الأخبار كقصة مسيلمة الكذاب. إلاّ أنه لما كان المورد لا يخصص الوارد إذا كان حكماً عاماً ذهب آخرون إلى أن الحالة بين المسلمين إذا اشبهت الحالة بين الكافرين وحصل خوف على النفس من إظهار شيء من الأحكام والمعتقدات الدينية جازت التقية وذهب إلى ذلك الشافعي ـ كما تقدم ـ والتزمت به الشيعة.


وكذلك يظهر الخلاف حول الموارد التي يتّقى لأجلها، فمن قائل أنها خاصة في مورد الخوف على النفس من التلف، ومن قائل بالتعدّي إلى موارد الخوف على المال، إذ إن من قتل دون ماله فهو شهيد، وعصمة مال المسلم كعصمة دمه.


والحقيقة أن هذا الخلاف ناشئ من اختلافهم في مبنى جواز التقية من جهة، وفي النظر إلى الحالة التي عليها المسلمون وأنها تشكل موضوعاً خارجياً مجوزاً لها أم لا. فمثلاً عندما يسأل الفقيه عن حكم أكل لحم الميتة، فتارة يجيب بالحرمة بالنظر إلى الأدلة الأولية، واُخرى يجيب بالإباحة كما لو رأى أن المكلف فعلاً مضطر لتناوله ـ كما في فرض المخمصة ـ وأحياناً يقول أنها محرمة مالم تحصل الضرورة، وهذا أدق اُسلوب في بيان الأحكام الشرعية. وعليه أيضاً يبنى الخلاف حول كونها رخصة أو كونها واجبة.


التقية إنما شرّعت لصون الأنفس والأعراض والمهم من الأموال، واُبيح للمؤمن أن يرتكب ما يحرم شرعاً بحسب العنوان الأوّلي لأجل ذلك، فهي اذن داخلة فيباب التزاحم بين الأحكام. ومن المعلوم أنه في هذا الباب يراعى الأهم مقابل المهم. ومن هنا يتبين إمكان وضع قاعدة كليّة على أساسها يشخص حكم التقية بحسب المتقى منه وبحسب المورد وبحسب شخص المكلف.


عن الباقر(عليه السلام): جعلت التقية ليحقن بها الدّم، فإذا بلغ الدّم فلا تقية( [71]).


فإذا كان إظهار العقيدة لا يشكل بنظر الشارع مورداً له من الأهمّية ما لحفظ النفس أو العرض أو المال، قدّم الثاني عليه واُبيح له اخفاء العقيدة. وكذلك بالنسبة للبراءة من أعداء الله الواجبة أو موالاتهم المحرمة.


أما إذا كانت مسألة إظهار العقيدة وما يستتبعها من لوازم على درجة من الأهمية، بحيث نعرف أهميتها القصوى وأن الشارع المقدس يقدمها على كل شيء، فلا شك هنا بأن التقية تحرم.


والموارد تختلف، فإن المؤمن العادي إذا أسره العدو وطلب منه الخروج من دينه أو ارتكاب ما يحرم في عقيدته، ولم يكن هناك في الممانعة والإصرار أي فائدة تذكر تعود على الدين كان حفظ نفسه أهمّ. أما إذا كان إنساناً آخر له منزلة ومكانة بحيث يشكل ذلك منه طعناً في صحة الدين والمذهب، ويؤدي إلى فتنة المؤمنين عن عقيدتهم، فلا شك هنا أنه ليس له أن يتقي بل عليه بالصبر والجهاد.


وكذلك الأمر بالنسبة لاختلاف موارد المتقى فيه، فإن المطلوب من التقية حفظ النفس أو العرض أو المال، فلو كان ذلك يتوقف على قتل الغير أو انتهاك عرضه أو سرقة ماله لم يتحقق ملاك جواز التقية، لأنها شرعت وجعلت ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية.


فالتقية إذن مثلها مثل اكل لحم الميتة ومثل الدخول في ملك الغير، وغير ذلك من المحظورات التي تباح عند الضرورة وعندما يزاحمها حكم آخر أهم في نظر الشريعة الإسلامية المقدسة.


ولأجل هذا لا يوجد اي داع لوضع القيود وتخصيص التقية في هذا المورد دون ذاك، إلاّ إذا كان باعتبار النظر إلى الموضوع الخارجي وتشخيص الحكم الشخصي للمكلف أو المورد.


وهذا هو الذي تدل عليه رواياتنا الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام):


فقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال: التقيّة في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له( [72]).


وروي عنه أيضاً: التقية في كل ضرورة( [73]).


وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز( [74]).


وعنه(عليه السلام) أنه قال: ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه( [75]).


وعنه(عليه السلام) قال: وإن التقية لأوسع مما بين السماء والأرض( [76]).


يفهم من مجموع هذه الروايات وغيرها أن التقية تتسع لكل الضرورات، بشرط أن يكون هناك مصلحة في التقية أهم بنظر الشريعة المقدسة من المصلحة الفائتة بسبب الالتزام بها. ولا شك أن تحديد الأرجح من حيث الأهمية قد لا يتأتّى دائماً إلاّ ببيان وتصريح من الشريعة نفسها، ولأجل ذلك ورد في بعض النصوص نهي عن التقية في شرب المسكر وفي المسح على الخفين كما في الرواية الواردة عن الامام الصادق(عليه السلام): التقيّة في كل شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفين( [77]).


وفي حديث آخر عنه(عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية( [78]).


فهذان الموردان يحتمل أن يكون استثناؤهما من جهة أهمية المورد في نظر الشريعة، فلا يقدم عليهما مصلحة، ولا يباح الاتقاء فيهما، وهو ما نستبعده خاصة في مورد المسح على الخفين، وخاصة إذا كان الخوف على النفس، ويحتمل أن يكون ذلك من جهة علم الإمام(عليه السلام) بعدم حصول الاضطرار للاتقاء فيهما، خاصة في المجتمع الإسلامي الذي هو المحيط الذي يتحدث عنه الإمام(عليه السلام)، حيث أن المسكر كان مسلّم الحرمة وربما من ضروريات الدين حرمته، والمسح على الخفين لا يقول أحد بوجوبه تعييناً، فبإمكانه اختيار المسح على البشرة دون محذور، أو لكون المكلف في مندوحة يتمكن فيها من أداء المسح على البشرة دون أن يلفت إليه أحداً، كأن يمسح أثناء تقديم قدميه للغسل وأمثال ذلك، وإلاّ فلا يعقل أن يأمر الإمام(عليه السلام) المكّلف أن يضع نفسه في معرض التلف في سبيل ترك المسح المذكور.


ثم إن تشخيص الضرورات والموارد التي يتقى فيها يخضع لدراسة الظروف والخصوصيات التي تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن شخص إلى آخر. وإلى هذا الأمر يشير النص الوارد عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به( [79]).


إن كل شخص إذا درس الواقع المحيط به، وعرف طبعاً درجات الأحكام من حيث الأهمّية، يمكنه أن يحدّد الحالة التي هو فيها، والضرورة وعدمها، ومقدارها، ثم بعد ذلك يطبق التقية.


ولابدّ من التعدّي في دراسة الضرورات إلى غايات اُخرى أبعد من حفظ النفس وصون المال والعرض، وإذا كانت هذه الضرورات محور كلام الفقهاء والمفسرين فلأنها الأغلب ابتلاءً، وإلاّ فإن التقية من أجل حفظ نفس الشريعة وبيضة الإسلام تدخل في الأولويات التي لا يقدم عليها شيء، فإن بعض انحاء التقية تساوق ما يطلق عليه في القاموس السياسي بمرحلة العمل السري، وما اصطلح عليه في دراسات السيرة والتاريخ الإسلامي بمرحلة الدعوة السرية، وهذا النوع من الظروف لم يكن مختصاً ببدايات الدعوة، وإنما هو يتكرر كلما مرّ الإسلام بمآزق سياسية وكلما عادت حالة الجاهلية لتحكم الواقع من جديد. والإنصاف أن عصرنا هذا ـبالذات ـ يشهد حالة لا تقل عن بداية الدعوة الإسلامية خطراً وصعوبة، وفي كثير من البلاد الإسلامية فضلاً عن غير الإسلامية، فعندما يكون هناك تشكيلات إسلامّية منظمة تعمل في ظل نظام جائر أو نظام كافر، لا شك أن ضمان موفقيتها لتحقيق الأهداف التي تعمل من أجلها، يتوقف على السرّية والكتمان، وقد يتوقف أحياناً على التظاهر بالولاء للنظام والدخول في أجهزته، ولا يمكن لأي حركة سياسية ولا عسكرية أن تحقق نجاحاً إذا بنت عملها على أساس الإذاعة والإعلان عن كل أهدافها وتحركاتها ونواياها.


نعم.. شرعية العمل بالتقية في مثل هذه الحالات لا تنفك عن شرعية أصل التحرك وشرعية تلك التشكيلات وأهدافها، وهذا مفروغ عنه.


التقية في واقعها اُسلوب عمل، وفن قائم بذاته، فتارة يكون لأغراض شخصية كصون النفس والمال، وهذا يشترط فيه أولاً عدم الإضرار بالقضايا العامة الكبرى، والذي عبرت عنه الرواية بالفساد في الدين. واُخرى يكون لأهداف دينية وسياسية فيدخل حينئذ ضمن الخطط التي ترسمها القيادة، ويؤمر بالالتزام بها الأفراد من أجل حفظ المسيرة المعينة أو ضمان نجاحها في تقحيق أهدافها.


وفي المراحل السياسية العصيبة التي تمر بها عادة الحركات والتنظيمات يكون حفظ الأفراد وصيانتهم وإنقاذهم من مخالب الفتك ومن ثم حفظ حالة التماسك والارتباط معهم من الأهداف المهمة التي يخطط لها، وذلك لإبقاء أرضية العمل بانتظار الظرف المؤاتي والملائم.


والدراسة الواعية للتقيّة التي اشتهرت عند أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، والتي كانوا يمارسونها ويأمرون شيعتهم بالتقيّد بها لا تخرج عن هذا النطاق.لمحة عن الظروف التي دعت الشيعة للعمل بالتقيّة:


يسعى العديد من الكتاب لتصوير التقية بنحو يدعو إلى الاشمئزاز والنفور من التشيع الذي يبيحها ويقرّها. فهم تارة يعتبرونها نوعاً من النفاق والخداع، وأنها حالة سلبية التصقت بتاريخ شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، وهذا ينطوي على مغالطة عجيبة، من جهة التلاعب بمفهوم النفاق وتطبيقه على التقية، ومن جهة غض النظر والإعراض عن الظروف السياسية والدواعي التي ألجأت الشيعة بالخصوص إلى هذا الاُسلوب من العمل وهذا النمط من العيش القاسي.


والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ أحد اُمور:


1 ـ الانطلاق من حالة التعصب والعداء الموروث لشيعة أهل البيت(عليهم السلام)، الأمر الذي جعلهم ينظرون بعين السخط ولا يرون إلاّ الجوانب السلبية ولا يعدّون إلاّ العثرات والعيوب ـ طبعاً بحسب نظرهم وزعمهم ـ .


فالمؤسف أن البعض يفكر بمنطق الجزار تجاه الخروف، الذي يرى أن الخروف عليه أن يستسلم لسكينه، وأن لا يبدي أي حراك ليتمكن من أداء وظيفته الإنسانية!!


هذا الفريق ممن يفكر بهذا الشكل لا يرضيهم إلاّ أن تقدم رقاب الشيعة إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم، ويزعجهم أن يتمكن أحدٌ منهم بحسن التصرف من انقاذ نفسه من قيودهم.


هذا المنطق هو الذي تخاطب الصهيونية ودول الاستعمار به شعوب العالم الثالث، نحن نشاهد كل يوم في عدد من نقاط التوتر كيف يحتج المعتدي والمحتل بشدة على المقاومة التي تواجهه وعلى طلاب التحرر وأصوات الاستقلال، وهؤلاء في منطق المعتدين إرهابيون قتلة، وحشيون لا يعرفون من الحضارة شيئاً فيجب القضاء عليهم.


في نظر أصحاب هذا المنطق لا يحق للشعوب المستضعفة أن تطالب بحريتها ولا أن تمدّ يدها إلى السلاح، اللهم إلاّ إذا أراد أولئك الأسياد استخدامهم في تحقيق مآربهم الخبيثة، وليس أمامهم إلاّ التسبيح بحمد المحتل الغاصب والمعتدي الغاشم.


2 ـ الوقوع تحت تأثير الإعلام الموجه للأجهزة الحاكمة في العصور التي تلت استيلاء الأمويين على الخلافة الإسلامية، وقراءة الأحداث السياسية التي كتبت بأقلام مرتزقة تلك الأجهزة وفي قصورها. ولاشك أن الجهاز الحاكم في كل زمان ـوخاصة إذا كان مطلق العنانـ يصور كل شي بالطريقة التي توافق أهواءه وتخدم سلطانه.3 ـ حالة التقليد التي كثيراً ما يبتلى بها أصحاب الأقلام، فيتابعون من سبقهم دون أن يتعبوا أنفسهم بالبحث والتحليل. ولا تعجب إذا ذكرت لك أن كبار كتاب عصرنا يعانون من هذا الداء.أحمد أمين، الكاتب المصري المعروف، التقى بالمجدد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وكان قد كتب فجر الإسلام، فعاتبه كاشف الغطاء على تجنيه على التشيع في كتابه واتهامهم بما لا واقع له، فلم يكن اعتذاره إلاّ أنه لم يكن يملك مصادر شيعيّة حين كتب ذلك. وهذا العذر أقبح من الذنب ـكما ترىـ ، والنتيجة أنه كان مقلداً في كتاباته لمن سبقه من أصحاب هذا المنحى.بعض المفكرين الإسلاميين الكبار زاره وفد من علماء الشيعة فاستقبلهم في مكتبته العامرة، وأعجب أحدهم أن يسأل هذا المفكر عن كتب الشيعة التي تضمها مكتبته، فكان الجواب: المختصر النافع في فقه الإمامية فقط.وأمثال هؤلاء كثير وكثير.4 ـ العامل الأخير الذي لا اُحب ذكره هو الارتزاق، فإن البعض يوظف قلمه لرواد التفرقة ومثيري الفتن، سعياً وراء بعض المغريات الماديّة التي يقدمونها، والأقلام أحياناً أمضى من السيوف، وأحدّ من النصول، وأشد فتكاً من الذئب إذا شد بالغنم.هذه الاُمور مجتمعة أو البعض منها هي التي تدفع البعض للمضي في اثارة الفتن وتشويه صورة الواقع، وتشارك في تعقيد المشكلة وتكريس الفرقة بدلاً من لمّ الشمل ورتق الفتق، وبدلاً من الدراسة المنصفة والمجردة للواقع التاريخي المؤلم الذي عشنا ـ وما نزال نعيش ـ فيه.يقول الشيخ الطوسي (ت 460 هـ):لم تلق فرقة ولا بلي أهل مذهب بما بليت به الشيعة، حتى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدم سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقيّة، ولا حالاً عريت فيه من قصد السلطان وعصبيته وميله وانحرافه( [80]).لقد كان سلاطين الجور والظلم وولاتهم وادواتهم يسومون الشيعة سوء العذاب، عملت فيهم سيوفهم تقتيلاً، وتعب جلادوهم، وملّتهم ظلمات السجون، دمهم مهدور، ومالهم حلال، وحرماتهم مهتوكة. لقد كانوا يقتلون على الظن والتهمة تحت كل حجر ومدر.وفي كل عصر، كان أهل الأطماع يتقربون إلى سلاطين زمانهم بما يبيح لهم أن يرتكبوا ما يرتكبون، هذا ما دفع الشيعة لاتخاذ التقية وقاءاً مخافة الاستئصال، وجرياً على قاعدة العقلاء في مثل هذه الابتلاءات، ولعمري إن عملهم ذاك كان دليلاً على رجحان عقلهم وقوة حكمتهم وفقههم.1 ـ في عصر بني اُميةروي عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام)أنه قال لبعض أصحابه: يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس.. (الى أن قال) ثم لم نزل ـأهل البيتـ نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عُظْمُ ذلك وكُبْرهُ زمن معاوية بعد موت الحسن(عليه السلام)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن او نُهب ماله، أو هُدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد، إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي( [81])..لقد فاقت معاناة الشيعة من ظلم بني أمية كل حدّ، ولم تكد تستقر لهم القيادة بعد صلح الإمام الحسن(عليه السلام)، حتى بدأوا بحرب الإبادة ضد العلويين والشيعة في شرق البلاد وغربها.يقول ابن أبي الحديد: روى المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية نسخة واحدة الى جميع عماله بعد عام الجماعة( [82])، أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته. فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام)فاستعمل عليهم زياد ين سميّة، وضم إليه البصرة، فكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام عليّ(عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم( [83]).وكان من ضحايا الجور الأموي أيام معاوية حجر بن عدي الكندي وأصحابه، شهداء مرج عذراء في الشام، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبدالرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد حياً، وميثم التمار، ورشيد الهجري وعبدالله بن يقطر الذين شنقوا في كناسة الكوفة.وبعد أن قضى معاوية خلّف يزيد فأبدع اكثر من أبيه في قتل الشيعة وأهل البيت(عليهم السلام) فكانت وقعة الطف وما سبقها وما لحقها من أحداث، ووقعة الحرة واستباحة المدينة، وحاله غني عن الوصف، ومع هذا يصر حشويّة العصر على تسميته بأمير المؤمنين والدفاع عنه.ثم تفاقم الأمر بعذ ذلك، وولّي عبدالملك بن مروان فاشتد على الشيعة، وولّى الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه.. حتى أن انساناً وقف للحجاج، فصاح به: أيها الأمير، إن أهلي عقّوني فسمّوني علياً( [84])..هذه صفحة صغيرة ونبذة يسيرة من ظلم بني أمية للشيعة، وقد شحنت كتب التاريخ بالكثير من أمثال ذلك، وبإمكان الإنسان من خلال هذا وذاك أن يتصور حالة الشيعة الموالين لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، الذين حكم عليهم أن يتحملوا الفقر والمسكنة والتشريد والقتل والتعذيب، أو يكتموا عقيدتهم في الإمامة وولايتهم لأهل البيت ويتظاهروا بالرضا والقبول بالأمر الواقع، فماذا يحكم ا لعقلاء؟!.2 ـ في عصر بني العباسولم يختلف الحال مع دولة بني العباس بل تابع حكامهم سنة من سبقهم في مطاردة الشيعة واقتفوا أثرهم، في القتل والتنكيل بهم، بل كانت المحنة أعظم والبلاء أشد في ظل بني العباس ولقد اعترف أبو جعفر المنصور في بعض كلامه فقال: قتلت من ذرية فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمد( [85])..ولقد كان هذا القول منه في حياة الإمام الصادق(عليه السلام)، أي في صدر خلافته فكيف بمن قتلهم بعد ذلك( [86])!!وتركه للإمام الصادق(عليه السلام) لم يكن عن حبّ له ووفاء لابن عمه ولرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد عزم عدة مرات على قتله لكنه في كلّ مرة كان ينصرف في اللحظات الأخيرة، خوفاً من الآثار السياسية التي يمكن أن يتركها ذلك على استقرار سلطانه، وكان يدرك آثار قتل الإمام الحسين(عليه السلام) على ملك الأمويين من قبل.وقال للإمام الصادق(عليه السلام) مرة: لأقتلنّك ولأقتلن أهلك حتى لا اُبقي على الأرض منكم قامة سوط( [87])..وكان من فظيع جرائمه أن ترك خزانة مملوءة من رؤوس العلويين ميراثاً لولده المهدي، وقد علّق في آذانهم أوراقاً يستدل بها على صاحب كل رأس. ومن بينها رؤوس شيوخ وشبان وأطفال( [88]).وبعضهم كان يدفن حياً، وبعضهم يوضع في اُسطوانات ويسمر في الحيطان حتى يموت صبراً( [89]). ومن جرائمهم أيضاً أنهم كانوا يتركون ضحاياهم أحياناً بلا دفن حتّى تبلى أجسادهم وهم في قعر السجن. وهكذا كلما رحل طاغية خلفه طاغية، فلم يستقر للشيعة بال ولم يهنأ لهم عيش( [90]).يصف أحمد أمين حال الشيعة وأئمتهم تحت ظل بني العباس، فينقل رسالة لأبي بكر الخوارزمي في هذا الشأن، يقول: .. هذا ما فعله العباسيون مع أئمة الطالبيين، ولم يكن تنكيلهم بمن تشيع من عامة الناس بأقل من ذلك، فأبومسلم الخراساني سلّط أعوانه على آل أبي طالب يقتلهم تحت كل حجر ومدر ويطلبهم في كل سهل وجبل، وملئت سجون المنصور والرشيد بالعلويين ومن تشيع لهم، ويموت إمام من أئمة الهدى فلا تشيع جنازته، ولا تجصص مقبرته، ويموت (ماجن للعباسيين) أو لاعب أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عند القواد والولاة، ويسلَم فيهم من يعرفونه دهرياً أو سوفسطائياً، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً أو مانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمّى ابنه علياً.. ويتكلم بعض شعراء الشيعة في ذكر مناقب الوصي، بل في ذكر معجزات النبي، فيقطع لسانه ويمزق ديوانه، كما فعل بعبدالله بن عمارة البرقي( [91])، وكما نبش قبر منصور النمري( [92])، حتى إن هارون والمتوكل كانا لا يعطيان مالاً ولا يبذلان نوالاً إلاّ لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الاُدباء مثل عبدالملك بن قريب الاصمعي..ثم قال: يقتلون بني عمهم جوعاً وسغباً، ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهباً، يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري، ويولّون أنباط السود وزارتهم، وقلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث اُمهم وفيء جدهم، يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز وصدقات الحرمين والحجاز تصرف إلى ابن أبي مريم المدني، وإلى ابراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي( [93])، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، ويُقطع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وبغا التركي والأفشين الأشروسني كفاية اُمة ذات عدد.. والقوم الذين اُحل لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضراً، ويهلكون فقراً.إلى أن قال: ومثالب بني اُمية على عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشناعتها، صغيرة وقليلة في جانب مثالب بني العباس الذين بنوا مدينة الجبارين وفرقوا في الملاهي والمعاصي اموال المسلمين( [94])..والرسالة طويلة نقلنا قطعة منها على طولها نظراً لاحتوائها من دقيق الوصف ما يفي بمطلوبنا.وخير شاهد على محنة الشيعة أن نصر بن علي الجهضمي المحدّث الكبير،لمّا حدّث بهذا الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من أحبني وأحبّ هذين ]يعني الحسن والحسين[ وأباهما واُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة( [95])، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، حتى كلّمه في شأنه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه( [96]).قال الخطيب البغدادي: إنما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنه رافضياً، فلما علم أنه من أهل السنة تركه( [97]).يا ليت جور بني مروان دام لناوليت عدل بني العباس في النار( [98])هذه صفحات مظلمة من التاريخ الذي مرّ على آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وأئمة العصمة، ومواليهم وأتباعهم، ولقد أصبحت نتيجة لتقادم الزمان سنة مستمرة يلتزم بها، ويتأسى بها كل حكّام الجور وسلاطين الدهر وولاتهم وأدواتهم.من يقرأ التاريخ بدقّة وتمعّن يجد أن الظروف التي أحاطت بالتشيع لأهل البيت(عليهم السلام) عبر القرون كان من شأنها أن تمحو أثره وتأتي عليه، لولا العناية الإلهية وصبر الشيعة وحكمة أئمتهم الذين زرعوا في قلوب أتباعهم ومحبيهم عقيدة راسخة لا تزول.من يقرأ هذه المحن والمآسي يدرك السر الذي جعل الشيعة دون غيرهم يشتهرون بالتقية رغم أنها من المسائل غير المختصة بهم ـكما تبيّن معناـ، ويدرك السر الذي يكمن وراء هذا التأكيد والتشديد على الالتزام بالكتمان والتقية، فقد كانت الوسيلة الوحيدة لحقن الدماء والتخلص من هذا الواقع المؤلم.ولقد أثبت التاريخ في قضية خلق القرآن التي امتحن بها علماء أهل السنة أن الكل يلجأ إلى التقية إذا أعيته الحيلة وصعبت عليه طرق الخلاص.محنة خلق القرآنمن المسائل التي احتدم الجدل حولها في القرن الثاني الهجري مسألة خلق القرآن، وقد كان جمهور أهل السنة يقولون بأن القرآن غير مخلوق، إلى أن جاء المأمون العباسي وأراد إجبار أهل العلم على القول بخلق القرآن ووقع في سبيل ذلك من الحوادث المؤلمة ما يصوره لنا السيوطي فيقول:وفي سنة ثمان عشرة ]يعني بعد المئتين[ امتحن الناس بالقول بخلق القرآن، فكتب ]يعني المأمون[ إلى نائبه على بغداد اسحاق بن ابراهيم الخزاعي.. في امتحان العلماء كتاباً يقول فيه: .. فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا أثق بمن لا يوثق بدينه، فإذا أقّروا بذلك ووافقوا، فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك.وكتب المأمون إليه أيضاً في إشخاص سبعة أنفس، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن ابراهيم الدورقي، فاُشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه، فردّهم من الرقّة إلى بغداد، وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولاً، ثم أجابوه تقيّة.وكتب إلى اسحاق بن ابراهيم أن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون، فكان يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفاً من السيف.ثم كتب المأمون بإحضار من امتنع، فاُحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد الكندي، وأبو حسان الزيادي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيدالله بن عمر القواريري، وعلي بن الجعد، وسجادة، والذيال بن الهيثم، وقتيبة بن سعد، وسعدويه الواسطي، وإسحاق بن أبي إسرائل، وابن الهرس ]الهرش[، وابن علية الأكبر، ومحمد بن نوح العجلي، ويحيى بن عبدالرحمن العمري، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وغيرهم، وعرض عليهم كتاب المأمون، فعرّضوا وورّوا، ولم يجيبوه ولم ينكروا.. ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، لا أزيد على هذا( [99]). ثم امتحن الباقين وكتب بجواباتهم. وقال ابن البكاء الأكبر: أقول: القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك، فقال له اسحاق: والمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول: مخلوق.ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون، فورد عليه كتاب المأمون:.. فأما بشر فقد كذب.. فإن تاب فأشهر أمره، وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقاً بكفره وإلحاده فاضرب عنقه. .. (الى ان قال): ومن لم يرجع عن شركه ـممن سميت بعد بشر وابن المهديـ فاحملهم موثقين اِلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف، قال: أجابوا كلهم عند ذلك، إلاّ أحمد بن حنبل، وسجادة، ومحمد بن نوح، والقواريري، فأمر بهم اسحاق فقيدوا، ثم سألهم في الغد وهم في القيود، فأجاب سجادة، ثم عاودهم ثالثاً فأجاب القواري، ووجه أحمد بن حنبل ومحمد بن نوع إلى الروم.ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين فغضب وأمر بإحضارهم إليه، فحملوا إليه، فبلغهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه، ولطف الله بهم وفرّج عنهم( [100]).ولقد انعكست هذه المحنة على توثيقات أهل الجرح والتعديل، وطعن في بعض من استجاب، وبرر بعضهم لهم ذلك وعذرهم لكونهم كانوا في حال التقية. فعلى سبيل المثال كان ابن المديني (من شيوخ البخاري) يقول: خفت أن اُقتل، ولو ضربت سوطاً واحداً لمتّ. ولم يطعن في وثاقته بسبب قوله بخلق القرآن في تلك الظروف; رغم أنه تجاوز ذلك إلى التزام مجلس القاضي أبي داود المعتزلي واقتدائه به في الصلاة( [101]).ولما طعن الخطيب في اسماعيل بن حماد بسبب مقالته في القرآن، قال السبط: إنما قاله تقية كغيره( [102]).ولقد دافع ابن كثير عن الذين أجابوا بخلق القرآن بأن اجابتهم كانت مصانعة اكراهاً، لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء( [103]). واستمرت هذه المحنة في عصر الواثق العباسي بشكل أشد مما كانت على عهد المأمون، وسجن من أجلها اُناس وجلد آخرون حتى تولّى الأمر المتوكل. وكان يؤيد مقولة القائلين بعدم الخلق. فكان في ذلك فرج من امتحن من قبل.ولم يكن المأمون أول من لجأ إلى القتل والسجن في هذه القضية، بل سبقه هارون الرشيد الذي كان على العكس يتعصب ضد القائلين بالخلق. فيحكى عنه أنه قال: بلغني أن بشراً المريسي يزعم بأن القرآن مخلوق، للّه عليّ إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحداً قط، ولما علم بشر بذلك ظل متوارياً أيام الرشيد( [104]).وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق( [105]).وكان الجعد بن درهم أول القائلين بمقالة خلق القرآن، وقد قتل من أجلها على يد خالد بن عبدالله القسري في أيام حكومته على العراق من قبل بني اُمية( [106]).ولقد كان يكفر كل فريق الآخر بسبب هذه المقالة، وظهر بسبب ذلك خوف كبير واضطر عدد كبير من المحدثين والفقهاء للتستر وكتمان الرأي، مع أنها قضية لا تمت إلى السياسة بصلة، ولا تثير مخاوف الحكام والسلاطين، فكيف يكون حالهم لو ابتلوا بمسألة عقائدية تخالف أهواءهم ومصالحهم السياسية، وكيف نرى حالهم لو قدر الله واستمرت المحنة زمناً طويلاً كما هو حال الشيعة في عقيدة الإمامة.دور التقية في حفظ الدين:يظهر في الوهلة الاُولى من خلال ملاحظة النصوص الدالة على شرعية التقية، أنّ الغاية منها حفظ النفس وحقن الدماء، ولا شك أن التقية تؤدي هذا الدور وتفي بهذا الهدف، وهو في نظر الشارع على درجة من الأهمية، إن لم يكن هناك ما هو أهم، ولأجل هذا حرم الله قتل النفس والتعرض للمهلكات دون غرض صحيح اهم عند الشارع. قال تعالى:(ولا تُلقوا بأيديِكُمْ إلى التهلُكةِ)( [107]).(ولا تَقتُلوا أنفسَكُم إنَّ اللهَ كانَ بِكُم رحيماً)( [108]).كما أن انقاذ النفس إذا تعرضت للخطر واجب، ولو توقف ذلك على ارتكاب بعض المحرمات وجب، كما في صورة الإشراف على الهلاك بسبب الجوع الذي يبيح أكل الميتة، بل يجب على ما يظهر مما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من ترك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار ومات فله النار خالداً مخلداً( [109]).فالتقية لحفظ النفس بحسب الحكم الأوّلي يفترض أن تكون واجبة، وإذا كان هناك من النصوص ما يشير إلى كونها رخصة، فلعله من جهة كون المورد يتضمن فائدة ترجع على الدين بإصراره على اظهار الحق وعدم ممارسة التقية، لكنها ليست فائدة عظيمة في قبال فائدة حفظ النفس فكان المناسب الترخيص.هذا هو الدور الظاهر الذي تقوم به التقية، لكنها قد تقوم بدور أهم واكبر وهو حفظ الدين، وصيانة المجتمع الإسلامي.هذه النقطة بالذات تستحق الوقوف والبحث. فإن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)كانوا يهدفون من وراء ممارسة التقية وتربية أصحابهم وأتباعهم عليها إلى ما هو أبعد من حقن دمائهم، وإن كان هذا أيضاً يقع في مقدمة اهتماماتهم ومورد اعتنائهم.لقد كان أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وباعتبار أنهم يشكلون امتداداً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، يحملون الهموم والقضايا التي كان يحملها نفس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويفكّرون بالاُمة كلّها وبالشريعة بكل تفاصيلها وجزئياتها وبحاضرها ومستقبلها.أمير المؤمنين سلام الله عليه الذي نصبه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إماماً للاُمة من بعده، وبايعه المسلمون بمرأىً ومسمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجد نفسه بعد تجهيز رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ودفنه وحيداً، يقول في كتاب له إلى أهل مصر: فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، وكما يتقشع السحاب. فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه( [110]).فأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي يرى نفسه صاحب هذا الحق، والذي حمل فاطمة والحسنين(عليهم السلام) ودار على المهاجرين والأنصار يقيم عليهم الحجة ويستنهضهم لنصرته، والذي امتنع عن البيعة وبقي جليس بيته، لما وجد أن الدين في خطر كتم جراحه وأقبل ليقف مع منافسيه لأجل غاية أهم وأسمى. هذا بعض أنحاء تقية أمير المؤمنين(عليه السلام).


/ 4