امام الصادق و المذاهب الاربعة جلد 6

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

امام الصادق و المذاهب الاربعة - جلد 6

حیدر اسد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



الجمع بين الصلاتين


لا خلاف بين المسلمين في جواز الجمع بعرفة وقت الظهر بين الفريضتين: الظهر والعصر، كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء للحجاج بين الفريضتين: المغرب والعشاء .


واختلفوا فيما عدى ذلك فمنهم من جوّز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً بعذر السفر عند مالك والشافعي وأحمد .


أما أبو حنيفة فمنع من ذلك وقال: لا يجوز الجمع بين الصلاتين بعذر السفربحال .


قال في الغنية: ولا يجوز الجمع عندنا ـ الحنفية ـ بين صلاتين في وقت واحد، سوى الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة وعند الثلاثة يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت واحد بعذر السفر أو المطر، تقديماً أو تأخيراً، بأن يصلي المتقدمة في وقت المتأخرة([263]).


أما عذر المطر فقد أجاز الشافعي الجمع بين الصلاتين تقديماً في وقت الاُولى منهما.


قال أبو إسحاق الشيرازي: ويجوز الجمع بين الصلاتين في المطر لما روى ابن عباس(رضي الله عنه) قال: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعاً من غير خوف ولا سفر، قال مالك: أرى ذلك في وقت المطر... الخ([264]).وحديث ابن عباس ـ الذي سيأتي ـ لا حجة لهم في جعل المطر مسوّغاً للجمع بل هو مطلق; وإنّما كان رأي مالك أن يكون الجمع لعلة المطر، والحديث كماترى دليل لمن يقول بجواز الجمع مطلقاً; لأنّ تعليل ابن عباس لذلك هو أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن لا يحرج اُمته([265]).قال ابن المنذر: لا معنى لحمل الأثر على عذر من الأعذار، لأنّ ابن عباس أخبر بالعلة وهو قوله: أراد أن لا يحرج اُمته .


مع أنّ مالك بن أنس لم يجز الجمع بين الظهر والعصر بعذر المطر، وقد اختلف أصحابه في ذلك فقال أشهب: أحبّ إليّ أن لا يجمع بين الظهر والعصر في سفر ولا حضر إلاّ بعرفة .


وقد روي عن ابن قاسم في المجموعة ما يقرب من قول أبي حنيفة أنّه قال: من جمع بين المغرب والعشاء في الحضر لغير عذر مرض أعاد العشاء أبداً([266]). وكذلك روي عن مالك كراهية جمع الظهر والعصر بضرورة المطر أو أنّه لايجوزه كما تقدّم .


وأحمد يوافق مالك في جواز الجمع بين العشائين فقط لعذر المطر، لا بين الظهر والعصر سواء قوي المطر أو ضعف إذا كان المطر يبل الثوب ويوجد معه مشقّة، وكذلك يجوز للوحل وريح باردة شديدة في ليلة مظلمة([267]).قال النووي في شرح صحيح مسلم: ـ بعد ذكر أخبار الجمع ـ وأمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال :


منهم من تأوّله على أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن كبار المتقدمين وهو ضعيف بالرواية الاُخرى: من غير خوف ولا مطر .


ومنهم من تأوّله على أنّه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم، وبان وقت العصر دخل فصلاها. وهذا أيضاً باطل، لأنّه وإن كان في أدنى احتمال في الظهر والعصر، لا احتمال فيه في المغرب والعشاء.


ومنهم من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها، فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها فصارت صلاته صورة جمع، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل; لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له، وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل .


ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه ممّا هو في معناه عن الأعذار، وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطّابي والمتولي والروياتي من أصحابنا وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس، وموافقة أبي هريرة، ولأنّ المشقة فيه أشد من المطر .


وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال، عن أبي إسحاق المروزي، عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر ويؤيّده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج اُمته. فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم([268]).وقال أشهب: إنّ للمقيم رخصة الجمع بين الصلاتين لغير عذر المطر ولا مرض .


قال الباجي: وهذا هو قول ابن سيرين([269]).وقال الفخر الرازي ـ في تفسير قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ) ـ بعد أن فسّر الدلوك والغسق ـ ما هذا لفظه: فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال ووقت المغرب ووقت الفجر، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين الصلاتين، وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء، فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً، إلاّ أنّه دل الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب; أن يكون الجمع في السفر وعذر المطر وغيره([270]).


وقال البغوي: حمل الدلوك على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به; ولأنّا إذا حملنا عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلّها، فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر، وإلى غسق الليل يتناول المغرب والعشاء وقرآن الفجر هو صلاة الصبح([271]) .الأخبار


أخرج مسلم عن أنس قال: كان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم يجمع بينهما .


وأخرج عن ابن شهاب عن أنس: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عجّل به السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق([272]).وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر([273]).


وأخرج مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف ولاسفر.


وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)الظهر والعصر جميعاً في المدينة من غير خوف ولا سفر، وأخرجه مالك في الموطأ.


قال أبو الزبير فسأل سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال سعيد: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من اُمته([274]).


وأخرج عن معاذ قال: خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. وعن عامر بن واثلة ـ أبو الطفيل ـ : حدثنا معاذ بن جبل قال جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء([275]).قال أبو الطفيل: فقلت له ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج اُمته .


وأخرج عن ابن عباس قال: صليت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً .


وأخرج مالك بن أنس عن أبي هريرة: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك([276]).وأخرج مالك عن معاذ بن جبل: أنّهم خرجوا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عام تبوك فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً: ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً([277]).


وأخرج أبو داود عن جابر: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف([278]) وهو موضع قريب من مكة.


وأخرج مسلم عن جابر بن زيد عن ابن عباس: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء([279]).وعن عبدالله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال فجاء رجل لا يفتر ولا ينثني فقال: الصلاة الصلاة. فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا اُم لك! ثم قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء .


وقال عبدالله بن شقيق فحاك من ذلك في صدري شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته([280]).وفي رواية اُخرى قال رجل لابن عباس: الصلاة فسكت ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال ابن عباس: لا أم لك! أتعلمنا بالصلاة؟ كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أخرجه مسلم من طريق عبدالله بن شقيق([281]).وأخرج البخاري عن سهل بن حنيف قال سمعت أبا اُمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي كنا نصلي معه([282]).وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يؤخر الظهر، ويعجّل العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / ج6


ويجمع بينهما([283]).


وعن أبي الشعثاء: أنّ ابن عباس صلّى بالبصرة الظهر والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل([284]).* * *


هذه الآثار تدلّ بصراحة على جواز الجمع بين الصلاتين وأنّه مشروع، وعلة تشريعه هي التوسعة على الاُمة وعدم إحراجها بسبب التفريق.


وهذه الآثار منها ما يدل على الجواز في السفر، ومنها ما هو مطلق لا يختص بمورد، وهذا يدلّ على ما نقوله; وأنّ تأويلها على خلاف ذلك أو حملها على شيء غيره أمر لا يتفق مع الواقع، وقد تقدّم ذلك فيما ذكره النووي .


والأحاديث الواردة في جواز الجمع متفق على صحتها، ولزوم الأخذ بها وإن كان البخاري قد أهمل الكثير منها، فذلك لا يضر بعد أن كان تخريجها صلاة المسافر


على شرطه .


وكيف كان فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) شرّع ذلك لئلاّ يحرج اُمته، كما نطقت به الأخبار السابقة وورد ذلك عن أهل البيت(عليهم السلام).


قال الإمام الصادق(عليه السلام): إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علة بأذان واحد وإقامتين .


وعنه(عليه السلام) قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صلى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علة ولا سفر، فقال له عمر: أحدث في الصلاة شيء؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): لا، ولكن أردت أن أوسّع علىاُمتي.


وعنه(عليه السلام) قال: صلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة، وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علة في جماعة، وإنّما فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ليتسع الوقت على اُمته([285]) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب .


* * *


وعلى أيّ حال فإنّ المتتبع المنصف لا يجد دليلاً على منع الجمع في الحضر من غير عذر، وإنّما كان هناك تأويلات وظنون، أو حمل للأخبار على غير مؤداها.


وقد جمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حال العذر كما جمع في حال عدمه; لئلا يحرج أمته. وقد وردت عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) سنة صحيحة صريحة، ونطق الكتاب به كقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)([286]) كما تقدم بيانه في كلمة الرازي السابقة وعليه جمع من المفسرين.


وقد أخذ الشيعة بتلك النصوص الصريحة فجوزوا الجمع، ووافقهم جمع من علماء المسلمين، ولا خلاف بينهم بأنّ التفريق أفضل .


والذي يظهر من مجموع الأقوال وموارد الخلاف أنّ المراد بالجمع بين الصلاتين هو إيقاعهما في وقت واحد تقديماً أو تأخيراً من غير وقوع شيء بينهما من نافلة وأوراد مستحبة .


وإذا نظرنا بعين الواقع فإنّ عمل أكثر الشيعة يقع على جهة التفريق من حيث الالتزام بالنوافل، وأداء المستحبات، وبذلك تقع الصلاة في وقت الفضيلة، ويحصل التفريق. وسنوضّح ذلك إن شاء الله في بيان أوقات الصلاة في الأبحاث الفقهية المستقلة عن هذا الكتاب .


* * *


ولنقف عند هذا الحد من البحث في موضوع الفقه; لأنّنا قد آثرنا أن نبرز كتاباً مستقلاً في الفقه الإسلامي، ونستعرض فيه آراء علماء المذاهب الإسلامية في جميع أبواب الفقه، من عبادات، ومعاملات وغير ذلك. ولعل ما نقوم به في البحث حول موضوع الفقه الإسلامي، والتعرّض لآراء علماء المذاهب هو أعظم خدمة للاُمة الإسلامية، من حيث التقارب والتفاهم في أمر لا بدّ وأن يكشف الخلاف حوله للوقوف على الحقيقة التي احتجبت وراء سحب النعرات الطائفية وحملات المعادين للشيعة ممّن هدد منهج الشيعة مصالحهم وأغراضهم.


ولا أقول بأنّ ما قمت به الآن أو أقوم به فيما بعد ـ إن شاء الله ـ قد انفردت به: أو إنني السابق لسد تلك الثغرة، بل أنا أحد من ساهم في هذه الخدمة، وقد سبق إلى ذلك رجالنا من علماء الدين، ممن لهم السبق في معالجة مشاكل الخلافات الطائفية، وممن أوقفوا أنفسهم لخدمة المسلمين، فألّفوا كتباً في الفقه المقارن قديماً وحديثاً.


ونحن نأمل أن يتّسع هذا المجال وأن لا يستغل الفقه لطائفة دون اُخرى وان يدرس هذا الموضوع بعناية خاصة، بجميع نواحيه; لنصل إلى نتائج مثمرة، تعود على الاُمة بالنفع الكثير من حيث التقارب والتفاهم، وأن يعطي الدارس لنفسه حرية الرأي، والابتعاد عن نزعات الطائفية، ومردياتالتعصب.


* * *


وإنّ الفقه الشيعي الذي يستند إلى كتاب الله وسنة رسوله، ويستمد من ينبوع أهل البيت الذين هم عدل القرآن، وورثة صاحب الرسالة، قد أهمله كثير من الكتّاب غير المنصفين، ومنهم من حكم عليه بأحكام خاطئة، مما يدل على الجهل الناشئ من عدم الاطلاع على مصادر الفقه الشيعي، أو الاكتفاء بالاطلاع على مصادر خصومهم، من دون تحري الصدق فيما يجدونه في كتب الخصوم، تحرياً دقيقاً يوصلهم إلى الحقيقة ذاتها.


* * *


وقد تعرضنا فيما سبق إلى بعض الأحكام الجائرة التي حكموا بها على الشيعة، سواء في عقائدهم، أو فقههم، ممّا لا يستند إلى أدلة أو شواهد نقلية جديرة بالثقة، وقد تداول بعض الناس ذلك دون أن يسائلوا أنفسهم عن صحتها أو خطئها.


وما الفائدة من التجافي عن العدل وإغفال الأمانة وإهمال روابط الأخاء فليس عن ضعف يصدر القول منّا في إهمال أو إغفال الفقه الشيعي، فكل ما يتصل بالشيعة فقهاً وتاريخاً واجه ما هو أعظم من الإهمال والإغفال، فليس وراء الحرب واستهداف القضاء على وجود الشيعة من قِبَل الحكام والمتسلطين وسيلة أشد وأبلغ، وكلنا ندعو ـ رعاية للعلم وحرصاً على عطاء اُمة الإسلام ـ شباب المسلمين أن يلقوا نظرة على الفقه الشيعي ويحكموا بأنفسهم على ما تضمّه اُصولهم ومصادرهم، وأن ينزعوا قيود التقليد والتأثر بمواقف آخرين وقعوا في فخ التفرقة والتعصب دون أن يدركوا ماذا يعني إهمال ثروة من العلم وكنوز من المعرفة وذخيرة من الحِكَم تنبع كلها من ينبوع الرسالة. فلقد كان رجال الشيعة أسبق الناس عملاً لنصرة الحقّ وحرية العقول والحضّ على العطاء.


ونأمل أن لا تكون خطوة وحيدة لا اُخت لها تلك التي أقدمت عليها حكومة مصر، فأخذت من الفقه الجعفري أحكاماً وأدخلتها في قانون الأحوال الشخصية، كما أن طبع كتاب المختصر النافع وهو من كتب فقه الشيعة، من قبل وزارة الأوقاف المصرية يحيي الأمل في إدانة سياسة الحكّام الأقدمين الذين سنّوا سنّة سيئة بمحاربتهم الفقه الشيعي.


ولا تعجب إذا قلت إن شيخ السلفية والتعصب أخذ ببعض آراء الشيعة وأحكامهم، ويبدو أنها كانت باردة وعي قصيرة الأمد.


* * *


ولعلّ في هذا البيان من ذكر اختلاف الآراء وكثرة الأقوال التي تعرضنا لها في الموضوع يسهّل على من يستوعبها أن يتبين انحراف من صوّر الفقه الشيعي في غير صورته الواقعية، وأبرزه على خلاف أغراضه ومبانيه، وما ذلك إلاّ من جرّاء التعصّب الأعمى .


ولسنا نشك بأنّ الحقيقة ستنكشف على نحو لا يقبل الدجل والتمويه، وذلك لما نلمسه من الوعي الاسلامي، والشعور المتزايد بوجوب تدارك خطر الفرقة، وأضرار التعصّب الطائفي، وأنّ ذلك الركام الذي حجب الحقيقة أخذ ينهار يوماً بعد آخر، ويندك ساعة بعد ساعة.


إنّ تلك الأقوال التي أطلقها أصحابها حول الشيعة من دون قيد أو شرط لم تكن صادرة عن تفكير وتدبر، بل أطلقها متحيز غير منصف، أو جامد لايتمتع بحرية الرأي بل هو آلة صماء تتحرك في حيز محدود من غير أن يكون لها دافع أو ضابط من عقل، وذوق سليم .


ولا أشكّ بأن أكثر المنحرفين عن الواقع قد سلكوا في أبحاثهم طريق التقليد للمستشرقين الذين هم دعاة الفرقة، وخدمة الاستعمار وأبطال معركة الخلاف، وهم كما يقول الدكتور أبو الوفاء التفتازاني:


وكان من بين العوامل التي أدّت إلى عدم إنصاف الشيعة أيضاً أن الاستعمار الغربي أراد في عصرنا هذا أن يوسع هوة الخلاف بين السنة والشيعة، وبذلك تصاب الاُمة الإسلامية بداء الفرقة والانقسام، فأوحى إلى بعض المستشرقين من رجاله بتوخي هذا الغرض باسم البحث الأكاديمي الحر، وممّا يؤسف له أشدالأسف أن بعض الباحثين من المسلمين في العصر الحاضر تابع اُولئك المستشرقين في آرائهم دون أن يتفطن إلى حقيقة مراميهم([287]).وقد تعرضت في الجزء الخامس لبعض ما يتعلق بآراء بعض المستشرقين ونواياهم السيئة ولهذا آثرت أن أعود ـ والعود أحمد ـ إلى البحث عن نهجهم في دراساتهم لأنّهم قد دسّوا السمّ بالعسل، ولقّنوا كثيراً من كتّابنا ما يكدر صفو الأخوة الإسلامية .أهمّ المراجع


إنّ الكتب الفقهية التي اعتمدنا عليها في نقل الأقوال ـ في هذا الجزء وفي الجزء الخامس ـ كثيرة لا يمكن حصرها ونحن نشير إلى الأهم منها :


1 ـ المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي ـ مطبعة الحلبي .


2 ـ شرح موطأ مالك للزرقاني ـ مطبعة الاستقامة .


3 ـ شرح موطأ مالك للقاضي أبي الوليد الباجي ـ مطبعة السعادة .


4 ـ غنية المتملي شرح منية المصلي لإبراهيم الحلبي الحنفي ـ طبع استانبول.


5 ـ الهداية للشيخ علي الفرغاني الحنفي ـ مطبعة الحلبي .


6 ـ بدائع الصنائع لعلاء الدين أبي بكر الكاساني ـ مطبعة شركة المطبوعات العلمية سنة (1327 ـ 1328 هـ ).


7 ـ حاشية ابن عابدين الطبعة الاُولى .


8 ـ بداية المجتهد لابن رشد القرطبي المالكي ـ مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1371 هـ.


9 ـ المغني لابن قدامة الطبعة الثالثة ـ مطبعة دار المنار سنة 1367هـ


10 ـ أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي ـ مطبعة الحلبي 1376هـ


11 ـ المبسوط لشمس الدين السرخسي ـ مطبعة السعادة سنة 1324هـ


12 ـ شرح صحيح مسلم للنووي ـ مطبعة حجازي بالقاهرة .


13 ـ شرح العشماوية ـ المطبعة العلمية سنة 1316هـ


14 ـ زوائد الكافي والمحرر على المقنع لعبدالرحمن بن عيدان الحنبلي المطبوع بدمشق .


15 ـ مختصر خليل في الفقه المالكي ـ مطبعة محمد علي صبيح سنة 1346هـ


16 ـ ضوء الشمس للسيد محمّد أبي الهدى الرفاعي الحنفي المطبوع سنة 1301 هـ.


17 ـ نيل الأوطار لمحمّد بن علي الشوكاني ـ الطبعة الأولى سنة 1357 هـ.


18 ـ المحلى لعلي بن حزم الأندلسي ـ إدارة الطباعة المنيرية بمصر .


19 ـ غاية المنتهى للشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي ـ مطبعة دار السلام بدمشق .


20 ـ التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي ـ المطبعة السلفية .


21 ـ الروض الندي في شرح كافي المبتدي لمفتي الحنابلة بدمشق أحمد ابن عبدالله البعلي ـ المطبعة السلفية .


22 ـ السراج الوهاج في شرح متن المنهاج للشيخ محمّد الزهري طبع مصر سنة 1352 هـ.


23 ـ مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج شرح الشيخ محمّد الشربيني الشافعي ـ مطبعة مصطفى البابي 1377 هـ .


24 ـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لأحمد بن حمزة الرملي الشهير بالشافعي الصغير ـ مطبعة الحلبي 1357 هـ.


25 ـ الجوهر النقي في الرد على البيهقي لعلاء الدين علي بن عثمان بن إبراهيم المارديني الشهير بابن التركمان الحنفي .


26 ـ شرح المواهب اللدنية لمحمد بن عبدالباقي الزرقاني .


27 ـ الهادي أو عمدة الحازم في المسائل الزوائد عن مختصر أبي القاسم لابن قدامة .


وغيرها من كتب الحديث والفقه كالصحاح وكتب السنن مما لا يسعنا ذكره كمدونة مالك، والاُم للشافعي، ومختصر المزني، والمجموع للنووي والوجيز للغزالي وشرحه، ومنهاج الطالبين وما يتعلق به من شروح، وملتقى الأبحر، ومراقي الفلاح وغير ذلك، وقد أشرنا للبعض منها في هامش الصفحات .المصادر الشيعية


أما مصادرنا في البحث عن فقه الشيعة فهي من الكثرة بمكان لا يمكن عدها هنا، ولكن أهمها هي :


1 ـ شرائع الإسلام: للشيخ المحقق أبي القاسم الحلي المتوفى سنة 676 هـ.


2 ـ المعتبر له رحمه الله، طبع إيران .


3 ـ المختصر النافع: له، طبع مصر نشرته وزارة الأوقاف بمصر .


4 ـ الخلاف: لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي المتوفى سنة 460 هـ.


5 ـ الانتصار: لعلم الهدى الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ .


6 ـ كشف الغطاء: للشيخ الأكبر الشيخ جعفر الكبير المتوفى سنة 1228 هـ .


7 ـ وسائل الشيعة: للمحدث الشهير الحر العاملي المتوفى سنة 1104([288]).8 ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: للشيخ المحقق الشيخ محمّد حسن النجفي المتوفى سنة 1266 هـ([289]).9 ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: للفقيه المحدث الشيخ يوسف البحراني المتوفى سنة 1186 هـ([290]).10 ـ تذكرة الفقهاء: للشيخ جمال الدين الشهير بالعّلامة الحلي المتوفى سنة 726 هـ([291]).


11 ـ تبصرة المتعلمين: له، تغمده الله برحمته .


12 ـ اللمعة الدمشقية: للشهيد الأول وشرحها للشهيد الثاني المتوفى سنة 786هـ.


13ـ الوسيلة: لعماد الدين محمّد بن علي بن محمّد بن حمزة الطوسي من أعيان القرن الخامس .


14 ـ رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل: للحجة السيد علي الطباطبائي طبع إيران .


15 ـ نكت النهاية: لأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي .


16 ـ مستمسك العروة الوثقى: للإمام الحكيم دام ظله .


17 ـ منهاج الصالحين: له أيضاً .


18 ـ الغنية: لعز الدين حمزة بن علي بن زهرة الحلبي ـ طبع إيران .


19 ـ النهاية: لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ـ طبع إيران .


وغير هذه الكتب التي لا نستطيع تعدادها الآن .


كتّابٌ ومؤلّفون


تمهيد


لا تمرّ فترة من الزمن إلاّ ويطالعنا كتاب يحمل بين طياته أفكاراً هدّامة لكيان المجتمع الإسلامي بعبارات مسمومة ووخزات مؤلمة وحملات ظالمة، وأقوالاً فارغة لا تقف أمام الواقع إلاّ كما يقف الرماد إذا اشتدّت به الريح .


ولقد تطرقت لهذا الموضوع أكثر من مرّة وقضيت وقتاً طويلاً أتصفح تلك الصفحات التي سودت بمداد الحقد ورقمت بأقلام شط بأصحابها سوء التفكير عن الخط الذي يجب أن تسير عليه لخدمة الاُمة وصالح المجموع .


كنت أفكر في الأسباب التي دعت لهذه التهجمات وأتعرف على الوسائل المبررة لما يرتكبه هؤلاء الكتاب من سوء الصنع مع أخوان لهم في الدين يقرون لله بالوحدانية ولمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة ويؤدون فرائض الإسلام وهم مئة مليون أو يزيدون .


وقد قلت: إنّ مهمة المؤرخ عن الشيعة هي أشد صعوبة من مهمة من يؤرخ لغيرهم من طوائف المسلمين، لوجود عوامل وعقبات يجب أن يجتازها المؤرخ بنفسه، لا أن يقطعها على أجنحة التقليد والاتّباع بدون معرفة وتدبر .


وإنّ انفصال الشيعة عن الدولة القائمة آنذاك، وعدم مؤازرتها هو السبب الوحيد لكل ما علّق بهذه الطائفة من عيوب هم برآء منها، حتى تحامى الناس الميل إليهم، فكانت التهم تكال جزافاً .


وأصبح بحكم الظروف القاسية أن تنسب إليهم فرق لا تمت إليهم بصلة، ويلصق بهم أناس لا تربطهم وإياهم روابط الاعتقاد .


وإنّ من يقف على أسماء الفرق المنسوبة للشيعة يجد هناك أسماء بلا مسمّيات، أو أشخاصاً وهمية، ومن الغريب أنّ تعداد فرق الشيعة لا زال بين المد والجزر فهي تبلغ بالعد إلى عشرين ثم يترقى الأمر ويرتفع العدد إلى أكثر فأكثر حتى يبلغ ثلاثمائة كما ذكرها بعضهم لأنّهم يكتبون بدون تثبت وتدبر .


وما دام الخيال واسعاً، والبحث لم يكن على اُسس علميّة، والأقوال تطلق بدون قيد فلا يستغرب أن يصل العدد إلى الألف .


وقد وضّحنا فيما سبق أخطاء كتّاب الفرق، وما ارتكبوه من الخلط والخبط، وأنّهم قد تعصّبوا تعصّباً دفعهم إلى ارتكاب ما لا يغتفر لهم في حقّ الاُمة، ممّا خلفوه للأجيال من تلك الافتعالات، وما اثبتوه من خرافات، وما جنوه من أخطاء في تشويه الحقائق بدافع من الميول والتعصّب والاتجاه في الأبحاث على غير ما تقتضيه الاُصول والقواعد.


* * *


ولقد كان لتحوير الحقائق، والتلاعب بالنصوص التاريخية، دور فعال في بثّ روح البغضاء بين طوائف المسلمين، مما أدّى إلى تفكك أوصال ذلك المجتمع، وقد عاش المسلمون في ظروف ساد فيها القلق، وتركّزت فيها عوامل الحقد; فتبدلت الوحدة بالفرقة، والإخاء بالعداء، والوصل بالقطيعة .


فيجب علينا أن نتساءل عن الفائدة التي حصلنا عليها من هذه الفرقة، كما يجب أن نتساءل عن عواملها وأسباب اتساعها، وننظر بواقعية إلى تلك الأضرار الناجمة عن ذلك التباعد، وهناك يتضح لنا الطريق إلى الحلول الجذرية التي يجب أن تتخذ لرفع تلك الآثار السيئة التي خلّفها سوء الفهم، وعدم الخضوع للواقع .


وعلى أيّ حال فإنّ كثيراً من الكتّاب والمؤلّفين قد تعرّضوا للبحث عن تاريخ الشيعة من حيث عقائدهم، أو آدابهم ; أو تاريخ نشأتهم، أو غير ذلك، ولكن بمزيد الأسف ـ أنّ الغالب من هؤلاء لم يتجهوا بإخلاص للبحث، أو حرية في الرأي، ليدركوا الأشياء على حقيقتها، ويتركوا وراء ظهورهم رؤيا الخيال المريض، ووحي العاطفة الكاذب ليسلموا من ارتكاب الأخطاء وخيانة أمانة التاريخ، لأنّ السير على غير منهج العلم السديد يوقع صاحبه في شباك أخطاء تنحرف به عن الواقع .


* * *


ومن المؤسف له أيضاً أنّ أكثر اُولئك الكتّاب يولعون بتتبع الأساطير والقصص التي لا تثبت صحتها، ليبنوا منها أحكاماً كلها أوهام وخيالات، وإسراف في اصدار النتائج والأحكام بما لا يسيغه العقل ولا يقرّه الوجدان .


وللإيضاح نضع بين يدي القراء ما أورده الدكتور محمّد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون دليلاً لما احتج به على وضع الشيعة للحديث، واتّهم جابر بن يزيد الجعفي التابعي الكبير بوضع الحديث وهو قول انفرد به الدكتور، لأنّ جابراً قد شهد له أقرانه بفضله. ولمّا أعوزت الدكتور الحجة استدلّ بأسطورة من وضع الجاحظ ودعابته.


قال الدكتور: ويعجبني هنا ما ذكره أبو المظفر الاسفرائيني في كتابه التبصير في الدين وهو :


إنّ الروافض ـ والمقصود بهم الشيعة طبعاً ـ لمّا رأوا الجاحظ يتوسع في التصانيف ويصنف لكلّ فريق، قالت الروافض: صنف لنا كتاباً، فقال لهم: لست أدري لكم شبهة حتى ارتبها واتصرف فيها، فقالوا له: إذاً دلنا على شيء نتمسك به. فقال لا أرى لكم وجهاً إلاّ أنكم إذا أردتم أن تقولوا شيئاً تزعمونه تقولون إنه قول جعفر بن محمّد الصادق، لا أعرف لكم سبباً تستندون إليه إلى غير هذا الكلام... فتمسكوا بحقهم وغباوتهم بهذه السوأة التي دلهم عليها، فكلما أرادوا أن يختلقوا بدعة، أو يخترعوا بدعة نسبوا إلى ذلك السيد الصادق، وهو عنها منزّه، ومن مقالتهم في الدارين بريء([292]).


* * *


هذه هي الاُضحوكة التي أعجب بها الدكتور أو الكاتب أو اُستاذ علوم القرآن والحديث أو الاُستاذ بكلية الشريعة بالأزهر الشريف .


لقد أعجب الاُستاذ بما نقله نتيجة لقوة ادراكه، واتساع تتبعه، حتى جاءنا بما لا يتناوله الشك، ولا يهبط إلى مستوى النقد!!


وما عشت أراك الدهر عجباً، لقد بلغت الحالة في الأبحاث العلمية إلى هذا المستوى الشائن، وهل هذا إلاّ لغة الماجن العاجز، الذي لا يستطيع أن يدعم قوله بحجة منطقية، وأدلة عقلية; وقد كشف الدكتور الشيخ عن مستوى مداركه وأعلن عن براعته ومعلوماته .


وقبل أن اُناقش الدكتور ـ مرغماً ـ أودّ أن أذكر استشهاداً آخر بأساطير الجاحظ ودعابته لمؤلف أراد أن يدعم قوله بما ذكره من الاُسطورة، ولعلّه اُعجب بذلك كما أعجب الدكتور الذهبي .


هذا الاُستاذ عبدالحسيب طه حميدة المدرس في كلية اللغة العربية يذكر في كتابه (أدب الشيعة) مستدلاً على أنّ التشيع أصبح بغيضاً إلى النفس وسبيلاً إلى السخرية والتهكم، يقول الاُستاذ نقلاً عن الجاحظ: كان معنا شيخ شرس الأخلاق، طويل الأطراف، وكان إذا ذكر له الشيعة غضب وأربد وجهه وزوى عن حاجبه .


قال الجاحظ: فقلت له يوماً: ما الذي تكرهه من الشيعة؟ فإنّي رأيتك إذا ذكروا غضبت، وقبضت، فقال: ما أكره فيهم إلاّ هذه الشين في أوّل اسمهم فإني لم أجدها قط إلاّ في كلّ شر، وشؤم، وشيطان وشغب ووو... إلخ .


قال أبو عثمان: فما ثبت بعدها لشيعي قائمة([293]). هذا ما ذكر الاُستاذ حميدة.


ولست أدري هل حاسب الاُستاذ نفسه عن مؤدّى هذه السخافة وما هو مورد ذكر هذه الدعابة في موضوع بحث الأدب؟


ولا أستبعد أنّ الاُستاذ المؤلف قد أثارت بنفسه هذه الأسطورة من الاشمئزاز والبغض ما جعله يخرج عن ميزان الاعتدال في كثير من أبحاثه حول الشيعة، ولئن أودع هذا الشيء في نفسه ما أودعه في قلب ذلك الشيخ الشرس فلماذا لم تنشرح نفس الاُستاذ لما في هذا الشين من صفات: الشرف والشهامة، والشجاعة والشهادة والشفاء والشفاعة و. و. و؟


* * *


وأنت تستطيع أيّها القارئ أن تدرك مدى ما بلغت إليه الحالة من التفكك والانهيار، وكيف أصبحت الأكاذيب والأباطيل تحتل مكاناً في عقول من نأمل فيهم التحرر والانطلاق من عقال التعصب؟! سواء نظرنا إليهم من زاوية دينية علميه مشفوعة بالشهادة ـ الدكتوراه ـ والزي ـ العمّة ـ أو من زاوية المراكز والألقاب كحميدة، أم أن الدين لم يبق منه إلاّ الزي، والعلم لم يترك منه الزمن إلاّ التكسب والارتزاق؟


ولقد ظل الجهل يغذّي تلك الخرافات التي سادت في عصور التطاحن المذهبي، وامتد أجلها إلى القرن العشرين، وكانت الطائفية تصونها


وتحميها وتغذي بها عقول من تعطّلت فيهم ملكات التفكير فساروا وراء دعاتها سيرالأغنام .


وإنّ أمثال هذه الأقاويل لها أثر في السيطرة على عقول السذج من الناس يوم كان الصراع محتدماً، والفتنة ترمي بشررها كانت مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)تشقّ طريقها بقوتها الروحية، وتجتاز مرحلة بعد اُخرى في الانتشار، ولم يستطع أيّ أحد أن ينسب للإمام الصادق(عليه السلام) ما يشين بسمعته فهو الصادق في لهجته ـ حتى لقب بذلك ـ القويّ في حجته حتى خضع له كلّ معاند، وكان المنتمون إليه هم حملة الحديث وأوعية العلم .


ولكن خصومه جاءوا من طريق حاولوا فيه الوصول إلى الطعن فيه عبر النيل من طريق أتباعه ليشوهوا سمعة هذه المدرسة، فقالوا إنّ الإمام الصادق مكذوب عليه، وروّجوا ذلك بدعايات ودعابات وسخافات وأساطير وتقوّلات وأكاذيب ليصرفوا الوقائع عن وجهتها ويشوهوا الحقائق ليطعنوا في أصحاب الإمام الصادق وشيعته، إذ أعجزهم علم الصادق وتقواه، كما اعجزتهم عقيدة الشيعة ومتانة أصولها.


وقد مرّ بنا في الجزء الرابع من الكتاب كيف كان الغلاة يدعون حب أهلالبيت وهم يخفون أغراضهم ويضعون الأحاديث ويكذبون على الإمام الصادق وهو يتبرّأ منهم ويشن حملته عليه.


كما اشتهر جماعة كعمر والنبطي باختصاصهم بوضع الأحاديث على الإمام الصادق، وتحفظ لنا التراحم والسير اسم أحد الضعفاء في الحديث وقيل: فيه اجتمعت كلّ عيوب الضعفاء وكان اسمه جعفر بن محمد، وهو مولى يروي عن المجاهيل، جاز على ضعفة العقول أو اتخذه ضعفاء الإيمان وسيلة للطعن، ولعلّ الاُستاذ الذهبي أراد أن يلعب ذلك الدور، فبادر لنقل هذه الاُكذوبة ليكون لها أثر في نفوس من لا حصانة لها عن تقبل الأكاذيب والتأثر بالدعاياتالساقطة.


وصفوة القول إنّ كثيراً من الكتّاب الذين تطالعنا كتبهم بين آونة واُخرى وهي تحمل تلك الأفكار التي تضرّ بصالح المسلمين، وتهدم وحدتهم لا يشعرون بالأضرار الناجمة من وراء ما يكتبون من اُمور لا تستند إلى أدلة أو شواهد جديرة بالثقة، وقد أثبتوا أشياء دون أن يسائلوا أنفسهم عن صحتها أو خطئها لأنّهم لم يتجرّدوا عن التعصّب الطائفي والهوى المذهبي .


كما أنّهم قد استعذبوا ما كتبه المستشرقون فاُعجبوا بذلك الأسلوب الساحر، واعتقدوا بصحة ما يكتبون فحملوا ونقلوا بدون تفكير وتمحيص.


وممّا لا جدال فيه: أنّ المستشرقين أصحاب هوى يصدرون أحكامهم عن عصبية وتحامل على الإسلام، وهم يتبعون الشاذ من الروايات التي أخطأ فيها بعض الرواة،أو الذي تعمده الوضاعون، مما أوضحه علماء الإسلام، فجعلوا من هذا الشاذ المنكر أصلاً يبنون عليه قواعدهم، التي افتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام وهم يغمضون أعينهم عن الحقائق .


يقول الاُستاذ مالك بن نبي: وإنّه لما يثير العجب أن نرى كثيرين من الشباب المسلم المثقف، يتلقون اليوم معتقداتهم الدينية، وأحياناً دوافعهم الروحية نفسها من خلال كتابات المتخصصين الأوربيين([294]).


ويقول الاُستاذ السباعي: ومن المؤلم أنّ طلاب العالم الإسلامي الذين يدرسون باللغة الإنجليزية في بلادهم لا يزالون مضطرين إلى دخول الجامعات الإنجليزية، فلا يجد طلاب الدراسات الإسلامية أمامهم مراجع لدراساتهم التي ينالون بها الدكتوراه غير تلك المراجع المسمومة وهم لا يعرفون اللغة العربية فتقرر عندهم أنّ تلك الدسائس مأخوذة من كتب الفقهاء والعلماء المسلمين أنفسهم([295]).وقد أوضحت فيما سبق أنّ الآراء التي ذهب إليها بعض الكتّاب للطعن على الشيعة ليست من وحي أفكارهم ولا نتيجة لتتبعهم وإنّما هي من مفتريات المستشرقين وافتعالاتهم وبالأخص ما كتبه أحمد أمين وهو كما يصفه الاُستاذ فتحي عثمان: بأنه ضالع في الدراسات الغربية ترجم عن كتابات الغربيين ترجمة مباشرة، وصنّف جامعاً لآرائهم المتناثرة ـ بعد أن هضمها ـ بين دفتي مؤلف واحد، وبلسان عربي مبين، وقد رجع لدراسات المستشرقين في عيون إنتاجه: فجر الإسلام وضحاه وظهره!!! والاُستاذ أحمد يحقّ له أن ينعى على الاقتصار على النقل والقصور في التعليق وإبراز الرأي الشخصي، فقد جرى (رحمه الله) في مؤلفاته على أن يمتص ما يقرأ ثم يعرضه بأسلوبه ومنطقه لاحماً بين النقل والنقد، غير زاخم للكتاب بأرقام الحواشي، وتتابع النصوص والاقتباسات، مكتفياً بإيراد ما رجع إليه من كتب في آخر الباب جملة مستغنياً بذلك عن إيضاح ما رجع إليه صفحة صفحة وفقرة فقرة([296]).هذا ما يقوله الاُستاذ فتحي عثمان، ونحن نزيد ولا نبعد عن الواقع إن قلنا: إنّ المتتبع لما كتبه أحمد أمين لا يخالطه شك بأنّ الرجل مترجم للرأي وناقل لآراء المستشرقين بدون أن ينسبها إليهم بصراحة على أنّها بحث من عنده ويلبسها ثوباً رقيقاً وبدون ريب إنّه كان مقلّداً للغربيين في آرائه وناقلاً لأقوالهم كأنّها له دونهم، وأنّ جميع ما كتبه حول الشيعة إنّما هو للمستشرق ـ ولهوسن ـ و ـ دوزي ـ وغيرهما من المستشرقين الحاقدين على الإسلام وليس له إلاّ النقل والمشاركة في الخطأ .


وممّا يؤيّد ذلك ما نقله السباعي: بأنّ الاُستاذ أحمد أمين قال للدكتور على حسن عبدالقادر ـ وهو الذي اُثيرت حوله الضجة ـ : بأنّ الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لبث ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة ولكن أدفعها إليهم على أنّها بحث منك وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها كما فعلت أنا في فجر الإسلام وضحى الإسلام([297]).* * *


وكيف كان فإنّ أكثر المستشرقين لم تحرر عقليتهم من نظرة التعصّب، ويتوسلون بفروض وهمية ليصلوا إلى تشويه الحقائق العلمية، وتتجلّى من خلال سطور ما يكتبونه عن الإسلام وبني الإسلام روح العداء المستحكم للدين الإسلامي وهذه الروح العدائية للإسلام والمسلمين بقية من بقايا العداء الصليبي .


وهؤلاء كما يصفهم المستشرق النمساوي بقوله: إنّ أبرز المستشرقين الاوربيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي، في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في جميع بحوثهم كما لو أنّ الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنّه موضوع بحث في البحث العلمي، بل أنّه متهم يقف أمام قضاته!!


وإنّ بعض المستشرقين يمثلون دور المدّعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي فهو مع اقتناعه شخصياً بإجرام موكّله، لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة([298]).* * *


وحيث كانوا هم الداء الفاتك وعلة العلل في تغذية روح العداء في العصر الحاضر رأيت أن أعود للبحث عنهم .من هم المستشرقون ؟


المستشرقون قوم من اوربا نسبوا أنفسهم إلى العلم والبحث، وشغلوها في أغلب الأحيان بالبحث في التاريخ والدين والاجتماع، ولكلّ منهم لغته الأصلية التي رضع لبانها من اُمّه وأبيه، ومجتمعه، وبيئته، فصارت له اللغة الاُم كما يعبّرون فهو يغار عليها ويتأثر بها ويستجيب لموحياتها، ولكنّ المستشرقين تعلّموا اللغة العربية بجوار لغاتهم الأصلية، ومع أنّ كثيرين منهم قضوا شطراً كبيراً من تعلم العربية وفي القراءة بها، وعاشوا في أوساط عربية ردحاً من الزمن، نلاحظ أنّ نطقهم بالعربية لم يخل من لكنة ورطانة، وكذلك حين يكتبون بها فما تكاد تسمع المستشرق أو تقرأ له حتى تحس من نبرات صوته أو طريقة كتابته أنّه دخيل في العربية طارئ عليها، وأنّ العربية عنده لغة ثانية لا تسري اُصولها وروحها في عقله أو وجدانه أو شعوره كما تجري لغته الأصلية اللغة الاُم .


ومن هنا كان طبيعياً أن نجد هؤلاء المستشرقين لا يجيدون فهم النصوص العربية فقد يفوتهم عند مطالعتها الكثير من مجازاتها واستعاراتها وخصائصها الأسلوبية والمعنوية، ونجد بعضهم أحياناً يفهم النص العربي فهماً مضحكاً، ولعلّ هذا من الأسباب التي جعلت هؤلاء يفسرون تلك النصوص العربية تفسيراً مضحكاً، كذلك أو يصدرون عليها أحكاماً مضحكة كذلك.


والاستشراق لم ينشأ اعتباطاً ولا مصادفة بل أغلب الظّن أنّه نشأ حسب خطة موضوعة، فإنّ الغرب قد انتهز الفرصة حينما رأى الشرق غارقاً في خلافاته وفتنه واضطراباته، فأقبل عليه بخيله ورجله يحتل دياره، ويستعبد أهله ويستثمر خيراته وطاقاته، ويستبدّ بثمراته وبركاته، ويشوّه معالم عقائده ومبادئه، وخصائص أهله، وكان المسير لهذا الاحتلال والاستبداد هو الأحقاد الدينية، والثارات الصليبية، والضغائن الغربية العميقة الجذور ضد الإسلام والعرب...


وتراهم يولعون بتناول مواطن خاصة، ينالون فيها من الإسلام، ويعرّضون به، كما يولعون بتتبع الأساطير والقصص التي لا تثبت صحتها، ليبنوا منها أحكاماً كلّها أوهام وخيالات وإسراف في إصدار النتائج والأحكام .


ويولعون بتصوير الإسلام في صورة الدين الجامد الذي لا يصلح للتطور أو التجديد، ومن كيدهم في هذا الباب أنّهم يحكمون دائماً على الإسلام من واقع المسلمين فهم لا يصورون الإسلام من منابعه ومصادره، بل يصوّرونه من واقع المسلمين السيء، وهم بطبيعة الحال يختارون البيئات الإسلامية التي نالها الضعف، أو الهزال لهذا السبب أو ذاك ويجعلون هذه البيئات الضعيفة نموذجاً للإسلام... إلخ .


هكذا عرّفهم الاُستاذ أحمد الشرباصي المدرس بالأزهر والرائد العام لجمعيات الشبّان المسلمين([299]) .دراسة المستشرقين


لقد قام المستشرقون بدراسات واسعة حول الإسلام، فنشروا كتباً كثيرة، وتوسّعوا في الدراسات إلى حدّ بعيد، وبذلوا جهوداً، ولكنّ أكثرهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ لم يسلم من التحامل على الإسلام، والعداء لأهله، وإن تحقّق ذلك في شخص تخلف عن كثيرين .


ولو أنّهم كانوا قد جرّدوا تلك الدراسات عن التحيّز والتحامل والتزموا الانصاف في أبحاثهم ولم يندفعوا وراء عواطفهم، ولم يبتغوا غير الحقّ لذات الحقّ، لكانت تلك الدراسات نافعة، وجهودهم مشكورة .


لكن دراساتهم لم تكن خالية من التحامل والطعن، بل تكون في غالب الأحيان عند أكثرهم منصبة على الإسلام بالدس والتقول بالباطل، لأنّها لم تكن للعلم من حيث العلم، بل كانت أولاً بوحي من الكنيسة الكاثوليكية خاصة، للانتقاص من تعاليم الإسلام وإهدار قيم تعاليمه، حرصاً على مذهب الكثلكة من جانب وتعويضاً عن الهزائم الصليبية في تحرير بيت المقدس من جانب آخر .


ثم تبنى الاستعمار الغربي هذه الدراسة في الجامعات العربية نفسها حتى يقوى القائمون بأمرها على تصديرها إلى الشرق الإسلامي...([300]).والاستشراق أول ما ظهر بين الرهبان عندما قامت روما تحاول تنصير العرب، فأعدّت لهم الوعّاظ علمتهم العربية، وأنشأت مدرسة للدعاية سنة (1627م) سبقتها مدرسة لليسوعيين وغيرهم، وهذه المدرسة أسّسها الباب الثامن، وجعلها مركزاً لدراسات اللغات السامية، ثم أنشأ الكردينال (يورميو) مكتبة امبروزيان تحت إشراف الدكتور جيجو .


وأنشأ الأب ماتوريبا المعهد العالمي للغات الشرقية في نابلس سنة (1732م). ثم اُنشئ المعهد البابوي للغات الشرقية، وألحقت به مكتبة غنية بالمخطوطات العربية، وتبعه مؤسسة كايتاني والمعهد الشرقي المنشأ في روما سنة (1921م) ويتولى نشر مجلة الحديث .


فلا غرو إن كان ظهور الاستشراق أول ما ظهر بين الرهبان([301]).ولقد قام بعضهم بأعمال خطيرة هي أكثر مما تقوم بها الجيوش. فهذا الكاردينال ـ لافيجري ـ كما يحدث هو عن نفسه في الجزائر وتونس في رسالة له: أنّه قام بأكثر مما يقوم به جيش بأكمله. ولم يكن عمله ذلك لخدمة الديانة المسيحية بل كان لخدمة الاستعمار، ومحاولة محو الإسلام من نفوس الجزائريين لأنّه هو المؤجج لروح المقاومة فيهم([302]).لقد شوّه المستشرقون كثيراً من الحقائق وأدخلوا في التاريخ الإسلامي ما ليس منه، وكانت لهم اليد الطولى في توسعة شقّة الخلاف بين طوائف المسلمين بما ينشرونه من دفائن، ويبرزونه من أقوال شاذة، وآراء مقبورة، بأسلوب ماكر خداع، كما أنّهم قاموا بنشاط واسع في خدمة الاستعمار، وقد وصفهم الدكتور مصطفى السباعي بأنّهم: عملاء الاستعمار، وهم أداة هدم الإسلام، وتشويهاً لسمعة المسلمين .


ولا بدّ لنا هنا بأن نترك الموضوع للأدباء والكتّاب ليتحدثوا عن المستشرقين وما قاموا به من نشاط في محاربة الإسلام، وما نجم من وراء ذلك وكيف انخدع بهم كثير من الكتّاب، وكيف أصبحت كتبهم مصدراً يستمدّ منه كتّابنا معلوماتهم عمّا يتعلق بتاريخ الإسلام وما يتعلق به من بحوث، فلنصغ لحديث الأدباء والكتّاب ممن تحضرنا كتبهم الآن .حديث عن المستشرقين


يقول الاُستاذ السباعي: أتضحت لي ـ عن المستشرقين ـ الحقائق التالية :أولاً: أنّ المستشرقين ـ في جمهورهم ـ لا يخلو أحدهم من أن يكون قسيساً أو يهودياً وقد يشذ عن ذلك أفراد .ثانياً: أنّ الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية ـ كالدول الاسكندينافية أضعف منه عند الدول الاستعمارية .ثالثاً: أن المستشرقين المعاصرين في الدول غير الاستعمارية يتخلون عن (جولد تسهير) وآرائه بعد أن انكشفت أهدافه .رابعاً: أنّ الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب يلقى منهما كلّ تأييد .خامساً: أنّ الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية، من كونه أداة هدم للإسلام، وتشويهاً لسمعة المسلمين.


ففي فرنسا لا يزال بلا شير و ماسينيون وهما شيخا المستشرقين في وقتنا الحاضر يعملان في وزارة الخارجية الفرنسية كخبيرين في شؤون العرب والمسلمين .


وفي انجلترا رأينا ـ كما ذكرت ـ أن الاستشراق له مكان محترم في جامعات لندن، وأكسفورد، وكمبردج وأدنبرة وجلاسجو وغيرها، ويشرف عليها يهود وانجليز استعماريون ومبشرون، وهم يحرصون على أن تظلّ مؤلفات جولد تسهير، ومرجليوث([303]) ـ ثم شاخت من بعدهما ـ هي المراجع الأصلية لطلاب الاستشراق من الغربيين، وللراغبين في حمل شهادة الدكتوراه عندهم من العرب والمسلمين، وهم لا يوافقون أبداً على رسالة لطلب الدكتوراه يكون موضوعها انصاف الإسلام، وكشف دسائس اُولئك المستشرقين .


إلى أن يقول:


ومن المؤلم أنّ طلاب العالم الإسلامي الذين يدرسون باللغة الإنجليزية في بلادهم لا يزالون مضطرين إلى دخول الجامعات الإنجليزية، فلا يجد طلاب الدراسات الإسلامية أمامهم مراجع لدراساتهم التي ينالون بها الدكتوراه غير تلك المراجع المسمومة وهم لا يعرفون اللغة العربية، فتقرر عندهم أنّ تلك الدسائس مأخوذة من كتب الفقهاء والعلماء المسلمين أنفسهم([304]).* * *


هذا بعض ما ذكره الدكتور مصطفى السباعي عن حقيقة المستشرقين، وقد ذكر أشياء كثيرة ينقم فيها عليهم لسوء ما ارتكبوه في حقّ المسلمين من تحامل وعداء، وتشويه للحقائق، وتحريف للنصوص، وتأويل للوقائع التاريخية وفق مخطط مرسوم وهدف معين وهو العداء للإسلام...


ويقول الاُستاذ مالك بن نبي([305]) :


وإنّه لمما يثير العجب أن نرى كثيرين من الشباب المسلم المثقف يتلقون اليوم معتقداتهم الدينية، وأحياناً دوافهم الروحية نفسها من خلال كتابات المتخصصين الاُوروبيين. إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوربا بأقلام كبار المستشرقين واقع لا جدال فيه، ولكن هل يمكن أن نتصور المكانة التي يحتلّها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية ؟


إنّ الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً، وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كلّ عام إلى جامعة باريس وحدها. وفي هذه الرسالات كلّها يصرّ أساتذة الثقافة العربية في الغد اُولئك الذين سيكونون باعثي النهضة الإسلامية يصرون ـ كما أوجبوا على أنفسهم ـ على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذتهم الغربيون .


وعن هذا الطريق أوغل الاستشراق في الحياة العقلية للبلاد الإسلامية محدّداً لها اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة .


وأيّاً ما كان الأمر فإنّ الشباب المسلم المثقف في بعض ديار الإسلام يرى نفسه مضطراً إلى أن يلجأ إلى مصادر المؤلّفين الأجانب خضوعاً لمقتضيات عقلية جديدة، ولعلّه يقدّم إلى حدّ كبير منهجها الوضعي الديكارتي، وهناك أيضاً قضاة وشيوخ ومعممون مدرسون يتذوقون فيها رشاقتها الهندسية .


هذا كلّه لا غبار عليه لو لم يضم الاستشراق بمناهجه سوى الموضوع العلمي، ولكن الهوى السياسي الديني قد كشف عن نفسه بكلّ أسف في تأليف هؤلاء المتخصصين الأوربيين في الدراسات الإسلامية برغم أنّها تدعو إلى الإعجابسحقاً .


فلم يكن الأب لامانس([306]) الذي ظلّ نموذجاً للمستشرق الطاعن على الإسلام ورجاله ـ الحالة الوحيدة التي يمكن أن تلحظ فيها العمل الصامت لتقويض دعائم الإسلام فقد كان لهذا الرجل ـ الشاطر ـ فضل في الكشف عن بغضه الشديد للقرآن ولمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) .


ويوضح لنا الأمير شكيب أرسلان جانباً مهماً من دسائسهم ويحذر المسلمين عن الانخداع بما يكتبون فيقول :


إنّه مما يجدر بأن يطلع عليه الشرقيون والمسلمون خاصة، ما يصدر في أوربا من الكتابات المتعلقة بهم، والتصانيف الباحثة عن مصيرهم، والمقالات المصورة لأحوالهم وشؤونهم بلون مخيلات الكّتاب الذين حرروها، الناطقة عن هوى الأحزاب التي ينتمي هؤلاء الكتاب إليها، بحيث يعرف منها الشرقي أو المسلم أو المستضعف على أمره كائناً من كان ماذا يطبخ له في الخفاء وماذا يدس بحقه تحت الستار، وماذا يدبر عليه بدون علمه، ممّا لا يطلع عليه إلاّ في الندرى وممّا هو رام إلى إدامة استغلاله([307]).


وفي موضع آخر يوضح لنا الأمير صورة عن دراستهم وأنّهم إذا عثروا على حكاية شاذة، أو نكتة فاردة في زاوية كتاب قد يكون محرفاً سقطوا عليها تهافت الذباب على الحلوى، وجعلوها معياراً ومقياساً ـ لا بل صيّروها محكاً يعرضون عليه سائر الحوادث، ويغفلون أو يتغافلون عن الأحوال الخاصة، والأسباب المستثناة، ويرجع كلّ هذا التهور إلى قلة الاطلاع في الأصل، هذا إذا لم يشب ذلك سوء قصد، لأنّ الغربي لم يبرح عدواً للشرقي ورقيباً له والنادر لا يعتد به([308]).* * *


ويقول الاُستاذ أحمد شاكر ـ حول نظرة المستشرقين للقرآن :


فهم ـ المستشرقون ـ يرون أن علماء الإسلام، وقرّاء القرآن كاذبون مفترون اخترعوا هذه الروايات وهذه القراءات توجيهاً لما يتحمله رسم المصحف تشكيكاً منهم في هذا الكتاب المحفوظ بحفظ الله وتكذيباً للوعد بحفظه، وبأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وثأراً من المسلمين باتهامهم بالتحريف كما اتهم الذين من قبلهم بأنّهم يحرّفون الكلم عن مواضعه إلى أن يقول :


ذلك بأنّهم أصحاب هوى، وذلك بأنّهم لا يؤمنون بصدق رسالة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بأنّهم يؤمنون بأنّ أصحاب رسول الله وتابعيهم من بعدهم لا خلاق لهم، يصدرون عن هوى وعصبية فيظنون فيهم ما في غيرهم من الكذب على الدين، والجرأة على الله وحاشا الله .


وذلك بأنّهم ـ أي المستشرقون ـ يتبعون الشاذ من الروايات الذي أخطأ فيها بعض رواتها أو الذي كذب فيها بعض الوضاعين، وهما اللذان بيّنهما علماء الإسلام وخاصة علماء الحديث أدق بيان وأوثقه وأوضحه، فيجعلون هذا الشاذ المنكر أصلاً; يبنون قواعدهم التي افتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام، ويدعون الجادة الواضحة وضوح الشمس، ويغمضون عنها أعينهم ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ثم يستهوون منا من ضعفت مداركهم، وضؤول علمهم بقديمهم من المعجبين بهم، والمعظّميهم الذين نشأوا في حجورهم ورضعوا من لبانهم، فأخذوا عنهم العلوم حتى علوم الفقه، والقرآن، فكانوا قوماً لا يفقهون([309]).ويقول الشيخ محمّد زاهد الكوثري حول نظرة المستشرقين للقرآن أيضاً:


ونرى في المدة الأخيرة اهتماماً خاصاً لمستشرقي الغرب بنشر مؤلفات علماء الإسلام الأقدمين ممّا يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه، من كتب القراءات وكتب الطبقات، بل يواصلون سعيهم في ذلك، وفي نشر ما للأقدمين من المؤلفات في الحديث والفقه واللغة، إلى غير ذلك من المشرقيات، ومسعى أغلبيتهم قصدهم لإحياء عهد الصليبيين بطريقة اُخرى في الحملات الممتلئة تعصّباً وجهلاً نحو النور الوضاء، الذي أشرق من القرآن على هذه الكرة المظلمة حتى استنارت بذلك النور الوهاج، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فتبدّلت الأرض .


وغاية هذا الفريق مكشوفة جداً مهما تظاهر بمظهر البحث العلمي البريء كذباً وزوراً وخداعاً .


وبتلك الإلمامة اليسيرة في تأريخ القرآن الكريم يظهر أن محاولتهم هذه ما هي إلاّ محاولة خائبة منكوسة، وأنّهم لو ابتغوا نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء ليأتوا بما له مساس بكتاب الله المنزل على حبيبه المرسل ـ صلوات الله عليه وعلى سائر الأنبياءـ من قرب أو بعد لما وجدوا إلى ذلك أدنى سبيل... إلخ([310]).* * *


ويقول الاُستاذ عبدالباقي سرور ـ في حديثه عن المستشرقين وبالأخص المستشرق اليهودي جولد تسهير ـ : ومن الأفق الغربي تأتي حملة اُخرى على الروحانية الإسلامية، حملة أشد خبثاً وأدهى أسلوباً، حملة سحرت أعين الناس، وجاءت بما يستهوي الأفئدة لأنها تتقنع بالعلم وتتستر بالمعرفة، وتتوارى وراء كلمات براقة خداعة هي حرية البحث أو قداسة العلم!!


فرأينا يهودياً هو ـ جولد تسهير([311]) ـ يكتب عن العقيدة والشريعة في الإسلام، ويفسر القرآن كما يهوى، ويجرح صحابة الرسول كما يحب، ويخطّئهم في فهمهم لدينهم، ثم يبتدع هو ما يشاء تفسيراً لروح القرآن وهدي الرسول، ونهج العقيدة في الإسلام .


إلى أن يقول: ويأتي في أعقاب هذا اليهودي أخوان له خدع بهم الشرق، بل خدعت بهم طائفة غير قليلة من رجال القلم والفكر عندنا فظنّوهم سدنة العلم الإسلامي وحملة مفاتيح كنوزه([312]).ويقول الاُستاذ أحمد فارس الشدياق عن المستشرقين وكيفية خبطهم في الأبحاث وخلطهم للأشياء: إنّ هؤلاء الأساتيذ لم يأخذوا العلم عن شيوخه... وإنّما تطفلوا عليه تطفلاً، وتوثبوا توثباً، ومن تخرج فيه بشيء فإنّما تخرج على القسس... إذ أدخل رأسه في أضغاث أحلام أو أدخل أضغاث أحلام في رأسه، وتوهم أنّه يعرف شيئاً وهو يجهله، وكلّ منهم إذا درس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئاً منها تراه يخبط فيها خبط عشواء فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حدس فيه وخمن فرجح منه المرجوح وفضل المفضول([313]).ويصف الاُستاذ قدري حافظ طوقان تحامل المستشرقين على العرب خاصة بقوله :


ونظرة بسيطة إلى ما ألّفه الغربيون في التراث اليوناني، ولدى الاطلاع على آرائهم في نتاج القريحة العربية يظهر التحامل جليّاً واضحاً، ويثبت الإجحاف، وإنّ بعض علماء الغرب عمدوا إلى الانتقاص من قدر الحضارة العربية، وقد قصدوا تشويه صفحات لامعات في تاريخ العرب لمآرب غير خافية على أحد([314]).ويقول الاُستاذ إبراهيم هاشم :


لقد اشتهر كتّاب الغرب بعمق التفكير، وغزارة المادة ودراسة الموضوع الذي يريدون الكتابة عنه دراسة مستفيضة حتى لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة من شؤونه .


هذه حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، ولكن لمست إلى جانب هذه الحقيقة حقيقة اُخرى وهي: أنهم لم يستطيعوا على غزارة علمهم أن يتخلوا ولو قليلاً من ماديتهم. إلى أن يقول :


ويفترضون فروضاً وهمية، ليصلوا إلى بعض الحقائق العلمية، وقد تؤدي تلك الفروض الوهمية إلى النتائج المطلوبة، يرون كلّ ذلك ويؤمنون به ثم يقفون جامدينمكابرين لبعض الحقائق التي عجزت عقولهم عن إدراكها في مجال العقائد الدينية، ولا يكلّفون أنفسهم عناء النقاش، وقرع الحجة بالحجة خشية الاندحار..


وآفة اُخرى تتبين لنا خلال سطورهم في كلّ ما يكتبون عن الإسلام ونبيّ الإسلام، تلك هي: روح العداء المستحكم للدين الإسلامي ومعتنقيه، وهذه الروح العدائية للإسلام والمسلمين بقية من بقايا العداء الصليبي ما استطاعوا أن ينقوا أعماقهم منها، رغم تمدحهم بالتسامح الذي يزعمونه لأنفسهم، وإلى أن يخلصوا من هاتين الآفتين، ونرجو أن تتخلص عقليتهم ممّا يزري بها في مجال التفكير السليم([315]) .والخلاصة


إنّنا نستوضح من هذه الأقوال ونستكشف من هذه الآراء التي قدّمناها هنا للقراء عن هؤلاء الأساتذة، أنّ كتابة المستشرقين عن الإسلام لم يكن مقصوداً بها خدمة الحقّ والتأريخ، ـ إلاّ المنصفين منهم وقليل ما هم ـ بل إنّما كانت كتاباتهم بدافع الحقد والعداء للإسلام وأهله، وإنّ ذلك يدعو إلى ضياع الحقّ وتشويه الحقيقة التي هي رائد كلّ كاتب حر .


وإنّ الذي يعنينا الآن هو الإشارة إلى الأثر السيء الذي ترتب على انخداع كثير من كتّابنا بتلك الآراء، وأخذهم بتلك الأقوال المخالفة للواقع، وكأنّها عندهم هي الصواب بعينه أو اليقين الذي لا يتطرق إليه شك، ولعلّ الكثير منهم كان يتعمد الاعتماد عليها لما فيها من الحطّ فيمن يتحامل عليه، انصياعاً لنزعة الطائفية أو الخلافات المذهبية .


ونودّ أن نعود للاُستاذ مصطفى السباعي لتكملة ما يتعلق بهذا الموضوع في حديثه إذ هو قد أعطى صورة واضحة عن هؤلاء المستشرقين، ومن تابعهم بالقول، ثم نعود لبيان الموضوع .


يقول الدكتور السباعي ـ بعد بيان طويل ـ : لا يزال حتى اليوم أكثر الذين يشتغلون منهم بهذه الدراسات من رجال الدين، الذين يعنون بتحريف الإسلام وتشويه جماله، أو من رجال الاستعمار الذين يعنون ببلبلة بلاد الإسلام في ثقافتها، وتشويه حضارتها في أذهان المسلمين، وتتسم بحوث هؤلاء بالظواهر الآتية :


1 ـ سوء الظن والفهم لكلّ ما يتصل بالإسلام وأهدافه ومقاصده .


2 ـ سوء الظن بالمسلمين وعلمائهم وعظمائهم .


3 ـ تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول بمجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله وعظماءه .


4 ـ تصوير الحضارة الإسلامية تصويراً دون الواقع بكثير تهويناً لشأنها، واحتقاراً لآثارها .


5 ـ جهلهم بطبيعة المجتمع الإسلامي على حقيقته، والحكم عليه من خلال ما يعرفونه من أخلاق شعوبهم، وعادات بلادهم .


6 ـ اخضاعهم النصوص للفكرة التي يفرضونها حسب أهوائهم، والتحكم فيما يفرضونه، ويقبلونه من النصوص .


7 ـ تحريفهم للنصوص في كثير من الأحيان تحريفاً مقصوداً وإساءتهم فهم العبارات حين لا يجدون مجالاً للتحريف .


8 ـ تحكّمهم بالمصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتاب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله الدميري في كتاب الحيوان، ويكذبون ما يرويه مالك في الموط كلّ ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحقّ .


* * *


وبهذه الصفات المشوبة بروح العداء للإسلام والمعبّرة عن جهلهم الفاضح، عبّر السباعي عن هؤلاء الكتّاب من المستشرقين الذين أصبحت مؤلّفاتهم مصدراً لكتّاب عصرنا الحاضر ـ إلاّ القليل منهم ـ وقد أوضح الاُستاذ ذلك أيضاً بقوله :


وقد أتاح لهم أي للمستشرقين تشجيع حكوماتهم، ووفرة المصادر بين أيديهم، وتفرّغهم للدراسة واختصاص كلّ واحد منهم بفن أو ناحية من نواحي ذلك الفن، يفرغ له جهده في حياته كلها، ساعدهم ذلك كله على أن يصبغوا بحوثهم بصبغة علمية، وأن يحيطوا بثروة من الكتب والنصوص ما لم يحط به علماؤنا الذين يعيشون في مجتمع مضطرب في سياسته وثروته وأوضاعه، فلا يجدون متسعاً للتفرغ لما يتفرغ له اُولئك المستشرقون، وكان من أثر ذلك أن أصبحت كتبهم وبحوثهم مرجعاً للمثقفين منا ثقافة غربية، والملمّين بلغات أجنبية، وقد خدع أكثر هؤلاء المثقفين ببحوثهم، واعتقدوا بمقدرتهم العلمية وإخلاصهم للحقّ... وجروا وراء آرائهم ينقلونها كما هي، ومنهم من يفاخر بأخذها عنهم، ومنهم من يلبسها ثوباً إسلامياً جديداً، ولا أريد أن أضرب لك الأمثال فقد رأيت من صنيع الاُستاذ أحمد أمين في فجر الإسلام مثلاً لتلامذة مدرسة المستشرقين من المسلمين([316]).هذا ما قرّره السباعي، وقد وصفهم من قبل أنّهم عملاء للاستعمار يرتبطون ارتباطاً مباشراً بوزارة الخارجية الاستعمارية، كما وصفهم غيره بذلك .


وقد اتضح لنا ممّا سبق انخداع كثير من الكتّاب بما يدسّه المستشرقون في كتبهم من الطعن على الإسلام وما أكثر الشواهد على ذلك!


ولا نعدو الحقيقة إن قلنا إنّ الاُستاذ أحمد أمين من أشدّ اُولئك الكتاب الذين تعرضوا للشيعة في كتبهم مستندين على أقوال المستشرقين .


والقارئ لما كتبه أحمد أمين يجد هناك عظيم تعصّبه على الشيعة وانحرافه عن الحقّ فيما ذكره حولهم; لأنّه أخذ كلّ معلوماته عن أساتذته المستشرقين والذي كان هو من أبرز تلامذتهم .


وقد تعرضنا لبعض أقواله في الشيعة التي استمدّها من اُستاذه ـ ولهوسن ـ و ـ دوزي ـ([317]).وكتاب أحمد أمين فجر الإسلام قد تضمن تلك الآراء مصبوغة بعباراته وتعبيره ممّا يدل بوضوح على عدم تعمقه وقلة اطلاعه، وقد أصبح كتابه مصدراً لكّتاب آخرين، وهكذا تتوسع دائرة الابتعاد عن الحقّ .


وهكذا هو في بقيّة كتبه يقدم للاُمة ما يثير الضغائن ويبعث في نفوس بعضهم الحقد على البعض الآخر .


وهو في جميع مؤلفاته يسير على نهج واحد من اتباع المستشرقين والتقليدلهم.


وقد جاء في فجر الإسلام أيضاً كثير من ذلك وللمثال هنا نذكر ما يلي:


يقول الدكتور أحمد أمين ـ بعد أن يذكر قول المستشرق ـ برون ـ في نظرية الحقّ الإلهي لملوك الفرس :


هذه مذاهب الفرس الدينية وقد ذابت في المملكة الإسلامية بعد الفتح، وكثير منهم أسلموا ولم يتجردوا من كلّ عقائدهم التي توارثوها أجيالاً، وبمرور الزمان صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانيين وثنوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه الرافضة في الإسلام... إلخ([318]).


وهذه النظرية استقاها من أساتذته ولا زال يردد هذه النغمة المؤلمة وقد صرح بهذا أساتذته ومن امتص آراءه منهم([319]).


وأنت ترى في تعبير أحمد أمين في قوله: فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين... الخ.


اعتقاده أنّ التشيّع فارسي في الأصل فارسي في العقيدة إلى آخر ما يتذوقه الاُستاذ في اتباعه لأساتذته. وقد أسهم في الجناية على التاريخ وأساء للعلم الذي يحمل صفته بما جرى عليه من متابعة المستشرقين وتقليدهم في جهله لمذهب الشيعة ومقوّماته.


وكأنّ التشيّع نشأ في عصور متأخرة وليس له قبول في النفوس إلاّ عند الفرس فقط، وقد خلت منه البلاد العربية ولم يكن منشأه الحجاز في عهد صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله وسلم)،وانتشر في البلاد الإسلامية على أيدي كبار قادة المسلمين وعظماء الاُمة .


وعلى أيّ حال فما تقدّم كاف للخرم بمنحى التعصب الذي نحاه والكشف عن مصادر آرائه واُصول اعتقاداته في التشيّع التي لا تمت الى الإسلام بصلة، بل تنتسب الى أعدائه والحاقدين عليه.


* * *


ولئن كان أحمد أمين من أبرز تلامذة مدرسة المستشرقين في عصره ـ على حدّ تعبير السباعي ـ فإنا نرى أنّ الاُستاذ ـ الذهبي ـ مؤلف كتاب التفسير والمفسرون من اُولئك التلامذة الذين انخدعوا بتلك الأساليب، وتشبعت روحهم بتلك الأبحاث، وانعكست فيهم تلك الآراء الشاذة، ولعبت بعقولهم تلك الأهواء المردية، فراحوا يحققون ما للمستشرقين من أهداف .


ولقد تجلّت في هذا الرجل روح شيخ المستشرقين في الجيل الماضي وهو المستشرق اليهودي المجري جولد تسهير الذي كان أشدّهم خطراً وأوسعهم باعاً وأكثرهم خبثاً وإفساداً، وأشدّهم طعناً في العقائد الإسلامية .


فلقد كانت بحوث هذا المستشرق مرجعاً خصباً ومصدراً للدكتور الذهبي، وإنّ من يقارن بين ما كتبه في كتابه التفسير والمفسرون حول الشيعة وبين ما كتبه المستشرق جولد تسهير في كتابه: مذاهب التفسير الإسلامي فإنّه يجد روح ذلك المستشرق ونزعته تتجلّى فيما كتبه الذهبي . ولا يجد الذهبي غضاضة في كيل المديح وزيادة الإطراء وهو يذكر اُستاذه اليهودي هذا، وكأنه يطري واحداً من علماء الإسلام لا يهودياً جمع بين حقد اليهودية وأغراض الاستشراق الغربية.


لقد أخذ كثيراً من الأبحاث عن أحمد أمين الذي تأثر بتلك الروح، وظهر في كتاباته ما يدل على أنّ المشرب واحد .


وأودّ هنا إعطاء نظرة عن كتاب التفسير والمفسرون للاُستاذ الذهبي، وليس بوسعنا نقد جميع أخطائه وبيان الاُمور التي ارتكبها، متبعاً خطى المستشرقين الذين زلّت أقدامهم عن طريق الصواب. وأودّ أن اُشير بإيجاز إلى منهجه في بحثه وبيان اتجاهه في دراسته والمخطط الذي سار عليه في ذلك، ولعلّ الفرص تواتينا فنعود لمناقشته، ونسأل الله أن يفسح لنا في الأجل لإدراك هذا الغرض .التفسير والمفسرون


الكتاب يقع في ثلاثة أجزاء، ومؤلّفه محمّد حسين الذهبي اُستاذ في علوم القرآن والحديث; وهذا الكتاب فيه عرض لنشأة التفسير وتطوره، وألوانه ومذاهبه، مع عرض شامل لأشهر المفسرين، وتحليل كامل لأهمّ كتب التفسير على حدّ تعبير المؤلف .


والذي يهمنا حول هذا الكتاب هو ما تعرض له في الجزء الثالث من العرض لتفسير القرآن عند الشيعة، وما قدم لذلك في كلامه عنهم وعن عقائدهم، وقد اعترف في بدء حديثه: أنّ الشيعة هم الذين شايعوا علياً وأهل بيته، وقالوا: إنّ علياً هو الإمام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ الخلافة حقّ له استحقّها بوصية من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)... الخ .


ثم يمضي المؤلف في بيانه حتى يأتي حول تفرق الشيعة في الآراء، ويقصر بحثه على الزيدية والإمامية ويقول في ص5، ولست بمستوعب كلّ هذه الفرق ولكن سأقتصر على فرقتين هما الزيدية والإمامية ـ الإثنا عشرية والإسماعيلية ـ لأنيّ لم أعثر على مؤلّفات في التفسير لغير هاتين الفرقتين من الشيعة .


ثم يعرّف الإمامية الإثني عشرية: بأنهم الذين يرون أنّ الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه موسى... الخ .


وبعدها يأتي في البيان إلى أشهر تعاليم الإمامية فيحصرها في أربعة: العصمة، والمهدية، والرجعة، والتقية.


ثم يأخذ في بيان ذلك حسب ذوقه وتفكيره ويملي بما أدّى إليه نظره. ونحن نتركه يستمر في بيانه من باب خل سبيل من وهى سقاؤه .


إلى أن يأتي آخر هذا الفصل ويختمه بكلمة للإسفرائيني; وبها يحاول أن يعطي صورة عن الشيعة الإمامية، بالأخص تلك الصورة التي يحاول بها أن تكون صورة واقعية عن الشيعة إذ أنّهم كفرة يستحلون محارم الشريعة، ولا يعتمدون على القرآن إلى آخر ما وراء ذلك من أغراض وأهداف . (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)([320]).


يقول المؤلف:


وقبل أن أخلص من هذه العجالة أسوق كلمة أنقلها بنصّها عن أبي المظفر الإسفرائيني فى كتابه، التبصير فى الدين: وأعلم أنّ الزيدية والإمامية منهم يكفر بعضهم بعضاً والعداوة بينهم قائمة دائمة، والكيسانية يعدون في الإمامية، واعلم أنّ جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحابة ويدّعون أنّ القرآن قد غير عما كان، ووقع فيه الزيادة والنقصان من قبل الصحابة. ويزعمون أنّه قد كان فيه النص على إمامة عليّ فأسقطه الصحابة منه، ويزعمون أنّه لا اعتماد على القرآن الآن، ولا على شيء من الأخبار المروية عن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ويزعمون أنّه لا اعتماد على الشريعة التي في أيدي المسلمين، وينتظرون إماماً يسمونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة، وليسوا على شيء من الدين، وليس مقصودهم من هذا الكلام في الإمامة ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية، ويعتذرون عند العوام من تحريف الشريعة وتغيير القرآن من عند الصحابة، ولا مزيد على هذا النوع من الكفر، إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين([321]).* * *


هذا ما نقله المصنف عن الإسفرائيني معتقداً صحّة هذا القول وصدقه وما أبعده عن ذلك! والباحث المنصف بقليل من التأمل ـ لا يسعه إلاّ أن يرى الشطط الفكري والخطأ التاريخي الذي وقع فيه الاُستاذ مدرس علوم القرآن والحديث فيما كتبه حول هذا الموضوع .


وإنّ هذه الكلمة التي ساقها تمهيداً لبحثه نقلها عن أحد كتّاب الفرق الذين اتسموا بمعادات ومهاجمة كل مَن خالفهم في الرأي، فارتكبوا من الافتعالات اندفاعاً وراء عواطفهم ونصرة لمذاهبهم ما جعلهم في موضع النقد، وعدم الثقة بما يكتبون .


وقد وصفهم العلاّمة شيخ الجامع الأزهر في العصر الحاضر الشيخ محمود شلتوت بقوله :


لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت، فكانت كتاباتهم ممّا تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة، وكان كلّ كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلاّ من زاوية واحدة، هي تسخيف رأيه، وتسفيه عقيدته، بأسلوب شرّه أكثر من نفعه، ولهذا كان من أراد الانصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلاّ من مصادرها الخاصة، ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ([322]).* * *


فهل كانت هذه النزعة إلى الخير في مدرس الأزهر اقتداء بشيخ الأزهر؟! وهل أنصف المؤلف في اعتماده على نقل ما قاله رجل في عصور مظلمة يسود فيها الصراع العقائدي مما يبعث على التألم ممّا حلّ بالمسلمين من ذلك وما جره عليهم النزاع من ويلات الدمار، وعوامل الانهيار؟


ولا بد أن نلقي على هذه الكلمة نظرة خاطفة ونتبين ما هو محلها من الصدق؟ ـوما أبعدها عن ذلك! ـ لنعرف اتجاه الاُستاذ المؤلف ومنحاه في تفسيره ومقدار تعمقه في البحث وتأكده في النقل. وإلى القراء النقاط التالية :


1 ـ يقول: إنّ الزيدية والإمامية منهم يكفر بعضهم بعضاً والعداوة بينهم قائمة دائمة .


ونقول: هل استطاع صاحب هذا القول أن يدعمه ولو بحادث واحد أو شاهد من قول لإحدى الطائفتين؟


وهل اشتهر عنهم ذلك الخلاف حتى أدى إلى تكفير بعضهم بعضاً؟ كما اشتهر بين غيرهم من طوائف المسلمين حتى اشتهرت كلمات التكفير لبعضهم البعض كقول المظفر الطوسي الشافعي :


لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الحنابلة الجزية([323]) وقول محمّد بن موسى الحنفي:


لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية([324]) وقول الشيخ أبي حاتم الحنبلي :


ومن لم يكن حنبلياً فليس بمسلم([325]).واشتهر عن الشيخ أبي بكر المقري الواعظ في جوامع بغداد بأنه كفّر جميع الحنابلة([326]).ونودي بدمشق وغيرها: من كان على دين ابن تيمية حلّ ماله ودمه. وأفتى بعضهم بتكفير من يطلق على ابن تيمية أنّه شيخ الإسلام([327]) وابن تيمية هو شيخ الحنابلة ومقدمهم، ومعنى هذا أنّ كل حنبلي كافر. إلى غير ذلك مما لا أودّ استقصاءه.


ثم نقول للمؤلف: أين هذه العداوة التي دامت بين الزيدية والإمامية؟ فهل سمع أن فتنة قامت بينهم فأغلقت الأسواق وهدمت الدور كما حدث بين الشافعية والحنابلة في فتنة القشيري([328])، وذلك في سنة (469 هـ) وكما اضطرمت الفتنة بين الحنفية وبين الشافعية بسبب تحويل أبي سعد المتوفى سنة (562 هـ) من مذهب الحنفي إلى مذهب الشافعي، وقامت الحرب على ساق واضطرمت نيران الفتنة بين الفريقين فكانت تملأ ما بين خراسان والعراق([329])، إلى غير ذلك مما يحز في النفس ويعظم استقصاؤه .


* * *


2 ـ يقول: واعلم أنّ جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحابة .


هكذا نقل الاُستاذ عن الإسفرائيني ولم يقصد بذلك إلاّ الطعن على الشيعة وإثارة البغضاء نحوهم بما افتراه الاسفرائيني وقرره الذهبي، وهما في الوزر سواء .


ومن الخير أن نلفت نظر الاُستاذ المدرس بالأزهر الشريف إلى ما يجب عليه من تحرّي الصدق فهو مسؤول عن هذا الجيل الذي يغذيه بأفكاره، نسأل الله لهم العصمة والوقاية من تلك السموم القاتلة التي يبثّها بهذه الأكاذيب والافتراءات .


ألا كانت من الاُستاذ الذهبي صبابة إنصاف ومسكة من عقل وقليل من تتبع فيعرف رأي الإمامية في الصحابة ; ومتى كفروهم جميعاً؟ ومع التنازل كيف يصح أن تكفر الشيعة صحابة محمّد الذين مدحهم الله بكتابه، ولا أقل إن أغلبهم عرف بالولاء لعلي (عليه السلام) وشهد معه حروبه ومنهم أبطال التشيع؟


وعلى سبيل المثال أود أن أذكر للقارئ الكريم بعضاً من اُولئك البررة تشيعوا لعلي ووازروه والذين شهدوا معه حروبه، وناصروه على الباغين عليه، وفي طليعتهم :


1 ـ عمار بن ياسر المعذّب في الله، والممتحن لإسلامه، ومن قال فيه رسول الله: يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، وعن أبي هريرة أنّ النبيّ قال له: ابشر عمار تقتلك الفئة الباغية([330])


وأخرج الترمذي بسند عن عائشة قالت: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما خيّر عمار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهم([331])


2 ـ وأبو ذر الغفاري المتوفى سنة (32 هـ) وهو من كبار الصحابة وفضلائهم وكان من شيعة علي(عليه السلام) ووسمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالصدق فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): ما أظلت الخضراء وأقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): أبو ذر في اُمتي على زهد عيسى بن مريم .


وقال الإمام علي(عليه السلام): وعى أبو ذر علماً عجز الناس عنه ثم أوكئ عليه فلم يخرج منهشيئاً([332])


3 ـ خزيمة بن ثابت بن الفاكه ذو الشهادتين شهد بدراً وما بعدها من المشاهد كلّها، وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته بشهادة رجلين، وحضر مع علي(عليه السلام)حرب الجمل، وصفين وبها قتل سنة (37 هـ)([333]).4 ـ أبو قتادة الحارث بن ربعي حارس النبي ليلة بدر وقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم أحفظ أبا قتادة كما حفظ نبيك هذه الليلة، وشهد مع علي(عليه السلام) مشاهده كلّها، ومات بالكوفة سنة أربعين، وهو الذي قال له معاوية حين قدم المدينة: تلقاني الناس غيركم يا معاشر الأنصار .


قال أبو قتادة: لم يكن معنا دواب. قال معاوية: وأين النواضح؟


قال: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. ثم قال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لنا: إنا سنرى بعده أثرة. قال معاوية: فما أمركم به عند ذلك؟ قال: أمرنا بالصبر. قال معاوية: فاصبروا حتى تلقوه. فبلغ ذلك عبدالرحمن بن حسان بن ثابت فأنشأ أبياته المشهورة (ألا أبلغ معاوية بن صخر... الخ)([334]).5 ـ كعب بن عمرو بن عباد شهد بدراً والعقبة ـ وهو آسر العباس بن عبدالمطلب يوم بدر، وهو الذي انتزع راية المشركين يوم بدر وكانت بيد عزيز بن عمير، وشهد صفين مع علي(عليه السلام) ومات في المدينة سنة (55 هـ)([335]).6 ـ سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): سلمان منا أهل البيت([336]).7 ـ عمير بن قرة الليثي شهد مع علي(عليه السلام) صفين، وكان شديداً على معاوية وأهل الشام حتى حلف معاوية إن ظفر به ليذيبنّ الرصاص في أذنيه([337]).


8 ـ أبو عمرة الأنصاري شهد العقبة وبدراً، وشهد مع علي(عليه السلام) صفين وكان يقاتل وهو صائم([338]).9 ـ أبو الهيثم مالك بن التيهان شهد العقبة وبدراً، وشهد مع علي(عليه السلام) صفين وبها قتل([339]).


10 ـ قيس بن سعد بن عبادة شهد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مشاهده كلّها، وكان حامل الراية يوم الفتح وشهد مع علي(عليه السلام) صفين والجمل([340]).11 ـ عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب المتوفى سنة (68 هـ) حبر الاُمة شهد مع علي(عليه السلام) صفين والجمل والنهروان([341]).12 ـ عبدالله بن بديل قتل هو وأخوه بصفين([342]).13 ـ قيس بن المكشوح وهو أحد الذين قتلوا الأسود العنسي في حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)شهد صفين مع علي(عليه السلام) ومعه راية بجيلة وقتل بها([343]).14 ـ يزيد بن حويرث الأنصاري شهد اُحداً وما بعدها وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([344]).15 ـ جبلة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البياضي شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([345]).16 ـ الحارث بن عمر الخزرجي شهد اُحداً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([346]).17 ـ ربعي بن عمر الأنصاري شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد صفين مععلي(عليه السلام)([347]).18 ـ زيد بن أرقم بن زيد بن قيس غزا مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سبع عشرة غزوة وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([348]).19 ـ اُسيد بن ثعلبة الأنصاري شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([349]).20 ـ أبو بردة الحارث بن عمر الأنصاري شهد بدراً وما بعدها مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وشهد صفين والجمل مع علي(عليه السلام)([350]).21 ـ أبو حبة البدري شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([351])([352]).


22 ـ أبو فضالة الأنصاري شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقتل بصفين وهو يحارب مع علي(عليه السلام)([353]).23 ـ أبو أيوب الأنصاري شهد العقبة وبدراً واُحداً والخندق مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وشهد مع علي(عليه السلام) صفين والجمل وكان على مقدمة الجيش يوم النهروان([354]).24 ـ أبو محمّد الأنصاري شهد بدراً مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد صفين مع علي(عليه السلام)([355]).25 ـ أبو ليلى الأنصاري شهد مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اُحداً وما بعدها وشهد مع علي(عليه السلام)مشاهده كلّها([356]).26 ـ زبيد بن عبدالخولاني شهد صفين مع معاوية وكانت معه الراية فلما قتل عمار تحول إلى معسكر علي(عليه السلام)، لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية([357])


27 ـ جبلة بن عمرو الأنصاري ـ الساعدي ـ كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم شهد صفين مع علي(عليه السلام)([358]).وغير هؤلاء كالمقداد بن الأسود هو من الصحابة الذين أمر الله رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)بحبّهم وهم: علي(عليه السلام) وأبو ذر والمقداد وسلمان([359]).ومنهم وهب بن عبدالله أبو جحيفة، وأبو عطية الوداعي، وأبو الورد المازني، وأبو قدامة بن الحارث، وعبدالله بن ذياب بن الحارث، ويعلى بن عمير بن حارثة النهدي، ويزيد بن قيس الهمداني، وعدي بن حاتم بن عبدالله الطائي، والفاكه بن سعد بن جبير الأنصاري، وقرضة بن كعب الأنصاري الخزرجي، والمغيرة بن نوفل ابن الحارث، ومخنف بن سلم الغامدي، ومحمّد ابن بديل، والمهاجر بن الوليد المخزومي، ويزيد بن طعمة بن جارية الأنصاري، ويعلى بن اُمية، وقد شهد الجمل مع عائشة، وشهد صفين مع علي(عليه السلام) وبها قتل، ونهشل بن جري بن حمزة رئيس بني حنظلة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، والبراء بن عازب، وثعلبة بن عمرو الأنصاري، وهند بن أبي هالة وعبدالله بن أبي طلحة وغيرهم([360]).قال عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي: شهدنا مع علي(عليه السلام) صفين في ثلاثمائة ممن بايع الرضوان قتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر([361]).وعبدالرحمن هذا هو ممن حضر صفين مع علي(عليه السلام)، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب: إنّه ممّن رفعه الله بالقرآن([362]).


وعلى كلّ حال فإنّه لم يتأخر عن مناصرة علي(عليه السلام) إلاّ نفر قليل منهم: عبدالله ابن عمر بن الخطاب وقد ندم بعد ذلك على ترك القتال معه، ولما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئاً إلاّ أني لم أقاتل الفئة الباغية مع عليبن أبي طالب([363]).أما معاوية فلم يحضر معه صفين إلاّ نفر ممن لفظهم الإسلام ولم يتمكن من قلوبهم الإيمان أمثال عمرو بن العاص. وأبي الغادية قاتل عمار، وأبي الأعور السلمي الذي كان علي (عليه السلام) يدعو عليه([364]).وعلى أيّ حال فإنّ الطعن على الشيعة بدعوى تكفيرهم الصحابة إنّما كان لغرض في نفوس حكّام ذلك العصر الذي كانوا يصبغون فيه التاريخ بالصبغة التي يميلون إليها من الطعن في أعدائهم بما ليس فيهم، وكان الطعن على الشيعة ـ وهم من أشد المعارضين لحكام الجور ـ هو الثمن الذي يقدمه المتزلفون للحكام لينالوا قربهم، وجزيل صلاتهم، وقد استحال التاريخ تاريخاً رسمياً يكتبه الوزير، وينقحه النديم، ويقره الملك، وبلغ من الضعف أن يصانع القابض على القلم لكتب الحوادث بغمزة تصدر له من صاحب الشأن، وأما إذا كان هناك مغنم فالمؤرخ ينسى نفسه ويستهويه تهافته .


وإنّ هذا الموضوع وهو موضوع ـ الشيعة والصحابة ـ لا زال بحاجة إلى مزيد من البيان وكثير من الإيضاح فهو النافذة التي يدخل منها اُولئك المتدخلون في صفوف المسلمين، وقد تعرّضت لهذا الموضوع أكثر من مرة، فلا حاجة إلى الإطالة فيه([365]).وحسبنا كتاب الله حكماً فهو الحكم العدل والقول الفصل ـ فإنا نبرأ إلى الله من المنافقين (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ)([366]) وممن كانوا يؤذون رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَاللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)([367]) وممن (اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْعَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)([368]) (وَلاَيَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً* مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ)([369]).وممن خالفوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأحدثوا من بعده ما استوجبوا فيه عذاب الله، وقد أشار إليهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا ربي أصحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك([370])


وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ: وإنّي ممسك بحجوركم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش، أخرجه أحمد من طريق عبدالله بن مسعود([371])


وأخرج الترمذي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ويؤخذ بأصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول: يا ربي أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فإنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: إن تعذبهم فإنهم عبادك([372])


وأخرج مسلم مثله من طريق عائشة ج4 ص65 ومن طريق اُم سلمة ص67 مثله، فنحن في تمييز الصحابة لا نتعدّى حدود القرآن ولا نقول بعدالتهم أجمع، ولنا مع القراء في هذا الموضوع لقاء آخر إن شاء الله .


* * *


3 ـ يقول: وينتظرون إماماً يسمّونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة... الخ .أقول :


الشيخ الذهبي ينكر على الشيعة قولهم في خروج المهدي(عليه السلام)، وقد تقدّم منه في هذا الجزء من تفسيره: ص8 أنّ أول من قال بخروج المهدي كيسان مولى علي بن أبي طالب بأنّ المهدي يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض أمناً وعدلاً بعد أن ملئت خوفاً وجوراً .


ولا أريد أن اُناقش اُستاذ الحديث وحامل الشهادة العالمية فيه حول هذا الموضوع، ولكن أودّ أن أوضح للقارئ الكريم زيف ما يدّعيه وأنّ ذلك لم يكن من قول كيسان، وقد وردت عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تشير إلى خروج المهدي(عليه السلام)، ومنها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً، أخرجهالترمذي([373]) وأبو داود([374]) وابن ماجة([375]).والشيخ الذهبي ينقم على الشيعة قولهم بخروج المهدي(عليه السلام) لأنّه ينكر ذلك، ونحن نكلّ الجواب لعالم من كبار علماء السنة وهو: ابن حجر; فقد أجاب في فتاواه الحديثية عندما سُئل: عمّن يدعون أنّ المهدي الموعود قد مات وهم بذلك ينكرون خروج المهدي المنتظر .


قال ابن حجر: فهؤلاء منكرون للمهدي الموعود به آخر الزمان، وقد ورد في حديث عند أبي بكر الأسكافي أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من كذب بالدجال فقد كفر، ومن كذب بالمهدي فقد كفر، وهؤلاء مكذبون به صريحاً، فيخشى عليهم الكفر، فعلى الإمام أيّد الله به الدين، وقصم بسيف عدله رقاب الطغاة... إلى أن يقول... فنملي عليك من الأحاديث المصرحة بتكذيب هؤلاء وتضليلهم وتفسيقهم ما فيه مقنع وكفاية لمن تدبّره .


أخرج أبو نعيم أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يخرج المهدي وعلى رأسه عمامة ومعه مناد ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه([376])


وأخرج هو والخطيب رواية اُخرى: يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي: إنّ هذا المهدي فاتبعوه. والطبراني في الأوسط أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد علي(عليه السلام) فقال: يخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً; فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنّه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهدي([377])


وأخرج أحمد، ونسيم بن داود، والحاكم وأبو نعيم أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبواً على الثلج، فإنّ فيها خليفة الله المهدي([378]). وهكذا يستمر ابن حجر في ذكر الأحاديث الواردة في ذكر المهدي كحديث حذيفة وما فيه من وقعة الزوراء، وكحديث نزول عيسى، وخروج المهدي إلى مكة ومبايعة الناس له، وأنّ المهدي من ولد فاطمة إلى كثير من الأحاديث التي تتضمن خروج المهدي ونسبه، وصفته وعلامات خروجه .


إلى أن يقول: وبقيت علامات اُخر تعرف من كتابي: المختصر في علامات المهدي المنتظر...الخ([379]).هذا جواب ابن حجر وبه نكتفي بالإجابة عن ذلك; فإنّ الشيعة لم تختص وحدها بانتظار المهدي ولكن الإنكار عليهم جاء لأنّهم يقولون بأنّه(عليه السلام) من ولد علي وفاطمة كما نطقت به أحاديث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من الفريقين .


وأما قوله: يعلمهم الشريعة فذلك صحيح إنّما يعلمهم شريعة الإسلام ويطبق أحكام الله ويسير بسيرة جده(صلى الله عليه وآله وسلم). فلا فرق ولا مذاهب خلافاً لبعض الحنفية فإنّهم يدعون بأنّ المذهب الحنفي هو المذهب الوحيد الذي يكون حكم الشريعة الإسلامية عليه .


وقد تقدم من اُسطورة تعلم الخضر(عليه السلام) العلم من أبي حنيفة في حياته وبعد مماته، وإنّه كان يجلس الخضر على قبر أبي حنيفة ويتعلم منه العلم ويكون الحكم به في آخر الزمان([380]).وقال القاضي زاده شريف: وقيل إنّ الخضر(عليه السلام) تعلم الأحكام الشرعية منه، وأنّ الإمام المهدي بعد خروجه يعمل بطريقته، وأنّ عيسى يحكم بمذهبه([381]).وقال أيضاً: واعلم أنّ المذهب لا يقلّده الصحابة والتابعون إلاّ أبوحنيفة، فإنّ عيسى حين ينزل من السماء يحكم مذهبه([382]).وبعد ذلك


يستمر الاُستاذ في بحثه حول موقف الشيعة من التفسير ص12 إلى ص22 وهو يحاول أن يذكر الفرق المنسوبة إلى التشيّع، كفرقة السبئية .


تلك الفرقة كونتها عوامل سياسية للحطّ من أتباع أهل البيت، كالسبائية والبيانية والمغيرية وغيرها، ويذكر تأويلها للقرآن إلى أن يأتي إلى آخر الفصل فيقول: إذاً فالأجدر أن نمسك عن موقف هذه الفرق البائدة من تفسير القرآن ما دامت قد بادت، ولم يبق لها أثر، وما دمنا لم نقف على شيء في التفسير أكثر من هذه النبذ المتفرقة، التي وجدناها للبعض منهم وجمعناها من بطون الكتب المختلفة .


والذي يستحق عنايتنا وبحثنا بعد ذلك هو تلك الفرق الثلاث التي لا تزال موجودة وإلى اليوم محتفظة بتعاليمها وآرائها، وسنبدأ أولاً بالإمامية الإثني عشرية، ثم بالإمامية الإسماعيلية ثم بالزيدية .ونحن نقول:


إنّ الاُستاذ قد استمر ببحثه الطويل وغرب وشرق وجاء بأشياء مخالفة للحقيقة، وهو يحاول أن يعطي عن الغلاة صورة ويجعلها في إطار التشيع .


وإنّ قوله في الأخير: إنّ الذي يستحق عنايتنا هو تلك الفرق الثلاث التي لا تزال موجودة. ومنها الإمامية الإثنا عشرية .


فهل يا ترى أنّ المؤلف أعطى الإمامية الإثني عشرية ما يستحقّه البحث الحر؟ وهل تجرّد الاُستاذ من العاطفة وجعل بحثه للحقّ والتاريخ؟


وهل بحث عن كلّ فرقة من هذه الفرق الثلاث الإثني عشرية، والإسماعيلية والزيدية، كلاً على حدة ؟


وهل ترك آراء الغلاة جانباً وإنّها قد بادت مع فرقهم؟


هذه أسئلة يستطيع القارئ النبيه أن يحصل على الجواب عنها فيما جاء من بحثه بعد هذا الفصل بعنوان: موقف الإمامية الإثني عشرية من تفسير القرآن الكريم.


وتحت هذا العنوان يتحدث من ص23 إلى 41 وهو بهذا البحث الطويل قد خرج عمّا رسمه لنفسه من البحث عن الإمامية الإثني عشرية فقد عاد إلى آراء تلك الفرق البائدة من الغلاة فنسب آراءهم للإثني عشرية كما في ص34 إذ يقول :


واعجب من هذا أنّهم جعلوا لفظ الجلالة والإله والربّ مراداً به الإمام، وكذا الضمائر الراجعة إليه سبحانه... إلخ .


والمؤلف ـ عافاه الله ـ يكتب ولا يدري ما يكتب، إنّما هو كحاطب ليل إنّه يريد أن يحمّل الشيعة كلّ تبعة، ويريد أن يبرزهم بأقبح صورة، خضوعاً لنزعته أو طمعاً في الشهرة.


أنا لا اُريد أن أقف معه فالوقت أثمن، ولا أودّ أن اُناقشه هنا، بل أترك تقدير هذا الخبط للقارئ النبيه، وكذلك أترك بيان خلطه بين الإسماعيلية والإثني عشرية في هذا الموضوع بالأخص .


ولنقف مليّاً عند قوله في ص26: وأما السنة فهم ـ أي الشيعة ـ غير اُمناء، ولا ملتزمين ما صحّ منها، وسنتعرّض لها فيما بعد أيضاً.


* * *


هذا ما يقوله. ولا أدري، ولا المؤلف يدري لماذا أطلق هذا القول: أكان عن خبرة ودراية، وتتبع وتعمق في البحث؟ أم أنّه قلّد غيره؟


أو هي فكرة يحاول أن يصل بها إلى هدف معين؟


إنّ المرء لتأخذه الحيرة في أمر من يطلق القول بدون حجة، وهو يدّعي أنّه ممن له إلمام ومعرفة!!


لنسأل الاُستاذ: لماذا لم يكن الشيعة اُمناء على السنة؟ ولماذا لم يلتزموا بما صح منها؟


ولعله أراد أن يكون جواباً عن ذلك ما ذكره في ص27 تحت عنوان: موقفهم من الأحاديث النبوية وهو قوله :


ولقد رأى الإمامية الإثنا عشرية أنفسهم أمام كثرة الأحاديث المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمام كثرة من الروايات المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم (أجمعين) وفي تلك الآثار ما يخالف تعاليمهم مخالفة صريحة; لذا كان بديهياً أن يتخلص القوم من كل هذه الروايات، إما بطريق ردها وإما أن يكون قولاً لصحابي، وإما أن يكون قولاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق صحابي، وهم يجرحون معظم الصحابة; بل ويكفرونهم لمبايعتهم أبا بكر..


ثم يمضي اُستاذ الحديث في بيانه ويتعرض لمسألة المتعة والمسح على الخفين ورد الشيعة له، لأنّ راويه المغيرة بن شعبة رأس المنافقين ـ على حد تعبيره ـ إلى أن يقول:


وليت الأمر وقف بهم عند هذا الحدّ ـ حدّ الثقة بأشياعهم والاتهام لمن عداهمـ بل وجدنا رؤساء من الشيعة كجابر بن يزيد الجعفي وغيره، قد استغلوا أفكار الجمهور الساذجة، وقلوبهم الطيبة الطاهرة، وحبهم لآل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فراحوا يضعون الأحاديث على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آل بيته ويضمنونها ما يرضي ميولهم المذهبية، وأغراضهم السيئة الدنية. ولم يفتهم أن يحكموا أسانيد هذه الأحاديث الموضوعة حتى اغترّ بها العامة لسلامة نواياهم، وسكت عنها الشيعة لأنّها وجدوها مؤيدة لدعواهم...


* * *أقول


لقد طغى الحقد على قلب المؤلّف حتى ملكه، فأصبح قلبه وراء لسانه لا لسانه وراء قلبه. ولهذا وجد الشذوذ مرتعاً خصباً في لسانه وقلمه، ولعله ما كان يؤمن بما يقول، ولكنه يقصد أن يقال إنه جاء بشيء جديد عن خصمه .


إنّ ما أورده في هذا الفصل ـ والذي قبله وما بعده ـ بعيد كلّ البعد عن روح الحقّ وأمانة التاريخ ومنهج العلم .


ولعله ـ كما قلت ـ إنّه لا يؤمن بصحة ذلك ولا يعتقده، ولكن هناك دواعي أدّت إلى ذكره، و اُموراً استوجبت أن ينهج هذا النهج في دراسته التي كشف عن نفسه بأنّه لم يكن مؤرّخاً يتحرّى الصدق، أو كاتباً يمسك قلمه عن الخطأ، بل هو متحامل حاقد، وكاتب لا يتأمل فيما يكتب، وفي ذلك تساهل معه كبير وإلاّ فهو جاهل يقحم نفسه في مجال يعجز عن الخروج منه.


إنّه ملأ هذه الصحائف وسوّدها بمداد الافتراء، ونسب الشيعة إلى اُمورهم أبعد ما يكونون عنها، كالقول بتحريف القرآن ونقصانه، مع أنّ إجماعهم خلاف ذلك.


والمؤلف يتّبع نهج المستشرقين في الاعتماد على الشاذ النادر أو المحرّف; فيكون اعتمادهم على ذلك من دون التفات إلى واقع الأمر.


ولا اُريد أن ارجع إلى ما ذكره في أول هذا الفصل من مخالفات وبعد عن الواقع، وأكتفي هنا في التنبيه على النقاط التالية:


1 ـ يقول: لقد رأى الإمامية الإثنا عشرية أنفسهم أمام كثرة من الأحاديث المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمام كثرة من الروايات المأثورة عن الصحابة، وفي تلك الأحاديث ما يخالف تعاليمهم مخالفة صريحة.


هذا ما يقوله الاُستاذ حول موقف الإمامية من الأحاديث النبوية


وآثار الصحابة .


ولعلّ القارئ يظنّ أنّ اُستاذ علم الحديث الذهبي قد قال هذا عن خبرة ودراية، وتتبع في الدراسة حتى أصدر حكمه على الشيعة بأنّهم يرون تلك الأحاديث والآثار المخالفة لتعاليمهم مخالفة صريحة .


ولا أدري ماذا يقصد في ذلك؟ أكان يريد بأنّ الشيعة يردون أحاديث جميع الصحابة، أم يردون البعض دون البعض الآخر؟ فإن كان يريد الأول فهو أمر يكذّبه الوجدان .


وإن كان يريد الثاني وهو أنّهم يأخذون عن بعض ويتركون آخرين فهذا شيء لا تنكره الشيعة، لأنهم لا يقولون بعدالة جميع الصحابة كما هو مقرر عندهم، وقد تعرّضنا لذلك وقلنا: إنّ أصالة العدالة في حقّ الصحابة لا أصل لها، وإثبات ذلك يحتاج إلى مشقة، والنتيجة لا تثبت أي ثمرة هناك.


أمّا السُنة فقد أثبتوا العدالة لكلّ صحابي ـ وإن ارتكب ما يخالفها ـ بحجة أنّه مجتهد والاجتهاد في مقابلة النص لا يصح ـ واستدلوا بأدلة ذكرت في محلها، ومع ذلك فقد اختلفوا، فذهبت طائفة إلى عدالة الصحابة أجمع بدون استثناء، وآخرون ذهبوا إلى عدالة من لم يلابس الفتنة ـ أي من حين مقتل عثمان ـ وذهبت المعتزلة إلى فسق من قاتل علياً منهم، وحكى ابن الصلاح الإجماع على تعديل من لم يلابس الفتنة .


وحكى الآمدي وابن الحاجب قولاً: إنّهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم. إلى غير ذلك من الأقوال([383]).أمّا الشيعة ـ كما تقدم ـ فإنّهم لا يذهبون لعدالة الجميع; فلا يروون إلاّ عن ثقة، ولهم شروط في قبول الرواية مقررة في محلها، إذ الحديث هو دستور المسلمين ـ بعد القرآن ـ وفيه منهاج حياتهم الدينية والاجتماعية; لذلك اجتهد المسلمون في دراسته من حيث السند والدلالة .


والشيعة يتشدّدون أكثر من غيرهم في قبول الرواية، وتمحيصها بكلّ دقة واعتدال; فلا يأخذون إلاّ عن الصادق الثقة، ولم يقفوا أمام كتب الحديث وقفة تهيّب عن مناقشتها كما يقف إخوانهم السنة أمام صحيح البخاري ومن بعده صحيح مسلم وقفة تهيّب، وينظرون إليها نظرة إكبار وتقديس، وأنّ جميع ما فيها صحيح. إلى آخر ما هنالك من اعتقاد راسخ في كتب الصحاح وبالأخصالبخاري.


ولكنّ الشيعة يتوقفون عن قبول الرواية ما لم تكن صحيحة من حيث السند والدلالة، ولا يشترط أن تكون عن شيعي ـ كما يقال عنهم ـ أو إلاّ أن تكون في الكتب الأربعة من كتب الحديث، بل المدار عندهم هو الصدق والوثاقة والعدالة; وقد جعلوا الكذب على الله وعلى رسوله من مفطرات الصيام.


وإنّ اختصاصهم بالأخذ عن أهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي جعلهم عرضة لهجمات المغرضين، ومؤاخذة من لا يعرف من الحقّ موضع قدمه.


* * *


2 ـ يقول المؤلف: فمثلاً نجدهم يردون الأحاديث والآثار التي تثبت في تحريم نكاح المتعة ونسخ حله، كما نجدهم يردون أحاديث المسح على الخفين ويقولون إنّها من رواية المغيرة بن شعبة رأس المنافقين... إلخ .


* * *


أورد الاُستاذ هذه الأمثلة كدليل لما يقوله في ردّ الشيعة للأحاديث وأنّهم غير اُمناء عليها، ولعلّ المؤلف لم يجد غير ذلك، فإن كانت هذه مؤاخذته فما أقل تتبع اُستاذ الحديث؟ لأنّ الشيعة لم ينفردوا برد ما ورد في تحريم المتعة، بل قد ردها جماعة من الصحابة والتابعين وثبتوا على تحليلها، منهم :


جابر بن عبدالله، وأسماء بنت أبي بكر، وابن مسعود، وابن عباس ومعاوية، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد وسلمة إبنا اُمية بن خلف، ورواه جابربن عبدالله عن جميع الصحابة مدة حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومدة أبي بكر إلى قرب آخر خلافة عمر بن الخطاب([384]).وأما من التابعين فمنهم ابن جريح فقيه مكة ولهذا قال الأوزاعي: يترك من قول أهل الحجاز خمس: متعة النساء([385]) ومنهم ابن جريح([386]) وطاووس وعطاء وغيرهم.


وروي عن عمر بن الخطاب أنّه إنّما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان([387]).وقال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصحّ وهو مذهب الشيعة([388]).وأخرج مسلم في صحيحه عن نظرة قال: كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت فقال: إنّ ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين .


فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.


ونهي عمر بن الخطاب عن المتعتين مشهور وهو قوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنهى عنهما واُعاقب عليهما([389]).


وأخرج عبدالرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله رحم بها اُمة محمّد، ولولا نهيه عنهما ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقي([390]).وقال علي(عليه السلام): لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ([391])


وأسباب نهي عمر عن المتعة مشهورة كما رواها البيهقي في السنن وغيره من المحدثين والمفسرين فلا حاجة لنقل ذلك([392]). كما لا حاجة إلى المضي في بسط القول حول هذا الموضوع إذ المسألة قد حرّرها العلماء، وبسطوا القول فيها، وكثر حولها النقاش والجدل ولا خلاف في مشروعيتها على عهد الرسول، وإنّما الخلاف في نسخها فالشيعة يردون أخبار النسخ تمسكاً بالكتاب وسنة الرسول ووافقهم جماعة من الصحابة والتابعين وعلماء الاُمة([393]).


* * *


وأمّا المسح على الخفين فقد تعرّضنا له في الجزء الخامس ط31، ص200 ـ 205 وملخص القول فيه:


إنّ هذه المسألة قد وقع فيها الخلاف بين المسلمين على أقوال:


1 ـ الجواز مطلقاً .


2 ـ الجواز في السفر دون الحضر .


3 ـ عدم الجواز بقول مطلق وهو ما تذهب إليه الشيعة، لا لأنّ الرواية عن المغيرة بن شعبة رأس المنافقين كما يقول الاُستاذ وإن كان هذا هو وحده كافياً في الرد، ولكن منع ذلك لعدم ثبوته في الدين، وأنّ القرآن على خلافه هو معارض لآية الوضوء ولم تكن منسوخة ولا آية واحدة منها .


وقد أنكر جماعة من الصحابة المسح على الخفين وفي طليعتهم الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) وكان يقول: سبق الكتاب المسح على الخفين([394]).ولمّا سئلت عائشة عن المسح على الخفين، قالت: سلوا علياً فإنّه كان أكثر سفراً مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)([395]).وورد عن ابن عباس أنّه كان ينهى عن المسح على الخفين وكان يقول: لأن أمسح على جلد حمار أحبّ إلي من أن أمسح على الخفين([396]).


وورد النهي أيضاً عن أبي هريرة وعائشة وكانت تقول: لأنّ تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين([397]).وفي لفظ لأن أقطع رجلي أحبّ إليّ من أن أمسح عليهما([398]).وسئل ابن عباس هل مسح رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الخفين؟ فقال والله ما مسح رسول الله على الخفين بعد نزول المائدة ولأن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين([399]).وجاء في العتيبية عن مالك بن أنس ما يدل على المنع. وقال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر الكبير: إنّه روي عن مالك: لا يمسح المسافر ولا المقيم([400]).


وقد سبق من الاُستاذ في ص27 ج2 أنّه نسب الشيعة إلى الشذوذ والتعصب في المسائل الفقهية إذ يقول :


وفي الفقه لهم مخالفات يشذون بها، فمثلاً نراهم يقولون: إن فرض الرجلين هو المسح دون الغسل; ولا يجوزون المسح على الخفين، وجوّزوا نكاح المتعة، وجوزوا أن تورث الأنبياء... إلى أن يقول:


لهذا كان طبيعياً أن يقف الإمامية الإثنا عشرية من الآيات التي تتعلق بالفقه واُصوله موقفاً فيه تعصّب وتعسّف، حتى يستطيعوا أن يخضعوا هذه النصوص ويجعلوها أدلة لآرائهم ومذهبهم... إلى آخره.


* * *


وهكذا عبّر الاُستاذ ونسب القول بمسح الرجلين، وعدم المسح على الخفين وجواز نكاح المتعة إلى الشذوذ، وكأن ذلك لم يكن له دليل من الكتاب ولا قائل به من الأصحاب، وقد أوضحنا في الجزء الخامس ط3،


ص192 ـ200 بعض ما يتعلق بمسألة فرض الأرجل في الوضوء واختلاف العلماء فيه([401]).


والذي يهمنا ذكره هنا هو قوله: لهذا كان طبيعياً أن يقف الإمامية الإثنا عشرية... إلخ. ولا أدري ما هذا التعسف والتعصب؟ وما معنى اخضاع النصوص لجعلها أدلة للمذهب ؟


والشيخ مصرٌ على مخالفة الواقع وتستبد به روح التحكم بالنصوص ويستهل طرح الأدلة وتحكيم الرأي وهي مذاهب يلجأ إليها غالباً عندما تأبى النصوص والأدلة التحريف لأنّها ظاهرة شأنها شأن اللجوء الى التفسير بغير الواقع كما فسّر غيرهم المأقين بالخفين، عند الاستدلال على جواز المسح عليهما، فيما أخرجه أبو داود: من أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمسح المأقين ـ وهما مؤخر العينين([402]) ـ قالوا إنهما الخفان، وأين المأقين من الخفين؟


وقد حكم بعضهم بأفضلية المسح على الخفين لا للدليل، وإنّما كان ذلك الحكم لأجل طعن الشيعة في أدلة المسح، وقال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه([403]).وقد طغت موجة التعصب على كثير من الفقهاء; فتركوا أشياء قد ورد الدليل من الشارع في استحبابها أو وجوبها، ولكنّهم رجحوا الترك لأنّ العمل بها يدعو إلى التشبه بالشيعة، والتشبه بالشيعة ينبغي تجنبه، كما أفتى بذلك الحافظ العراقي([404]).


وقد أشار ابن تيمية لذلك إذ يقول في منهاجه([405]): ـ عند بيان التشبه بالشيعة ـ:


ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات، إذ صارت شعاراً لهم ـ أي للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم.


فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم، أعظم من مصلحة المستحب.


* * *


وهنا يجب الالتفات إلى هذا الأمر، وما حدث من ورائه من ترك للأعمال المستحبة; ولعله أدّى إلى ترك بعض الواجبات استناداً إلى هذه الحجة، وهي مراعاة المصلحة، وبالطبع إنّها مهمّة، لأنّ من مصلحة الإنسان المحافظة على نفسه، وما يتصل بذلك من مقوّمات حياته، من استقرار ومال وتقرّب للولاة الذين نظروا إلى الشيعة نظرة خصم يجب القضاء عليه.


نعم إنّ مصلحة التمييز عن الشيعة أهم من مصلحة المستحبات الشرعية عندهم، ولعلّه من هذا الباب ينفتح ترك الأخبار الصحيحة الواردة عن صاحب الرسالة لأنّ في نقلها وإثباتها يثبت التشيّع والمصلحة تدعو إلى التمييز عنهم فيلزم تركها، كحديث الغدير وحديث أنا مدينة العلم وعليّ بابها وغير ذلك من الأحاديث الصحاح، ومن المصلحة تأويل بعض الآيات ووضع الأحاديث بما يدعو إلى إظهار التجنّب عن تهمة التشيّع .


ومن المصلحة قالوا: بمنع المصلي عن اختصاص جبهته بما يسجد عليه من أرض وغيرها، لأنّ ذلك الاختصاص من شعار الشيعة([406]).وطبعاً إنّ اتخاذ شعار الشيعة فيه خطر، فمن المصلحة تركه، لأنّ الشيعة قد التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً([407])


وكان أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) يسجدون على الأرض فأثّر ذلك في جباههم، وقد مدحهم الله تعالى بذلك إذ يقول: (سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)وكان يقال لهم ذوو الثفنات، وكان علي بن الحسين(عليه السلام) يعرف بذي الثفنات لكثرة سجوده.


* * *


وقد أدّت الحالة لرعاية مصلحة التمييز بين السنة والشيعة ـ كما يقولون ـ بأن يترك السجود على الأرض وأصبح ذلك ـ على ممر الزمن ـ من المنكرات; لأنّ الشيعة يلتزمون بذلك، ويحملون معهم حجراً طاهراً ـ كما كان بعض العلماء من التابعين يحمل معه في السفر لبنة يسجد عليها ـ إذ ربّما لا يتسنى لهم الحصول على أرض طاهرة في السفر وغيره فالتزموا بذلك.


وحيث كان الشيعة يفضلون السجود على تربة أرض كربلاء المقدسة وهي التربة الحسينية حملهم بعض من يحمل اسوأ البغض للشيعة على أنّهم يسجدون للصنم ـ معبرّين عن تلك التربة الطاهرة التي يسجدون عليها لله جلّ وعلا بأنّها صنم، متناسين أن الشيعة في سعة، فإذا لم توجد التربة التي يطمئن لطهارتها والتي اختارها المسلم الشيعي موضعاً لجبهته، يسجد الشيعة على الأرض أو ما أنبتت.


وقد عبر بعض من أكل الحقد قلبه عنها بلفظ: إنها وثن إذ يقول: لا تجد شيعياً يصلي في بقعة من بقاع الأرض حتى المسجد الحرام بمكة، ومسجد الرسول إلاّ ويضع وثناً من شقفة طين كربلاء تحت جبهته تقديساً لها، واعتقاداً أنّها أفضل بقاع الأرض لأنّ دم الحسين اختلط بها... إلخ([408])


وغير ذلك من الألفاظ التي لا ترتبط مع الواقع بصلة، ولم يكن مبعثها إلاّ الجهل وسوء الظن بهذه الطائفة، وكيف يحسنون بها الظن ويقول بعضهم: إنّه لا يحلّ والله حسن الظن بمن يترفض([409]). والرفض والتشيّع عندهم شيءواحد؟


وعلى كلّ حال فإنّ الشيعة قالوا باستحباب السجود على تربة أرض كربلاء اقتداء بأئمتهم(عليهم السلام)ولا يضرّهم ما يرميهم به الجاهلون .


* * *


3 ـ يقول الاُستاذ: وليت الأمر وقف بهم عند هذا الحد ـ حد الثقة بأشياعهم والاتهام لمن عداهم ـ بل وجدنا رؤساء من الشيعة كجابر بن يزيد الجعفي وغيره قد استغلّوا أفكار الجمهور الساذجة، وقلوبهم الطيبة الطاهرة، وحبّهم لآل بيت رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فراحوا يضعون الأحاديث على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آل بيته... إلخ .


* * *أقول :


بعد أن تكلّم الاُستاذ حول الحديث والفقه بما يخص الشيعة في قضية ردّهم لروايات بعض الصحابة، وضربه المثل في مسألة المتعة والمسح على الخفين وقد رأينا مدى اطلاعه واتساع معلوماته .


راح يتكلم عمّا وجده عند الشيعة من وضع الحديث ويقول: وجدنا رؤساء من الشيعة كجابر بن يزيد الجعفي وغيره... إلخ .


ولم يذكر هنا إلاّ جابر بن يزيد الجعفي المتوفى سنة (127 هـ) وهو أحد حفاظ الحديث، وقد روى عنه شعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، وشريك، والحسن بن حي، ومعمر، وأبو عوانة وغيرهم([410]).وقد خرّج حديثه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة .


وقال عبدالرحمن بن المهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: كان جابر ورعاً في الحديث ما رأيت أورع في الحديث من جابر .


وقال إسماعيل بن علية: سمعت شعبة يقول: جابر الجعفي صدوق في الحديث([411]).وقال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن جابراً ثقة([412]).وقال ابن أبي الحكم سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلمت في جابر لأتكلّمن فيك، وكان جابر يحفظ مائة ألف حديث([413]).وقال يحيى بن أبي كثير: كنا عند زهير بن معاوية فذكروا جابراً الجعفي فقال زهير: كان جابر إذا قال: سمعت أو سألت، فهو من أصدق الناس([414]).وبهذا وصف العلماء جابراً الجعفي وهكذا قال عنه معاصروه وتلامذته، ولم يقل أحد إنه كان يضع الحديث .


وسئل أحمد بن حنبل عن جابر الجعفي، فقال: تركه عبدالرحمن. وقصارى ما ورد في حقّه من خصومه بأنه ضعيف أو لين الحديث، وقال أبوحاتم: يكتب حديثه على الاعتبار.


وليس لمن رماه بالكذب حجة يدعم بها ما يدعيه إلاّ أنّه يقول بالرجعة أو أنّه شيعيّ; لأنّه يعلن بالرواية عن أهل البيت ويقول ـ عندما يحدث عن الإمام الباقر(عليه السلام) : حدثني وصيّ الأوصياء .


وهذا أمر يعظم تحمله في عصر هبّت فيه زوبعة الخلافات، واشتدّ غضب السلطة على أتباع أهل البيت وأنصارهم، وكان جابر في طليعتهم، وبطبيعة الحال أن يبتعد الناس عمّن يتهم في معارضة الدولة، ويُرمى بكلّ كريهة تقع موقع الرضا من ولاة الأمر، ولهذا كانت كلمات من اتهم جابراً بالكذب مشوشة، وأدلّتهم واهية .


أما الاُستاذ الذهبي ـ على ما يظهر ـ فإنّه استند في هذا القول إلى حجة هو معجب بها، وجعلها دليلاً قاطعاً على ما يقوله في نسبة وضع الحديث إلى الشيعة، وذلك ما عقب كلامه وختم هذا الفصل بذكره وهو ما نقلناه آنفاً ونحبّ أن نكرره هنا.إذ يقول الاُستاذ :


ويعجبني هنا ما ذكره أبو المظفر الإسفرائيني في كتابه التبصير في الدين هو: أنّ الروافض لما رأوا الجاحظ يتوسع في التصانيف، ويصنّف لكلّ فريق قالت له الروافض: صنف لنا كتاباً. فقال لهم الجاحظ: لست أدري لكم شبهة حتى اُرتبها وأتصرف فيها. فقالوا له: إذاً دلنا على شيء نتمسك به، فقال: لا أرى لكم وجهاً إلاّ أنكم إذا أردتم أن تقولوا شيئاً تزعمونه تقولون إنّه قول جعفر بن محمّد الصادق، لا أعرف لكم سبباً تستندون إليه غير هذا الكلام... فتمسكوا بحمقهم وغباوتهم بهذه السوءة التي دلّهم عليها، فكلما أرادوا أن يختلقوا بدعة، أو يخترعوا كذبة. نسبوها إلى ذلك السيد الصادق، وهو عنها منزه، ومن مقالتهم في الدارين بريء .


* * *


هذا ما ذكره الاُستاذ وأعجب به ونحن لا نعجب من مؤثّرات العاطفة وبواعث الحقد .


لقد أعجب الاُستاذ بهذه الدعابة وهي من سخرية الجاحظ ـ إن صح ذلك ـ التي يضلّ بها البسطاء، وتشكيك الضعفاء، يضعها في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ([415]).ومن العجيب أن تكون هذه الدعابات دليلاً في الأبحاث العلمية، وحجة يستدل بها على المقصود، وأعجب من ذلك أنّ مثل هذا يصدر ممن يفترض فيه أن يكون اُستاذاً متحرراً ومتفقهاً متنوراً، وهو الاُستاذ الذهبي المدرس بالأزهر، والأزهر هو الجامعة الإسلامية الكبرى; التي اُسست على التقوى، وخدمت العلماء ونشرت الثقافة، وقامت بالإصلاح .


إننا لنفخر بها ونعتز وهي مسؤولة عن تصفية الخلافات بين المسلمين، وإيضاح الحقّ دون تعصب وتحيز، ليتقارب المسلمون، وتتوحد كلمتهم ليكونوا قوة متماسكة، تتسلح بالإيمان بالله، وتهتدي بهدى الرسول، لرد هجمات المعتدين، وصد تيارات الملحدين، في هذا العصر الذي انتشرت فيه الدعوة لغير الله تعالى وتتضاعف فيه الحملات المعادية للإسلام .


* * *


من المؤسف حقّاً أنّ الاُستاذ المدرس في الأزهر الشريف يحاول بهذه الدعابة المضحكة أن يبرز لقرّائه أو يغذي عقول تلامذته بأن جميع ما عند الشيعة من أخبار وتراث علمي إنّما هو موضوع حسب ما أقرّه الإسفرائيني بأسطورته، وذكره في خرافاته، واُعجب به الاُستاذ في دراسته.


غريب وأيم الحقّ! فهل كانت الشيعة اُمة يسودها الجهل أو يضفي عليها النسيان ذيله، وليس لهم في الحركة الفكرية الإسلامية أيّ أثر؟


أتجاهل الاُستاذ أم جهل مدرسة الشيعة التي غذّت الفكر الإسلامي بعلومها، وخدمت الاُمة بآثارها؟


أليس من رجال الشيعة من كانوا حملة حديث، وأئمّة فقه، وإليهم تشدّ الرحال من البلدان الإسلامية لأخذ العلوم منهم، والرواية عنهم، في عصر الجاحظ وقبله وبعده؟


وكان منهم عدد غير قليل من كبار شيوخ البخاري صاحب الصحيح والمعبّر عنه بأمير المؤمنين في الحديث، فقد أخذ عن الشيعة، وحضر عند جماعة منهم، وروى في صحيحه عنهم أمثال :


خالد بن مخلد القطواني المتوفى سنة (213 هـ).


إسماعيل بن أبان الوراق المتوفى سنة (216 هـ) .


جرير بن عبدالحميد بن قرط المتوفى سنة (188 هـ) .


عبدالله بن موسى المتوفى سنة (213 هـ) .


مالك بن إسماعيل النهدي المتوفى سنة (217 هـ).


سعيد بن كثير بن عفير المتوفى سنة (226 هـ).


سعيد بن محمّد بن سعد الجرمي المتوفى سنة (233 هـ).


الفضل بن دكين المتوفى سنة (218 هـ) .


وغير هؤلاء كما ستقف على تراجمهم في هذا الجزء إن شاء الله .


* * *


وكذلك الإمام أحمد بن حنبل حضر عند جماعة منهم وأخذ العلم عنهم، منهم :


سعيد بن خيثم بن رشد بن هلال أبو معمر الكوفي المتوفى سنة (180 هـ).


عبدالله بن داود أبو عبدالرحمن الهمداني المتوفى سنة (212 هـ) .


عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة (211 هـ) .


محمد بن فضيل بن غزوان المتوفى سنة (195 هـ) .


عائذ بن حبيب الملاح الكوفي المتوفى سنة (190 هـ) .


علي بن غراب أبو الحسن الفزاري الكوفي المتوفى سنة (184 هـ) .


تليد بن سليمان المحاربي أبو سليمان الكوفي المتوفى سنة (205 هـ) .


علي بن هشام بن البريد العابدي أبو الحسن الكوفي المتوفى سنة (180هـ).


علي بن الجعد أبو الحسن الهاشمي المتوفى سنة (230 هـ) .


الفضل بن دكين المعروف بأبي نعيم المتوفى سنة (219 هـ) .


هشيم بن بشير الواسطي المتوفى سنة (183 هـ) .


وغير هؤلاء من رجال الشيعة الذين كانوا قبل أن يولد الجاحظ، وبعضهم كان معاصراً له فهل يصح يا اُستاذ الحديث أن يكون مثل هؤلاء الذين هم أئمة الفقه وعلم الحديث، أن يقال ليس لديهم شيء فالتجأوا إلى الجاحظ ليضع لهم شيئاً فلم يجد إلاّ أنّه دلهم على الكذب؟!!


ثم نعود ونقول: إنّ الإمام الشافعي قد أخذ العلم عن الشيعة وكان في طليعة شيوخه إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى الأسلمي المدني المتوفى سنة (184هـ) وهو من تلامذة الإمام الباقر(عليه السلام) وولده الإمام الصادق(عليه السلام)، وله كتاب مبوب في الحلال والحرام في فقه الشيعة، وقد أكثر الشافعي من النقل عنه وروى عنه أيضاً بن جريح، والحسن بن عرفة وهو من شيوخهما، وستقف قريباً إن شاء الله على ترجمته وتراجم غيره من رجال الشيعة الذين روى عنهم أصحاب الصحاح والسنن.


* * *وبعد هذا نقول:


إنّ الاُستاذ حكّم هواه فوجد رؤساء من الشيعة يضعون الحديث نصرة للمذهب، ولم يذكر منهم إلاّ جابر الجعفي المحدّث الكبير، ولم يأت بدليل على ما يقول، ولم يسند ذلك لمصدر .


ولو سلمنا جدلاً أنّ هناك من يضع الحديث من الشيعة لنصرة المذهب فنحن نستحلفه بما يدين هل سلمت بقية الفرق والمذاهب من ذلك عندما هبّت عواصف الآراء في المجتمع وتحكمت الأهواء، واشتدت الخلافات ولعبت الضغائن لعبتها، وتدخّلت الفتنة المحمومة تدخلها؟


لا أظنّ أنّ أحداً له أدنى معرفة أو إلمام ينكر ما بلغت إليه الحالة من الافتراء والتزوير والكذب على الله وعلى رسوله، تقوية للمبدأ وانتصاراً للمذهب، يوم تحكّمت الخلافات واشتدّ الصراع العقائدي .


يقول الاُستاذ عبداللطيف دراز ـ مدير الأزهر والمعالم الدينية ـ : وقد غذّيت هذه الخلافات وهذه السياسات بكثير من الروايات الملفقة والأحاديث الموضوعة، والأخبار المفتراة، وامتلأت كتب التفسير والمغازي والمناقب بما لا يحصى من الأكاذيب، وأصبح بجوار كلّ آية في كتاب الله تعالى رواية من الروايات تحمل عليها، وفسر القرآن بما يوافق أصحاب الآراء وقبل من الأحاديث ما يؤيدهم، وطعن فيما يخالفهم، واشتبه الأمر فيما يقبل وفيما يرضى، وفيما يصح ليس على الوسط من الناس فحسب ولكن على بعض ذوي العقول الراجحة والذكاء الألمعي أيضاً، ولم يسلم من ذلك إلاّ من عصم الله وقليل ما هم .


وقد شهدت الاُمة الإسلامية مع هذا نوعاً آخر من أنواع الخلاف والتفرّق هو خلاف الأتباع والمتعصبين للأئمة الذين ظنّوا التزام مذهب من المذاهب بعينه ديناً لا يجوز للمسلم أن يخالفه، وأدرجوا ذلك في حكم العقائد، ورتّبوا عليه مسائل فقهية حكم من قلّد غير الأربعة، ومن قلّد غير إمامه من الأربعة، ومن لفّق في العبادة أو المعاملة بين مذاهب عدّة، ومن أفتى بغير الراجح أو المعول عليه أو المفتى به، أو بتعبير أدق: بغير ما وصف في الكتب بأنّه كذلك إلى غير هذا من المسائل التي ما أثارها إلاّ العصبية المذهبية والتي قامت بنصيبها في تفريق الاُمة الإسلامية... إلخ([416]).* * *


فكم حدثنا التاريخ عن اُناس تعمّدوا الكذب على الله وعلى رسوله انتصاراً لمذاهبهم وطعناً على مخالفيهم؟


فهذا محمّد الثلجي شيخ الحنفية المتوفى سنة (266 هـ) قالوا عنه: بأنه كان يضع أخبار التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث، ذكر ذلك ابن العماد نقلاً عن ابن عدي([417]).ونعيم بن حماد المتوفى سنة (218 هـ) كان يضع الحديث في تقوية السنة، ويذكر حكايات مزورة في ثلب أبي حنيفة([418]).وأبو العشائر البلوي المتوفى سنة 610. كان غالياً في التسنن شديد التعصّب، متحاملاً على آل البيت وشيعتهم، وكان يقول أشياء منكرة لا نحبّ ذكرها([419]).وأحمد بن عبدالله الأنصاري: كان من الوضاعين لنصرة السُنة وكان يفسّر قوله تعالى: (يَوم تبيضُ وجوهٌ ـ يعني أهل السنة ـ وَتسودُ وُجوهُ) ـ يعني


أهل البدعة([420]).


وأبو بشر أحمد بن محمّد الكندي المتوفى سنة (324 هـ) كان إماماً في السنة والرد على المبتدعة، وكان وضّاعاً للحديث كذّاباً([421]).وعبدالعزيز بن الحارث التميمي المتوفى سنة (371 هـ) من رؤساء الحنابلة، وضع في مسند أحمد بن حنبل حديثين منكرين([422]).وأبو عبدالرحمن السلمي محمّد بن الحسين النيسابوري المتوفى سنة (412 هـ). كان مصنّفاً ومحدّثاً، صنف في التفسير والتاريخ وغيره، وكان يضع الحديث للصوفية([423]).وأحمد بن محمّد بن حرب كان وضّاعاً للحديث وقد وضع لنصرة الحنابلة حديثاً عن أبي هريرة أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر([424]).وإسماعيل بن عبدالله بن أويس الأصبحي المتوفى سنة (227 هـ) ابن أخت مالك بن أنس ونسيبه، كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا فيما بينهم([425]).وأحمد بن محمّد بن عمر بن مصعب بن بشر بن فضالة المروزي المتوفى سنة (323 هـ) هو أحد الوضاعين والكذابين، مع كونه كان محدثاً إماماً في السنة والرد على المبتدعة([426]).وقال الدارقطني: كان حافظاً عذب اللسان والرد على المبتدعة، لكنه يضع الحديث([427]).


وقال ابن حبان: كان ممن يضع المتون ويقلب الأسانيد. لعله قد قلب على الثقات أكثر من عشرة آلاف حديث وفي الآخر أدعى شيوخاً لم يرهم، فصرت أنكر عليه، فكتب يعتذر إليّ، على أنّه من أصلب أهل زمانه في السنة، وأبصرهم بها، وأذبهم لحريمها، وأقمعهم لمن خالفها([428]).وأحمد بن الصلت بن المغلس أبو العباس الحماني المتوفى سنة (280 هـ). كان يضع الأحاديث في مناقب أبي حنيفة، ومنها ما يضعه عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ومنها ما يضعه عن العلماء في فضل أبي حنيفة، كما حدث عن سفيان بن عيينة أنّه قال: العلماء ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وأبو حنيفة في زمانه، والثوري في زمانه.


وإنّما وضع ابن المغلس هذا القول عن لسان ابن عيينة لأنّ ابن عيينة كان سىّء الرأي في أبي حنيفة ويعلن بذمه وسوء القول فيه([429]).وقد توسعت دائرة الوضع في المناقب لأصحاب المذاهب إلى حدّ بعيد خرجوا فيه عن حدود المعقول، وقد سبقت الإشارة لذلك.


وكان من أعظم الجرأة على الله ورسوله هو وضع الأحاديث في نصرة المذهب أو تأييد القول الذي يخالف الآخرين حبّاً للغلبة حتى لو كان الخلف بين أهل المذهب الواحد .


فهذا أصبغ بن خليل القرطبي المتوفى سنة (272 هـ) كان حافظاً للرأي على مذهب مالك، ودارت عليه الفتيا.


قال الذهبي: ولم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بطرقه وكان يعاديه ويعادي أصحابه وبلغ من عصبيته لرواية ابن القاسم في عدم ترك رفع اليدين في الصلاة; أن افتعل حديثاً في ترك رفع اليدين.


والغريب أنّ بعضهم اعتذر عن هذا الافتعال والكذب على الله وعلى رسوله بأنّه لم يقصد الكذب، وإنّما قصد تأييد مذهبه([430]).قال القاضي عياض: وهذا كلام لا معنى له، وكل من كذب على النبي فإنّما كذب لتأييد غرضه([431]).من الخير أن نشير إلى الرواية التي وضعها أصبغ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في ترك رفع اليدين.


وهي عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: صليت خلف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وخلف أبي بكر وعمر إثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر، وخلف عثمان إثنتي عشرة سنة، وخلف علي بالكوفة خمس سنين، فلم يرفع أحد منهم يديه إلاّ في تكبيرة الافتتاح .


* * *


هذه هي الرواية التي وضعها أصبغ لتأييد مذهبه، ونودّ أن نوضح بعض ما فيها من مخالفات للواقع بالإعراض عن مناقشة السند فإنّ فيه رجالاً لم يسمع بعضهم من بعض، ولكننا نشير لمخالفات المتن وهي:


إنّ عبدالله بن مسعود توفي سنة (32 هـ) وكانت وفاة عثمان سنة (35 هـ) أي أنّه مات قبل وفاة عثمان بثلاث سنين. وأيضاً هو لم يدرك زمن عليّ(عليه السلام)بالكوفة، لأنّ وفاته كانت سابقة عليه.


قال الذهبي: وابن مسعود ما صلى خلف عمر وعثمان إلاّ قليلاً لإنّه كان في غالب دولتهما في الكوفة فهذا ـ الحديث ـ من وضع أصبغ([432]).* * *


ولعلّنا فيما أوردناه على سبيل المثال قد أوضحنا جانباً مهماً نستطيع أن نعرف مدى التعصّب الذي ابتليت الاُمة بسببه، وما خلفته آثاره السيئة من خلاف وتشويه للحقائق.


إنّ افتعال عشرة آلاف حديث أو تغيير متونها وتقليب أسانيدها نصرة للمبدأ، وتعصباً على من خالفه لهو أمر عظيم وحدث جسيم في إثارة الضغائن وإيقاد نار الفتنة بين الطوائف، كما فعله المروزي الآنف الذكر.


وأعظم من هذا أنّه يرى ذلك نصرة للسنة، ومحاربة للبدعة، وكم مثله من اُناس وضعوا الأحاديث لغرض في نفوسهم؟


نقل الحاكم عن الحافظ سهل بن السري: أنّ أحمد الجويباري ومحمّد بن عكاشة بن تميم، وضعوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة آلاف حديث([433]).وكثير أمثال هؤلاء الذين أجترأوا على وضع الأحاديث، نصرة لمبادئهم، وكانوا يرون هذا حسناً يتقرّبون به إلى الله، ـ كما يقول ابن كادش ـ عندما وضع حديثاً في فضل أبي بكر، مقابلة لحديث ورد في فضائل علي(عليه السلام) : أليس فعلت جيداً؟([434])


ولا نريد أن نمضي في البيان عما وجدنا من الوضاعين للحديث تعصباً، وعسى أن يقتنع الاُستاذ بهذا النزر فيعترف بخطئه عمّا نسبه للشيعة وحدهم من الوضع ـ أو وجدهم كذلك على حدّ تعبيره ـ. وهذه النسبة مجرد ادعاء فارغ من دون تثبت وروية بل هو مقلّد لغيره في الافتراء والكذب على الشيعة، وعساه يرجع إلى ما يفرضه عليه العلم من التتبع خدمة للعلم; وهناك يتضح له خطأ ما ذهب إليه وكذب ما ادّعاه .


وإذا أردنا أن نولي وجه البحث شطر المتعصبين للمذاهب الأربعة بصورة خاصة فإنا نجد هناك ما يبعث على الاستغراب ـ بل الألم الذي يحزّ في النفوس ـ مما أدّت إليه سوء الحال خضوعاً للعصبية وانقياداً للعاطفة العمياء حتى تمسكوا بأقوال أئمتهم تمسكاً جعلهم يقدّمونها على كتاب الله وسنة رسوله([435]).


وأصبحوا إذا قيل لهم: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون قال: فلان([436]) أي رئيس المذهب وكانوا يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم([437]).ويقول السيد محمّد صديق حسن ـ حول التمسك بآراء المتأخرين من الفقهاء ـ :


وقد ابتلي بهذه البلية من متأخري المقلدة للمذاهب الأربعة المشهورة فأبرزوا من التفريعات والتخريجات مالا تظلّه السماء، ولا تقلّه الأرض، ومنذ حدثت هذه البدع رفعت من السنة غالبها، حتى أنّ الجاهل من هؤلاء يزعم أنّ كلّ مسألة في كلّ كتاب فقهي من المذهب الحنفي مثلاً والشافعي مثلاً هي في أم الكتاب. ويتحرج عن العمل بما ثبت من القرآن والحديث صراحة ونصاً، وظاهراً، ولا يتحرج عن العمل بما قاله إمامه.


ومنهم من يؤول الحديث إلى مؤدى المذهب، ولا يصرف المذهب إلى مدلول الحديث([438]).ويقول أيضاً: واتخذوا مقالات الأئمة الكرام ديانة لهم، ومنهاجاً ينهجون إليه، وشرعة يسلكونها; إذا وقفوا على آية محكمة أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة تخالف مذهبهم صاروا يؤولونها على غير تأويلها، ويصرفونها عن ظاهرها إلى ما تقرر عندهم من المذاهب والمشارب، وطفقوا يطعنون على من عمل بفحواها الظاهر، ومبناها الباهر. مع أنّ كتاب الله سابق على وجود إمامهم ومقالاته، وسنة رسوله سابقة على هذه المجتهدات([439]) .


/ 6