اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا - نسخه متنی

مقدادی فؤاد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



أهل البيت ((عليهم السلام))ومصلحة الاسلام العليا
كـلمة المجلـةالشجرة الطيّبة


باسم الله الذي اليه يصعد الكلم الطيب، وعلى حبّ حبيبه الكلمة الطيّبة:



( كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربّها ).



وتحت ظلال الثقلين تركة الحبيب وأمانته في أمة محبّة متّبعة، ينطلق أتباع أهل البيت، لا ليستجدوا رسالة، فرسالتهم هي الإسلام تحت رايتها استشهد أهل البيت، وما كان قدرهم وقدر أتباعهم الأوائل إلاّ أن يذوبوا في الإسلام رسالةً ويعيشوه قضية ويحفظوه كياناً ويجذّروه عقيدة ويتمثّلوه خلقاً ويجسّدوه سلوكاً.



وما كانت كربلاء إلاّ خلاصة مركّزة لما قبلها من تاريخ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وابتلاءاتهم، ولما بعدها من تاريخ الأئمة(عليهم السلام) ومعاناتهم.



ودفاعاً عن الاسلام كلّه، والمسلمين جميعاً ـ كما هو خطّ أهل البيت ـ، تجرّع أتباعهم الغصص فنوناً وألوناً، فمن الارهاب الفكري ; لأنهم حملوا فكر أهل البيت، إلى الحرمان الاقتصادي ; لأنهم عاشوا قيم أهل البيت، إلى الاضطهاد السياسي; لأنهم اتّبعوا منهج أهل البيت، ودفعوا الثمن بصدر رحب وقلب منفتح; لأنّهم على يقين وبصيرة أنّ أهل البيت، فكراً وقيماً ومنهجاً، مدرسةُ الإسلام، حيث ينطق القرآن وتتألّق السنّة.



وبدّدتهم ريحٌ عاتية في كل أفق، وشرّدتهم في كل صقع، فإذا هم كمنثور اللؤلؤ يصبو إلى سلك ينتظمه، ومتى ما لاح لهم طالب حقّ وبارقة أمل لإقامته انشدّت إليه قلوبهم، ولكنّهم لم ينسوا هموم الرسالة ولم يتنكّروا لأعبائها، بل جهدوا وجاهدوا في ابلاغها إلى كل متطلّع إلى الحقّ متقبّل له.



وعاش في أعماقهم شوق وفي أشواقهم أمل أن يتاح لهم ذلك المحور شاملاً مستوعباً، يستقطب حركتهم ويلملم طاقاتهم ويجمع قياداتهم ; لتكون المسيرة واحدة رائدة في خدمة الإسلام والمسلمين، تتناسق فيها الخطى وتتعاضد الهمم:( كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ).



وغدا الأمل حقيقةً والأمنيةُ واقعاً حين تفتّقت بقعة من بقاعهم عن ثورة إسلاميّة، وقامت فيها ـ بنداء الله اكبر وتحت راية لا إله إلاّ الله ـ دولة إسلامية هي دولة الإسلام المحمدي الأصيل، دولة الولاية لأهل البيت(عليهم السلام)، تقودها حكومة تنبثق من عمق مفاهيم الإسلام وشموليّته، هي حكومة الوليّ الفقيه، التي أرشد أهل البيت إليها وألزموهم باتّباعها.



وإذا النور يشعّ فتهلّلُ قلوبُ المسلمين، وإذا الخيرات والبركات في بقاع شتى: انتصار على المستعمر، وطرد للمحتل، وانتفاضة على الدخيل.



لقد آن الأوان ليعرف العالم كله مَنْ هم أهل البيت(عليهم السلام) ؟ وما نهجهم ؟ وليجد عندهم الدواء الشافي لدائه، وليستنير بهداهم في ظلمائه.



آن الأوان ليعتصم المسلمون جميعاً بحبل الله، ويتمسّكوا بالثقلين : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي... ، إحياءً للمعارف الاسلامية الأصيلة من منبع الثقلين ونشرها، ودفاعاً عن حريم القرآن الكريم وسنّة الرسول الشريفة وخط أهل بيته المعصومين، وذباً عن كيان الاسلام وحقوق المسلمين وأتباع أهل البيت، وتحقيقاً للوحدة والتكافل بين أتباع أهل البيت في ظل قيادة الوليّ الفقيه، لتكون ركيزة وأساساً في تحقيق الوحدة الشاملة بين المسلمين، وتدعيمها لمجابهة الاستكبار العالمي ومؤامراته المتعاقبة.



وبين يدي القارئ الكريم الكتاب السادس من سلسلة كتاب الثقلين هو مفردة تصب في هذا السبيل، فقد تناول مدخله حب أهل البيت(عليهم السلام) ; لكونه المنطلق للوحدة الاسلامية،والمحور في توحيد المسلمين، وسلّط الضوء على حقيقة هذا الحب وارتباطه بالولاء لأهل البيت(عليهم السلام) ; لينفتح منه على الباب الذي يدخل منه محبّوهم(عليهم السلام)، ليحلّوا في باحة معرفتهم، مبيناً ضرورة هذه المعرفة، والنهج الذي يجب السير عليه للوصول إلى واقعها، واللوازم الحتمية لها، ثم يطرق ابواب مدرستهم الكبرى التي مثلت الاسلام المحمّدي الاصيل بصدق وامانة منبعاً ومساراً واهدافاً، فيشير لمعالمها الاساسية في ثلاثة أُصول مبدئيّة : الاصل الاول في منهجهم العلمي لحفظ الرسالة الاسلامية المتمثل بحركة الاجتهاد والتجديد، والاصل الثاني في مبدأ الحفاظ على بيضة الاسلام ومصلحته العليا، والاصل الثالث في رسم الاسس المبدئيّة للوحدة الاسلامية.



ونظراً للشبهات والتزوير الذي طال موقعهم القيادي الذي اراده الله ورسوله لهم، فقد تناوله الكتاب جذوراً واطروحة بطريقة منطقية تحليلية، يذعن لها العقل السليم والمنصف من أهل الحق وطلاب الحقيقة.



ويمكننا القول : إن الكاتب المحقق سماحة الشيخ المقدادي قد اراد بكتابه القيم هذا توجيه دعوة كريمة لكل المسلمين، بل للمجتمع الانساني التائق إلى سبيل الحق والعدل والخلاص، بالانفتاح الواعي على حقيقة وحق أهل البيت (عليهم السلام)بمعرفتهم ومعرفة مدرستهم، ومن ثم التسليم بقيادتهم التي اصطفاهم الله ورسوله لها ; ليخوضوا معها تجربة الهدم للباطل والظلم، وبناء الحق والعدل في واقع أعيته سطوات الجبابرة وانتهازية المنحرفين، انطلاقاً من قوله تعالى : ( أفمن يهدي إلى الحق احق أن يُتّبع أم من لا يَهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون ) ]يونس: 35 [، وتصديقاً لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : الزموا مودّتنا أهل البيت... فو الذي نفس محمد بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفتنا ] أمالي المفيد : 82 [ .



فيا أيها المسلمون، ويا أيها الناس اُمماً وشعوباً، لنتعبّأ ولنتأهّب لوفادة على معين مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، فهو المنهل الصافي إلى الحق المطلق، والصراط المستقيم إلى الله ورسوله، الى الكتاب والسنّة.



ولنقدّم عطاءاتها الثرّة لنروي بها ظمأ الأجيال في آفاق الأرض، ونستنقذها من غياهب الحيرة والضلال; لتعيشوا مع أهل البيت(عليهم السلام) رافدين لمسيرتهم، أوفياء لخطّهم، متمسّكين بالثقلين، لا تفصلون بينهما ولا تنفصلون عنهما، لتهتدوا ولن تضّلوا أبدا .التحرير



مقـدمـةالامين العام للمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)ورئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية



أهل البيت (عليهم السلام) مصطلح اصيل أصالة الثقافة الاسلامية ولد مع ولادة الاسلام وتعيّن افراده في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لم يعودوا يخفون على أحد آنذاك فضلاً عن الذين جاؤوا من بعدهم. وقد جرت محاولات للتشكيك في المصاديق عبر بعض الادعاءات الروائية ولكنها فشلت وبقي المفهوم على وضوحه ليشمل الامام علياً والزهراء والحسن والحسين عند جميع المسلمين، وابناء الحسين (عليهم السلام) إلى الامام المهدي (عج) عند الشيعة ( على اختلاف لدى فرقهم ) وذلك من خلال ادلّة ساقوها لتوسعة هذا المفهوم ليعود يشمل الباقين من قبيل احاديث ( الاثنى عشر خليفة ) وهي احاديث يندر من ينكرها من اهل السنة.



ومهما كان الأمر فان التركيز على هؤلاء الذين طهّرهم الله تعالى بنص قرآنه المجيد، وتكثرت الروايات التي ترجع الامة اليهم وتؤكّد على مودّتهم ومحبّتهم والاقتداء بهم واتباع آثارهم وفي طليعتها أحاديث ( الثقلين ) وهي بدورها مما لا يمكن ان ينكرها إلاّ مكابر مجانف للحق، انما جاء ليفتح امام الامة طريقاً مهيعاً للخير، يرسم لها نماذج عملية مجسّدة من الصياغة الاسلامية للشخصية الانسانية جرياً على عادة الاسلام في كل ثقافته وهي أن لا يعطي المفاهيم ذهنية مجملة وفكرية خالصة، وانما يقدم للامة اطروحته العملية فيها أو نماذجه المجسّدة، بل نجد الاسلام من خلال اهتمامه بالجانب الحسّي وتقديره لأهميته التربوية يجسّد حتى المفاهيم التي لا تقبل التجسيد إلاّ تمثيلاً، وما كون الكعبة بيتاً لله تعالى، وكون الجمرات نماذج للشيطان الرجيم وما تشبيهات القرآن الكثيرة للصفات الالهية كالرضا والغضب والاستواء على العرش وامثالها إلاّ صور لذلك الاهتمام والتركيز.



واخشى ما اخشاه ان يقود النزاع بين المسلمين حول عصمة أهل البيت (عليهم السلام) واحقيتهم بالخلافة الظاهرية بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمثال ذلك مما قسّم المسلمين إلى سنّة وشيعة، ان يقود إلى ان تنسى طائفة من المسلمين ان هناك حقيقة مسلّمة فوق هذا النزاع وهي المرجعية العلمية لهذه المجموعة الطاهرة، وانهم عصمة هذه الامة إلى جانب الكتاب الكريم ( كما ذكرت ذلك احاديث الثقلين ); عصمتها من الضلال والانقسام والانحراف، وانهم سرّ وحدتها وتراصّها وانهم النماذج الانسانية العليا التي قدمها الاسلام لسنين طويلة لتعرف من خلال التأمل في سيرتها كيف تسلك وانّى تستهدف.



ولئن كنت أأسى على شيء فلن يصل اساي إلى الحالة التي اشاهدها من تأثير الخلاف السني الشيعي على هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس.



وعلى ايّ حال فان سماحة العلامة الشيخ المقدادي مؤلف هذا الكتاب سعى سعيه الحثيث ليركّز هذه الحقيقة في الاذهان.



واذا كان نشر بعض مقاطع هذا الكتاب في فترات متفرّقة يؤثّر على استحكام الترابط المطلوب في بحث حول هذه الحقيقة المهمة، فان الذي يعذره هو عظمة هذه الحقيقة نفسها وسعة دائرتها التي لا يمكن ان يحيط بها كتاب، كما يعذره انه يصدر هذه المجموعة في كتاب من كتب ( الثقلين ) وهي بطبيعتها لا تقتضي ذلك الترابط المطلوب بقدر ما يهمها من وجود محور واحد للمقالات المنشورة في اعداد متفرقة.



وفّق الله تعالى المؤلف لخدمة هذه القضية وجعلنا جميعاً من انصار أهل البيت (عليهم السلام) واعوانهم والسائرين على منهجهم الرصين.محمد علي التسخيري



مدخـلحبُّ أهل البيت(عليهم السلام) منطلق وحدة المسلمين



لم نجد محوراً أجمع عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله وحبيبه(صلى الله عليه وآله وسلم)ـ بالرغم من تنوع آرائهم واتجاهاتهم ـ ، كحبّ أهل البيت (عليهم السلام) ; فقد استقطب اهتمام الأولين والآخرين منهم، واغتنت به كتاباتهم، وطُرّزت به مؤلفاتهم، وتواترت عليه الروايات في مسانيدهم وصحاحهم ومجاميعهم، بل إنهم تسالموا على وجوب حبهم، وذكر فضائلهم.



ومن بليغ ما ورد فيها : أن أعرابياً جاء إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : يا محمد، اعرض عليّ الإسلام، فقال : اشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله. قال : تسألني عليه أجراً ؟ قال : لا، إلاّ المودة في القربى. قال : قرابتي أو قرابتك ؟ قال : قرابتي. قال : هاتِ أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرابتك لعنة الله. فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : آمين ([1]).



كما لم يجمع المسلمون على مصداق متيقن لقرابة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته غير علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، حيث لم يترك رسول الله ذلك غائماً، فعندما نزلت الآية : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى )([2])، قيل : يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين وجبت مودتهم ؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما ([3]) .



وترنّم العلماء، الأدباء منهم، شعراً في وجوب حبهم، وأن من وحي آي القرآن الكريم أن أجر الرسالة ودّهم. منه ما أنشده ابن العربي قائلاً :



رأيت ولائي آلَ طه فريضة***عليّ برغم البعد يورثني القربا



فما طلب المبعوث أجراً على الهدى***بتبليغه إلاّ المودة في القربى([4])



وزاد ابن جبير عليه سناءً بذكر أسماء أهل البيت (عليهم السلام) مسوقة بحب حبيب الله ومصطفاه حين قال :



أحب النبي المصطفى وابن عمّه***علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا



همُ أهل بيت أُذهب الرجس عنهم***وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زُهرا



موالاتهم فرض على كلّ مسلم***وحبهم أسنى الذخائر للأخرى([5]).



من هنا فلا غرو أن يكون حب أهل البيت ثَقلاً ثانياً في واقع المسلمين، بعد حب القرآن الكريم كتاب الله العظيم، ينهلون من نبعه الصافي، ويوحّدون كلمتهم وحركتهم على هداه، وإن تفاوتت الدرجات وتباينت المستويات.



ويتألق الخطاب النبوي في حقهم قائلاً : أنا وأهل بيتي شجرة في الجنةوأغصانها في الدنيا، فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلاً ([6]).



ويترقّى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في المقام من وحي قول الله عزوجلّ : ( وإنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون )([7])، قائلاً : الصراط ولايتنا أهل البيت ([8]).



فإذا أردنا أن نعرف كيف يتعانق هذان الثقلان كتاب الله والعترة أهل البيت ، في قلوب المسلمين لتتشكل منهما حركة الرسالة في إنسان الرسالة، فلنيمّم شطر كلام صادق أهل البيت (عليهم السلام)، وهو يناغي ضمائرنا ويرشدها إلى سرّ الحبّ وأساس المحبة بقوله : الحبّ فرع المعرفة ([9])، فما همزة الوصل ومعقد الربط بيننا وبين حب المحبوب إلاّ معرفته.



وبهذا تكون معرفة أهل البيت ـ كما هي معرفة كتاب الله ـ دليلاً عليهم، وسبيلاً إليهم، ومنطلق الحب، وشفيع القرب.



ويمتزج الثقلان في قلب المؤمن ليكون منهما الدين، و هل الدين إلاّ الحب ؟!([10]) كما عن باقر آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك قال صادق أهل البيت(عليهم السلام): الدين هو الحب، والحب هو الدين ([11]).



وما مقدار حبّ أهل البيت (عليهم السلام) إلاّ ملاك الثبات على الصراط، تصديقاً لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أثبتكم على الصراط أشدّكم حباً لأهل بيتي ([12]).



إلاّ أنّ حقيقة الحبّ تأبى إلاّ أن يكون قرينها العمل، وأمارتها السعي على طريق المحبوب وإن قصر العمل. وهذه الحقيقة تحكيها لنا عبقات الإمام الباقر(عليه السلام)في قوله لجابر: يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب، أحَسِبَ الرجل أن يقول : أحبُّ علياً وأتولاّه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً ؟! فلو قال : إني أحبُّ رسول الله ـ فرسول الله خير من علي ـ، ثم لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ أتقاهم وأعملهم بطاعته.



يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة. من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ما تُنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع ([13]).



هذه هي حقيقة الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو شأنه وشرفه.



وكيف لا نواليهم وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ؟



وكيف لا نتابعهم والمرء مع من أحب ([14]) ؟ يأنس ظلاله ويؤثره على ما سواه.



وههنا واحدة من آيات العناق بين الثقلين، ودلالة من دلالات أحدهما على الآخر.



فكما أن القرآن الكريم تزخر سوره وتتناغم آياته في الشهادة لأهل البيت بالتطهير، فإنّ أهل البيت أشدُّ الناس التصاقاً وعناقاً واشتياقاً إلى علوم القرآن ومعالمه وأسراره وآفاقه.



فهذا علي (عليه السلام) يرتقي المنبر ليقول للناس : سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله ; فوالله ما نزلت آية من كتاب الله إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلمني تأويلها ([15]).



ويبقى أن نعرف للاتّباع حقّه ونلتزم شروطه، وقد ارشدنا الى ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله في الثقلين : فلا تَقَدّموهما فتهلكوا، ولا تُقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ([16]).



إذن فالواجب علينا معرفة أهل البيت إذْ إنهم عباد الله المخلصون، واوجب علينا إتّباعهم إذْ هم الأدلاّء على الله الهادون إليه :



( أفمن يهدي إلى الحق أحقّ أن يُتّبع أم من لا يهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون )([17]).



فلعلنا بذلك نمتثل أمر الله، ونصدق الأجر لرسول الله، ونعمل بسنته، ونكون من شيعته، ونتحرك لإعلاء كلمة الدين، وتوحيد المسلمين.



الفصل الأولمعرفـة أهـل البيـت(عليهم السلام)



* حبُّ أهل البيت (عليهم السلام) وولاؤهم



* ضرورة معرفة أهل البيت (عليهم السلام)



* النهج الواقعي لمعرفة أهل البيت (عليهم السلام)



* حبُّ أهل البيت (عليهم السلام) احياء أمرهم



حبُّ أهل البيت (عليهم السلام) وولاؤهم



يبقى الحديث عن أهل البيت (عليهم السلام) قائماً دائماً كالحديث عن القرآن الكريم، لا ينتهي أمده، ولا يقف عند حدٍّ ذكره، فإنهما حبلان لا ينقطعان إلى يوم القيامة عهد من الله لرسوله أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ألا فتمسّكوا بهما فإنهما حبلان لا ينقطعان إلى يوم القيامة ([18]).



ويبقى ودّهم أجر الرسالة،لقوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى )([19]). وليس للرسالة من أمد، لأنهم العترة الطاهرة، والعروة الوثقى، وهم صراط الله المستقيم، لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : الصراط ولايتنا أهل البيت ([20]) وهم ورثة الانبياء والمرسلين، لقول الامام الرضا (عليه السلام) : نحن ورثة أُولي العزم من الرسل ([21])، وقول الامام الصادق (عليه السلام) : إن سليمان ورث داود، وإن محمداً ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً، وإن عندنا علم التوراة والانجيل والزبور وتبيان ما في الألواح ([22]). وهم منطلق الوفاق لقول فاطمة الزهراء (عليها السلام)بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبتها المعروفة : جعل الله... وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً للفرقة ([23])، ومفترق الايمان والنفاق، لقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا علي، لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق ([24])، والحق منهم ومعهم يدور حيث يدورون لقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : علي مع الحق والحق مع علي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة ([25])، ومن تمسّك بهم نجا، ومن تخلّف عنهم غرق وهوى، لقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ([26]).



وقد قلنا إن حبّهم (عليهم السلام) محور يتوحّد به المسلمون وترصّ صفوفهم ويعلو به بنيانهم وشأنهم، وتقوى به شوكتهم، ويكون الدين كلّه لله.



وهنا نتساءل عن حقيقة هذا الحب الذي هو أجر للرسالة، ماذا يراد منه ؟ وماذا يريد به أمين الرسالة ؟



ويأتي نداء السماء مؤكداً ومنساباً إلى النفوس الصافية، والعقول اللبيبة في خطاب الروح الأمين : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله )([27]).



ويتتابع الخطاب الإلهي كاشفاً عن حقيقة هذا الحب، وواقع هذا الاتّباع، ومدى ارتباطهما بالايمان والارتداد بكل صراحة : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يُحبّهم ويُحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )([28]) والحبّ فضلٌ من الله، وجهاد في سبيله، لا يخاف أهله فيه لومة لائم ولا سطوة ظالم.



وتكتمل مسيرة الايمان، وتنتظم جهود المؤمنين، وتتبلور الرعاية الربّانية في القدوة المتفانية في خط الولاية الإلهية، والقاعدة الملتفّة حولها، المنشدّة إليها حبّاً وولاءً وإخلاصاً واتّباعاً، وبهذا تتمّ النعمة ويكتمل الدين، كما قال جل من قائل : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً )([29]).



وإن لم تكن الولاية لله ولرسوله ولأهل بيته فلمن تكون ؟ والعقل والوحي يتطابقان : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتّبع أم من لا يهِدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون )([30]).



ولا يجتمع في قلب انسان حبّان متنافران، إذ : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )([31]). فالإيمان هو محض الحب لله سبحانه دون سواه، بل ( الذين آمنوا أشدّ حباً لله )([32])، وحبّ الله هو حبّ كل وليّ محبوب له، فقد ورد في الدعاء عنهم (عليهم السلام) : اللهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كل عمل يقرّبني إليك .



وهكذا يترشّح حبّ أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة من حبّ الله، وولاؤهم من ولاء الله، فإن سبيلهم هو سبيل الله، بل إن ولاءهم ـ الذي هو أجر الرسالة ـ هو السبيل إلى الله ( قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً )([33]).



ولا غرابة أن تتركّز هذه العقيدة عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بوضوح وجلاء عبر تاريخ مسيرتهم الطويلة، وتصبح سمة بارزة وعلامة فارقة للصادق منهم عن غيره.



فعندما دخل بعض الموالين على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)قالوا : إنّما أحببناكم لقرابتكم من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما أوجب الله عزّ وجلّ من حقّكم. ما أحببناكم للدنيا نصيبها منكم إلاّ لوجه الله والدار الآخرة، وليصلح لامرئ منّا دينه. فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صدقتم صدقتم، ثم قال : من أحبّنا كان معنا يوم القيامة هكذا ـ ثم جمع بين السبّابتين ـ ثم قال : والله لو أن رجلاً صام النهار وقام الليل ثم لقي الله عزّ وجلّ بغير ولايتنا أهل البيت للقيه وهو ساخط عليه، ثم قال : وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون * فلا تعجبْك أموالهم ولا أولادهم إنّما يريد الله ليعذّبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )، ثم قال : إن تكونوا وحدانيين فقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وحدانياً، يدعو الناس فلا يستجيبون له، وكان أول من استجاب له علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ([34]).



وقد دخل رجل آخر على الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً، فقال له الامام (عليه السلام) : ممّن الرجل ؟ فقال : من محبّيكم ومواليكم، فقال له جعفر (عليه السلام) : لا يحبّ الله عبدٌ حتى يتولاّه، ولا يتولاّه حتى يوجب له الجنّة. ثم قال له : من أي محبّينا أنت ؟ فسكت الرجل. فقال له سدير : وكم محبّوكم يابن رسول الله ؟ فقال : على ثلاث طبقات : طبقة أحبّونا في العلانية ولم يحبّونا في السر، وطبقة يحبّونا في السر ولم يحبّونا في العلانية. وطبقة يحبّونا في السر والعلانية، هم النمط الأعلى، شربوا من العذب الفرات، وعلموا بأوائل الكتاب وفصل الخطاب وسبب الاسباب، فهم النمط الأعلى.



والطبقة الثانية النمط الأسفل، أحبّونا بالعلانية وساروا بسيرة الملوك، فألسنتهم معنا وسيوفهم علينا.



والطبقة الثالثة النمط الاوسط، أحبّونا في السرّ ولم يحبّونا في العلانية. ولعمري لئن كانوا أحبّونا في السرّ دون العلانية فهم الصوّامون بالنهار القوّامون بالليل، ترى أثر الرهبانية في وجوههم، أهل سلم وانقياد.



قال الرجل : فأنا من محبّيكم في السرّ والعلانية.



قال جعفر (عليه السلام) : إن لمحبّينا في السرّ والعلانية علامات يُعرفون بها.



قال الرجل : وما تلك العلامات ؟ قال : تلك خِلال أوّلها أنهم عرفوا التوحيد حق معرفته، وأحكموا علم توحيده، والايمان بعد ذلك بما هو وما صفته، ثم علموا حدود الايمان وحقائقه وشروطه وتأويله ([35]).



وما افتتن المسلمون في مسيرتهم الرسالية إلى الله تعالى كما افتتنوا بأمر الولاية.



ومن أجلها يدعو صادق آل محمد ربّه طالباً معرفة الحق في الدين قائلاً : اللّهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهم عرّفني رسولك فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني .



والمعرفة يستلزمها الحب، والحب يقتضي الطاعة والعمل، والطاعه تتقوم بالصبر والمصابرة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ولقد شكى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حسد الناس فقال له : يا علي، إن أول أربعة يدخلون الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وذريتنا خلف ظهورنا، وأحباؤنا خلف ذريتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا ([36]). ولنعلم أن الله سبحانه لا يُخدع عن جنّته هيهات لا يخدع الله عن جنته ([37])، فقد أعدّها للذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق([38]).



وليعلم كل من أحب أهل البيت (عليهم السلام) حبّ علم ودراية وطاعة وولاية، أن أمانتهم عظيمة لا يحملها إلاّ من امتحن الله قلبه للايمان، ووطّن نفسه على طريق ذات الشوكة، وهم كما وصفهم صادق آل محمد : مسّتهم البأساء والضرّاء، وزلزلوا وفتنوا، فمن بين مجروح ومذبوح، متفرّقين في كل بلاد قاصية... وهم الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً وخطراً ([39]).



يغمرهم ربّهم بلطفه ورحمته، ويهديهم بإيمانهم كما وعدهم، إنه لا يخلف الميعاد : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين )([40]).



ضرورة معرفة أهل البيت (عليهم السلام)



لم يختلف المسلمون منذ نزول الوحي والصدع بالرسالة إلى يومنا هذا، في أن تنزيلاً إلهياً قد جاء بنصّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة بتنزيه أهل البيت(عليهم السلام) عن الرجس وتطهيرهم، ولزوم حبّهم والولاء لهم. ولهذا نجد أنه لا يكاد يخلو كتاب حديث لأي محدّث من فرق الاسلام وطوائفه من إيراد ذلك مسنداً بطرقه العديدة، معتبراً برواته ومناسباته، على الرغم ممّا طال الحديث من تحريف هادف، ووضع مغرض لمقاصد سياسية حاول رجاله طمس معالم ومقام أهل البيت(عليهم السلام)، وموقعهم العلمي والقيادي في حركة الرسالة والأمة، وتوظيف كل ذلك التحريف والوضع لإضفاء الشرعيّة على القيادات والحكومات الغاصبة للحكم الاسلامي في العهود الأموية والعباسية، وتبرير الجور والظلم الذي صبّته تلك الحكومات على أهل البيت(عليهم السلام)، وعلى الأمة الموالية لهم والسائرة على هديهم والقائلة بحقّهم.



إلاّ أن الاختلاف جاء ـ كعادة من أعيته السبل لحرف النصّ الحق والذكر المبين ـ على صورة تكلّف للتأويل، وتمحّل للدلالة إلى غير ما تفصح به النصوص على اختلاف صيغها ومناسباتها، حتى وصل الامر إلى التأويل الغريب للنصّ الواضح بحدّه المبين.



وقد خاض أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم المخلصون جهاداً مريراً، ملؤه العلَق والعرَق والشهادة والسجون والتجويع والتشريد في الآفاق، دفاعاً عن التنزيل الإلهي والتأويل النبوي للكتاب الكريم والسنّة الشريفة، فزادهم ذلك تجذّراً في الأمة، وسطوعاً في حقيقتهم وموقعهم من الرسالة، وما زاد أعداءهم إلاّ خبالاً، فتخبّطوا ولم يحصدوا إلاّ السقوط في مهاوي الدجل والضلال وسبل الظلم والجور، وتداعت دولهم وتلاشت دعواتهم، دولة بعد أخرى وجيلاً بعد جيل، ولم تنزوِ الحقيقة في زوايا ظلامهم، ولم يُطمر الحق في مقابر ضلالتهم، بل امتدت إلى كل طلاّبها، واتسعت دائرة أتباع أهل البيت، فلا تجد مصراً إلاّ ولهم فيه عشّ كبر أو صغر، ظاهر معلن، أو خفي مستور.



ولم نجد لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم ـ بحقّ ـ تخلّفاً، عبر تأريخهم الطويل، عن كل ما من شأنه حفظ بيضة الاسلام، والدفاع عن كيانه السياسي وأصوله العقائدية أمام قوى المشركين ودولهم، خصوصاً بعد أن دالت لها الامور وقويت شوكتها، على أثر تداعي الحكومات التي نسبت نفسها للاسلام رسماً واسماً، ونأت عنه حكماً وتطبيقاً، فبان على أثر ذلك عمق أطروحة أهل البيت (عليهم السلام) في قيادة الأمة نحو حاكمية الاسلام المحمدي الأصيل، ودورها الاساسي في رسم الخط السياسي الثوري الذي وضع كل تلك الحكومات وأجهزتها الممتدة في أمصار البلاد الاسلامية، أمام محكمة الاُمة التي تربّت على أيديهم ونهجت نهجهم، وصولة علمائها المجاهدين من روّاد مدرستهم الكبرى، حتى جاء عصر الاستعمار الحديث الذي مهّدت له القوى الطامعة بأكبر حملة استطلاعية، وأعظم عملية استكشافية حاولوا بها معرفة الدينَ الإسلامي في مبانيه وأحكامه، ومدارسه وفرقه، وتراثه وآثاره، والأمة الاسلامية بشعوبها وأقطارها، وعاداتها وتقاليدها، ونقاط قوّتها وضعفها، ومكامن العلم من الجهل لدى أبنائها، وذلك بهدف ضربها في مكامن الضعف وتضعيف نقاط القوة، وقد وضعت كل هذه المعلومات والدراسات في خدمة وزارات المستعمرات الاوربية، وبدأت مهمّة التقويض الكبرى للاسلام وأمته المجيدة.



وكان الركن الاساسي في الحملة تهرئة قدسية هذا الدين بتوهين أمّهات عقائده وأصوله، وتفريق أمته وتمزيق وحدتها بزرع مقولات الجاهلية الجهلاء، وإحياء البدع والسنن الوضعية، ونشر الشاذّ من الحديث والتأويل، وتتبّع السقطات السوداء في تاريخ حكّام المسلمين ودولهم، وأثمرت جهودهم رجالاً ومدارس تدعو بدعواتهم، وتنهج نهجهم، وتحكم بأطروحتهم، وساد سلطانهم في أوساط الأمة، وقامت لهم دول وانتظمت على نموذجهم في أوربا المشركة.



وخاضت شعوب الأمة الاسلامية بقيادة علمائها وقادتها المخلصين صراعاً شاملاً، للوقوف في وجه هذه الموجة العلمانية الكافرة بقيم الدين ومُثله العليا، فانتصرت في بقاع، وقام لها كيان ودولة، وأينع عودها، وقويت شوكتها. ولا زالت بين كرّ وفرّ في بقاع أخرى، وادرك الممتحنون من أبناء هذه الأمة قيمة القيادة الإلهية، وضرورة الوحدة الاسلامية على صراط محمد وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وراحوا يتساءلون عن سرّ النصر ومكمن الهدى الإلهي، الذي يتمتّع به أتباع أهل البيت الكرام (عليهم السلام) في جهادهم المتواصل وقدرتهم الفائقة، ومنهجهم المبدئي في إعلاء كلمة الله تعالى، وإجابة واعية المسلمين المضطهدين في كل مكان وفي كل أرض دوّى عليها نداء يا للمسلمين.



ولعلّ من أهم وأبرز أهداف علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هو تحقيق هذه الغاية السامية، والأمل الكبير لأمة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في نفض الغبار عن حقائق التنزيل الإلهي المبين، والتأويل النبوي الشريف، واستجلاء حقيقة الثقلين، والتمسّك بحبل القرآن الكريم والعترة الطاهرة، وذلك للتصدّي لقوى الاستكبار المشرك والاستعمار الفاجر، بما لديهم من الحق بحدوده الإلهية المطلقة، والنهج بمعالمه المحمديّة الأصيلة التي أثبتت عبر هذا التاريخ الطويل صمودها ورسوخها أمام كل صور المواجهة والكيد، وأعلت كلمة الله تعالى أينما حلّت.



وليس بخاف عنّا كيف حفظ أهل البيت (عليهم السلام) ـ بتسديد إلهي ـ الاسلامَ في كتاب الله الكريم وسنّة نبيه العظيم، وكيف قادوا الأمة وبنوا الجماعة الصالحة بعلمها السامق، وجهادها المتواصل، واندكاكها في ذات الله، فاستحقّوا وصف الحق بقوله العزيز : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )([41])، وسار أتباعهم الصالحون على نهجهم، لم يتحكّم فيهم سلطان غير سلطان الله عزّوجلّ، ولم تلفّهم دولة، ولا خضعوا لقيادة غير القيادات الشرعية.



وتحقيقاً لهذه المهمّة الرسالية العظيمة انبرى المخلصون من أصحاب الفكر والرأي والقلم لخوض هذا الغمار، والانفتاح بكل صدق وموضوعية وإخلاص على أطروحة أهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، ومدرستهم الكبرى، نظريةً وتأريخاً وتجربةً، تبصّراً في أمرها، ومعرفة للحق من أجل اتباعه، وللباطل من أجل رفضه فإن العاقل من رفض الباطل وتمسّك بالحق.



ونوجه خطابنا إلى كل الحواضر والمؤسسات العلمية والاعلامية للدائرة الاسلامية الواعية، أن تطرح نفسها منبراً من منابر هذه الدعوة الكريمة، للتعريف بأهل البيت (عليهم السلام) وبمعالم مدرستهم الكبرى، وتفتح أبوابها لكل مجيب مخلص، وعالم مجاهد، ورائد وافد، وأن تواصل مهمتها هذه بعون الله وتسديده حتى يتبيّن الحق وهداته فيتّبع، ويتحقق الحق في قوله تعالى : ( أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون )([42]).



النهج الواقعي لمعرفة أهل البيت (عليهم السلام)



إنّ حركة التاريخ الاسلامي وعملية التغيير المتواصلة فيها جانبان جوهريان :



الجانب الأول : هو محتوى الرسالة الإسلامية، ومضمون أطروحة التغيير الإلهية المتمثّل بالتنزيل الحكيم والقرآن الكريم والسنّة الشريفة. وهذا الجانب إلهي تكفّله الله سبحانه وأنزله على نبيّه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كاملاً لا نقص فيه : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُم الإسْلامَ دِيناً )([43]) وسدّده بالوحي : ( وَما يَنْطِقُ عَن الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى )([44]) وصانه بالطهارة والعصمة.



والجانب الثاني : في عملية التغيير هذه جانب اجتماعي حركي، بما هو متجسّد في الرسول وأهل بيته والصفوة من أتباعهم، بكلّ ما في هذا الجانب من صراع وكفاح بين تلك العصبة الإلهية وبين التيّارات الاجتماعية المختلفة الرابضة حولها، والمشتبكة معها في أشكال الصراع العقائدي والاجتماعي والسياسي والقتال العسكري.



فهي هنا عملية تغييرية ببعدها البشري المتجسّد واقعاً حيّاً على ساحة التاريخ وحركته الميدانية، وهي بهذا مرتبطة ارتباطاً فعلياً مع الوجودات والتيّارات البشرية الاخرى، التي تعيش هذا التجسيد وتقف منه مؤيدة أو رافضة مقاومة. فهي إذن ـ بهذا اللحاظ ـ عملية بشرية يتحكّم في أفرادها وتجمّعاتها ما يتحكّم في سائر الناس أفراداً وجماعات، من سنن وقوانين اجتماعية على مرّ الزمن ومختلف الأعصار والأمصار : ( وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ )([45]).



وكون هذا الجانب في حركة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)والصفوة الصالحة من أصحابهم، عملية بشرية محكومة للسنن والقوانين الاجتماعية، لا يخرجها عن أصولها الإلهية المتضمّنة في محتوى الرسالة الاسلامية، بل هي وجه كاشف وسيرة حاكية عن تلك الأصول، إلاّ أنها في تفريعاتها تفترق عنها في المصاديق الجزئية والموضوعات الخارجية. وهي بهذا تعتبر متحرّكة متغيّرة بلحاظ الزمان والمكان، وتُرى وكأنّها منطقة فراغ في الرسالة تفتقر إلى تشخيص مواطن المصلحة ومواطن المفسدة في مفرداتها، فتكون حركة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) ومواقفهم فيها كاشفة عن تلك المصالح والمفاسد، ومشخّصة للموقف الاسلامي منها.



ومن خلال هذه النظرة المركّبة يمكننا اكتشاف وتحديد معالم المنهج المتكامل في معرفة الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) ومعرفة دعوتهم التبليغية في الناس وإعدادهم للصفوة الرائدة وبنائهم للأمة الراشدة.



لذا يجب أن يُلحظ الجانبان متعانقين في تقويم المفردات الموضوعية لسيرتهم(عليهم السلام)، واستخلاص الحقائق والرؤى منها.



فمن حيث انتسابهم للاسلام مبلّغين هادفين هم ربّانيون مهيمنون على الواقع الانساني، وحاكمون مستوعبون لحركة التاريخ، بما اختصّهم الله به من رسالة الوحي وشرعة التنزيل، ومن حيث كونهم دعاةً مغيّرين متقوّمين بواقع الانسان وجهده الخاص في حركتهم الميدانية على ساحة التاريخ، بما فيها من قوىً بشرية أخرى تنسجم معها أو تقاومهم وتصارعهم في حركتهم تلك، هم بشر تحكمهم سنن وقوانين اجتماعية، وتتحكّم فيهم ضوابط وشروط وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم حركة الانسان والمجتمع، ورسم مساره في الحياة، سواء اختار مسار الانحطاط والشقاء، أو مسار الكمال والسعادة : ( سُنّة اللهِ الّتي خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّة الله تَبْديلاً )([46]).



ففي معركة بدر الكبرى، مثلاً، عندما التقى الجمعان ; المسلمون بقيادة الرسول الامين(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشركون بقيادة أبي جهل وطغاة قريش، تحقّق النصر الاكبر والفرقان الاعظم للحق على الباطل، عندما توفّرت الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب السنن والقوانين الكونيّة لحركة الانسان الاجتماعية، وكان أساس شروط النصر هذه وأهمّها التقوى، وصبر المسلمين في الله وفي طاعة رسوله الذي استحق رفد يد الغيب، وفيض المدد الإلهي ونفوذ سنّة النصر للمسلمين في تلك المعركة الفاصلة : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُم اللهُ بِبَدْر وأنْتُم أذِلَّةٌ فاتَّقوا الله لَعَلَّكُم تَشْكُرون * إذْ تَقُولُ للمُؤمِنين ألَنْ يَكْفِيَكُم أنْ يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلاثةِ آلاف مِن الَملائِكَةِ مُنْزَلين * بَلى إنْ تَصْبِروا وَتَتَّقوا وَيَأتوكُمْ مِنْ فَوْرِهِم هذا يُمْدِدْكُم رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِن المَلائِكَةِ مُسَوِّمينَ * وَما جَعَلَهُ اللهُ إلاّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئنَّ قُلوبُكُم بِهِ وَما النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ الله العَزِيز الحَكيم )([47]). وبنفس الرؤية وزاوية اللحاظ خسر المسلمون معركة أحد مع المشركين ; لأنّهم فقدوا في اللحظات الحاسمة من المعركة الشروط الاساسية للنصر، فهم بعد أن خالف أكثرهم رأي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في التحصّن في المدينة المنورة، وتشتيت المشركين وسحقهم في طرقها وأزقتها، أصرّوا على الخروج الى المشركين خارج المدينة وقتالهم بعيداً عن مدينتهم، ثم جاء منعطف الوهن الثاني من خلال المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين بقيادة عبدالله بن أُبي بن سلول، الذي استطاع أن يثني أكثر من ربع الجيش عن المعركة لينسحب بهم بعيداً عنها، وفي أوج النصر الاولي للمسلمين في المعركة حدثت الثلمة الثالثة التي أجهزت على ذلك النصر وتلك الغلبة، عندما عصى الرماة الذين أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بحماية ثغور المسلمين الخلفية، وتركوا مواقعهم واندفعوا نحو الغنائم، فانكشف ظهر الجيش الاسلامي، فكانت فرصة المشركين لضرب المسلمين من الخلف وبعثرتهم وكسر شوكتهم، ونزل في ذلك الوحي على رسوله الكريم بقرآن مبين : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بإذْنِهِ حَتّى إذا فَشِلْتُم وَتَنازَعْتُم في الأمْر وَعَصَيْتُم مِنْ بَعْدِ ما أراكُم ما تُحِبُّونَ مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنيا وَمِنْكُم مَنْ يُريدُ الآخرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُم عَنْهُم لِيَبْتَلِيَكُم وَلَقَدْ عَفا عَنْكُم واللهُ ذو فَضْل على المُؤمِنين * إذْ تُصْعِدونَ وَلا تَلْوونَ على أحَد وَالرَّسولُ يَدْعُوكُم في اُخراكُمْ فَأثابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنوا على ما فاتَكُمْ وَلا ما أصابَكُمْ واللهُ خَبيرٌ بِما تَعمَلون )([48]).



وفي مسألة المرجعيّة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن جزافاً تأكيده على تحديد هويّة أهل البيت (عليهم السلام) ومقامهم، في كل مناسبة مواتية وفرصة سانحة، لتثبيت الوحي والأمر الإلهي بخلافتهم وإمامتهم من بعده، فهو يعلم كل العلم أن الأمّة ستعيش من بعده مشكلة القيادة لمسيرة الاسلام وحاكميّته على الارض، تلك المسيرة التي عمل وتحمّل ما تحمّل من أجل حفظها وحمايتها من الانتكاس والانكفاء عن أهدافها التي رسمها القرآن الكريم.



إنّ هذه النظرية في تناول تلك السيرة المباركة تنسجم انسجاماً تامّاً مع المنهج الشمولي والنظرة المترابطة لها، فمن يتناول وفق هذه النظرية سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعناياته الخاصة بأمّهات المسائل العقائدية والسياسية الكبرى في الاسلام وحركته الميدانيّة، ويربط ذلك بسير القيادة الاسلامية عبر العصور التالية ، يعِ بوضوح وعمق حقيقة ومرامي مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) القائل عنها: فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون إلى محق دين محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب، أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه ([49])، كما يدرك حكمة صلح الامام الحسن (عليه السلام)، وعظمة الهدف في نهضة الامام الحسين (عليه السلام)، والطريقة المأساوية في تفاصيل وقائع الثورة الدامية التي كانت أحد عوامل خلودها وتعاظم أثرها في المسلمين، بل في غيرهم عبر التاريخ الاسلامي والانساني المديد، ويسبر أغوار النهج التربوي الذي سلكه الامام السجاد (عليه السلام)، ليكشف أسراره وآثاره البليغة في إيجاد الارضية الخصبة لمدرسة التجديد والاحياء لدين محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) على يد الصادقين (عليهما السلام) ; ليتّصل كلّ ذلك بأدوار الأئمّة من بعدهم التي رافقها ولازمها شتّى أنواع الارهاب والبطش والسجن والتشريد والاغراء والاغواء، حتى الشهادة دون أهدافهم الإلهية التي جاهدوا من أجلها.



إنّ انتهاج هذا السبيل التكاملي والطريقة الشمولية في دراسة تاريخ وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، سوف يحقق لنا رؤية إسلامية واقعية تجمع بين المبادئ والمثل الاسلاميّة العليا، التي تمثّلها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، والسنن والقوانين الاجتماعية التي حكمت مسيرتهم التغييرية في الواقع الانساني. وبذلك نحصل على المعرفة الصادقة لهم، وتتكامل لدينا نظرية التأسّي والاقتداء بهم (عليهم السلام) ، سواء في سلوكهم الفردي أو في حركتهم الاجتماعية، اللذين سيكون بهما علاج أهمّ مشكلة يعاني منها المسلمون اليوم في صراعهم الحضاري مع قوى الكفر والاستكبار، وتحقيق شروط بناء كيانهم الاجتماعي والسياسي في خضمّ هذه المواجهة الدامية، فوفق هذا المنهج يمكننا اكتشاف القوانين والاساليب والشروط التي أودعها الله تعالى الواقعَ الاجتماعي، والمتحكّمة في مسيرة العمل التغييري التي باستهدائها ـ في الكفاح والجهاد الذي يخوضه المسلمون اليوم ـ تتحقق الاهداف الإلهية التي يرمون إليها، ويكون النصر حليفهم في كل بقاع الارض، ويحقّ القول الإلهي الكريم فيهم : ( وَالّذينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِينَّهُم سُبُلَنا وَإنَّ الله لَمَعَ الُمحْسنِين )([50]).



حبّ أهل البيت(عليهم السلام) إحياء أمرهم



عن الأزديّ، عن الامام ابي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: قال لفضيل: تجلسون وتحدّثون؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: إنّ تلك المجالس أُحبّها فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا...([51]).



وعن الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يقول: رحم اللّه عبداً أحيا أمرنا، فقلت له:وكيف يُحيا أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعون([52]).



وقبل الخوض في الكيفية نشير إلى أن بعض علمائنا ومفكرينا، قد ذهب إلى أن مسألة إحياء أمرهم(عليهم السلام) تعني احياء نظريتهم السياسية، في بناء الكيان السياسي الاسلامي على أساس مبدأ الإمامة والولاية في الحكم، فقد ورد في الحديث عن الامام علي بن أبي طالب(عليه السلام): الإمامة نظام الأمة([53]).



وعن الامام محمد الباقر(عليه السلام): بُني الاسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والحج، والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية([54]).



وعن الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): ... إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين. إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي...([55]).



كما وأن الأحاديث متواترة في أنّ إمامة المسلمين وولاية أمرهم لا تعدو أهل البيت الطاهرين(عليهم السلام)، كحديث الثقلين المعروف وأمثاله، ومنها ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ... من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعدنيها ربي... فليتولّ علي بن أبي طالب وأوصياءه من بعده، فإنّهم لا يدخلونكم في باب ضلال، ولا يخرجونكم من باب هدىً، فلا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم، وإني سألت ربّي ألاّ يفرّق بينهم وبين الكتاب حتى يردا عليّ الحوض...([56]).



وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): ... أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من اللّه من أهل بيتي، يقومون في الناس فيكذَّبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتّبعهم وصدّقهم فهو مني ومعي وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني ولا معي، وأنا منه بريء([57]).



وغير ذلك من الروايات والنصوص الشريفة.



ومما لا شك فيه أن من أهم الوسائل للتوعية هو إقامة المجالس لذكر فضائلهم وفواضلهم، وبيان مقامهم وسيرتهم، والعرض الواعي للمحن التي مرّت بهم، والمصائب التي وقعت عليهم، وما انطوت عليه أدوارهم من أسرار وحقائق في طريق حملهم للأمانة، وتبليغهم للرسالة، ودعوتهم لإقامة الدين، وحفظهم لمعالمه، وحمايتهم للشرعة التي جاء بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأبلغ في بيانها، وجاهد لإعلائها. ولقد شكلت بعض الحوادث منعطفات في هذا المسير، وكان في طليعتها واقعة الطف الكبرى وما اشتملت عليه من وقائع دامية وحوادث مروعة، فإنّه لم يمر تاريخ الانسانية بمثلها، ولا عرفت سيرة الأمم والشعوب نظيراً لها، من قتل فجيع لأهل بيت النبوة الطاهرين وأصحابهم البررة، وسلب وحرق وسبي لبنات الرسالة، وأطفال العترة الطيبة من أولاد علي وفاطمة وأهل بيتهما(عليهم السلام).



وإحياء أمرهم هذا إحياء للضمائر الانسانية، وإجلاء للفطرة البشرية، فتكون بذلك في معرض التدبر والتأمل والتفكّر والتذكّر دروساً وعبر، فيصدق عليها قول الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) فيها: من جلس مجلساً يحيي فيه أمرنالم يمت قلبه يوم تموت القلوب([58]).



ولعلّ أول مجلس أحيا أمر أبي عبداللّه الحسين(عليه السلام)، وشعّت منه معالم رسالة أهل البيت(عليهم السلام)، وصدعت بحقهم مقالة الصدق فيه، وأجلت عن البصائر غبشها، وعن القلوب رينها، فظهر الحق وردع الباطل بها، هو المجلس الحسيني والمأتم التأبيني للإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وصحبه الكرام، الذي أقامه الامام زين العابدين(عليه السلام) في الشام معقل يزيد وبطانته الفاسدة مدة ثلاثة أيام([59]). ومنه انطلق أتباع العترة الطاهرة في مجالسهم العامرة ومواكبهم المتواصلة، واتسعت رقعتها يوماً بعد آخر، حتى أصبحت شعاراً عظيماً من شعائر أهل البيت(عليهم السلام)، وصدق فيها قوله عزّ من قائل: (وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإنّها مِنْ تَقْوى الْقُلُوب)([60]).



ولذلك معان ومبان كثيرة لا يتّسع المقام هنا لبيانها، إلاّ أننا لا نشك في أن من أهمها ما يلي:



1 ـ إن تتبع سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) المليئة بالاحداث والوقائع، والتحليل الواعي لها، والوقوف على أسرارها ونكاتها، خصوصاً وقائع ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) الدامية، سيكشف لنا عن موقف الرسالة من تلك الاحداث والوقائع، ويبين لنا حكم اللّه فيها، مما يجعل إحياء ذكراها عاملاً أساسياً في وعي الأمة الاسلامية لتاريخها الصادق، وامتلاكها للرؤية الاسلامية الصحيحة في العمل السياسي، وقضية الحكم وطريقة مواجهة الظلم والجور، والصدع بالحق وإقامة العدل، وأسلوب أداء فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهجية الدعوة إلى الاسلام وسبلها القويمة.



2 ـ إن ترسيخ وتجذير الحب الروحي والارتباط الوجداني والعاطفي بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، كان ـ وما زال ـ من أبرز طرقه الفاعلة وأساليبه البليغة، هو إحياء ذكريات أحزانهم التي تجسدت من خلال المآسي والظلم والجور، الذي وقع عليهم خلال مسيرتهم الجهادية المتواصلة لإعلاء كلمة اللّه، والحفاظ على دينه الحق. وأشد تلك المآسي حزناً ولوعة مأساة الطف الدامية، وقتل الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه البررة بتلك الصورة المروّعة، وسبي نسائه وأطفاله بكل قسوة ووحشية مغللين بالاصفاد يدار بهم بين العباد من بلاد إلى بلاد.



3 ـ إن في تعاهد إحياء أمرهم، وإقامة شعائر الله في ذكريات أحزانهم وأفراحهم، تنمية لروح العصبة المؤمنة بالله وبرسالة وقيادة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) للمسيرة الاسلامية الكبرى، وتشييداً لأواصر الجماعة الموالية لهم، والمتكافلة على خطهم، والمتفانية في البذل والتضحية من أجل إرساء قواعد مدرستهم، وتوعية الأمة ودعوة البشرية لاستهداء أطروحتهم الاسلامية، في إقامة حكم الحق والعدل الالهي على ربوع الارض، والخلاص من الظلم والجور الذي يطالهم على يد الطغاة والجائرين من المستكبرين والمفسدين في الارض.



ولا بد لنا هنا من وقفة تصحيحية تمليها الضرورة الراهنة لمصلحة الاسلام العليا، نقول فيها حقاً ونردع باطلاً، تلك هي بيان حكم الله الحق، حكم الاسلام الأصيل في بعض البدع والممارسات الشاذة، التي توهم بنسبتها إلى الاسلام ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، الحكم الذي ظلّ طي الكتمان في صدور الكثير من فقهائنا وعلمائنا في أغلب الأدوار والعهود، خلا مقاطع كان بعضهم يشخّص فيها ضرورة التصدّي والبيان لمساوئ هذه الممارسات وسلبياتها، وكونها خارجة عن الاسلام، ولا تسوغ ممارستها سواء في الحواضر الدينية أو في غيرها.



إن بعض الممارسات الشاذة التي يقوم بها البعض عند إقامة مراسم العزاء على الحسين(عليه السلام)، مما لم يندب اليه نص اسلامي ولا قام عليه توجيه من المعصوم، إنما هو بدعة من جهة، وخرافة وتشويه للاسلام ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام)لدى الرأي العام الاسلامي والعالمي من جهة اخرى. وإن هذه الممارسات وأمثالها لو كانت مشروعة أو مستحبة لنقلت إلينا في سيرة أئمتنا الطاهرين(عليهم السلام) وعلمائنا الابرار، ولبادر إليها أهل الدين والصلاح، بل على العكس من ذلك أظهر علماؤنا آراءهم باستهجان مثل هذه الممارسات. وإن عدم تصدّي البعض الآخر إنما كانت علته غالباً عدم كون الاسلام ونظامه في موقع السلطة والمسؤولية، وفي معرض الطرح بديلاً لسعادة الانسانية على المستوى العالمي.



كما أن هذه الممارسات لم تكن تنعكس في دائرتها المحلية إلى الدائرة العالمية، من خلال وسائل الاعلام المضادة، إلاّ بعد أن برز الاسلام وامتدت صحوته إلى آفاق الدنيا، ودخلت تقارع الكفر في عقر داره.



إن علينا أن نطهّر سلوكياتنا من أي مظهر مبتدع لم يأت به الاسلام، ولم يدع اليه حتى بنص عام، ثم إن الاسلام ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام)هما اليوم في معرض الاختبار، وتحت مرصد عيون الاستكبار الكافر وعملائه الحاقدين، فيجب ألاّ نسمح ببروز هذه البدع والممارسات الخرافية والشاذة، خصوصاً وأن الكفر في أوربا وأميركا يتربص بنا لتصعيد هجومه الثقافي المضاد، للنيل من عظمة هذا الدين وشموخ مدرسته الرائدة، منها عرضه الافلام الوثائقية والصور المثيرة، ونشر المقالات حول هذه الممارسات، في الوقت الذي يحرص علماؤنا الابرار وقادتنا المجاهدون والنخبة الصالحة من الدعاة العاملين، على طرح الاسلام عقيدة شامخة ونظاماً بديلاً وفكراً رائداً للبشرية المعذبة; لينتشلها من محنتها ومعاناتها، ومن الظلم والفساد الذي لحق بها أجيالاً تلو أجيال.



هذه الدعوة المباركة التي أخذت موقعها السامق في وسط عشاق الحق والعدل، وطلاب الحقيقة والصدق، وبدأت تتنادى لها الشعوب والجماعات، ويتوالى للالتحاق بركبها رجال الفكر والقلم الحر، يجب ألاّ نسمح للجهلة أو المغرر بهم أن يشوهوها ويصادروا مكاسبها الجبارة.



حان الوقت أن ينبري علماؤنا الاعلام وخطباؤنا الفضلاء وأهل الكلمة الصادقة والقلم الأمين، لبيان عظمة الاسلام والقرآن وعظمة سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله)وأهل البيت(عليهم السلام)، وبخاصة القيمة الرسالية الفريدة لثورة الامام الحسين(عليه السلام)، والآثار الكبرى التي تمخّضت عنها وتنامت من خلالها، حتى وصل شعاعها إلى كل أمصار الأمة الاسلامية وأغلب الأحرار في أرجاء العالم، واقتدى بها واستقى من دروسها أهل الملل والنحل، ورجال الاصلاح والتغيير في بلاد الله وعباده.



فمن ذكرى التضحية والهجرة إلى اللّه في أيام الله الكبرى، أيام الدم والشهادة، أيام السبي والتشريد لأصفى عترة وأطهر بيت، وأنقى المخدرات، وخير الشيعة والاصحاب، وعلى أرض كربلاء الطاهرة، ورمال الطف الملتهبة، تُستلهَم عبر، وتستقى دروس، ليكون يومنا أفضل من أمسنا، وغدنا أشرق من يومنا.



ومن هجرة الامام الحسين(عليه السلام) بأهل بيته وخلّص أصحابه يستمد الثائرون المؤمنون عزمهم الجهادي، ويرسمون خطاهم على طريق ذات الشوكة، مزلزلين عروش البغي، أو مهاجرين ومشرّدين في الاصقاع.



ومن بذله دمه الطاهر في سبيل اللّه تتدفق ينابيع الشهادة لتروّي العطش الكربلائي، وتغمر وجه الارض لتطهره من الدنس اليزيدي.



وممّن تضرّج أهل بيته بدمائهم بين يديه على أرض الطفوف، تستلهم القلوب المفعمة بالعشق الحسيني مواقفها الجريئة، وتقدم أنفسها على أكف البذل والعطاء مشاعل من نور تضيء دروب السراة.



ومن فداء أصحابه بأنفسهم من أجله في سبيل الله، تهوي كواكب الفداء والتضحية قرابين مكلّلة بغار الفخر وصدق العزيمة، مشفوعة بالابتهال إلى بارئها بحسن القبول، كما علمتنا زينب(عليها السلام) حين وضعت جسد أخيها الحسين(عليه السلام) بين يديها قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان.



ومن سبي أهل بيته ونسائه وأطفاله وتشريدهم في الامصار، يتأسى المسلمون في العراق وفلسطين ولبنان والجزائر والبوسنة وكشمير وغيرها من بلاد الاسلام المنكوبة، ويستلهمون الصبر والصمود في مواجهة النكبات وهتك الحرمات على أيدي الطغاة والجزارين، الذين يمثلون دور يزيد وعبيدالله بن زياد وعمر بن سعد وشمر وزجر، وينكّلون بالأحرار، ويعتدون على أعراض الحرائر المغيبات في الزنزانات والسجون، وهن صامدات يستلهمن من الصمود الزينبي عزيمة لا تلين، ومواقف لا تعرف الخنوع.



ومن موقف الامام الحسين(عليه السلام) في وجه طاغوت عصره، الذي رام محو الدين وطمس أسسه ومعالمه، استوحى المجاهدون من أتباع أهل البيت(عليهم السلام)والغيارى من أبناء أمة محمد(صلى الله عليه وآله) منهجاً ثورياً حرّاً، وموقفاً بطولياً راسخاً لا تثنيه التهديدات ولا تكسر شوكته المغريات ووسائل العنف، فصمدوا بوجه أعتى طغاة العصر، وأقذر أساليب القمع والارهاب حتى تخضبوا بدماء الشهادة، وتكلّلوا بتيجان الرضوان الأكبر.



ومن حرب البيان ومقارعة الطاغوت بكلمة الحق التي خاضتها بطلة كربلاء زينب العقيلة(عليها السلام)، وانبرى بها الإمام السجّاد(عليه السلام)، هدرت حناجر الصدق وأقلام العقيدة الصلبة بصوت الحق الإلهي الخالص، في وجوه الظلمة في كل مكان لأتباع أهل البيت(عليهم السلام) صولة فيه وجولة.



ومن مسيرة الطف التي توالت عبر أجيال المحبين لأهل البيت(عليهم السلام)، والموالين لهم ولمنهجهم الأصيل ومدرستهم الرائدة في إقرار الحكم الاسلامي، وإعلاء كلمة الله في الارض، تتقدم المسيرة الجهادية في طريق الحبّ والمودّة للعترة الطاهرة.



ومن الثورات التي اندلعت والدماء التي أُريقت والأنفس التي أُزهقت على طريق الحسين الشهيد، تأخذ ثورات الشعوب الاسلامية في كل الأمصار والأدوار العبر، وتستمد الدروس لتحقق الامل المنشود تحت راية قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه، في ملء الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.



(قُلْ هذِهِ سَبيلي أدْعُو إلى اللّهِ على بَصيرَة أنا وَمَن اتّبَعَني)([61]).



الفصل الثاني



الأصول الفارقة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)



الأصل الأول : حفظ الاسلام عقيدةً وتشريعاً



حركة الاجتهاد والتجديد



* أساس مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)



* جذور حركة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)



* حقيقة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)



الأصل الثاني : حفظ مصلحة الاسلام العليا



نماذج كبرى:



* الامام علي (عليه السلام) ومصلحة الاسلام العليا



* فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومصلحة الاسلام العليا



* الامام الحسن (عليه السلام) ومصلحة الاسلام العليا



* الامام الحسين (عليه السلام) ومصلحة الاسلام العليا



* حفـظ مصلحـة الاسلام العليا نهـج متواصـل في سيرة أئمـة



أهل البيت (عليهم السلام)



الأصل الثالث : حفظ وحدة المسلمين



(الأسس المبدئية للوحدة الاسلامية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام))



* الأساس الأوّل : وحدة العقيدة الاسلامية



* الأساس الثاني : وحدة التشريع الاجتماعي والسياسي العام



الأصل الأول : حفظ الاسلام عقيدةً وتشريعاً حركة الاجتهاد والتجديد أساس مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)



إنّ إفراد مدرسة خاصة لاهل البيت(عليهم السلام) وتمييزها عن غيرها من المدارس الاسلامية لم يأت جزافاً أو محاكاة لدعوى مدارس اخرى، وإنّما هو في الحقيقة تطبيق لوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي اودعها أمّته في قوله المشهور بحديث الثقلين: إنّي تارك فيكم أمرين إنْ اخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عزّوجلّ واهل بيتي عترتي. أيها الناس، اسمعوا وقد بلّغت. إنكم ستردون عليّ الحوض فأسألكم عمّا فعلتم في الثقلين، والثقلان كتاب الله جلّ ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم([62])، وكذلك انطلاقاً من الاوامر الالهية المتظافرة في تأسيس المرجعية الاسلامية المطلقة لأهل البيت(عليهم السلام)وإعداد وإبراز مدرستهم الكبرى وجعلها معلماً إلهياً لمن اراد إليه سبيلاً. وقد حكت هذه الحقيقة المئات من آيات القرآن الكريم واحاديث الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها:



1 ـ آية التطهير: (إنّما يريد الله ليذهبَ عنكم الرجس أهلَ البيت ويطهرَكم تطهيراً)([63]) فقد روي عن ام سلمة زوج النبي انّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في بيتها على منامة له عليه كساء خيبري، فجاءت فاطمة فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفضلة إزاره فغشّاهم إيّاها ثم اخرج يده من الكساء وأومأ إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء اهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهير.



وفي رواية اُخرى أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول: الصلاة يا اهل البيت الصلاة (إنّما يريد الله ليذهبَ عنكم الرجس اهلَ البيت ويطهرَكم تطهيراً)([64]).



2 ـ آية المودة: (قُل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى)([65]) فعن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه اجراً إلاّ المودة في القربى)قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): علي وفاطمة وابناهم([66]).



3 ـ آية المباهلة: (فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالَوا ندعُ ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين)([67]) وقد نزلت هذه الآية في قضية المباهلة، وهي كما رواها المؤرخون والمفسرون والرواة، أنّ وفداً من نصارى نجران جاء ليحاجج رسول الله ويحاوره، فأمره الله سبحانه بهذه الآية المباركة أن يدعو علياً وفاطمة والحسن والحسين ويخرج بهم إلى الوادي، وأن يدعو النصارى ابناءهم ونساءهم ويخرجوا معهم ثم يدعو الله بان ينزل العذاب على الكاذبين.



قال الزمخشري في الكشاف: إنّهم لمّا دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، وقد جاءكم بالفصل من امر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبيّاً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن، فإن أبيتم إلاّ إلف دينكم والاقامة على ما انتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.



فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوت فامّنوا فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا. قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا، فقال: فإني أُناجزكم فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كل عام ألفي حلة; ألف في صفر والف في رجب، وثلاثين درعاً من حديد. فصالحهم على ذلك، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده، إنّ الهلاك قد تدلّى على اهل نجران، ولو لاعنوا لمُسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران واهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكو.



ثم استطرد الزمخشري في حديثه عن تفسير آية المباهلة ومقام اهل البيت(عليهم السلام)بعد أن استشهد على عظيم مكانتهم بحديث عائشة، قائلاً: وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانتهم، وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الانفس مفدون بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل اصحاب الكساء(عليهم السلام) وفيه برهان واضح على صحّة نبوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم يَرو احد من موافق ولا مخالف أنهم اجابوا إلى ذلك([68]).



4 ـ آية التبليغ: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإنْ لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس)([69]).



وكان نزول هذه الآية في غدير خم. وفيما يلي بيان ذلك: لما صدر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع([70]) نزلت عليه في الثامن عشر من ذي الحجة([71]) هذه الآية. فنزل غدير خم من الجحفة([72]) وكان يتشعب منها طريق المدينة ومصر والشام، ووقف هناك حتى لحقه من بعده ورد من كان تقدم([73])، ونهى اصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث اليهن فقُمّ ما تحتهن من الشوك ونادى بالصلاة جامعة([74]) فصلّى الظهر بهجير([75])، ثم قام خطيباً فحمد الله واثنى عليه وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول ثم قال: إنّي أُوشك أن أُدعى فأجيب، وإني مسؤول وانتم مسؤولون، فما انتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً. قال: أليس تشهدون أن لا اله الاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن الجنّة حق وأن النار حق؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال: ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: يا أيّها الناس، إني فرط وأنتم واردون علي الحوض، وإن عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما.



فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: كتاب الله طرف بيد الله وطرف بايديكم، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا، وعترتي اهل بيتي، وقد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. سألت ذلك لهما ربي، فلا تَقدَّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فهم أعلم منكم([76]). ثم قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله([77])، قال: ألستم تعلمون ] أو تشهدون [ أني أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى يا رسول الله([78])، ثم اخذ بيد علي بن ابي طالب بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما. ثم قال: ايها الناس، الله مولاي وأنا مولاكم([79])، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([80])وانصر من نصره واخذل من خذله([81]). واحب من احبه وابغض من أبغضه([82]) ثم قال: اللهم اشهد([83]). ثم لم يتفرقا ـ رسول الله وعلي ـ حتى نزلت هذه الآية: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): الله اكبر على اكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي([84]).



وغير ذلك من آيات القرآن الكريم.



ولذا نجد أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك مناسبة مواتية إلاّ وأكد التعريف بأهل البيت(عليه السلام)ولزوم اتباعهم والانقياد لهم والالتحاق بمدرستهم الكبرى. منها:



حديث السفينة المشهور: وهو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنما مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق([85]).



وحديث الأمان من الاختلاف وهو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، واهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف([86]).



وحديث الكساء الذي روته ام سلمة (رض) أنّه كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتها يوماً فأتته فاطمة(عليها السلام) ببرمة فيها عصيدة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي لي زوجك وابنيك، فجاء علي والحسن والحسين فدخلوا وجلسوا يأكلون والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)جالس على دكة وتحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة قريباً منهم، فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الكساء، فغشاهم به ثم قال: اللهم اهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً قالت: فأدخلت رأسي، قلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): إنك إلى خير، إنك إلى خير، فأنزل الله عزوجلّ:(إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً)([87]).



وحديث المودة المروي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (قل لا أسألكم عليه اجراً إلاّ المودة في القربى)([88]) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): علي وفاطمة وابناهم.



ومنها أيضاً ما روي من أن آخر ما تكلم به رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو قوله: اخلفوني في اهل بيتي([89]).



وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): اذكركم الله في اهل بيتي([90]).



وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في موضع آخر: نحن اهل البيت لا يقاس بنا أحد([91]).



وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) حين خطب في الجحفة، فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإني سائلكم عن اثنين: عن القرآن واهل بيتي([92]).



وقد جمع امير المؤمنين(عليه السلام) المرام في بليغ الكلام حين قال نحن ]اهل البيت [شجرة النبوة ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكمة...([93]).



وقال(عليه السلام) أيضاً: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا؟... بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى([94]).



وقال(عليه السلام): فانهم ]اهل البيت[ عيش العلم، وموت الجهل. هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق([95])



وقال(عليه السلام) أيضاً: فيهم ]اهل البيت[ كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن; إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يُسبقو([96])



اذن فمدرسة اهل البيت(عليهم السلام) هي في الحقيقة مدرسة الرسالة والرسول تنزيلاً وتأويلاً وتطبيقاً.



ولا نتجاوز الواقع إذا قلنا: إن الاحاطة التفصيلية بمعالم هذه المرجعية والمدرسة الالهية لا تتأتّى إلاّ بتظافر جهود متواصلة لا انقطاع لها يبذلها العلماء والمتبحّرون في علومها ومسيرتها، وهو ما اضطلع به لحد الآن الاساطين والأعلام منهم جزاهم الله خيراً عن الاسلام ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام).



وفي دراستنا المختصرة هذه نسلط الضوء على الجذور الاولية لاصل أساسي من اصول هذه المدرسة النبوية الكبرى، وهو الاجتهاد والتجديد الذي تميزت به هذه المدرسة منذ نشوئها على يد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى يومنا هذا.



جذور حركة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)



إن الاجتهاد بمنظور مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) اصل مبدئي ومن أهم المعالم الاساسية لهذه المدرسة النبوية، وقد مثّل النهج العلمي الذي سلكوه(عليهم السلام) في حفظ الرسالة الاسلامية قرآنا وسنة كما جاءت عن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولقد رسم اصول هذا النهج بمعالمه الكلية الرسول الأمين(صلى الله عليه وآله وسلم). وممّا جاء عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك قوله في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر; فمن كذب علَيَّمتعمداً فليتبوأ مقعده من النار، فاذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به([97]). وعن ابي عبد الله الصادق عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إذا حُدِّثتم عني بالحديث فانحلوني أهنأه واسهله وارشده، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وان لم يوافق كتاب الله فلم أقله([98]). وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: ايها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بيّنهما الله عزّوجلّ في الكتاب، وبيّنتهما في سيرتي وسنتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه، وصلحت له مروته وعرضه، ومَن تلبس بها ووقع فيها واتّبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، ومَن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه أن يرعاها في الحمى. ألا وإنّ لكل ملك حمىً، ألا وانّ حمى الله عزّوجلّ محارمه، فتوقوا حمى الله ومحارمه([99]).



وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا تكذيب الله. قيل: يا رسول الله، وكيف ذاك؟ قال: يقول احدكم: قال الله، فيقول الله عزوجل: كذبت لم أقله، ويقول: لم يقل الله، فيقول عزّوجلّ: كذبت قد قلته([100]).



وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: من قال عليَّ ما لم أقله فليتبوّأ مقعده من النار([101]).



وفي حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار([102]).



وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه قال: قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي مَن فسَّر برأيهكلامي، وما عرفني مَن شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني([103]).



ولقد اخذت الصورة التفصيلية لهذا النهج تتبين وتتجلى على يد الأئمة من اهل البيت(عليهم السلام)دوراً بعد آخر، حتى بلغت كمالها في عصر النهضة العلمية في علوم الشريعة الاسلامية التي قادها وابرزها على صعيد الامة خامس ائمة اهل بيت العصمة والنبوة الامام محمد الباقر(عليه السلام)، وبلغ الاوج فيها ولده الامام جعفر الصادق(عليه السلام).



إن الدور التأسيسي للإمامين الصادقين(عليهما السلام) في تحقيق هذا الاصل وابرازه معلماً شاخصاً من معالم مدرسة اهل البيت(عليهم السلام)، كان يهدف إلى اظهار الصحيح من التأويل النبوي للقرآن الكريم والصحيح من سنة الرسول الامين(صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) تميزاً لهما عن مداخلات الاجتهادات الخاصة للخلفاء الثلاثة الأولين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتحريف والدسّ الذي تعمده بنو أمية من بعدهم. وقد اعتمدا(عليهما السلام) منهجين متعانقين مع بعضهما لتحقيق ذلك:



الأول: ربط الامة وطلاب العلم والفقه بأئمة اهل بيت النبوة والعصمة باعتبارهم اوصياء منصوبين من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله تعالى اُمناء على وحيه وتراجمة لقرآنه ورواةً حفظةً لسنة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد تواترت عنهم(عليهم السلام)العشرات من الروايات في التأكيد على هذا المنهج، منها ما ورد عن الامام الباقر(عليه السلام) قال: أما إنه ليس عند أحد من الناس حقٌّ ولا صواب إلاّ شيءٌ أخذوه منّا اهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي بحقّ وعدل إلاّ ومفتاح ذلك القضاء وبابه واوله وسنته امير المؤمنين عليّ بن ابي طالب(عليه السلام)...([104]).



وقال(عليه السلام) أيضاً ـ لسلمة بن كهيل والحكم بن عتبة ـ : شرقاً وغرباً لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً يخرج من عندنا اهل البيت([105]).



وقال(عليه السلام): أما إنه ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب إلاّ شيء أخذوه منا اهل البيت([106]).



وقال(عليه السلام) أيضاً: إنّا اهل بيت من علم الله علمنا، ومن حكمه أخذنا، ومن قول الصادق([107])سمعنا، فإنْ تتبعونا تهتدو([108]).



وقال(عليه السلام): كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل([109]).



كما ورد عن الامام الصادق(عليه السلام) العديد من الروايات في ذلك منها قوله(عليه السلام): انظروا علمكم هذا عمن تأخذونه; فإن فينا اهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين([110]).



وقوله(عليه السلام) في اهل البيت(عليهم السلام): يا يونس! إذا أردت العلم الصحيح فخذ عن اهل البيت، فإنا رويناه واوتينا شرح الحكمة وفصل الخطاب([111]).



وقال أيضاً: الراسخون في العلم امير المؤمنين والأئمة من بعده([112]).



وقال(عليه السلام): نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله([113]).



ولقد جاءت احاديث الصادقين(عليهما السلام) في هذا الأمر بياناً وتأكيداً لما حرص رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على تركيزه في الامة طيلة حياته الرسالية وأصر عليه في وصاياه لما بعد وفاته، منها حديث الثقلين الشهير الذي قال(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي إن تمسكتم بهما لن تضلوا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فتعلّموا منهم ولا تعلّموهم فإنهم اعلم منكم([114]).



وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنزِلوا آل محمّد منزلة الرأس من الجسد، وبمنزلة العينين من الرأس; فإن الجسد لا يهتدي إلاّ بالرأس، وإن الرأس لا يهتدي إلاّ بالعينين([115]).



قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: ألا إن اهل بيتي امانٌ لكم فأحبوهم بحبي وتمسكوا بهم لن تضلو([116]).



وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق([117]).



ولقد سار امير المؤمنين(عليه السلام) على نهج الرسول في التأكيد على الامر، وقد جاء عنه(عليه السلام): نحن شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم...([118]).



وقوله(عليه السلام) في ائمة اهل البيت(عليهم السلام): نحن الشعار والاصحاب، والخزنة والابواب، ولا تؤتى البيوت إلاّ من ابوابها، فمن أتاها من غير ابوابها سُمّي سارق([119]).



وقوله(عليه السلام) أيضاً: إن العلم الذي هبط به آدم وجميع ما فضّلت به النبيون إلى محمّد خاتم النبيين في عترة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)([120]).



وقال(عليه السلام): انظروا اهل بيت نبيكم فألزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدىً ولن يعيدوكم في ردى([121]).



وعشرات الروايات الاخرى التي تؤكد هذا النهج.



ولقد اثمرت جهودهما(عليهما السلام) على هذا النهج في دائرتين رئيسيتين:



الدائرة الاولى: وهي دائرة اتباعهم وشيعتهم، وقد استهدفا(عليهما السلام) في هذه الدائرة تربية وبناء مجموعة متميزة في علمها وكفاءتها وقدرتها على تمثيل مدرستهم الاسلامية الكبرى في كل الحواضر التي يحلّون فيها، كان من ابرزهم ابو سعيد أبان بن تغلب بن رياح البكري الجريري([122])، وأبان بن عثمان بن يحيى ابن زكريا اللؤلؤي([123])، وابو القاسم بريد بن معاوية العجلي الكوفي([124])، وابو علي جميل بن دراج بن عبد الله النخعي([125])، وجميل بن صالح الاسدي الكوفي([126])، وحماد بن عثمان بن زياد الرواسي الكوفي([127])، وحماد بن عيسى بن عبيدة الجهني([128])، وحبيب بن ثابت الكاهلي([129])، وحمزة بن محمّد الطيار([130]) ، وابو جعفر محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي المعروف بمؤمن الطاق([131]) ، وابو محمد هشام بن الحكم الكندي البغدادي([132]) وعشرات غيرهم([133]).



وقد اعتمدا منهج التخصص مع بعضهم على ضوء الاستعداد المتميز لكل منهم في مجال معين من مجالات المعرفة الاسلامية; فمنهم من كان متميزاً بالفقه ومناظراته كأبان بن تغلب وزرارة بن أعين ومنهم من تميز في مسائل علوم القرآن كحمران بن أعين، وآخرين في المساجلات الكلامية كمؤمن الطاق، وفي مسائل العقائد وخصوصاً الامامة كهشام بن الحكم([134])، وهكذا.



وكان لهذه النخبة الصالحة الدور الكبير في نشر معالم الدين من منبع اهل البيت(عليهم السلام) والدفاع عنها أمام الملاحدة والزنادقة والمنحرفين. وقد حرص الصادقان(عليهما السلام) على ابراز مقام هذه الصفوة من الاصحاب المخلصين واظهرا كفاءتهم ومكانتهم العلمية من خلال إناطتهمابهم وظيفة الاجابة عن مسائل العديد من الوفود التي تتوالى عليهما من مختلف البلاد الاسلامية([135]).



الدائرة الثانية: هي الدائرة العامة للمسلمين حتى إن أئمة المذاهب الاسلامية المختلفة ورواة الحديث اتجهوا اليهما وإلى العلماء والفقهاء من مدرستهما، كتتلمذ ابي حنيفة على يد الامام الصادق(عليه السلام) وتتلمذ مالك على يد الزهري الذي هو تلميذ الامام السجاد(عليه السلام) وتتلمذ الشافعي على يد مالك، وهكذا في الحديث واخذ الرواية، فقد اخذ الكثير من رواة الحديث عنهما(عليهما السلام) على اختلاف مذاهبهم منهم عمر بن دينار الجمحي، وعبد الرحمن الاوزاعي، وعبد الملك بن عبد العزيز الاموي، وقرة بن خالد الدوسي، ومحمد بن المنكدر القرشي التميمي، ويحيى بن كثير الطائي، ومحمد بن مسلم الزهري، وأبو محمد سليمان بن مهران الأسدي، وأبو عثمان ربيعة بن عبد الرحمن التميمي، وابو محمد عبد الله بن ابي بكر الانصاري احد مشايخ الامام مالك، وابو هارون المدني، والقاسم بن محمد بن ابي بكر، وكيسان السختياني صاحب الصوفية، وابن المبارك، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت في مسنده، ومحمد بن ادريس الشافعي، وزياد بن المنذر الهندي، والامام مالك وعشرات غيرهم([136]).



ونقل العلامة السيد محسن الامين: إنَّ الحافظ ابن عقدة الزيدي جمع في كتاب رجاله أربعة آلاف رجل من الثقات الذين رووا عن جعفر بن محمد فضلاً عن غيرهم، وذكر مصنّفاتهم([137]).



ونقل أيضاً: روى النجاشي في رجاله بسنده عن الحسن بن علي الوشاء في حديث أنه قال: ادركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمئة شيخ كلٌ يقول: حدثني جعفر بن محمد، وكان(عليه السلام) يقول: حديثي حديث ابي، وحديث ابي حديث جدي وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب وحديث علي حديث رسول الله وحديث رسول الله قول الله عزوجلّ([138]).



كما أن الكثير منهم استفتى الامام الصادق(عليه السلام) وغيره من الائمة من بعده، وصرحوا بأعلمية الأئمة من اهل البيت(عليهم السلام).



ومما اورده الشيخ المفيد في الارشاد قوله: اخبرني الشريف ابو محمد الحسن بن محمّد قال: حدثني جدي قال: حدثنا محمد بن القاسم الشيباني قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح الازدي، عن ابي مالك الجنبي، عن عبد الله بن عطاء المكي قال: ما رأيت العلماء عند احد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد ابن علي بن الحسين(عليهم السلام)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة ـ مع جلالته في القوم ـ بين يديه كأنه صبيٌّ بين يدي معلمه([139]).



وأورد أيضاً قائلاً: اخبرني الشريف ابو محمد الحسن بن محمد قال: حدثني جدي قال: حدثني شيخ من اهل الري قد عَلَت سِنّهُ قال: حدثني يحيى بن عبد الحميد الحمّاني، عن معاوية بن عمار الدهني، عن محمد بن علي بن الحسين(عليهم السلام)في قول الله عزوجلّ: (فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)([140])قال: نحن اهل الذكر قال الشيخ الرازي:... فذكرت ذلك لأبي زُرعة... واوردت عليه ما حدثني به يحيى بن عبد الحميد، قال: صدق محمد بن علي، إنّهم اهل الذكر...([141]).



ومما جاء في كتاب مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب نقلاً عن كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم ما نصّه: قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين، ولا تخلو كتب احاديث وحكمة وزهد وموعظة من كلامه. يقولون: قال جعفر بن محمد الصادق، قال جعفر الصادق ]يعني صادق القول[ ذكره النقاش والثعلبي والقشيري والقزويني في تفاسيرهم([142]).



ونقل أيضاً عن نفس الكتاب أنه(عليه السلام) حدّث عنه من الائمة والاعلام مالك ابن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وابن جريح، وعبد الله بن عمرو، وروح بن القاسم، وسفيان بن عيينة، وسليمان بن بلال، واسماعيل بن جعفر، وحاتم بن اسماعيل، وعبد العزيز بن المختار، ووهب بن خالد، وابراهيم بن طحان في آخرين. قال: وأخرج عنه مسلم في صحيحه محتجاً بحديثه. وقال غيره: وروى عنه مالك والشافعي، والحسن بن صالح، وايوب السختياني، وعمرو بن دينار، واحمد بن حنبل. وقال مالك بن انس: ما رأت عين، ولا سمعت اذن، ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورع([143]).



ونقل الامين العاملي عن الحسن بن زياد أنه قال: سمعت ابا حنيفة ـ وقد سُئل عن أفقه مَنْ رأيت ـ قال : جعفر بن محمد([144]).



وعن ابن ابي ليلى قوله: ما كنت تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد، إلاّ رجلاً واحداً هو جعفر بن محمّد([145]).



وقال مالك بن انس إمام المالكية فيه(عليه السلام): كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي اخضرّ واصفرّ. ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال: إمّا مصلياً، وإما قائماً، واما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث عن رسول الله إلاّ على الطهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه([146]).



وممّا قاله الشيخ المفيد في ارشاده: وكان الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين(عليهم السلام)بين اخوته خليفة ابيه محمد بن علي(عليه السلام) ووصيه القائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل. وكان أنبههم ذكراً وأعظمهم قدراً، وأجلهم في العامة والخاصة. ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن احد من اهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الاخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله، فإن اصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل([147]).



وغير ذلك كثير.



وقد برز فيما بعد اتجاه واسع في اوساط هذه الدائرة يعتقد بمرجعية اهل البيت(عليهم السلام) وأنهم ورثة رسول الله في بيان معالم الدين.



الثاني: تعريف الامة بمعالم الدين الحق ووضع قواعد واُصول العلم والفقه بفروعه، وخوض معركة فكرية لإبطال كل مقولات الاجتهاد بالرأي وردع كل خروج عن دائرة المصدرين الأساسيين للتشريع الاسلامي المتمثلين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وبيان حقيقة الاجتهاد الصحيح وحدوده والتفقه المطلوب بالإسلام وطريقته في جميع جوانب المعرفة الإسلامية عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً، وهو النهج الذي نادى به وعمل له من سبقهم ومن لحقهم من ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، وتربّت عليه أجيال العلماء والفقهاء المعاصرين لهم والتابعين لمدرستهم من بعدهم.



وقد كان التركيز على جانبين اساسيين في ذلك:



الجانب الاول: سلبي قد استُهدف فيه الردع عن المنهج الخاطئ في معرفة معالم الدين، وخصوصاً الردع عن البدعة والقياس في الدين والافتاء بالرأي والاسناد إلى الله بغير كتاب كريم وسنة شريفة. ومما جاء في ذلك:



1 ـ عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنّه قال: إنّ السنة لا تقاس، وكيف تقاس السنة والحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟!([148]).



2 ـ وعنه(عليه السلام) أنه قال: من افتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث احلّ وحرّم فيما لا يعلم([149]).



3 ـ وعن ابي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: إنّ اصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس، فلم تزدهم المقاييس من الحق إلاّ بعداً، وإنّ دين الله لا يصب بالمقاييس([150]).



4 ـ وعن سعيد الاعرج قال: قلتُ لأبي عبد الله(عليه السلام): إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون: يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنة نقول فيه برأينا. فقال ابو عبد الله(عليه السلام): كذبوا ليس شيء إلاّ وقد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنة([151]).



5 ـ وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): ترد علينا اشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة، فننظر فيها؟ فقال(عليه السلام): لا. أما إنك إن اصبت لم تؤجر، وإن اخطأت كذبت على الله عزوجلّ([152]).



6 ـ وعن أبان بن تغلب عن ابي عبد الله(عليه السلام) أنه قال: إنّ السنة لا تقاس. ألا ترى أنّ امرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ يا أبان، إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين([153]).



7 ـ وعن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله(عليه السلام)فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس. قال: نعم، فقال(عليه السلام): لا تقس; فإنّ أول من قاس ابليس حين قال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر([154]).



8 ـ وعن عبد الرحمن بن سالم قال: دخل ابن شبرمة وابو حنيفة على الصادق(عليه السلام) فقال لأبي حنيفة: اتقِ الله ولا تقس الدين برأيك; فإنّ أوّل من قاس ابليس إذ أمره الله تعالى بالسجود فقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ثم قال(عليه السلام): هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ قال: لا، فقال(عليه السلام): فأخبرني عن الملوحة في العينين، والمرارة في الاذنين، والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الشفتين، لأي شيء جعل ذلك؟ قال: لا ادري، فقال(عليه السلام): إن الله تعالى خلق العينين فجعلهما شحمتين، وجعل الملوحة فيهما منّاً على بني آدم، ولولا ذلك لذابتا، وجعل المرارة في الاذنين منّاً منه على بني آدم، ولولا ذلك لقحمت الدّواب فأكلت دماغه، وجعل الماء في المنخرين ليصعد النفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة والرديئة، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة مطعمه ومشربه. ثم قال(عليه السلام) له: اخبرني عن كلمة اولها شرك وآخرها ايمان، قال: لا ادري، فقال(عليه السلام): لا إله إلا الله، ثم قال(عليه السلام): ايما اعظم عند الله تعالى: القتل أو الزنا؟ فقال: بل القتل، قال(عليه السلام): فإنّ الله تعالى قد رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّ بأربعة، ثم قال(عليه السلام): إنّ الشاهد على الزنا شهد على اثنين وفي القتل على واحد لأن القتل فعل واحد والزنا فعلان، ثم قال(عليه السلام): أيّما اعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: لا، بل الصلاة، فقال(عليه السلام): فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ ثم قال(عليه السلام): لأنها تخرج إلى صلاة فتداومها ولا تخرج إلى صوم، ثم قال(عليه السلام): المرأة اضعف ام الرجل؟ قال: المرأة، فقال(عليه السلام): فما بال المرأة وهي ضعيفة لها سهم واحد، والرجل وهو قوي له سهمان؟ ثم قال(عليه السلام): لأن الرجل يُجبر على الانفاق على المرأة ولا تجبر المرأة على الانفاق على الرجل، ثم قال(عليه السلام): البول اقذر ام المني؟ قال: البول، فقال(عليه السلام): يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول، ثم قال(عليه السلام): لأن المني اختيار ويخرج من جميع الجسد ويكون في الأيام، والبول ضرورة ويكون في اليوم مرات. قال ابو حنيفة: كيف يخرج من جميع الجسد والله يقول: (يخرج من بين الصُلب والترائب)([155]) فقال ابو عبد الله(عليه السلام): فهل قال: لا يخرج من هذين الموضعين؟....([156]).



9 ـ وجاء في دعائم الاسلام: إنّ أبا عبد الله الصادق(عليه السلام) قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصّاً في كتاب الله ولا خبراً عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: أقيسه على ما وجدتُ من ذلك، فقال(عليه السلام) له: أول من قاس ابليس فأخطأ، إذ امره الله عزوجلّ بالسجود لآدم(عليه السلام) فقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) فرأى أنّ النار اشرف عنصراً من الطين، فخلّده ذلك في العذاب المهين. يا نعمان، أيهما اطهر المني او البول؟ قال: المني، فقال(عليه السلام): فقد جعل الله عزّوجل في البول الوضوء، وفي المني الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول. وأيهم اعظم عند الله الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال(عليه السلام): فقد جعل الله عزوجل في قتل النفس الشاهدين وفي الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل لأنه اعظم. وايهما اعظم عند الله الصلاة ام الصوم؟ قال: الصلاة، قال(عليه السلام): فقد امر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الحائض بأن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضي الصلاة، فاتق الله يا نعمان ولا تقس، فإنّا نقف غداً نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عزّوجلّ فيسألنا عن قولنا ويسألهم عن قولهم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول انت واصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل بنا وبكم ما يشاء([157]).



10 ـ وعن ابن الحجاج قال: قال لي ابو عبد الله(عليه السلام): إياك وخصلتين فيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم([158]).



11 ـ وروى المعلى بن خنيس أن الامام ابا عبد الله الصادق(عليه السلام) قال في قول الله عزوجلّ: (ومن أضل ممّن اتّبع هواه بغير هدىً من الله)([159]) يعني: من اتّخذ دينه رأيه بغير هدى إمام من ائمة الهدى([160]).



12 ـ وروي عن زرارة أنه قال: قال لي ابو جعفر(عليه السلام): يا زرارة، اياك واصحاب القياس في الدين فإنّهم تركوا علم ما وكّلوا به. وتكلّفوا ما قد كفوه. يتأولون الأخبار، ويكذبون على الله عزّوجلّ، وكأني بالرجل منهم ينادى من بين يديه: قد تاهوا وتحيّروا في الارض والدين([161]).



13 ـ وروي عن محمد بن حكيم أنه قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): تفقهنا في الدين وروينا، وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بشيء صغير ما عندنا فيه بعينه شيء، وعندنا ما هو يشبه مثله، افنفتيه بما يشبهه؟ فقال(عليه السلام): لا. ومالكم والقياس في ذلك؟! هلك من هلك بالقياس. قال: جعلت فداك. أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بما يكتفون به؟ قال(عليه السلام): اتى رسول الله بما استغنوا به في عهده وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامه. قال: ضاع منه شيء؟ فقال(عليه السلام): لا، هو عند أهله([162]).



14 ـ وروي عن محمد بن حكيم أيضاً أنه قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إنّ قوماً من اصحابنا قد تفقهوا، وأصابوا علماً ورووا احاديث، فيرد عليهم الشيء فيقولون برأيهم؟ فقال(عليه السلام): لا، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه([163]).



15 ـ وورد عن ابي عبد الله(عليه السلام) أنه قال: لعن الله اصحاب القياس; فإنهم غيّروا كلام الله وسنة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) واتهموا الصادقين(عليهما السلام) في دين الله عزوجل([164]).



16 ـ وروي عن داود بن سرحان قال: سمعت ابا عبد الله(عليه السلام) يقول: إنّي لأحدث الرجل الحديث، وأنهاه عن الجدال والمراء في دين الله، وأنهاه عن القياس، فيخرج من عندي فيأوّل حديثي على غير تأويله. اني امرتُ قوماً أن يتكلموا، ونهيت قوماً، فكلّ يأول لنفسه يريد المعصية لله ولرسوله، فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي اصحابه. إنّ أصحاب أبي كانوا زيناً احياءً وأموات([165]).



17 ـ وجاء في المحاسن عن ابي عبد الله(عليه السلام) في رسالته إلى اصحاب الرأي والقياس: أمّا بعد، فإنّه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقاييس لم يُنصف ولم يُصب حظّه; لأن المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضاً من الارتياء والمقاييس، ومتى ما لم يكن بالدّاعي قوّة في دعائه على المدعو لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل; لأنا قد رأينا المتعلّم الطالب ربّما كان فائقاً لمعلّم ولو بعد حين، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو، وفي ذلك تحيّر الجاهلون، وشك المرتابون، وظنّ الظانّون. ولو كان ذلك عند الله جائزاً لم يبعث الله الرسل بما فيه الفصل، ولم ينه عن الهزل، ولم يعب الجهل، ولكن الناس لما سفهوا الحق، وغمطوا النعمة، واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله، واكتفوا بذلك دون رسله والقوام بأمره، وقالوا: لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا، وعرفته ألبابنا، فولاّهم الله ما تولّوا، وأهملهم وخذلهم، حتى صاروا عبدةَ انفسهم من حيث لا يعلمون، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادّعوا من ذلك، لم يبعث الله اليهم فاصلاً لما بينهم ولا زاجراً عن وصفهم، وانما استدللنا أنّ رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالاُمور القيمة الصحيحة، والتحذير عن الاُمور المشكلة المفسدة، ثم جعلهم ابوابه، وصراطه، والأدلاّء عليه باُمور محجوبة عن الرأي والقياس; فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي، لم يزدد من الله إلاّ بعداً، ولم يبعث رسولاً قطّ، وان طال عمره قابلاً من الناس خلاف ما جاء به، حتى يكون متبوعاً مرّةً وتابعاً اُخرى، ولم يُر أيضاً فيما جاء به استعمل رأياً ولا مقياساً، حتى يكون ذلك واضحاً عنده كالوحي من الله، وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ اصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون، وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل، فإيّاك ايها المستمع أن تجمع عليك خصلتين: احداهما القذف بما جاش به صدرك، واتّباعك لنفسك إلى غير قصد، ولا معرفة حدّ، والاُخرى استغناؤك عمّا فيه حاجتك، وتكذيبك لمن إليه مردّك، وإيّاك وترك الحق سأمة وملالة وانتجاعك الباطل جهلاً وضلالة، لأنا لم نجد تابعاً لهواه، جائزاً عمّا ذكرنا قطّ رشيداً، فانظر في ذلك([166]).



18 ـ وروي عن ميسرة بن شريح أنّه قال: شهدت أبا عبد الله(عليه السلام) في مسجد الخيف، وهو في حلقة فيها نحو من مئتي رجل، وفيهم عبد الله بن شبرمة، فقال: يا أبا عبد الله، إنّا نقضي بالعراق، فنقضي ما نعلم من الكتاب والسنة، وترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي، قال: فأنصت الناس جميع من حضر للجواب، واقبل ابو عبد الله(عليه السلام) على من على يمينه يحدّثهم، فلما رأى الناس ذلك، اقبل بعضهم على بعض وتركوا الإنصات. قال: ثم تحدثوا ما شاء الله، ثم إن ابن شبرمة قال: يا أبا عبد الله، إنّا قضاة العراق، وإنّا نقضي بالكتاب والسنّة، وإنّه ترد علينا أشياء ونجتهد فيها بالرأي قال: فأنصت جميع الناس للجواب وأقبل ابو عبد الله(عليه السلام)على من على يساره يحدّثهم، فلما رأى الناس ذلك، اقبل بعضهم على بعض، وتركوا الإنصات، ثم إن ابن شبرمة مكث ما شاء الله، ثم عاد لمثل قوله فأقبل ابو عبد الله(عليه السلام) فقال: أيّ رجل كان عليّ بن ابي طالب؟ فقد كان عندكمبالعراق، ولكم به خبر، فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً، فقال له ابو عبد الله(عليه السلام): فإنّ علياً أبى أن يدخل في دين الله الرأي، وأن يقول في شيء من دين الله بالرأي والمقاييس. فقال أبو ساسان فلما كان الليل دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام)فقال لي: يا أبا ساسان، لم يدعني صاحبكم ابن شبرمة حتى أجبته، ثم قال(عليه السلام): لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس، ولا عمل به([167]).



19 ـ وروي عن أبان بن تغلب أنّه قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): رجل قطع اصبع امرأة، فقال(عليه السلام): فيها عشرة من الابل. قلت: قطع اثنتين، فقال(عليه السلام): فيهما عشرون من الابل. قلت: قطع ثلاث اصابع، قال(عليه السلام): فيهنّ ثلاثون من الابل. قلت: قطع اربعاً، فقال(عليه السلام): فيهنّ عشرون من الابل. قلتُ: أيقطع ثلاثاً وفيهن ثلاثون من الابل، ويقطع اربعاً وفيها عشرون من الابل؟! فقال(عليه السلام): نعم إنّ المرأة إذا بلغت الثلث من دية الرجل سفلت المرأة وارتفع الرجل. إنّ السنّة لا تقاس. ألا ترى أنّها تؤمر بقضاء صومها ولا تؤمر بقضاء صلاتها؟ يا أبان، حدثتني بالقياس، وإنّ السنة إذا قيست محق الدين([168]).



الجانب الثاني: ايجابي قد رُسم فيه المنهج الصحيح لإصابة الدين الحق ومعرفة معالمه وحدوده من الكتاب الكريم والسنة الشريفة. ويمكننا تصنيف نماذج مختصرة من المروي عن الصادقين(عليهما السلام) في هذا الجانب كالآتي:



أولاً: في أن مصدري التشريع الاسلامي هما فقط الكتاب الكريم والسنة الشريفة، منها:



1 ـ عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج اليه العباد، حتى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان هذا اُنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه([169]).



2 ـ وعن علي بن ابراهيم... عن عمر بن قيس قال: سمعته يقول ـ يعني الامام الصادق(عليه السلام) ـ : إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة إلاّ انزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعل لكل شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلُّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّ([170]).



3 ـ وعن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدُّ كحدّ الدار; فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة([171]).



4 ـ وعن ابي عبد الله(عليه السلام): ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة([172]).



5 ـ وعن أبي الجارود قال: قال ابو جعفر(عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يابن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عزّوجلّ يقول: (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من امر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)([173])، وقال:(ولا تُؤتوا السّفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً)([174])، وقال: (لا تسألوا عن اشياء إن تُبد لكم تسؤكم)([175])([176]).



6 ـ وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال امير المؤمنين(عليه السلام): أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى أرسل اليكم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنزل إليه الكتاب بالحق، وأنتم امّيون عن الكتاب ومن انزله، وعن الرسول ومن ارسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الامم، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة وانتقاض من المبرم، وعمىً عن الحقّ، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظٍّ من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنّات الدّنيا، ويبس من اغصانها، وانتشار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها. قد درست أعلام الهدى، فظهرت اعلام الرّدى، فالدنيا متهجمة([177]) في وجوه أهلها مكفهرّة، مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف. مُزّقتم كلّ ممزّق، وقد أعمت عيون اهلها، وأظلمت عليها ايّامها، قد قطعوا ارحامهم، وسفكوا دماءهم، ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من اولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش ورفاهية خفوض الدنيا. لا يرجون من الله ثواباً ولا يخافون والله منه عقاباً. حيّهم اعمى نجس، وميتهم من النار مبلس، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الاولى وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الحلال من ريب الحرام. ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم. اُخبركم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي الى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما اصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم([178]).



7 ـ وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال:كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكموفصل ما بينكم ونحن نعلمه([179]).



8 ـ وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام) قال: قلت له: أكلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أو تقولون فيه؟ قال: بل كلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)([180]).



ثانياً: في مقاييس ضبط وتوثيق الراوي والرواية عند الاختلاف:



1 ـ عن محمّد بن مسلم، عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن([181]).



2 ـ عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): ما بالي اسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنّا نجيب الناس على الزّيادة والنقصان. قال: قلت: فأخبرني عن اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صدقوا على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ام كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً؟([182]).



3 ـ وعن ابي عبيدة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال لي: يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التقيّة؟ قال: قلت له: انت أعلم جعلت فداك. قال: إن اخذ به فهو خير له واعظم أجر وفي رواية اخرى إن أخذ به أوجر، وإن تركه والله أثم([183]).



4 ـ وعن نصر الخثعمي قال: سمعت ابا عبد الله(عليه السلام) يقول: من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّاً فليكتف بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منّا عنه([184]).



5 ـ وعن سماعة قال: سألته ] يعني الامام الصادق(عليه السلام) [ عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه في أمر كلاهما يرويه; احدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه وفي رواية اخرى بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك([185]).



6 ـ وعن الحسين بن المختار عن بعض اصحابنا، عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: ارأيتك لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه، بأيِّهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك الله([186]).



7 ـ وعن المعلّى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إذا جاء حديث عن اولكم وحديث عن آخركم، بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال: ثم قال ابو عبد الله(عليه السلام): إنّا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم وفي حديث آخر خذوا بالأحدث([187]).



8 ـ وعن عمر بن حنظلة قال: سألت ابا عبد الله(عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم اليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد امر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به)([188]). قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران ] إلى [ من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخف بحكم الله وعلينا ردّ، والرادُّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من اصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به اعدلهما وافقههما واصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: قلتُ: فإنّهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من اصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. وإنما الامور ثلاثة: امرٌ بين رشده فيتَّبع، وأمر بين غيّه فيجتنب، وأمرٌ مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك. أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا احد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم. بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك. فإن وافقهما الخبران جميعاً. قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات([189]).



ثالثاً: في الضابط الاساسي للحديث الصحيح:



1 ـ عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً; فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه([190]).



2 ـ وعن عبد الله بن ابي يعفور أنه قال: سألت ابا عبد الله(عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به. قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به([191]).



3 ـ وعن ايوب بن الحرّ قال: سمعت ابا عبد الله(عليه السلام) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف([192]).



4 ـ وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف([193]).



5 ـ وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: خطب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى فقال: أيها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله([194]).



ولو راجعنا مصنّفات كبار فقهائنا واعلام علمائنا في اُصول وقواعد الفقه والحديث لوجدنا مئات الروايات عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته(عليهم السلام) قد اعتمدت في تنقيح ورسم اصول الاستنباط الفقهي الصحيح لأحكام ومباني الاسلام، وبذلك تميّز منهج الاجتهاد في مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) عن غيره.



/ 6