التشريع الاسلامي مناهجه و مقاصده (المجلد الثاني) - تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 2

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



التشريع الاسلامي مناهجه و مقاصده (المجلد الثاني)

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي المصطفى، محمد واله الهداة الميامين.

منذ قرن مضى تعيش امتنا الاسلامية آفاق التحدي، و مع الصحوة الاسلامية المتنامية، ازداد هذا التحدي عمقا واتساعا.

فلا تزال آلة الحضارة الغربية الضخمة و المتعاظمة، تواصل ضغوطها الثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية ضد الامة، ومحاولاتها الجادة للعودةالى الذات.

وبناء حضارتها السامية على اساس مجدها التليد.

و في هذا الجو المحموم, تتصدرالقضايا الاساسية قائمة الاولويات، ومن ابرزها البحث عن العلاقة بين الاصالة والانفتاح.

والغرب بهجماته المستمرة والمتصاعدة ضد الاصالة، يشجع المسلمين على الأنطواء.

ذلك لانهم يخشون ان تذهب تلك الهجمات بشخصيتهم المتميزة، وتذوبهم في مصهرة الحضارة الحديثة العملاقة.

و في ظروف مشابهة، حيث تعرض المسلمون للهجمات الصليبية، ثم للإعصار التتري، انغلقوا على انفسهم وقاوموا اي تطور بل و جمدوا حركتهم الحضارية حفاظا على شخصيتهم.

فهل يمكنهم ان يفعلوا اليوم مثل ذلك، كما يحلو لبعضهم حيث يبالغ في تكريم السلف الى حد التقديس، ويتشبث بتقاليد الماضي الى حد الجمود؟ وهل يمكن ذلك في هذا العصر المجنون في تطوره، والعملاق في قوته التقنية والعلمية، والنافذ في اغراءه وارهابه؟ ولو فعلنا مثل ما فعل أباؤنا قبل سبعة قرون، فادخلوا العالم الاسلامي في نفق الجمود المظلم، افلانساهم في تقليص دور الامة الاسلامية العلمي ووقف نموه الحضاري مما يهدد وجودها بخطر عظيم.

كلا، ان علينا ان نختار نهجا وسطا: فنزداد تمسكا بالقيم الاصيلة، ونطور في اطارها ما يتصل بعوامل التغيير الحضارية.

الا ان تحقيق هذا الهدف ليس هينا، لاسباب ترجع الى عاملين رئيسيين.

الاول: حساسية الموضوع لانه يمس ما يعتقد البعض انه من المقدسات.

الثاني: تعقيد الموضوع، وارتباطه من جهة بالعصر، الحديث و فلسفة، واتصاله من جهة اخرى بالرسالات الالهية، وتراث الامة ومكوناتها.

وازداد هذا الموضوع تعقيدا بسبب معالجة من قبل غير ذوي الاختصاص، وهم الفقهاء وفلاسفة القانون.

و منذ عقدين من الزمان كانت تلازمني هذه الامنية، ان اوفق لمعرفة ثم تعريف الاسلام الحق.

بعيدا عما لصقت به من تقاليد العصور السالفة، ومن افكار الفلسفة اليونانية و الهندية الغابرة.

ومن افكار العصر وفلسفاته الدخيلة.

وقد وفقني الله سبحانه لدراسة الحكمة الاسلامية في كتاب اسميته بـ: الفكر الاسلامي مواجهة حضارية، ثم دراسة المنطق الاسلامي المقارن, الذي اسميته بـ (المنطق الاسلامي اصوله ومناهجه) وكانت دراستي الأخيرة فيما يتصل بهذا الموضوع حول العرفان حيث حاولت تمييز المفاهيم الدخيلة على الاسلام من خلال بيان بصائر القرآن وكان عنوانها: (العرفان الاسلامي بين حقائق الوحي وتصورات البشر).

و ها انا اليوم اقدم للجزء الثاني من دراسة، في التشريع الاسلامي ارجو ان تكون خطوة في طريق معالجة الموضوع من زاوية اخرى.

هي التفريق بين القيم الثابتة التي تتطور الاحكام ضمنها وبين التشريعات الدستورية التي تقتضيها الظروف المتغيرة.

وقد قسمت الكتاب الى فصول: 1/ عن ضرورات التطوير.

2/ مناقشة الادلة المعارضة.

3/ نظام التطوير.

وفي البدء قدمنا تمهيدا اقتبسناه - في الاكثر- من مقدمة كتابي المنطق.

.

.

و في الجزء الثالث الذي ارجو التوفيق لتأليفه, سوف اتناول انشاء الله مقاصد الشريعة ومنهجية الاستفادة منها في حكم الحوادث المتغيرة اومايسمى بـ (المسائل الحديثة).

وفي الختام اشكر كل الاخوة الذين ساهموا في اخراج هذا الجزء والجزء الاول وبالذات الاخوة الكرام في مكتبي بطهران.

والله اسأل ان ينعفني بهذا الكتاب في يوم لاينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

و الله المستعان في كل الامور مشهد المقدسة.

17/12/1411

تمهيد:

من اي محطة ينطلق قطار التقدم نحو المستقبل الافضل؟ من اي افق تشرق شمس النهضة الشاملة، فتعم العالم ضياء ودفئا واملا؟ ومتى تشهد بلادنا مواسم الغيث والخصب والرفاه، وتنعم شعوبنا بالعيش الرغد والسعادة الهنيئة؟ اما آن لشفاه اطفالنا ان تستقبل بسمات الامل؟ الم يأن ميعاد رحيل الفقر والقلق والتخلف عن بلاد الشرق الاسلامي؟ الى متى تسمر عيوننا على درب الحياة، تنتظر السلام و الرخاء و العزة؟ نقطة البداية العقل، أليس نور العقل هو اول ماخلق الله، اوليس اصل الانسان عقله؟ اوليست ميزته على الخليقة عقله؟ وكيف يتسنى للعقل ان يقود سفينة البشر الى شاطيء السعادة؟ انما ينفع العقل من يؤمن به، ويثق بهداه، ويستنير بضياءه، اما الذين يتبعون اهواءهم، ويستسلمون لرياح الظروف المتقلبة، او يتبعون التقاليد من دون تمحيص او يتبعون الامم الغالبة من دون تفكر فيما يصلح لهم او لا يصلح، فانهم لا يكسبون تقدما ولا يبنون تمدنا ولايتمتعون بحضارة.

لكل ارض خريطة.

ومن يحمل خريطة ارض لأرض أخرى لا يهتدي طريقا.

كذلك الذين حملوا افكار وانظمة وعادات ومتاع الامم المتقدمة الى بلادهم لم يفلحوا وروح التقليد واحدة، سواء عند الذين قلدوا الاخرين او قلدوا آباءهم.

فكلا الفريقين حرموا انفسهم نعمة العقل، ولم يعيشوا واقعهم الخاص بهم فضلوا في متاهات الجهل.

وهل يختلف الذي لا يستخدم بصره عن الاعمى الذي لا بصر له؟ كلا لأ نهما معا يضلان السبيل.

كذلك الذين منعهم تقليد الغابرين او تقليد الاخرين عن فهم متغيرات عصرهم وميزات واقعهم وخصائص حياتهم فلم يخططوا لها انهم لم يستضيئوا بنور عقولهم فلم تنفعهم شيئا كثيرا.

و تتقارن- عادة- هذه الحالة مع ضياع شخصية اللأمة، اوليست شخصية مجتمع او طائفة تتحدد بميزاتها التي تحدده وبالخصائص التي تتمتع بها، فماذا يبقى من شخصية من يتبع غيره؟ بل ان

هؤلاء يفقدون الثقة بعقولهم وعواطفهم وقيمهم و قومهم و لغتهم وسائر ما يتصل بهم.

وما هو الاول وما هو الثاني؟ فهل يفقد المجتمع شخصيته فيتبع الاخرين ام يقلدهم فيفقد بذلك شخصيته؟ بالرغم من ان العلاقة بين الامرين جدلية، اذ يؤثر كل واحد منهما في الثاني تأثيرا متقابلا، الا ان البداية هي فقدان الشخصية.

فمتى ما ضعفت ثقة الانسان بنفسه احس بفراغ كبير فراح يفتش عما يسده واخذ يقلد آباءه حيناً، ونظراءه احيانا.

وهكذا لا بد ان تبدء المعالجة من هذه النقطة فمن دون الثقة بالذات،لاتبدء مسيرة الانسان الحضارية.

والثقة بالذات تبدء هي الاخرى باكتشاف العقل ذاته لان اعظم ما في الانسان عقله، فمن لم يكتشف هذه الموهبة الالهية العظيمة، ولم يعرف انه قادر على معرفة واقعه، والتخطيط له، انى له البحث عما ينفعه وما يضره، وانى له الانتفاع بسائر نعم الله عليه من ثروة او قوة او فرصة، وانى له الثقة بذاته.

بلى بعد ان يبتعث العقل من سباته، وينفض عن نفسه غبار الجمود والانطواء واحباطات الهزائم والنكسات.

يؤمئذ يخطو الانسان على درب الحضارة، اذ يحدد الهدف ومن خلاله يحدد الاستراتيجية، وتنتظم خطته؟ عبر قنوات الاستراتيجية ليندفع نحو تحقيق الاستراتيجية.

ويومئذ يعي بصائر الوحي بصورة امثل، ويميز بها ما ينفعنا من جديد العصر عما يضره، وما ينفعه من تراث الاولين عما يضره.

ذلك لان ممارسات المسلمين في التاريخ- كممارسات المسلمين اليوم- ليست كل احتمالات الحضارة الاسلامية بل ان بعضها كان ولايزال غطاء يخفي اشراق الاسلام الحقيقي.

ان الاسلام الحق.

يمكن ان يعطي الانسانية حضارة روحية مادية، عظيمة المنفعة والروعة.

كما ان الحضارة الغربية ليست الشوط الاخير في تقدم الانسان، ولا النموذج الاسمى لحياته.

وعلينا ان نستخرج من (كنوز الاسلام) حضارة اسمى.

ولكن من الذي يجب ان يفعل لنا ذلك؟ هناك طائفتان- هما علماء الدين وعلماء العصر- من المسلمين حين يردمون الفجوة بينهما ولنا مع كل واحد منهما كلمة.

علماء الدين:

الاسلام دين العلم, والمعاهد الدينية (الحوزات) هي التي خرجت كبار علماء المسلمين في مختلف الاختصاصات.

فلماذا انكفئت هذه المعاهد اليوم على ذاتها، وزعمت ان مسؤوليتها تنحصر في اعادة صياغة افكارها دون اي انفتاح على افكار العالم من حولها.

لماذا لم تطعم الحوزات الدينية مناهجها بالجديد الجيد من مناهج العلوم الحديثة او لا اقل لماذا لم تطور هي مناهجها بما يتناسب مع تقدم العصر؟

الحدود الغامضة بين الاصالة والتقليد:

بلى العملية هذه ليست بسيطة، اذ التطوير أيا كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالحدود الغامضة والدقيقة التي تفصل بين الاصالة والتقليد، بين مايجب ان يبقى وما يجب ان يطور.

و بالتالي، بين القضايا المتعلقة بالقيم الثابتة التي لايجوز التنازل عنها تحت اي ضغط، وبين التقاليد التي لصقت بها غفلة من الوعي او القضايا التي كانت صالحة في يوم، ثم اصبحت من مخلفات العصور الاولى.

وليس من حق كل من هب ودب، ان يعين هذه الحدود الدقيقة، لان تعيينها بحاجة الى معرفة شاملة بالعصر ومتغيراته من جهة، وبالدين- القيم الثابتة منه، و المواضيع المتغيرة- من جهة اخرى.

ثم لحساسية هذه القضايا يختلف فيها الناس اختلافا كبيرا، فالامر الذي هو- في رأي احد المفكرين - من صميم الدين فاذا تغير اطبقت السماوات على الارض، انه بالذات، تقليد اعمى- في رأي جماعة اخرى- ويخالف الدين، والدين بريء منه.

مثلا محل المراة، قل هو البيت فقط، ام رحاب الحياة كلها؟ ..

فريق من الناس لا يكفون عن الصراخ بان الله، والرسول، والمسلمين، يقولون ان المراة يجب الا تخرج من حدود البيت..

بينما فريق آخر، يقولون بكل ثقة وقناعة: ان الاسلام يفرض على المراة الاحتشام ثم يوجب عليها ان تساهم في بناء الحياة ابتداء من البيت وانتهاء بالإصلاح السياسي.

هؤلاء واولئك، يقدمون معا شواهد وادلة عديدة، وجذر المشكلة ان الدين اختلط عندنا بالتقاليد، والقرآن(حمال ذو وجوه) يفسر تفسيرات شتى، وفي هذا الجو، قد يتطرف الذين يريدون التطوير فيتجاوزون حدود الاصالة ويتمردون على الماضي بخيره وشره، بقيمه الصالحة وتقاليده البالية و يكفرون- بالتالي- حتى بالشخصية المتميزة للامة.

ولكن بالرغم من ذلك لابد ان نقتحم هذا الميدان الخطر ونتجاوز العقبات ونعطي للامر الاولوية، عوضا عن القضايا الجانبية.

ونصرف من اجله الطاقات الهائلة(المادية و المعنوية) التي تصرف في اعادة صياغة الافكار الماضية بقوالب جديدة، وحتى اعادة طباعتها بذات الاساليب.

الغلو في الدين حرام:

ويزعم فريق ان الطريق الصحيح للمحافظة على الدين هو: اضافة اشياء الى الدين (احتياطا) عليه، فمثلا انهم يقولون: لنحافظ على التقاليد التي كانت قديمة وبالية، لكي لايجرؤ احد على نقد القيم الصحيحة.

ولكن يجب على هؤلاء ان يتنبهوا الى ان الزيادة في الدين حرام كما الانتقاص منه لانها نوع من الغلو الحرام شرعا، ثم ان الغلو في الدين هوالمسؤول المباشر عن تمرد طائفة كبيرة من الناس عليه، اذ انهم يرون- بالعقل والتجربة- فساد مجموعة من الاحكام والتقاليد التي الصقها الجاهلون بالدين، فيزعمون ان الدين كله هكذا.

ويقولون الافضل ان نكفر بالمجموع حتى لا يفرض علينا احكام وتقاليد بالية او مضرة، اولا اقل غير نافعة.

فمثلا، حين يحرم ادعياء الدين دراسة العلم الحديث بكل جوانبه وفي ذات الوقت يحرم تقليد الغرب.

فان طائفة من الناس يجدون ان قبولهم بالدين يحرمهم من نعم العلم- فيفضلون الاخذ بتقاليد الغرب- لكي يتسنى لهم الاخذ بعلمه.

وفي العالم المسيحي كان الغلو في الدين هو السبب المباشر لتحول الناس الى الالحاد.

وحين تراجعت الكنيسة- تحت ضغط الظروف- عن اضافاتها اللامعقولة الى الدين عاد العالم الغربي الى المسيحية، من هنا لم يرضى الله عن طائفة من الناس لانهم حرموا ما احل الله لهم، وقال: (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون* قل انما حرم ربي الفواحش ماظهر منها ومابطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا و ان تقولوا على الله مالا تعلمون) وقال عن المشركين الذين حرموا على انفسهم ما احل الله لهم، قال: (قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) ان التحريم بحاجة الى نص كما الايجاب، ولايجوز ان نضيف الى الدين اشياء زائدة لتكون درعا واقية للدين الصحيح، فلرب زيادة نقيصة.

الاسلام دين التطور:

وانما لم يبين الله سبحانه في القرآن الكريم الا احكاما قليلة.

وركز-في بقية آياته- على منظومة من القيم التي اراد ترسيخها في وعي الامة بشكل كامل.

انما فعل ذلك ليفتح امام الامة ابواب التطور..

والنبي محمد (ص) لم يكتب لنا اسفارا مطولة في التشريع انما بين اصول العلم والحكمة ورسخ قيم القرآن بتشريعاته الرشيدة ثم وجه الامة الى خلفاءه المعصومين فقال: (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن يضلوا).

وخلفاء الرسول (ص) لم يؤلفوا كتبا مطولة في الاحكام الفقهية.

انما قالوا علينا بالاصول، وعليكم بالفروع، ووجهوا الامة من بعدهم الى الفقهاء وقالوا: (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا).

ولكن السؤال: هل نحن طورنا-حسب مسؤوليتنا الدينية- الاحكام وفق متغيرات العصر..

؟.

ام تمسكنا بالجانب الثابت من الشريعة وضخمناه واعدنا صياغته من جيل الى جيل ..

اما المتغيرات فتركناها لاجتهادات الناس..

؟.

ما هو الاقتصاد الاسلامي؟ وكيف ينبغي ان يتم توزيع الثروة؟ كيف يجب ان ننمي ثروة بلادنا؟ ما هي القوانين التي تنظم علاقة العامل برب العمل؟ وهل يجب ان يشارك العمال في الارباح؟ وكم ولماذا؟ وهل للعمال ضمان اجتماعي؟.

ماهو حكم الدين في الاراضي؟ فهل يجوز تقسيمها على الفلاحين اذا اقتضت الضرورة، لاستقلال بلادنا الاقتصادي ومتى تكون حالة الضرورة؟..

وهل نحن الان في تلك الحالة؟.

ماهي انظمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ماهي الوسائل السليمة التي يجب اتباعها اليوم؟ هل يجوز الاصلاح السياسي المسلح؟ ام يجب ان يكون مجرد عمل صامت؟ ام عصيان مدني؟.

كيف يجب مقاومة الاحتلال؟ ماهي عناصر النجاح فيها؟ كيف يجب ان يبنى المجتمع؟ وكيف نوجد فيه الديناميكية؟ كيف نجعله مجتمعا متقدما؟.

كيف نحافظ على القيم التي تسود عليه؟.

ماهي تفاصيل البرنامج الاخلاقي التي يجب ان يتقيد به الانسان المؤمن؟ هل هي المرونة او التصلب؟ ومتى المرونة ومتى التصلب؟ وهل هي الانعزال؟ ام الانفتاح؟ ومتى هذا ومتى ذاك؟ ان مئات الاسئلة العريضة حائرة اليوم وتتطلب اجوبة صحيحة وواقعية وواضحة، فأنى لنا بذلك.

لو لم تصبح القضايا اليومية الملحة هي محور الدراسة، ولم نعالجها بشجاعة و حكمة، والتضحية بكثير من التقاليد التي اصبحت عند البعض من المقدسات، فان حسابنا سيكون عسيرا امام الله ثم امام التاريخ، وان مسؤوليتنا ليست في اعادة الكتابة، لمشاكل من قبلنا واعادة الحل لها.

ليس من الصحيح بيان الافتراضات اذا كان هكذا فهكذا، وان كان كذلك؟ فهذا، علينا ان نعطي رأيا ثابتا، وواضحا ومحددا..

ونقول: لان الامر هكذا، فالحكم هكذا وكفى، وهذا-بالطبع-بحاجة الى علم واسع لا بالكتب بل بالحياة بكل تفاصيلها، ان هذه و ليست غيرها هي مسؤولية الفقيه.

والا..

فكان يكفينا ان نعيد طباعة كتاب فقهي قديم مرة كل عام ونطبقه، اننا لا نحتاج الى نسخ اخرى للكتب الفقهية بل الى دراسة فقهية لمشاكل العصر ثم حلها على ضوء الفقه الاسلامي الغني ان المغالاة في التحذر قد يسبب في اخراج الناس من الدين رأسا، ولذلك يصبح في بعض الاوقات اشد ضررا من اللامبالاة في الدين،ولذلك كره الله، عمل المارقين المغضوب عليهم كما لم يرض عن القاسطين، الضالين.

اننا بحاجة الى من يعرف السياسة، ويعرف الدين، ويعطينا رؤية دينية تجاه مشاكلنا السياسية.

وبحاجة الى من يعرف الاقتصاد، ويعرف بصائر الدين فيه، ووفق تلك البصائر يحل لنا قضايانا ومشاكلنا الإقتصادية.

وبحاجة الى من يعرف الثقافة الحديثة وتياراتها في التربية وعلم النفس-بفروعه العديدة-والادب والفن ثم يعطينا نتيجة بحوثه..

آنئذ طالبونا بتطبيق الاسلام.

(فمن بدله بعدما سمعه فانما اثمه على الذين يبدلونه) سورة البقره/181.

وبالطبع لو لم تتغير مناهج الدراسة واهتمامات الدارسين ومحاور حلقات المناقشة في المجاميع الدينية لايستطيع علماء الدين القيام بهذه المهام الجسام.

ولكن من يغير مناهج الدراسة..

؟ نحن بانتظار ذلك الرجل الشجاع الحكيم..

.

مسؤولية رجال العلم:

وانتم يارجال العلم! لماذا لاتستوحون من الدين روحه وبصائره ومن الواقع علمه وخبرته، وتقدمون للناس برامج واقعية اصيلة.

صحيح ان دراستكم كانت في الجامعات الاجنبية او في جامعات تتبع مناهجها وهي لاتؤهلكم-بالطبع-للكتابة عن ثقافة الامة الاصيلة.

وصحيح انكم حين تعزمون على دراسة موضوع معين ستجعل المكتبة الاجنبية امامكم كل ما تحتاجون اليها من دراسات ووثائق و مراجع و ..

.

بينما لاتوفر المكتبة الاسلامية لكم الا قليلا من الافكار المبثوثة في مراجع قديمة، ذات طباعة رديئة، ولغة صعبة الفهم.

الا ان رجل العلم ينبغي ان يكون مبدعا، ويخرج من الارض العذراء زرعا بجهوده التي لاتعرف الكلل.

وصحيح انكم سوف تتعرضون لهجوم من ادعياء الدين الذين يمارسون الارهاب الفكري، ولكن يجب مقاومة هذا الارهاب فان الاستسلام للارهاب جريمة لاتغتفر، لانه يشجع على المزيد منه، ان الله لم يجعل لانبيائه العظام، حق جبر الناس على الدين، وقال للرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله: (ليس لك من الامر شيء او يتوب عليهم او يعذبهم فانهم ظالمون) (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها والله سميع عليم) فكيف يأتي رجل لايعرف من الدين شيئا كثيرا لينصب نفسه حاكما على الدين، ويشهر من الدين سلاحا ضد كل من خالف آراءه او حتى لو خالف مصالحه الشخصية التي سرعان ما يجعلها دينا.

ان هذا السلاح هو الذي كان عقبة في طريق تقدم المسلمين والذي استشهد به خيرة ابناء الامة..

منذ عهد الامام الحسين(ع) سبط رسول الله (ص) والى اليوم.

وعلى رجال العلم ان يقاوموا هذا السلاح في بلادنا كما حاربوه في اروبا وقد فقد هو ايضا دوره في عصر الفضاء..

.

يبقى سلاح التشهيربهم لان هناك طائفة من المتأثرين بالغرب، سيرفعون اصواتهم ضد رجال العلم الذين يدافعون عن الدين، ويتهمونهم بألف تهمة وتهمة.

طبعا ليس ضمن تلك التهم تهمة التقليد للغرب، وتسريب ثقافاته الدخلية الى الامة..

.

ولكن يجب ان نقول لهؤلاء..

الذين لايعجبهم عودة زميل لهم الى اصالته الدينية، نقول لهم كلمة واحدة:

هل العقل في اجازة؟

بالرغم من ان العلم الحديث علم واقعي قبل ان يكون نظريا، ولذلك فهو يراعي الاختلافات الواسعة التي توجد في طبيعة الناس.

فان هذه الطبقة من رجال العلم عندنا لايكفون عن تقليد العالم الغربي او العالم الشرقي-كل حسب دراسته-دون تفكير بالاختلافات الواسعة التي تجعل منا غير الغرب وغير الشرق.

فمثلا انهم يتحدثون لنا عن مشاكل الصناعة، او عن طريقة منع استغلال اصحاب المصانع للعمال..

بينما لا توجد لدينا صناعة بمعنى الكلمة..

.

ويتحدثون لنا عن مشكلة الانسان ذو البعد الواحد في العالم الصناعي.

في الوقت الذي نعيش التطرف في التشتت حيث نحتاج الى لملمة جوانبنا في اطارات محدودة، فبينما في الغرب ترى العالم في المصنع يتحول شيئا فشيئا الى جزء من المصنع حيث يتحول المصنع عنده كبقرة الهنود الى الهة تعبد وبذلك تتحجم كل طاقاته ضمن هذا المصنع الصغير..

ويطلع عليه(هربرت ماركوز) بكتابه الانسان ذو البعد الواحد ينبهه الى هذه الحالة المزرية التي انتهى اليها، ويأمره بعدم الافراط في التركيز.

نجد الامر مختلفا عندنا فنحن نعيش عالم التشتت المطلق حيث لا مصنع لدينا، ولا تنظيم دقيق ولاهم يحزنون..

فمن المضحك ان يأتي كاتب وينصحنا بعدم التركيز..

.

اننا نترجم-من حيث نشعر او لانشعر-ثقافة الغرب في عبارات عربية دون ان نحكم عقولنا فيما تنفع وماتضر كأن العقل في اجازة..

.

إن اخطر حالة تصيب الانسان، هي حالة فقدان الثقة بالذات، ورجال العلم اصيبوا بهذه الحالة مع الاسف.

انهم انبهروا كليا بمظاهر الحضارة الغربية، وتركوا وراء ظهورهم كنوزا لاتنفذ من امكاناتهم الذاتية.

ان الحل الوحيد لهؤلاء هو العودة-من جهة-الى التراث حيث يجدون فيه ما يعيد اليهم ثقتهم بانفسهم.

ثم-من جهة اخرى-دراسة الواقع والتعامل معه مباشرة، وليس وراء حجب الكتب والدراسات.

من اجل شخصيتنا الضائعة:

ان على رجال العلم ان يعملوا لاحياء شخصيتنا الضائعة.

بين تقليد المتزمتين، للماضي، وتقليد المتمردين، للاجنبي..

.

عليهم ان يؤسسوا لناحياة جديدة..

تكون حياتنا نحن لاهي حياة من مضى من ابائنا، ولاهي حياة الغرباء عنا.

ولاتكون كذلك الااذا راعينا في مقياسنا ثلاثة امور اساسية: 1/اصالة القيم..

ونعني بها، ترسيخ الايمان، والحق، والحرية، والعدالة الاجتماعية.

و كل القيم التي اجمعت عليها نصوص ديننا وتجارب امتنا، وتهدي اليها عقولنا.

ان القيم ذاتها مقبولة، اما طريقة تجسيد هذه القيم تاريخيا فهي غير ضرورية.

فمثلا: ان الحرية ذاتها قيمة اساسية يجب الاهتمام بها.

اما الاساليب التي امنت لنا الحرية، فهي قد لاتكون نافعة اليوم..

او قد تكون ضارة، اذ ان البشرية ابتدعت اساليب افضل منها..

.

2/واقعية التشريع..

والتشريع يجب ان يستلهم من الواقع الراهن، بما فيه من اختلاف وتفاوت، شريطة ان تكون القيم الاصيلة هي المحتوى الحقيقي لهذه الواقعية..

.

علينا ان نتوخى تطبيق(العدل)، ولكن كيف؟: بالتشريع الذي يؤمن-ضمن كل واقعة بالذات-اكبر نسبة ممكنة من قيمة(العدل).

ان دراسة الواقع، ومتغيراته، وحاجاته، هواهم، من دراسة القيم ذاتها..

اذ القيم واضحة، والتعرف عليها ميسور، انما متغيرات الواقع غامضة وكثيرة.

مغزى التجارب الحديثة:

العلم الحديث، خلاصة تجارب..

وعلينا ان ننفتح عليها، ولكن قبل ذلك علينا ان نميز بين قشور التجارب ولبابها، بين المغزى الحقيقي للتجربة، وبين الاطار الذي وضع فيه هذا المغزى.

ان هذه العملية الشاقة-ذات الابعاد الثلاثة-هي المسؤلية الملقاة على كاهل رجال العلم اليوم.

الباب الاول: التطوير بين العلم والدين الفصل الاول: التطوير ضرورة عصرية التطوير بين الوسيلة والهدف: كان-في العادة-يمتطي ظهر جواده، ويطوف بالبلاد ويدعو فيها الى الله وتطور الزمن.

واخترعت الوسائل النقلية الجديدة، السيارة والطيارة، ولكنه اعتبر جواده جزء من مهمته الاسلامية.

ماذا كانت النتيجة؟ تراجعت قدرته على الدعوة، بل واصبحت معدومة.

لا احد منا يوافق هذا السلوك المتزمت، ولا احد منا يرى صحة موقف هذا الداعية السلبي من وسيلة النقل الجديدة، ولا يرى اية صلة بين جواد يمتطيه وبين منبر يرتقيه.

ولكن الكثير منا لايزال يراها مقدسة تلك الوسائل التي اتخذها اباؤنا لتحقيق اهداف الدين.

يرى اعواد المنبر اقرب الى الله والى الدعوة اليه من اعمدة الصحيفة، بل يرى الاذاعة والسينما، والمسرح وسائل غير لائقة بنشر التعاليم الاسلامية، والنتيجة الطبيعية لمثل هذا التفكير هي ذات النتيجة السابقة، تراجع الدعوة.

فبينما الاعداء يستخدمون الوسائل الاكثر تطورا.

يخيم الجمود على أجواء اوضاعنا(وخلق الله السماوات والارض بالحق) وليس من الانصاف ان نحمل الاقدار مشكلة تخلفنا وجمودنا، اليس كذلك؟ بهذا المثل البسيط نعرف ان الوسيله ليست في اهميتها بمستوى الهدف، بل هي في احسن الفروض تكون ذات درجة من الاهمية دون مستوى الهدف، وفي الاغلب انما تكتسب شرعيتها واهميتها من الهدف ذاته.

اما اذا اعطيناها اهمية تعادل او تفوق اهمية الهدف فان النتيجة الطبيعية هي الحكم باعدام الهدف اليس من التزم مع نفسه بألا يأكل الا مما يزرع بالوسائل القديمة، وألا يلبس الا مايحاك باليد، والا يستخدم الا السفن الشراعية، اليس يعيش مثل هذا الرجل في غربة من عصره سجين افكاره لايستطيع صرفا ولا عدلا.

كذلك المجتمع الذي يرفض ان يطور وسائل انتاجه، او سبل مواصلاته، او قوانينه او اسلحته الدفاعية، فانه يحكم على نفسه بالموت التدريجي.

او تعرف اين تكمن مشكلة هذا المجتمع الحقيقية؟ تكمن في استهانته بالاهداف، وتقديسه للوسائل وعدم قدرته على التضحية بها لاجل اهدافه.

فأنت مضطر الى اختيار احد امرين اما تجديد سلاحك، واما القبول بالهزيمة بما فيها من نتائج منكرة.

فأحد الامرين-عند التعارض-ينبغي ان تهتم به، اما النصر واما السلاح القديم، فاذا قدست السلاح القديم فلابد ان تختار معه الهزيمة.

الاهداف السامية لاتتطور مع الزمن، لانها جزء من ناموس الخليقة.

ولكن الوسائل هي التي تتطور، ولا احد ينكر فضيلة العدل والاحسان، او يخالف ضرورة الطعام والشراب، والجنس، ولكن الاختلاف بين الامم يكون عادة في الوسائل.

كيف نحقق العدل، ونمارس الاحسان، ونوفر الطعام والشراب ونشبع غريزة الجنس؟ وكما بين الامم كذلك بين العصور يكون الاختلاف عادة في هذه السبل.

وكلما ازداد اهتمامنا بالوسائل دون الاهداف كلما تضاءلت فرص تحقيق الاهداف.

فليس سواء من يبلغ-مثلا-عبر المنبر ومن يدعو الناس الى الله عبر الاذاعة.

وهكذا توصلت-شخصيا-الى قناعة استوحيتها من حقائق تاريخية واخرى اجتماعية واخرى من ملاحظاتي لحياة العظماء، الم تركيف تطورت الصناعة في الحروب قبل ان تتطور في السلم.

لان النصر اعظم هدف عند الشعوب، واخلاصهم لهذا الهدف يبعثهم لتطوير وسائل تحقيقه.

كذلك كانت حركة التطوير في علم الطب اسرع من أي فرع اخر لاهتمام الانسان بما يحفظ حياته اكثر من أي شيء اخر.

والذين سعوا في سبيل تجديد الدين وطوروا اساليب الدعوة اليه، وغيروا سبل تحقيق اهدافه وقيمه كانوا اكثر اخلاصا له عمن تزمت في عرضه او في تطبيق احكامه.

واولئك الذين عارضوا الانبياء واستهزؤا بهم وقاوموا رسالاتهم وقتلوهم باسم الدين ومقدساته كانوا ابعد الناس عن الدين واهدافه، لانهم عارضوا لباب الدين باسم طقوسه وقشوره، وعارضوا اهداف الدين وقيمه، باسم بعض الوسائل التي زعموا دفاعهم عنها.

وجعلوا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله ورسوله وجاهد في سبيل الله سواء.

كمثل كفارقريش او اليهود الذين قاوموا رسل الله من بعد موسى عليه السلام، وقتلوا النبيين والربانيين واتهموهم بالخروج عن الدين لانهم غيروا-باذن الله وحفاظا على القيم الحق-بعض الاحكام المختصة بالازمنه الغابرة.

واليوم من المسؤول عن تخلف المسلمين اوليس تشبثهم بالقشور وتكاسلهم عن المبادرة الى المعارف.

والمسارعة في الخيرات؟ فلو بادروا الى تطوير وسائل الانتاج، وسبل الدفاع وغيروا عاداتهم بما يتلاءم وتلك السبل والوسائل، وقننوا اساليبهم في الدعوة، فهل كانوا اليوم اضعف الناس امة و اكثرهم تخلفا؟ كذلك رسالات الله، تناسخت ليس في قيمها التي هي تعبير صادق عن سنن الله الحق في الخليقة، وانما في سبل تحقيق تلك القيم بالنظر الى الظروف الموضوعية والذاتية للذين ارسلت اليهم، وجاءت رسالة الله المهيمنة(الاسلام) تحمل من قيم التشريع ومناهج التطوير ما نجعلها قادرة على احتواء أي ظرف جديد، واي تطور في حياة الامم.

ونحن لذا لم نأخذ بتلك المناهج، التي رسمت لنا طريقة التطوير على الاسس الثابتة، فمعنى ذلك اما عدم تطبيق الشريعة او تخلف الذين يطبقونها عن ركب الحضارة وكلاهما مأسة.

وقد ارتكب فريق منا الاول وفريق الثاني وابتلينا بكلتا المأستين.

وكلمة الخلاصة: كما انك تبدل ثيابك وفقا لفصول السنة ولا احد يناقشك في ذلك، لان الثوب وسيلة للحفاظ على الجسم واذا تخلفت الوسيلة عن تحقيق هدفها غيرت بما يلائمه، كذلك لو تخلف أسلوب الدعوة غيرنا الاسلوب وحافظنا على الهدف(الدعوة).

ونحن نكرر كل يوم ذكر (سبحان الله ) لنؤكد ان اسمى الغايات رضوان الله وكل غاية دونه لاتكسب قدسية ولا احتراما الا بها، كذلك فان كل الغايات هي في الحقيقة وسائل متدرجة لما هو اعظم منها حتى تتصل سلسلة الغايات الى رضوان الله غاية الغايات(وان الى ربك المنتهى).

وهذا يعني ان لاشيء يبقى مقدسا اذا عارض قيمة اسمى، مما يفتح لنا افقا واسعا في فهم فقه الاولويات (الاهم و المهم).

التطوير ضرورة حضارية: من لم يطرق ابواب المستقبل بحزم، اقتحم المستقبل داره بقوة، وسواء اعددنا انفسنا لاستقبال التطورات العصرية التي لم يسبق لها مثيل لم انطوينا على انفسنا، وعشنا في كهوف الاماني والذكريات، فان هذه التطورات سوف تلف حياتنا لانها اصبحت اليوم عالمية.

قبل قرون كانت اوربا تتطور، وكانت بقية شعوب الارض ونحن منهم في معزل عن ذلك.

ولكن التطور اصبح اليوم سمة عالمية، لقد انتشر في كل مكان ودخل في كل قطر، بل في كل بيت، بل واصبح هوى في كل قلب، وتطلعا اساسيا لكل انسان.

لقد استطاع الانسان الذي سخر له الله سبحانه ما في الارض جميعا، ان يهيمن على الطبيعة، يغور في أعماق المحيطات ويمور في افاق الفضاء، ويفلق الذرة، ويسخر الرياح، ويلين الحديد، ويستخدم الالكترون في تدبير حياته.

والى جانب ذلك امسى الانسان اقدر على تدمير حياته بيده.

ان وسائل التدمير الحديثة، اصبحت قادرة على افناء الحياة من وجه الكرة الارضية عدة مرات.

وكل شعب يرى انه لو تطور فان آفاق الرفاه تنتظره، ولو تخلف فان وسائل الدمار تفنيه، ولذلك تراه يندفع باقصى سرعته في سبيل التطوير تسوقه الرغبة في المكاسب، والرهبة من الدمار الشامل! وتتوسع الفجوة بين الشعوب المتقدمة، والمتخلفة، فبينما يمتلك شعب فائضا من القمح يحرقه للحفاظ على استقرار الاسعار بزعمه، ترى شعبا آخر يهدده الموت جوعا.

وبينما يصرف شعب ألوف الملايين في العطور والكماليات ترى شعبا آخر يبحث عن دولار واحد باضعاف ماانتجه عبر تاريخه كله، ولكن هذا الانتاج يتكدس في دول معينة، ويحرم عنه اكثر الشعوب.

وبسبب الدعاية للمنتوجات التي اسالت لعاب الفقراء، لم يعد ممكنا توصيتهم بالزهد في نعم الله، بل اصبحت الحاجات الكمالية التي كانت خاصة بالمبذرين في السابق اصبحت من ضرورات حياة الناس اليوم، انك لاتقدر اقناع ابناءك بان يعيشوا كما كنت تعيش، كما انك لم تكتف بالعيش مثل والديك فلاريب لوسائل ابتدعت او تطورت.

قديما كان يعيش اغلب الناس في القرى المتباعدة، وكانوا لايتأثرون ببعضهم الا قليلا، بينما تجد اليوم اكثر من ثلثي العالم بعيشون في المدن وحتى الذين لايزالون في القرى يتصلون بسائر الناس عبر السفر.

كما ان الوسائل الاعلامية اختصرت المسافات، بل اعدمتها في بعض الجوانب، حتى اصبح الناس متقاربين وكأنهم يعيشون جميعا في قرية واحدة او حتى في بيت واحد، تتماوج افكارهم وعواطفهم، وتتواصل تجاربهم و اخبارهم.

وبسبب هذا الدمج المركز، اصبحت القوى السياسية اقدر على مصادرة حرية الناس، والتحكم بشؤونهم.

اكثر الانظمة ديكتاتورية في السابق لم تكن قادرة على ضبط سلوك الناس، كما تفعل اكثر الانظمة حرية اليوم.

صحيح ان الاساليب تغيرت ولكنها بالتالي تفقدك حريتك في التصرف، ان حجم كتب القانون في الدول الحرة اصبح اليوم اضعاف ما ابتدعته البشرية عبر تاريخها المديد..

اما اساليب فرضها، فانها هي الاخرى تنوعت، ابتداء من الدعاية لها، وانتهاء بالقوة الرادعة.

وباختصار: التطور الذي نعيشه اليوم لايشبه مامرت به البشرية سابقا، فكيف نتحداه؟ هل للاسلام-هذه الرسالة الالهية التي لايخلقها الزمن-اجابات شافية عن الاسئلة التي تطرحها تحديدات العصر؟ من الناس من ينكر خلود الاسلام، او يزعم ان الاسلام محدود بالشؤون الشخصية..

وهكذا لايكلف هؤلاء كما اولئك انفسهم عناء الاجابة عن هذه الاسئلة، ويقولون دعوا العقل البشري يعالج مشاكل المسلمين ولاتحملوا الدين اكثر مما يحتمل.

ولكننا نعتقد ونبرهن على ما نعتقد ان الاسلام رسالة التحديات المضاعفة، انه شاطيء الخلاص لمن تعصف به امواج الفتن.

واذا لم ينفع الاسلام البشر وبالذات المؤمنين به من خطر هذه الامواج العاتية فمن أي خطر يعصمهم او ينجيهم.

القرآن هدى من الضلال، اولسنا نحن المسلمين تلفنا الظلمات المتراكمة؟ الذين هجروا القرآن في مثل هذه الايام، قد خسروا طريق النجاة وضيعوا خشبة الخلاص، الا ان ذلك الخسران المبين.

ولكن كيف؟ هل يمكن ان نستفيد من كتاب ربنا هدى لواقعنا المظلم من دون ان نطور اساليب فهمنا ومناهج استنباطنا منه، ونحاول ان نستوحي منه بصائر جديدة واحكاما للوقائع الحادثة.

واول واعرض سؤال مهم أمامنا: كيف نتحدى تقدم العصر ونلتحق بركب الحضارة المتسارعة؟ أي ثقافة نستوحي بصائرها من كتاب ربنا، ونحدد معالمها ونجعلها محور مناهجنا التربوية والاعلامية والتبليغية.

آيات الجهاد تعالج مشاكلنا وتخلفنا وامراضنا النفسية والاجتماعية.

ام آيات السعي والكدح، ام آيات تسخير الارض للانسان وكرامة الانسان عند ربه؟ وكيف نؤول هذه الآيات على الواقع الخاص بنا، حتى تصبح بصيرة التحدي، ورؤية التسابق والتنافس؟ واي تشريعات متناسبة مع هذه الحالة يجب ان يؤكد عليها فقهاء الاسلام بعد اطلاعهم على واقعنا المتردي.

فاذا ثبت عندهم يقينا ان الصراع الذي دشنته الحضارة الحديثة ضد كل الامم الراقدة في سبات التخلف، ان هذا الصراع يوجب علينا جهادا كبيرا، نعبىء له كل طاقاتنا فان عليهم ان يدخلوا رحاب فقه الضرورات، ويستنبطوا الاحكام المناسبة حسب الاولويات الشرعية التي يبصرونها من الوحي.

واذا ايقنوا ان ذلك لايتم من دون تخطيط مركزي صارم، فلابد ان يستخدموا صلاحياتهم كولاة للامر فيعطوا الفتاوى المناسبة.

واذا وجدوا ان التخلف الذي يعني الفقر، والتبعية، واعلاء كلمة الكفر، وضياع احكام الله، هنالك يضعون-انطلاقا من مسؤولياتهم الدينية-مناهج لتحدي التخلف وقد يفرض عليهم ذلك اعطاء فتوى بضرورة تحديد النسل، او تشجيع النساء على العمل، او فرض التعليم على كل الشبيبة، او تقليص الاستهلاك، وزيادة الانتاج أو ما اشبه..

وحين يجدون دعايات الاعداء تغزو بلادهم عبر الافلام والمسرحيات، والصحف المثيرة، وان نمط حياة الغرب اخذ ينتشر لانه اسهل او اكثر جمالا، فانهم سوف يفرضون تجديد اساليب الاعلام، وتأسيس مراكز لانتاج الافلام الجيدة والموجهة، او محطات للتلفزة أو دور للصحافة و ما أشبه.

وهناك يطرحون أسئلة جديدة على انفسهم حول القيم الاصيلة التي ينبغي ان يتمحور حولها الاعلام.

وان الخلاعة و الموسيقى ليستا فقط وجه الفساد في اعلام الغرب، بل الافكار الشركية التي تحتوي عليها اشد حرمة واعرض فسادا.

ومادامت الانظمة السياسية اليوم تزداد تأثيرا على حياة الناس، فلابد ان نخطط لتوجيهها ضمن القيم الالهية، وفي ذات الوقت نعرف كيف تحافظ الدول الصغيرة على استقلالها امام الدول الاكبر وامام المؤسسات الدولية التي تزداد نفوذا في العالم.

لايمكن ان تعيش دولة بلا حدود جغرافية، وبلا موازنة اقتصادية، وبلا مكوك وقوانين تنظم الاستيراد والتصدير..

حتى ولو كانت دولة عظمى كأمريكا، او ذات اقتصاد عملاق كاليابان، فكيف اذا كانت دولة فقيرة مثل بنغلادش او صغيرة مثل البحرين، والسؤال: مادامت هذه القوانين ضرورية فكيف تسن حتى تحقق اكبر قدر من الفائدة بأقل قدر من الضرر؟ بتعبير اخر كيف تشرع ضمن اطار القيم الاسلامية العامة، مثل حق الفرد المتوازن مع حق المجتمع، والمحافظة على كرامة الانسان ضمن تحقيق امن الدولة، والاهتمام بحرية المواطن؟ وهناك تحد صارخ لايخفى على احد، انه التحدي العسكري، ومن لم يستجب لهذا التحدي لابد ان يستسلم لكل الويلات.

والسؤال: كيف نطبق كلمة الله الحازمة؟(واعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم و آخرين من دونهم لاتعلمونهم الله يعلمهم).

وكيف نعمل اذا اعترضت طريقنا بعض الاحكام الشرعية؟ مثلا في بعض الدول تزيد نسبة النساء على الرجال بأضعاف.

فاذا كان عدوهم المباشر اكثر عددا فهل نفرض الجهاد على النساء وهو ساقط شرعا عنهن ام نلغي ذلك وننتظر قدرنا في الهزيمة.

وبكلمة موجزة: لقد عصفت بالبشرية ثورتان عارمتان الاولى عندما اكتشفت الزراعة، والثانية باختراع الصناعة الحديثة.

واليوم تتراكم ارهاصات ثورة ثالثة تسمى بالثورة الالكترونية.

وكل ثورة غيرت مناهج الحياة رأساً على عقب.

واخشى ان نفيق في لحظة لنرى انفسنا طافحين فوق امواج سيل هادر من التطورات.

التطوير في الثقافة و الفقه: ولا يمكن ان يقتصر التطوير على القوانين، بل لابد ان يغور الى عمق التوجيه الثقافي، فكثير من الافكار والقيم الخلقية يجب ان تتطور وفق المتغيرات في الناس او في ظروفهم القاهرة.

فاذا انكفأت روحية الناس، وانطووا على انفسهم، واخذوا يتشبثون بنصوص الزهد في الدنيا، لترك مسؤولياتهم الحياتية، والتقاعس عن الكدح وعن الوفاء بواجبات عمارة الارض، هنالك يجب على اولي البصائر والذكر ان يقرأوا عليهم آيات السعي والجهاد، واعمار الارض واصلاحها، ويركزوا على القيم الاجتماعية التي تتنافى روح العزلة والانطواء.

واذا توغلوا في الدنيا، وتركوا الاخرة لها، يجب ترغيبهم في ثواب الله، وتزهيدهم في درجات الدنيا.

واذا تواكلوا زاعمين ان الله ينصرهم على اعدائهم بمجرد التمني، يجب بيان شروط التوكل على الله حتى يرزقهم النصر، واذا اعتمدوا على قوتهم واغتروا بها يجب التركيز على العامل الغيبي في الحياة.

وهكذا مع اختلاف روح المجتمع.

يختلف التوجيه الثقافي كما اذا اختلفت الظروف القاهرة لابد ان تختلف حسبها الثقافة، فقد يبتلي الناس باحتلال اجنبي او ديكتاتورية قمعية، او تحد اقتصادي كبير، وقد يعيشون لهب الثورة المسلحة، وتهور العمليات الانتحارية، وقد تظللهم بركات الله فيعيشون الترف وتنتشر بينهم امراضه..

في كل وضع لابد ان يختار فقهاء الاسلام، العلماء، ببصائر الوحي، منهجا معينا لتوجيههم، فقد يعبئون الناس ضد الاجنبي، وقد يأمرونهم بالتقاة من كيد الطاغوت، وقد يفرضون عليهم الكدح المضاعف لمواجهة التحديات الاقتصادية، وقد يرغبونهم في التروي واختيار الاساليب الهادئة، وهكذا..

ان الحكمة تقتضي اختيار الفكرة المناسبة،.

للوضع المناسب.

فقد يكون الكذب صدقا عند الله (كما في الاصلاح) وقد يكون الصدق كذبا عند الله(كما في النميمة) وقد تكون الخدعة عبادة(كما في الحرب) وقد يصبح التكبر محبوبا(كما التكبر امام المتكبر).

وبكلمة: ان تكوير المناهج ضمن دائرة القيم الشرعية، ضرورة تقتضيها الحكمة التي أمرنا بها حيث قال ربنا سبحانه:(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

لماذا لم يتطور الفقه؟

لماذا لم يتطور الفقه كثيرا؟ لماذا اغلق البعض باب الاجتهاد؟ وحتى الذين لم يقفلوه نظريا لماذا تراهم لم يتوغلوا فيه بعيدا؟ للامة-اية امة-روح عامة، فاذا كانت عالية تعيش عنفوان الانطلاق انعكست على سائر ابعاد حياتها، ففي السياسة تتطلع الى الفتوحات، وفي الاقتصاد الى التقدم والابداع، وفي الاجتماع الى التعاون والوحدة، وفي التشريع الى سن القوانين المناسبة لكل تلك الابعاد.

واذا تراجعت روح الامة انعكست على انشطتها ودخلت في نفق الجمود والتخلف.

وحين كانت الامة الاسلامية في عنفوان شبابها، تقدمت في كل الاتجاهات، ولكنها انكفأت على نفسها عندما دخلت خريف عمرها.

واحاطت بها سلبيات الشيخوخة المبكرة.

واذا عادت اليوم الى فصل الربيع وتجددت حياتها وانبعثب فيها روح التحدي، فان المؤمل ان تتقدم-مرة اخرى-في كل الاتجاهات.

ومنها بالطبع حقل التشريع..

وقد ذكر العلامة اقبال اللاهوري خمسة اسباب لجمود التشريع عند المسلمين والتي سوف اسردها بأختصار بالرغم من أنها-حسب مايبدو لي-ليست اسبابا حقيقية، بل هي مظاهر للسبب الذي سبق الحديث عنه.

اولا: تقديس آراء الشيوخ السابقين وعدم الشجاعة في نقدهم.

ثانيا: تأثر الثقافة الاسلامية بالتصوف الاجنبي الداعي الى الرهبنة والتي تخالف روح الاسلام.

ثالثا: محاولة العلماء المحافظة على ماتبقى من الاسلام كما هو، بغير تغيير، وذلك بعد عاصفة التتار التي كادت تقتلع جذور الاسلام.

رابعا: اختلاف المذاهب الاسلامية، مما دعا كل مذهب الى التعصب لافكاره والجمود عليها..

خامسا: سيطرة علماء الدين المناهج التعليمية في الدولة العثمانية مما منعوا من تطويرها.

الفصل الثاني: التطوير ضرورة دينية

القرآن الكريم والتطوير:

لان القرآن الحكيم يخرج الذين آمنوا من الظلمات الى النور، فهو فرقان بين ظلمات الجهل والجاهلية، والفوضى والهوى والشهوات، وبين العقل والنظام، والالتزام والتقوى.

والهدف الاسمى لمن وعى القران يتمثل في معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، وسواء تعرف الانسان على الحق من خلال العقل او الوحي او هما معا، فان ذلك يحقق ذلك الهدف الاسمى والذي يلخصه الدعاء المأثور الذي يلهج به لسان المؤمنين: (اللهم ارني الحق حقا فاتبعه، والباطل باطلا فاجتنبه، ولا تجعله علي متشابها فاتبع هو اي بغير هدى منك).

وقد قال سبحانه عن طائفة ضالة من الناس: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير* ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق).

وهكذا نجد هناك المقابلة بين هدى الله المتمثل في واحد من الينابيع الثلاث، العلم والهدى الالهي والكتاب، وبين الضلالة التي تتم عند فقد هذه الينابيع جميعا.

وهنا تعرف لماذا يأمر القران بالتطوير في الوقت الذي هو كتاب قيم يدعو الى اتباع سنن الله الثابتة التي لا تجد لها تبديلا ولا تحويلا.

ذلك لان دعوة القران هي الى الحق، سواء اكتشف بالوحي او بالعقل، وسواء الفناه وانسنا به، ام كان علينا جديدا..

الا ترى ان الكدح والسبح في النهار حق، والتبتل والمنام باليل حق، وكل شيء في موقعه وبقدره حق، وفي غير موقعه وباكثر من قدره قد يصبح باطلا، وهكذا التطور سنة اصيلة من سنن الله التي لا تتبدل، وحين يتبع البشر الحق، فانه يتجاوز ذاته ويخالف هواه، ويخرج من اطار الفوضى والتطرف، ويدخل في اطار ضبط نفسه مع حقائق الحياة، ومن هنا كان العقل والوحي نورا واحدا، ولا تعارض الا بينه وبين ظلام الجهل والكفر.

انك تجد التناقض ابدا، بين الضلالة والهوى، وبين هدى الله سبحانه والذي يؤتيه من يشاء من عباده، بما اودعه في فطرته من نور العقل او بما يلقيه عليه من الوحي، قال الله سبحانه: (الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون).

ترى ان الهدف الاسمى نور الهدى، سواء كانت وسيلته الوحي او العقل، وسواء دلنا-نورالهدى-الى الحقيقة الثابتة مثل قيمة الصدق، او الى الواقع المتغير مثل الاحسان الى الغير، الذي يختلف حكمه حسب حالات ذلك الغير، المهم الا نتبع اهواءنا، وانما نتبع الحق والواقع كما خلقه الله وكما يهدينا اليه الوحي والعقل.

وهكذا لا تجد اختلافا بين امر الله بالوحي، وبين تأكيده على اتباع العقل، الذي يهدي احيانا كثيرة الى التطوير..

واننا سنتحدث في اثناء فصول الكتاب عن تفصيلات التطوير وأفاقه في القران الكريم، ولكننا هنا نشير الى ضرورته حسب المنطق القراني الكريم والتي تعرضها من خلال عدة حقائق: اولا: في ايات عديدة يجعل القران، العقل والذكر والفقه والبصيرة هدفا اساسيا للوحي، انك تتلو كثيرا مثل هذه الكلمات في القرآن: 1-افلا تعقلون، كقوله سبحانه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وانتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).

2-لعلكم تعقلون، كقوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم اياته لعلكم تعقلون) 3-ان كنتم تعقلون كقوله عز وجل: (يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الايات ان كنتم تعقلون) وقد تكررت هذه الكلمات24 مرة في القران الكريم وتكررت كلمات مشابهة مثل هذا العدد.

4-لعلهم يتذكرون كقوله سبحانه: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو اعجبكم اولئك يدعون الى النار والله يدعو الى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) 5-ليذكروا كقوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القران ليذكروا وما يزيدهم الا نفورا).

6-لعلهم يذكرون كما قال سبحانه: (يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ايات الله لعلهم يذكرون).

7-لعلكم تذكرون كما قال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن حتى يبلغ اشده واوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا الا وسعها واذا قلتم فإعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله اوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).

وقد تكررت هذه الكلمات وما تشبهها عشرات المرات في القران.

وهناك كلمات مشابهة في القران تهدينا جميعا الى اهمية العقل ودوره في فهم الشريعة ودور الوحي في اثارة العقل وتكميله.

والسؤال المطروح: هل اكتمال عقل الانسان بالوحي، يعني بالضرورة العمل بمقتضى العقل؟ الجواب: بلى اولا: لان الله الحكيم اجل من ان يأمر بالعقل عبثا، انما يأمر به ليتبع، وثانيا: لان عقل الانسان اذا اكتشف نفسه، فانه لا يقبل التراجع عنه، انه يأمر بذاته الى ذاته.

ومن الواضح: ان التطوير الذي ندعو اليه هو العمل بالعقل، وتغيير مناهج وطرق العمل بالشريعة وفق الضرورات التي يكتشفها العقل، ومن هنا فان دعوة القرآن الى العقل هي دعوة صريحة الى التطوير وفقه، وبتعبير اخر انها دعوة الى ضرورة فهم الشريعة وتطبيقها، في اطار العقل الذي تدعو الشريعة ذاتها اليه بل القران الكريم كله اثاره للعقل، وتطهير للقلب، عن الادران التي ترين عليه، ليشع فيه مصباح العقل.

ثانيا: هناك اكثر من عقبة تعترض سبيل التطوير، تقديس الاباء وتراثهم، وتقليد المجتمع الفاسد، والخشية منه، ومن السلطات الطاغية، ومن اصنام قدست، او افكار وتشريعات احترمت.

والقران الحكيم يحطم كل صنم يقدس من دون الله، ايا كان اسمه وصورته، ويعطي الانسان عزيمة لا تفل لكي يتحدى كل الضغوط التي يملكها الاصنام والقوى المؤيدة لها، ويسمى القران هذا التحدي بالحنفية..

فيقول في صفة النبي ابراهيم عليه السلام: ( ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن حنيفا مسلما وما كان من المشركين).

ويفسر بعضهم الحنفية واتصاف ابراهيم عليه السلام بها بما يلي: انه(ابراهيم) اكتشف الطبيعة الحنفية(المتغيرة) وسلم بها، وبذلك اكتشف ان كل شيء ما عدا الله فهو حنيف.

وان تثبيت اية ظاهرة الوجود فهو شرك بالله، أي اشرك هذه الظاهرة مع الله في بقائها وثباتها، لذا فقد تم ربط الحنفية بالتوحيد حيث اتبع مصطلح(حنيفا) بقوله وما ((وما كان من المشركين)).

ويسوق الذكر حججا عقلية على سخافة تقليد الاباء واتباعهم المطلق، فقال سبحانه: (وهو ينفي بعض الاحكام المنسوبة الى الدين).

(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لا يعقلون) ثم بين سبب جمودهم وهو اتباع الاباء فقال: (واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل الله و الى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباؤهم اولو كان اباؤنم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون).

وعمن اتبع نهج المجتمع الفاسد بلا تعقل، قال ربنا سبحانه: حكاية عن اهل النار وما ادخلهم في سقر قال سبحانه: (وكنا نخوض مع الخائضين) بينما يصف تحدي المؤمنين للمجتمع الفاسد، وقوته الظاهرة بالقول: (الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فإخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

وقص الذكر حياة الربانيين الحافلة بتحدي الطغاة، وتحمل اقسى الآلام في سبيل تحطيم كبريائهم الزائفة، وكمثل رائع لذلك نقرء ما قاله السحرة التائبون لفرعون الطاغية، عندما آمنوا برب هارون وموسى فهددهم بافظع قتل فقالوا له: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما انت قاض انما تقضي هذه الحياة الدنيا).

ثالثا: وبين ان اختلاف الزمان قد يؤثر في اختلاف الاحكام، فقال سبحانه: (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون).

(ما ننسخ من اية او ننسها نأت بخير منها او مثلها الم تعلم ان الله على كل شيء قدير).

وفي معرض حديثه عن حكمة تغيير بعض الاحكام قال ربنا سبحانه: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء الى صراط مستقيم* وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة الا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤوف رحيم).

وعن ليلة الصيام حيث كانت مباشرة النساء محرمة فيها ثم احلها الله لضعف كان عند المسلمين قال سبحانه: (احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم و كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم اتموا الصيام الى الليل ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله اياته للناس لعلهم يتقون).

وحينما زعم اليهود ان ما حرم اسرائيل على نفسه فحرمه الله على اولاده اتباعا لسنته انه فرض من الله، ولا يجوز تغييره قال ربنا سبحانه: (يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين).

ثم يبين جمودهم على الافكار والاحكام السابقة فقال سبحانه: (يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم اخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم).

تدبر في قوله سبحانه: ( يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه، وان لم تؤتوه فاحذروا).

فانهم حددوا معايير من عند انفسهم لصدق الرسالة.

وكانت هذه المعايير تقوم على اساس افكار او احكام قد عفا عليها الزمن.

وقد بين سبحانه-حسبما يبدو-حكمة بعض المحرمات على بني اسرائيل، وانها كانت حكمة موقتة ومختصة بظروفها، فقال سبحانه: (كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين).

ثالثاً: ونقرأ في كتاب الله ايات كريمة تأمر بأتباع العقل، وما يتبع منه من احكام ونشير فيما يلي الى بعض ذلك، للدلالة على ان التطور الذي هو سنة الله في الحياة البشرية لابد ان يكون ضمن هدى العقل، فاذا تطورت الظروف وامر العقل بتطبيق للحكم الشرعي مختلف عما كان سابقا فعلينا اتباعه.

أ-قال الله سبحانه: (فليأخذوا بأحسنه) (الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب).

(وقل لعبادي يقولوا التي هي احسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا ).

ومعروف ان الاحسن يخضع للمتغيرات، فقد يكون هناك ما هو احسن في حالة لا يكون في حالة اخرى، ولعله لذلك امروا باتباع الاحسن وترك الحسن الذي يتنافى والظروف المستجدة، والذي يظهر من السياق في الاية الثانية، ان المقياس لمعرفة الاحسن امران.

الاول: الاحسن بالنظر الى سائر الادلة، فقد يكون للقول الواحد اكثر من معنى محتمل فعلينا ان ننظر أي معني يتوافق اكثر فاكثر مع روح الشريعة، وعرف المتشرعة، وبتعبير ادق مع سائر النصوص الدينية، لان الله سبحانه يقول: ( اولئك الذين هداهم الله) فعرفنا ان هداية الله لهم جعلتهم يختارون الاحسن فاذا كانوا يستفيدون من هدى الله في تقييم القول ومعرفة احسنه.

الثاني: نور العقل، والذي يهدي صاحبه الى الاحسن بالنسبة الى نفسه ضعفها وقوتها، اقبالها وادبارها، او بالنسبة الى ظروفه ومجتمعه، وهكذا لان الله سبحانه قال في ختام الاية: (واولئك هم اولوا الالباب).

وقد نسبه الى اول الوجهين، العلامة الميرزا القمي في كتابه القوانين، فقال عند بيان هذه الاية المراد الاظهر والاولى، فعند التعارض الراجع بدلالة، فاذا تساويا فالراجع بحكمه.

وفسر بعضهم كلامه في الهامش فقال: المراد من رجحان الحكم، هو رجحانه تأييدا بغيره من الادلة.

ب-وقال سبحانه: (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين).

والعرف والمعروف، كما النكر والمنكر قد لا يكون في كل الظروف واحدا بل يتغير -عادة- ضمن مجموعة عوامل يهتدي اليها العقل، وقد افتى فقهاء الاسلام في موارد شتى، وانطلاقا من هذه الايات بضرورة رعاية العرف، وما العرف الا ما اهتدي اليه الناس بعقولهم، وفي اطار ظروفهم المتغيرة.

ج- قال سبحانه: (ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه اية من ربه انما انت منذر ولكل قوم هاد).

ان كل طائفة جعل الله لهم اماما، واعطاه صلاحيات تطبيق الشريعة وفق ظروفه فقال سبحانه.

(انا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا واثارهم وكل شيء احصيناه في امام مبين).

وقال: ( يا ايها الذين امنوا طيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلا).

(واذا جاءهم امرمن الامن أوالخوف اذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى اولي الأمر منهم لعلمه الذين منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا).

وهكذا نستوحي من هذه الايات ومن سائر الايات والنصوص التي تهدينا الى بصيرة الامامة والولاية الشرعية نستوحي ان هناك احكاما تخضع لتطور الظروف لا يعرفها الا الفقهاء الراسخون في العلم الحافظون لكتاب الله.

وقال سبحانه: (انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون).

د/ لقد بعث الله رسوله الى الناس ليتلو عليهم اياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، فقال سبحانه: (هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

و السؤال ماهي الحكمة؟ اليست معرفة اصول العلم، ومباديء الفقه التي يعرف الانسان بها حكم كل حادثة وواقعة، وهذا يعني ان الحياة تتطور والشريعة خالدة، لانها تعطي المؤمنين الحكمة التي تؤهلهم لمعرفة احكام الشريعة انى تطورت الحياة؟ كيف تعلم الرسول-ص- الحكمة؟ وكيف كان القرآن كتابا احكمت اياته؟ هذا ما تقرأه ان شاء الله في الفصل القادم.

وصفوة الكلام: ان ما نعيه من مقصد الشريعة في اثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الارادة ضد من يصادرون العقل.

ان مراد الشرع من كل ذلك-حسبما نعيه- هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فان كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، واذا كانت متغيرة عملنا وفقها..

القرآن الكريم حكم واحكام: ارايت كيف يوصي ربنا سبحانه في كتابه الكريم عباده بالتدبر ويقول: (افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها) ويقول: (او زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)..

ويقول: (الذين اتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون).

(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).

او تدري لماذا؟ لكي لانقرأ الكتاب عبارات بلا اعتبار، او كلمات بلا محتوى، انما نغور في تخومه لنستنبط-كل واحد منا بقدره-العلم، والحكمة، والنور، والهدى.

ودليلنا في هذه الرحلة الروحية النهج القرآني الفريد، حيث تفيض معارفه من ينبوع التوحيد، ثم تعود اليه انى تشعبت روافده، وتنوعت مراميه.

الله نور السماوات والارض، ونوره يتجلى في مشكاة النبوة، ثم في مصباح الامامة، ويشع على روابي الفقه والايمان، وانى انتشر هذا النور فسوف لا ينفصل عن معدن التوحيد، او مشكاة النبوة ومصباح الامامة.

ولا تكاد تمر على اية قرانية الا وفيها اسم مبارك من اسماء الله الحسنى، تتصل به معاني الاية اتصال النور بالمصباح، والحكم بالحكمة، والدليل بالحقيقة، والحكمة بالسنة، والسنة بالاسماء الحسنى، وتتدرج حكم الاحكام بهذا النسغ من حكمة اقرب الى التوحيد الى ما هو اقرب الى الحقائق الواقعة، كل حكمة تتفرع مما هي اسمى منها واقرب الى اسماء الله الحسنى.

ونتساءل-مرة بعد اخرى-لماذا احتج الله سبحانه لعباده بالادلة؟ لماذا ساق اليهم علل الشرائع؟ ولماذا لم يترك حكما إلا وشفعه بحكمته..

؟ ألكي يفهم العباد مراد الله منهم ، ام ليجهلوه؟ الكي يعقلوا عن ربهم، ام لكي يسلموا بلا تفكر؟ بلى لكي يعقلوا، ويفقهوا، ويتذكروا، وقد بين ربنا سبحانه ذلك في كتابه بوضوح كاف ووصى به مرة بعد اخرى.

ثم ماذا لو اطلعوا على حكم الاحكام، وحقائق الشرائع، وبصائر الدين، هل تنفهم هذه المعارف شيئا في واقعهم الحياتي؟ ام لكي يزدادوا معرفة وكفى؟ كلا انما العلم يهتف بالعمل، واليقين يهدي الى الاقدام، والفكر يدل على الحركة، وقد امر ربنا في كتابه بذلك..

فقال سبحانه: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية).

(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا اولو الالباب).

جملة القول: ان ربنا قرب لنا الامثال، وساق الينا البصائر، وانزل الحكمة، وعلم الاسماء لكي يفقه عباده دينه، ويعلموا مراده منهم ويعملوا بذلك.

وهذا هو الذي ندعو اليه..

التبصر في الدين لمعرفة ما خفي علينا من احكام من خلال تلك الحكم التي بينها ربنا في كتابه.

وخرافة تلك المقالة التي يكررها البعض ان هناك فرقا بين العلة، والحكمة.

وان الحكمة تختلف عن الحكم، والعلة لاتختلف، من اين جئتم بهذا الفرق؟ ومن قال لكم ان الحكمة تختلف عن الحكم؟ بلى لابد ان يفقهها اهلها ليحددوا مصاديقها وكيفية تطبيقها.

سنن الله: حكم الشرائع: واذا تدبرنا اكثر فاكثر في جملة الكتاب الكريم لوجدنا ان ربنا سبحانه يبين فيه سننه سبحانه في الخلق، التي هي اصول الحكمة، والحقائق التي تنتهي اليها علل الشرائع.

كيف ذلك؟ دعنا نفصل القول في ذلك.

القرآن كتاب الخليقة الناطق عنها، والمذكر بحقائق الكائنات وبعلاقاتها وبعبرها وبقوانينها العامة، وافاق حركتها..

ربنا يبين في كتابه ما هو هذا العالم الذي يحيط بنا؟ وما هي اهداف خلقته؟ ونحن من؟ وماهي غاية خلقتنا؟ وكما يبين سنن الله التي اجراها في الخلق..

مثلا سنة الصيرورة، سنة الزوجية، سنة التطور، سنة الهلاك، سنة الصراع، سنة المسؤولية والجزاء..

وحينما يذكر بسننه التي تلتصق اكثر فاكثر بحياتنا، يفصل القول فيها تفصيلا، ويبصرنا بانفسنا وما تعمل فيها من شهوات عاصفة، واهواء جامحة ونوازع فطرية خيرة، ويضرب لنا من كل شيء مثلا، ويقص علينا عبر الغابرين ويحدثنا عمن نجا كيف نجا وعمن هلك لم هلك؟ واحكام الشريعة مطابقة لسنن الله في الخلق..

انها الحق.

كما الخلق حق فهي تعبيرات عن سنن الله في الكائنات.

حين يأمرنا الله بتحدي الطاغوت وتجنبه، فهذه شريعة الهية مطابقة لسنة بينها ربنا سبحانه عبر قصص الذين اتبعوا الطاغوت فدمرهم الله شر تدمير..

وحين يأمرنا باتباع رسل الله وطاعة اوليائه، يسوق لنا مثلا للذين امنوا من واقع المؤمنين، الذين اتبعوا النبي نوحا (ع) فنجاهم الله من الطوفان، ومثلا للذين كفروا من واقع الذين كفروا فاغرقهم الله.

فكل حكم يتبع حكمة، وكل حكمة تتصل بسنة، وقد بين الله الحكم وعلم حكمته، وذكر بسنته.

ولنضرب مثلا قرآنيا من سورة الزمر، وكيف نهى الله عن اجتناب الطاغوت فقال سبحانه: (قل ياعباد الذين امنوا اتقوا ربكم للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة وارض الله واسعة انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب* قل اني امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين* وامرت لان اكون اول المسلمين* قل اني اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم* قل الله اعبد مخلصا له ديني* فاعبدوا ما شئتم من دونه قل ان الخاسرين الذين خسروا انفسهم واهليهم يوم القيامة الا ذلك هو الخسران المبين* لهم من فوقهم ظلل النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون* والذين اجتنبوا الطاغوت ان يعبدوها وانابوا الى الله لهم البشرى فبشر عباد* الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه، اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب).

وهكذا تجد كيف يبين الله سبحانه و تعالى برنامجا متكاملا للحرية والاستقلال، والمحافظة على الكرامة الانسانية المتمثلة في العبودية الخالصة لله.

اولا: يأمر بتقوى الله،.

وهي اصل كل فضيلة وحكمة كل شريعة، ويرغب فيها بالحسنة التي تنتظر المتقين في هذه الدنيا، ويحرض على الهجرة(ان لزم الامر)، ويأمر بالصبر على الاذى في جنب الله، ويعد الصابرين اجرا كبيرا وبلا حساب.

ان هذه وصايا واحكام شرعية.

ثانيا: يأمر باخلاص العمل لله، وبالتالي التمرد على الالهة التي تعبد من دون الله، وينذر العصاة بعذاب يوم عظيم.

ويتحدى الكفار الذين يعبدون ما شاءوا من دون الله، ويحذرهم بانهم الخاسرون انفسهم واهليهم يوم القيامة، ويصف العذاب الذي يحيط بهم، وتلك سنة الله التي لا تتبدل: ان الظلم في الدنيا ظلمات في الاخرة ونيران ملتهبة، وان الكفر في الدنيا ظلل هناك محيطة ولهب عظيم.

ثالثا: ويحدد-تبعا لهذه السنة وتلك الحكمة-برنامج الاستقلال الثقافي، حيث يعني عدة واجبات عملية.

الف: اجتناب الطاغوت والانابة الى الله، والاجتناب من الطاغوت امر عام، ويتمثل هنا في التسليم الثقافي بلا تفكر او تعقل، مما يدعى اليوم بـ(نفذ ثم ناقش).

باء: الاستماع الى القول: ومعروف ان الاستماع غير السماع، فهو عملية تفهم وتعقل، وهكذا لايجوز الانغلاق المطلق دون الدعوات والافكار المستجدة، انما يجب الاستماع اليها.

جيم: الانتخاب القائم على اسس منطقية، واختيار الاحسن وفقا لهدى الله ونور العقل، حيث يختم القران الاية: ( اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب).

وهدى الله يتمثل في الوحي بينما اللب هو العقل.

/ 6