المقدمـــة - فی رحاب الایمان نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فی رحاب الایمان - نسخه متنی

محمدتقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

المقدمـــة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .

الايمان وما يرادفه من كلمات في سائر اللغات أحلى نعت يوصف به البعض فيكنّ لهم الناس احتراما ويثنون عليهم بأسمى ثناء .

من منا لايحب ان ينعت بهذه الصـفة ، ومن منا من لايدعيها صـادقا ام غير صادق ؟

ولكنـا حين نقيّم الاخرين تقييما موضوعيا فاننا لن نجود بهذه الصفة الا على البعض وهم لاريب الاقلـــون .

اما سائر الناس فان أخفّ نعت يحصلون عليه منا هو ان اكثر اهتماماتهم شخصية ، واثقل نعت انهم ذاتيون أنانيون ..

فياترى هل تبحث عن برنامج يجعلك في مصاف المؤمنين حقا .. ؟

انها قمة سامقة لايبلغها الانسان بالتمني والادعاء ، ولكن بالجد والاجتهاد . فهل تتطلع الى بلوغها ، وهل انت مستعد لبذل الثمن الغالي في سبيل تحقيــــق هذا

التطلع ؟

اذن تعال نستعرض في صفحات هذا الكتاب كلمات مضيئة عن الايمان ، وهي في الأصل أحاديث روحية القاها سماحة آية الله المدرسي في مناسبات شتى . والحديث حين يكـون عن الايمان فمن الافضـل ان يأتي عفويا لاتكلف فيه ولا تعسف .

تعال نعيش لحظات سعيدة في رحاب الايمان حيث السكينة في القلب ، والبصيرة في الحياة ، والفلاح في العيش ، والعاقبة الحسنى ..

واذا ألقـينا سمعنا شـاهدين ومستريحين الى احاديـث الايمان ، داعين الله ان يتم نورنا ؛ فان الرجاء ان نحصل على افضل نعمة في نهاية المطاف ، هي نعمة زيادة الايمان .

وفي الختام ؛ الكتاب مجرد ذكرى ، وانما قلبك المنفتح هو الشرط الأهم للاستفادة منه ، والله المستعان وعليه التكلان .

مكتب آية الله المدرسي

1 / ربيع الاول / 1417 هـ

الايمان ينبوع القيم الالهية

الايمان هو ينبوع سائر القيم الالهية ، وجـذر شجرة سائر القيم والاحكام والشرائع ، والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو : كيف يستطيع الانسان ان ينمّي ويزيد من ايمانه بالله - عــز وجــل - وكيف تتوهج حقيقة الايمان في القلب حتى تتجسد في صورة قيم مثلــى ، وأخــلاق ساميــة تقــود حيــاة الانسان الى حيث يريد الله ، والــى حيث يتطـلـع الانسان بفطـرتـــه مــن الهــدى والفــلاح ؟

قبـــل ان اجيب على هذا السؤال لابد ان امهد للاجابة بتمهيد هو ان الايمان لم يذكر في القرآن الكريم إلا مقرونا بعلاماته وآياته وبالتالي بالافعال التي تنبع منه . فليس ايمانا ذلك الايمان الذي لايفيض بالقيم ، فهو اقرار في القلب ، وشهادة باللسان ، وحركة بالاعضاء والجوارح . فاذا كان هنا اقرار في القلب ، فلابد ان يظهر هذا الاقرار ، ولامناص من ان تظهر حقيقته على جوارح الانسان .

الايمان مقترن بالفضائل :

ولذلك فان القرآن الكريم لايحدثنا عن الايمان الا ويقرنه بمجموعة من الفضائل ، تقف الصلاة على رأسها كقوله - تعالى - : « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ » ( المؤمنون / 1-2 ) . ثــم يأتي بعد ذلك الانفاق في سبيل الله ؛ فكلما زاد الانسان اهتماما بالصلاة ، زاد انفاقا في سبيل الله - عز وجل - في جميع الابعاد ، وارتفع ايمانا وازداد يقينا . ومن هنا فان الذي يدعي انه مؤمن ثم لايخشع في صلاته ، ولاينفق مما رزقه الله فان ادعاءه هذا كاذب ، وهو مجرد تمن ، والجنة لايمكن ان تنال بالأماني ابدا .

وعندما يحدثنا القرآن الكريم عن الجنة والنار ، وعن يوم القيامة فانه يحدثنا عن ميزان عدل يأخذ بنظر الاعتبار مثقال الـــذرة : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ » ( الزلزال / 7-8 ) ، فالحديث هنا هو حديث عن العدل ، والقســــط ، وعمل يقاس بالمثقال ، فليست القضية عبثا ، ولا هي امان ، والايمان ليس ادعاء ، فلكل حق حقيقة والايمان لابد ان تكون له حقيقة تدل عليــه ، ولابد ان يتجلى في العمــل .

واعود هنا الى السؤال الذي طرحته من قبل وهو : كيف ينمي الانسان جوهرة الايمان في نفسه ؟ ، لقد عبّرت الاحاديث عن الايمان بأنه ( الروح ) لان الروح هي التي تزود الانسان بالحركة والنشاط ، ولكي ينمو الايمان يجب ان تنمو سائر الفضائل ؛ اي ان الانسان يجب ان لايختار بين الفضائل ، فالــذي يريــد ان يجسد في نفسه الايمان عليه ان يكون بحيث يسلم نفسه لكل شيء يقدمه فـي سبيل الله - تعالــى - .

من تجليات الايمان :

1- الطاعـــة : وعـلى سبيل المثال فان (الطاعة) هي ابرز معاني وتجليات الايمان ؛ اي الطاعة لله وللرسول وأولي الامر . والطاعة تمتلك ابعادا ؛ فقد يطيع الانسان فيمــا يشتهيه ، ويخالف الاوامر فيما لايرغب فيه ولا يريده ، كما كان حال بـني اسرائيل . فقد كانوا اذا جاءهم رسول بما تهواه انفسهم اطاعوه ، واذا جاءهم الرسول بما لاترغب فيه انفسهم استكبروا وعصوا ، وهذه الطاعة ليست هي المطلوبة .

وقد يطيع الانسان امر مولاه بما يخالف هواه (اي هوى هذا الانسان) ولكن في بعض الامور كالانفاق في سبيل الله - مثلا - ، اما اذا أمره بالجهاد بنفسه ودمه فتراه غير مستعد ، وهذه طاعة غير مقبولة هي الاخرى .

ان الطاعة المفروضة تتمثل في ان يكون الانسان مستعدا لتنفيذ الاوامر في اي وقت حتى وان عاش الى آخر حياته دون ان يؤمر من قبل قيادته بالجهاد لان انتظار الفرج يعتبر من اهم الاعمال في الشريعة المقدســـة بالنسبة الى الامة المرحومة ، فالذي ينتظر الفرج ، وينتظر ان ترتفع الراية بيد صاحبها الحقيقي فانه يكون قد حدّث نفسه بالجهاد والشهادة ؛ اي ان هذا الانسان مستعد في اية لحظة لأن يحمل سلاحه ، ويدخل ساحة الجهاد ، ويستشهد بين يدي امام زمانه ، وهذا هو معنى الانتظار الذي هو اكثر الاعمال ثوابا عند الله - عز وجل - ، لان الانسان المستعد يكون في اعلى درجات الرحمة الالهية .

2- ذكر اللـه : ومن تجليات الايمان الاخرى ذكر الله ؛ اي ان يكون الانسان حاسا وشاعرا بهيمنة الله عليه ، واحاطته به ، وانه ليس بعيدا عن مقام ربه ، ولذلك فان ذكر الله - تعالى - ليس ان يلهج لسان الانسان بالكلمات ، وانما هو التوجه والالتفات بعد النسيان . اما ان يكون قلب الانسان لاهيا وغافلا عندما يتحرك لسانه بالذكر فانه سوف يعبر عن لاشيء . ولذلك جاء في الاحاديث ضرورة ذكر الله عند المعصية ، فاذا كنت على سبيل المثال جالسا في مجلس من مجالس البطالين صدفة ، وسمعت رجلا يذكر آخر بسوء فـــان عليك في هذه الحالة ان تذكر الله - سبحانه - ، لان الكلام السوء الذي سمعتـه هــو معصية ، وعليك ان تذكر الله عند المعصية ، فلابد اما ان تدافع عــن ذلك الرجــل، واما ان تقوم من مجلسك ، وتعترض على هذه الجلسة التــي يعصى الله - عز وجل - فيها .

وبالاضافة الى ذلك فان علينا ان نذكر الله عند الطاعة ايضا ، فعندما يأتيك رجل ويدعوك الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، او المســاهمة في عمل خيري ، فقد ذكر الله - تعالى - لك ، فاذا خفق قلبك ، ووجلت نفسك ، وجرى الدم في عروقك فانت مؤمن حقا كما يقول - عز من قائل - : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » ( الانفال / 2 ) ، اما اذا شعرت بالخمول ، والتقاعس ، والتكاسل فهذا يعني انك لاتعتبر رضوان الله وحبه غنيمة ، بل تعتبرهما خسارة . فالغنيمة عندك ان تذكر عند الناس ، لا ان تذكر عند الله . وهكذا ان الايمان الحقيقي لم يتجسد في نفسك بعد .

وقد يتجسد ذكر الله - سبحانه وتعالى - عند المصيبة ، فالمصائب تهون عند ذكر الله ، وعلى سبيل المثال فان الامام الحسين ( عليه السلام ) وفي اصعب لحظات مصيبته ؛ اي عندما اصيب بابنه الرضيع ، كان يأخذ الدم من نحر ابنه المذبــوح ويرميه الى السماء قائلا : " هون علي ما نزل بي انه بعين الله " ، فمادام

الانســــان يذكر الله - جلت قدرته - فان مصائبه ستهون كلها ، لان الله شاهد

وناظر ، وعالم بما يجري ، وهو الذي سيأخذ بثأره من الظالمين .

وهناك ذكر الله عند التفكير والذي يعتبر من اعظم الذكر ؛ فعندما يفكر الانسان ، ويقدر عليه ان يذكر الله ، ولايفكر باهوائه ، ولايدع وساوس شيطانه تستحوذ عليه ، بل عليه ان يفكر في الطريق المستقيم لا ان يكون تقديره قائما على اساس الهوى . ولــذلك فــان القـرآن الكريم عندما يحدثنا عن الصالحين يقول : « فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ » ( الزمر / 17-18 ) .

ولـذلـك فـان هـذا الـذكـر يـنـمـي في الانـسـان روح الايمــان ، والله - عز وجل - يأمرنا في آيات عديدة بذكره ، فهو يقول عن المؤمنين الذين يبتعدون عن الظنون ، والوساوس الشيطانية :« إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً » ( الشعراء / 227 ) ، فهــؤلاء مستثنون من حكم الله على الشعراء ، فالله - تعالى - عندما يحدثنا عنهم يقول : « وَالشُّعَـــرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَــرَ أَنَّهُمْ فِــــي كُـــــلِّ وَادٍ يَهِيمُـــونَ * وَأَنَّهُـــمْ يَقُولُــونَ مَا لاَ يَفْعَلُـــونَ » ( الشعراء / 224-226 ) ، الا انه يستدرك قائلا :« إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ... » ، فصفات المؤمنين من الشعراء انهم آمنوا وعملوا الصالحات ؛ اي ان ايمانهم لم يكن بالتمني ،

بل كان ايمانا حقيقيا .

ثم يقول - تعالـــى - : « وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرا » ؛ اي انهم لم ينجرفوا في تيار

الاوهام ، والتخيلات بل قالوا الحق . وفي موضع آخر يصف - تعالى - المؤمنين قائلا : « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ » ( آل عمران / 191) ، وقــد اوّلت هذه الاية بالصلاة ، امــا تفسيرهــا فهــو ان الانسان المؤمن يذكر الله دائما في جميـــع الاحوال ؛ فهو في الحركة يعمل ، وفي الجلوس ينمي علاقاته مــع الآخريــن ، وفـــي النوم يفكــر ، فهو يذكر الله - عز وجل - في كل هـذه الحـالات .

ان الصلاة ذكر ، هذا لايعني ان على الانسان ان لا ينشغل بعد الفراغ من صلاته عن ذكر الله كما يشير الى ذلك - تعالى - في قوله الكريم : « رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ » ( النور / 37 ) ، فالصلاة انما شرعت لذكر الله : « وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي » ( طه / 14 ) ، وبعد الصلاة على الانسان ان يذكر الله ايضا : « فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ » . ( النساء / 103 )

وعنـــد مـواجهـــة الاعـداء يجب على الانسان المؤمن ان يذكر ربه ، فبذكر الله تطمئن القلوب ، وبذكره يتحقـــق مفهـوم التوكـــل . يقول - تعالى - : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً » ( الانفال / 45 ) .

ومن المعلوم ان الانسان خطّاء ، والذي يدعي انه منزه عن الخطأ ، فان ادعاءه هذا هو بحد ذاته اكبر خطأ لانه يجعله في حالة من التكبر والتجبر والطغيـــان . واذا ما اخطـأ الانسان فان عليـــه ان يذكر الله لكي يمنحه اولا القوة والقدرة على مقاومـة الشيطـــان الذي يدعــــوه الـى ان يذنب المرة بعد الاخرى ، ولكي - ثانيا - لايصاب باليأس والقنـــوط ، لان اليــأس بحد ذاته جريمة ، وخطيئة كبرى ، ولذلك يقول - سبحانه - عن المؤمنين :« وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ » ( آل عمران / 135 ) .

وحتــى عندما نرتكب الذنوب الصغيرة فان علينا ان نستغفر الله - تعالى - لان

الانسان اذا احدث ذنبا ثم لم يستغفر خالقه فان هذا الذنب سيتحول الى نقطة سوداء في قلبه ، واذا بالذنــوب تتــراكــم عليه ، واذا بقلبه يموت ويصبح قاسيا . وفي آية اخرى يقول - عز وجل - : « إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواَ » ( الاعراف / 201 ) ؛ اي ذكروا الله ، وذكروا انفسهم :« فإِذَا هُم مُبْصِرُون » . ( الاعراف / 201 )

أساس الايمان :

ومن هنا فان ذكر الله - تعالى شأنه - هو احد اعمدة العودة الى الايمان ، والصلاة هي من ابعاد ذكر الله ، والصلاة بحقيقتها هي عمود الدين - كما جاء في الحديث - اي انها اساس الايمان ، وركن علاقة الانسان بالله ورمزها ، وهي معراجه الى الله ، ولغة التخاطب بين العبد وربه . فهي - في الواقع - محور لسائر القيم لانك ان كنت خاشعا في اللحظة التي تصلي فيها فانك تعود الى فطرتك وطهرك ونقائك .

وعندما يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : " ... يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم ، فما ظن أحدكم لو كان في جســده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جســده

درن ؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي " (1) .

فــــان المقصود ان الصلاة الحقيقية هي التي يرجع فيها الانسان الى نقاء فطرته .

وطهــرهــــا ، والقـــرآن الكريـم عندما يحدثنــا عن الصــلاة يضيــف اليها كلمة

( الاقامة ) كقــوله - تعالـى - : « وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ » أو « وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ » والاقامة تعني ان يؤدي الانسان الصلاة بكل ابعادها ، وآدابهــــا ، وشروطها ، ومحتويــاتهــا ، وهذه الصلاة هي التي تؤدي الى زيادة الايمان عند الانسان . ولذلك فــان النبــي ( صلى الله عليه وآله ) يعتبــر هــذه الصــلاة اهم تحفــة يجب على الانسان ان يعتــز بهــا ، كما يشعــر بذلك قــوله ( صلى الله عليه وآله ) : " وقــرة عيـني الصــلاة "، فالصــلاة كانت احب شيء عنده ( صلى الله عليه وآلــه ) .

ونحن اذا وصلنا الى مرحلة بحيث احببنا الصلاة ، وارتاحت انفسنا اليها ، وشعرنــــا بأنها خفيفــة علينا وليست ثقيلة ، واذا راينا ان قلوبنا تندفع الى ان تتهيأ للصلاة بمجرد ان يتناهى الى اسماعنا نداء (حي على الصلاة) ، فلنعرف ان الله - جل وعلا - قد من علينا ، ولــم يجعل بيننا وبينه حجابا ، وانه يحبنا ، لانه عندما يحب احدا فانه يجذبـــه اليه ، ويدعـوه ، ويستضيفـــه ، اما اذا لم يضمر الله - تعالى - لك الحب فانــه ســـوف لايردك . إلا إذا ألححت عليه في ان يرفع الحجاب بينك وبينه لان " مــن اكثــر طــرق الباب أوشك ان يسمع الجــواب " .

وإذا لم نكن في مثل تلك الحالة من حب الصلاة والارتياح لها ، فــان علينــا ان

لانيأس ، وان نحاول معرفة السلبيات الروحية والسلوكية التي نعاني منها ، والتي لاتجعل صلاتنا تصبح صلاة حقيقية . وعلى هذا فان الصلاة معراج المؤمن ، وخير موضــوع ، وعمود الدين ، وخصوصا عندما يؤدي الانسان الصــلاة بشروطهـــا

الاجتماعيــة .

الصلاة أول هدف :

وعندما يبين لنا القرآن الكريم مواصفات المجتمع الايماني ، فانه يذكر ان اقامة الصلاة يجب ان تكون اول هدف لهم : « الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وءَاتَوُا الزَّكَــاةَ » (1 الحج / 41 ) ، وفي موضع آخر يقول عنهم - عز وجل - : « وَجَعَلْنَاهُــمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ » ( الانبياء / 73 ) ، فالهدف الاول للائمة الذين يهدون بأمر الله يتمثل في اقامة الصلاة .

وفي ايام الجمعة ، والاعياد يتواصل المؤمنون ، ويتلاقون ، وتكون الصلاة هي محور التفاهم بينهم كما يقول - تعالى - : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ » ( الجمعة / 9 ) ، وعلى هذا فان لقاء المؤمنين يكون حول مائدة الصلاة ، فهي التي تجمعهم .

ان هذه الصلاة تجعل الانسان في حالة عروج دائم ، فاذا اردنا ان نتحدث مع الله - جل وعلا - فان علينا ان نقيم الصلاة ، ونقرأ القرآن ، وهناك البعض من المؤمنين يجمعون بين الامرين وخصوصا في صلاة النوافل ، وهذه فكرة لطيفة وخصوصا في ليالي شهر رمضان المبارك ، فاذا كانت لديك فكرة ان تصلي الف ركعة طيلة شهر رمضان فبأمكانك ان تقسمها بين الليل والنهار ، واثناء كل صلاة بأمكانك ان تمسك القرآن بيدك لتقرأ آيات منه .

وقد فسرت الآية :« فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرءَانِ » ( المزمل / 20 ) ، تقرأ القرآن اثناء الصلاة ، وفي هذه الحالة وفي نفس الوقت الذي تؤدي فيه الصلاة سيكـــون باستطاعتك ان تختم القرآن في صلاتك ؛ اي ان تتبــادل الحديث مع الله - سبحــانه وتعــالى - .

الايمان مفتاح فهم الحقائق الكبرى

القرآن الكريم بما يضم من سور وآيات بينات يقدم الجواب الصريح والواضح على حقيقة يتجاهلها الانسان ، ويحتجب عنها وعن معرفتها والتفاعل معها رغم وضوحها ، الا وهي حقيقة الايمان وتجلياته ، والتي يقف على النقيض منها الكفر وابعاده .

أصل كل خير :

ان الايمان هو اصل كل خير ، وقاعدة كل قيمة سامية ، وينبوع كل فضيلة مثلى ، ولعل الغاية الاسمى للايمان هي ان يخرج الانسان من اطار الذات ، وحدود الأنا الضيقة ، الى التفكير والاحساس بالآخرين ، وبتعبير آخر ؛ فان الايمان يتجسد ويخــــرج الى الواقع عندما يشعر الانسان بأخيه الانسان ، فعندما يخرج من الاطار الضيـق للنفس الى عالم الاحساسبالآخرين ، وحينما يعيش الحقائق الآخرى الخارجة عن الذات ، ويستوعبها ، ويهتدي اليها فحينئذ يصح ان يقال عنه انه مؤمـــن .

اللـه ينبوع الحقائق :

والحــق - تعالى - هو ينبوع الحقائق الاخرى ، ومصدرها ، وهو حقيقة الحقائق ، فكــــل حق وحقيقة ، بل وكل واقع ووجود انمـــــا هـو من عنــــده - سبحانه - وبخلقه وتدبيره وهيمنته ، ولذلك كان رأس الايمان الايمان بالله ووحدانيته ومطلقيته ، ومن هذه البؤرة الايمانية تشع سائر أشعة الأيمان الاخرى ، وتمتد ابعادها .

ولعل ابرز هذه الابعاد الايمانية الايمان باسمائه الحسنى ، فمعرفته - تعالى - تتمثل في ان نعرفه بأسمائه بعد ان استحالت معرفة كنهه ، ذلك لان عقل الانسان ومهما تسامى وارتفع بالعلم والمعرفة لايمكن ان يسمو الى معرفة ذات الرب التي هي غيب الغيوب ، فهو - عز وجل - لاتبلغه الادراكات مهما سمت وان كانت ادراكات الانبياء ، والصديقين ، والملائكة ، فليس هناك من موجود منح العقل ، والادراك ، والبصيرة بمستطيع ان يبلغ معرفة الذات الالهية ، وكــل محـاولة في هذا المـجال تهبط بصاحبها الى حضيض الزندقة ؛ " من تفكر في ذات الله تزندق " .

ان قصارى ما يستطيعه العقل ان يعرف الخالق - عز وجل - باسمائه الحسنى ، وصفاته وآلائه العليا ، وبما صنعت يده من وجود وخلائق ، فهو - تعالى - تمكن معرفته - مثلا - بالرحمة ، والعزة ، والقوة ، والحكمة ، والعظمة ، وبكونه سميعا بصيرا ، خبيرا قادرا على كل شيء وهكذا الحال بالنسبة الى جميع اسمائه وصفاته .

مبدأ السنن الالهية :

ومـــن هنا لم تكن دعوة الله الا من خلال اسمائه الحسنى ، فبعد معرفـة هــــذه

الاسماء تتسنى لنا معرفة السنن التي اقام بها الله الكون والوجود ، وهذه السنن هي حقائــق تتعلــق بتلــك الاسماء الحسنى ، والآلاء العليــا ، فعنــدما نعلــم ان الله - جل شأنه - رحيم فلابد ان ندرك ان من سننه (الرحمة) ، فلا يدع ظالمـا في هذه الحياة يستمر في ظلمه للناس مادام الله ارحم الراحمين ، ولانه - تعالى - كــذلك فليس من المعقــول ان يتغاضـى عن دعــوة مظلوم ، او اجابــة الداعي اذا دعــاه .

وهكذا فان الاسماء التي يدعى بها الله - سبحانه - هي مبدأ السنن الالهية ، ومن بين هذه السنن سنة استجابة الدعاء ، فكما ان الله كتب على نفسه الرحمة ، فقـــد اخذ على نفسه ايضا عهدا بأن يستجيب دعوة الداعي اذا دعاه كما يقول - عز وجل - :« وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » ( البقرة / 186 ) .

ومن سنة الرحمة ننتقل الى الحديث عن سنة اخرى هي سنة الحكمة النابعة من كون الله - تعالت قدرته - حكيما ، فلو ان احدا طلب من الله ان يحول ما على الارض من جبال الى نيران ، فاستقبل القبلة ، وجثا امامها ، وراح يدعو ويدعو بصوت شجي لايام وليال لما استجاب - تعالى - لدعائه رغم انه ارحم الراحمين ، ويجيب دعوة الداعين ، لانه - في نفس الوقت - حكيم عليم ، فمشيئة الله القائمة على حكمته وعلمه هي فوق مشيئة العباد، فليس من العدل ان تتحول جبال هذه الارض الى نيران بناء على رغبة عبد من العباد .

بيان الايمان وتجلياته :

ويبــــدو ان سورة (يونس) اختصت في بيان الايمان وتجلياتــه ، مقابل الكفــــر
ومفرداته .. ففي بداية هذه السورة الكريمة يقول - تعالى - : « الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ » ( يونس / 1 ) ، فالحكمة هي رأس الايمان ، ورأس الايمان هو مخافة الله - سبحانه - ، فمن خلال معرفة ان الله حكيم ، نعرف سنة من سننه وهي الحكمة ، وانطلاقا من هذه السنة ندرك ان ليس كل دعاء قابلا للاستجابة من قبل الله - تعالى - فهو لا يستجيب لكل دعاء وان كان قادرا على ذلك بسبب مقتضى حكمته . وحتى في موضوع هلاك طاغية ما فاننا قد لانلمس استجابة الدعاء ، فقد يؤخر - عز وجل - هلاكه الى اجل مسمــى لايعلمه الا هو ، فلا يهلكه لمجرد ان نسجد له - تعالى - داخرين ، وندعو من اجل هلاكه متضرعين ، لحكمة اقتضاها الخالق ، وقد حجبت عنا ، فلو انه - عز وجل - استجاب كل دعوة دون الحكمة ولمجرد ان يدعو العبد لما استقر هذا الكون والوجود ، ولما جرت بقية السنن الالهية في مجراها الذي وضعه الله لها .

والله - سبحانه - كثيرا ما تغيب حكمته عن كثير من عباده في امور الحياة في حين انه اعلم بمصلحة الانسان سواء كان فردا ام جماعة ، ولذلك كان لزاما علينا ان نبحث عن الحكمة الالهية في الامور التي ندعو الله فيها فلا يستجيب لنا ، فهو - سبحانه - وضع كثيرا من الامور والحقائق في موازينها ، وضمن معادلات هي جوهر الكثير من السنن الالهية . وفي كتابه المجيد نجد الاشارة الى هذه الموازين والمعادلات منها قوله : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ » ( الزلزال / 7-8 ) وقوله : « وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى » (النجم / 39-40 ) وقوله :« إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا » . ( الاسراء / 7 )

تقاسم الحقوق مع الاخرين :

وعلى هذا فلاننا نؤمن بالله فاننا نؤمن ايضا باسمائه الحسنى ، ولاننا نؤمن بهذه الاسماء فاننا نؤمن بالسنن التي تفيض من هذه الاسماء وتنبعث عنها ، ومن ثم فان هذا الايمان بالله يؤدي الى الايمان بالخلق والوعي والاحساس بهم ، ذلك لان الخلق لم يتوقف علينا نحن بالذات ، فكما اننا مخلوقون لله فان الاخرين ايضا مخلوقون من قبله ، ولذلك ينبغي بناء العلاقة الاجتماعية على هذا الاساس داخل المجتمع والامة ، فكما يحب احدنا ان ينال حقوقه من الاخرين ، فان هؤلاء الاخرين ينتظرون ان نؤدي لهم ما علينا من حقوق ، فعندما نعترف بالاخرين ، ونعي حقوقهم فان هذا يعني اننا قد آمنا بهم ، فلابد ان نتقاسم معهم الحقوق ، والجهود والاتعاب في هذه الحياة .

وهذه الخصيصة - خصيصة الايمان بالاخرين - هي التي اعطت الحضارة الاسلامية وجهها المشرق في صدر الاسلام ، حيث سادت ثلث ارجاء المعمورة . فالثروة لم تتكدس ، والحقوق كانت توزع بشكل عادل ، فطبيعة النظام الاسلامي تأبى ان تتكدس الثروة ، ويكتنز الذهب والفضة ، كما ان المجاميع التي كانت تدخل في رحاب الاسلام ، كانت تتحول مباشرة الى جزء لايتجزأ من الحضارة الاسلامية . فاذا ما اعتنقت قرية من القرى النائية في اطراف الدولة الاسلامية الدين الاسلامي . بادر ابناؤها الى كفالة بعضهم البعض ، فيتقاسمون العيش سوية ، ويتعاونون في اطار من الاخوة والمحبة ، وفي ظل القرآن ، والرسالة المحمدية التي آمنوا بها ، وبذلك ينعدم الفقر بينهم تدريجيا ، وتذوب الثروات المكدسة لدى القلة من المجتمع .

ان الايمان بالله - تعالى - يجعل الانسان المؤمن يتعدى حدود معرفته لحق الغير في الحياة الى معرفة حق سائر الاحياء من حيوانات ونباتات في نيل نصيبها ورزقها من الحياة، ولعلنا سمعنا الحديث الشريف الذي يقول : " رأيت في النار صاحب الهرة تنهشها مقبلة ومدبرة ، كانت أوثقتها ولم تكن تطعمها ولا ترسلها تأكل من خشاشة الأرض " (1) ، وفي رواية اخرى تظهر بوضوح السلوك العملي الرحيم للاسلام ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) استيقظ يوما من نومه فوجد قطة قد نامت على طرف ردائه ، فأبى ان يفسد عليها لذة نومها ، فقطع ذلك الجزء من ردائه ، ونهض من مكانه تاركا القطة تستغرق في نومها دون ان يزعجها .

المـؤمـن يحترم كل شيء :

ان حقوق الانسان بل وحقوق كل كائن حي يدب على هذه الارض هي ذات جذور واصالة في الرؤية الاسلامية ، فأيمان الانسان بالآخرين ، نابع من ايمانه بأنهم خلق الله - تعالى - . وكذلك الحال بالنسبة الى كل ما يدب على هذه البسيطة فان له حقا في الحياة مادام مخلوقا لله ، ولذلك فان المؤمن يعيش وهو يحترم كل شيء ؛ فلا يعبث ، ولايفسد ، ولايبذر ، ويحترم ويقدر كل نعمة انعم الله بها عليه .

فـالايمان بالله الذي يتعدى الى الايمان الشمولي بكل ماهو خارج الذات الانسانية ، هذا الايمان يصوغ شخصية الانسان المؤمن ، وسلوكيته ، وتعامله مع الحـيـاة والمجتمع . وفي القرآن الكريم اشارات الى مثل هذا السلوك من ذلــك قوله

- عز وجل - في الايات التالية :

« وَلاَ تَمْشِ فِـي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُـــولاً » ( الاسراء / 37 )

« فَاَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ » ( الروم / 38 )

« وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً » ( الاسراء / 35 )

هذا في حين نجد الانسان الكافر يعيش في حيز الأنا وحب الذات ، وهو مستعد لتدمير كل شيء من اجل ان يضمن مصلحته الخاصة . ونحن اليوم نلمس ، ونسمع عن التدهور البيئي بسبب الحضارة الأنانية الكافرة ، فحتى الطبيعة لم تسلم من يد هؤلاء العابثين بالاضافة الى البشر والاحياء ، فهم ينهشون لحوم المسلمين ، والمستضعفين في مختلف بقاع الارض كذئاب مفترسة .

لقد بات انسان اليوم يتأوه ألما ، ويتحسر على تلك العصور السابقة التي سادت فيها حضارة الايمان التي نشرت السعادة والامن والسلام في ارجاء المعمورة ، وراح يلعــن هذه الحضارة رغم ما فيها من التطور والتقدم التكنولوجي الذي لم ينتفع بـه

بقدر ما ذاق من وباله ، وويلاته .

صحيـح انهـا حضــارة قامت على التطــــور التكنولوجــي الذي اختصر الزمان والمكان ، ولكنها حضــارة ساقطة في حقيقتها لانها تفتقر الــى الايمان بالله

- تعالى - ، فهي حضارة الانانية ، والتغطرس ، وعبادة المادة والشهوات .

وهكـذا فان الايمان بالله يعني الايمان بأسمائه وسننه وبما خلق وبرأ في هذا الكون والطبيعــة ، وعندما ننمي في انفسنا هذا الايمان الشمولي فانه سيخرجنا من زنزانـة

الذات ، واطار الانانية الضيق الى الرحاب الواسعة للحقيقة .

ومن الابواب التي يخرج الانسان من خلالها من اطار ذاته الى عالم الايمان والاحساس بالاخرين ، باب الانفاق ، والعفو ، وكظم الغيظ ، وباب الشجاعة ، والبذل ، والتضحية ، والتوكل ... وغيرها من الابواب التي تصوغ حياة الانسان الاجتماعية في اطار ايماني من المحبة والسلام والوئام والاخوة .

صفات الانسان الكافر :

والانسان الذي يأبى على نفسه التحرر من ضيق الذات ، وسجن الانانية ، لضعف ايمانه بالله - تعالى - لابد ان يتحول شيئا فشيئا الى شخص جبان ، لئيم ، عدواني الطباع ، مغرور متكبر ، يملأه العجب بنفسه ، وهذه هي صفات الانسان الكافر بالله - سبحانه - ، ومثل هذه الصفات اشــارت اليها سورة (يونس) كعناوين ، ودلالات على الكافرين ، فيقول - عز من قائل - في هذه السـورة :

« هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيــنَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *

إِنَّ فِــي اخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ

يَتَّقُونَ » ( يونس / 5-6 ) .

ثم ينتقل السياق الكريم ليعرض سلوك الكافرين : « إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا

وَرَضُــوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَاَنُّـــوا بِهَــا وَالَّذِينَ هُـــمْ عَـنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُــونَ * اُوْلَئِــكَ مَأْوَاهُــمُ النَّـــارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُـــونَ » ( يونس / 7-8 ) ؛ فالانسان الكافــر الذي يعيـــش اسيـــر الذات ، والدنيــا ، وشهواتها ويعبدهــا ، ويطمئــن اليهــا انمــا هــو غافــل عـن آيــات الله ، وغفلتـه هــذه تــؤدي الى ان يتسافل ، ويسقط في حضيض الموبقــات والجرائم ، والفساد والافساد فــي الارض .

خصائص المؤمنين :

بعد ذلك يعرض لنا السياق القرآني الصورة الايمانية قائلا : « إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » ( يونس / 9-10 ) ، فالايمان هو بمثابة المصباح يهدي الى كـل خيــر وفضيلـــة ، والمؤمن بالله - عز وجل - يمثل كيان سلم ، وامن ، ومحبة ، ووحدة ، وايثــار ، لايظلم ولايخون ولايؤثر نفسه على الاخرين ، ولا يستبد برأيه ، ولايعتدي على حقوق الآخرين ، ولايفسد في الارض ، وهو مسالم حتــى مع الطبيعة التــي حــوله ، ولايقدم على عمل دون ان يأخذ بنظر الاعتبار هدفــا نبيــلا ساميــا يرتجــي منه نفعه ونفع العباد ، ويجد ويعمل ويبني ويساهم في تشييد صرح الحضـــارة الالهيــة الايمانية ، وهذه هي صفات الانسان المؤمن بأسماء الله وسننــه ، فكــل همّـه اشاعة الصلاح في المجتمع ، ونشر المحبة والطمأنينــة والســلام .

كل المخلوقات تسبح لله :

ان الارض والسماء بأجرامها وكواكبها تتحدث مع رب العالمين كما تصرح بذلك الآية الكريمة : « ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ » (فصلت / 11 ) ، وقد ورد في الروايات كيف ان كل بقعة يعبد الله عليها ستشهد للانسان المؤمن ، بل ان الاكثر من ذلك ان الارض التي يدفن فيها تارك الصلاة تصرخ ، وتئن من وجوده ، وفي احدى الآيات القرآنية يخاطب الرب الجليل جبال الارض ، ويطلب منها ان تؤوب مع داود : «ً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ َ» ( سبأ / 10 ) ، فعندما كان هذا النبي يسبح لله كانت الجبال تسبح معه والطير ، والحق ان كل مخلوق يسبح لله ولكننا لا نفقه هذا التسبيح : « وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِـن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » ( الاسراء / 44 ) .

نظرة المؤمن الى الطبيعة :

وبناء على كل ما مضى فان نظرة الانسان المؤمن الى الطبيعة هي نظرة سلام وحـــب وصلاح وخير وتعاون مع اخوته من بني جنسه ، ومع الطبيعة وموجوداتها ، في حين يقف الانسان الكافر على النقيض في نظرته للحياة والوجود حوله ، فهي نظرة انانية ، عدوانية، تستعر فيها نيران الشر والافساد . ومن خلال هـاتين النظرتين المتناقضتين يتضح التنافي الحاد بين الحضارتين ؛ الاسلامية الايمانية ،

والجاهلية الكافرة .

ومــــن المناسب هنا ان نذكر قولا لامام المتقين ، وامير المؤمنين ( عليه السلام )

يا حبذا لـو كتب بأحرف من ذهب على مداخل المحاكم وعملت به ، وهو قولـه ( عليه السلام ) :

" لو اعطيت الاقاليم السبعة وافلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ذلك " .

والامـــام ( عليه السلام ) عندما نطق بهذه الدرر فأنما كانت تنبعث من ضمـير مؤمــن حي مسلم لله رب العالمين ، وعارف حق المعرفة بحقوق الاخرين عليـــه ،

وواجباته ازاءهم ، وعلينا نحن ايضا ان نتشبه قدر الامكان بهذا النموذج الاسمى في العدل والقسط .

وبكلمة واحدة فان الايمان من شأنه ان يخرج الانسان من ذاته الضيقة الى عالم الايمان بالحقائق الاخرى ، والتسليم لها ، واحترامها ، وبالتالي فانه رأس كل فضيلة وينبوع كل خير ، ومصدر كل قيمة مثلى ، ومبدأ سام في الحياة .

الايمان جوهر الرسالة وحقيقة الدين

لاشك ان اثقل ما في ميزان العبد يوم القيامة هو الايمان ، فهو قيمة القيم ، واصل الفرائض ، والهدف الاسمى للانسان الكامل في الحياة .

ترى ما هو الايمان ، وهل يمكن للانسان ان يتعرف عليه ؟ الجواب بالايجاب ، ولكن لكل حقيقة منهاجا معينا ، فليس كل شيء يعرف بطريقة واحدة وانما السبيل الى معرفة كل شيء يتحدد عبر طبيعته ، والايمان - بما انه روح وعزم وارادة - فان معرفته لا يمكن ان تكون بالسبل المعروفة التي نتعرف بها على الحقائق المشهودة عينا .

والطريق الى معرفة الايمان انما هو بمعرفة اسمائه وصفاته وعلاماته ، وبتعبير اخر فان السبيل الى معرفة الايمان لا يكون الا عبر معرفة حقائقه وتجلياته والواقع الذي يصنعه هذا الايمان ، ولذلك فاننا عندما نتدبر في آيات الذكر الحكيم التي تنطلق عادة من الايمان ، وتنتهي اليه ، ونتساءل عن حقيقة الايمان ، فان القرآن يجيبنا عن ذلك من خلال بيان علامات الانسان المؤمن وصفاته فيقـول - عز من قائل - : « قَــدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُــمْ عَــــنِ

اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ » ( المؤمنون / 1-4 ) .

وهكذا فان الحديث عن الايمان هو حديث عن تجلياته ، وعن تلك الصفات المثلى التي تتجلى في حياة الانسان المؤمن ، ويتسم المؤمنون بها ، ومن هنا فان من الممكن ايضا التعرف على حقيقة الايمان بالاسلوب المعين لمعرفة الحقائق المجردة مثل حقيقة العلم ، والروح ، والارادة ، والعقل وسائر الانوار الالهية التي منحهــا الله - عز وجل - للانسان .

كما واننا لن نستطيــع سبــيلا الــى معــرفة رب هــذه الانــوار ، وخالقها الله ذي العرش - سبحانه وتعالى - الا عبر معرفة آياته واسمائه ، فلا يمكن معرفة الله بمعرفة ذاته لاننا سنبقى عاجزين طويلا وطويلا عن معرفة اسم من اسماء الله ، ثم لا نستطيع التعرف على ابعاده ، فكيف بمعرفة رب العباد بذاته والذي لا تدركه الابصار ، وهو يدرك الابصار .

تجليات الايمان في الحياة :

وهكذا فان للايمان تجليات كثيرة وهي ليست بعيدة عن حياة وسلوك المؤمنين لان الايمان هو حركة للانسان ، وقبل ان نتعرف على تجليات الايمان لابد ان نختصر الحديث حول جــوهره وروحه ، والملاحظ ان التعبير الدقيق عن الايمان في الاحاديث الشريفة هو ( الروح ) ، كما ان التعبير الدقيق ايضا عن كل نصر وتأييــد الهي للبشر في مجال العصمة ، وفي مجال توفيق العبد هو ( روح القدس ) ؛

اي التأييد بروح القدس .

ان كلمة الروح تعني ذلك الافق الذي هو اعلى واسمى من افق المادة ، والقــرآن الكريم يطلق كلمة ( الروح ) على حقيقة الايمان ، وعزم الارادة ، وبهذا العزم ؛ اي بالقرار الذي يتخذه الانسان في داخله لكي يكون مؤمنا ، والذي يكون في اقل من ثانية واحدة ، تتجسد حقيقة الايمان من جانب البشر ، او حركة الانسان وسعيه نحو الايمان .

امــا ذلــك العــزم فــانــه لا يتــم ولا يكتمــل ولا يثمــر إلا بتــوفيــق اللـــه - عز وجــل - ، فبعد ان يتحــرك الانسان ويسعى نحو الايمان بعــزم الارادة ؛ اي بلحظة مــن الارادة واتخــاذ القــرار ، يأتيـه حينئذ التوفيق الالهــي كمــا قال - تعالى - : « وَمَا تَشَآؤُونَ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ » ( الانسان / 30 ) ؛ فالانسان لا يكون مؤمنا الا بتوفيق الله ، لان الايمان روح منه - تعالى - تعطى للانسان ، واذا ما وصل الانسان الى مستوى الروح ( روح الايمان ) فان تحولا عظيما سيحــدث فــي نفسه ، هذا التحول الــذي يعتبر حسب ما يبدو لي اعظم تحول في الخليقــة .

وعلى سبيل المثال فلننظر الى الشمس ، سنرى ان جوهرها لم يتغير منذ ان خلقها الله والى الان ، ربما تغير مظهرها ، وربما تغيرت كتلتها وحرارتها ، ولكن جوهرها لم يتغير ابدا وسوف لن يتغير ... وهكذا الحال بالنسبة الى سائر المخلوقات فان جوهرها هو هو لا يتغير ، ولكن شيئا وحيدا هو الذي يتغير جوهـره من دون سائر المخلوقات الا وهو روح الانسان التي هي الحقيقة الوحـيدة

التي من الممكن ان يتغير جوهرها .

الايمان اساس القيم :

ان جوهر الانســـان يتمثل في انه بشر مخلوق ضعيف محدود يتغير ويتحول حتى يكون - كما قال عنه الله - سبحانه وتعالى - في حديث قدسي - : « عبدي اطعني تكن مِثلي او مَثَلي اقول للشيء كن فيكون ، وتقول للشيء كن فيكون » ، وهذا الجوهر انما يتغير بالايمان ، ولذلك فاننا عندما نقرا آيات القرآن الكريم نجد انه قبل ان يبين اية قيمة من القيم يبدأ بالحديث عن الايمان ، وعلى سبيل المثال فاننا اذا تدبرنا في سورة هود التي تحدثنا عن رسالة الانبياء ( عليهم السلام ) الى الامم ، نجد انها تنقسم وتتشعب ضمن مجاميع من الايات ، وكل مجموعة هي خلاصة عن رسالـــة نبي من الانبياء ابتداء من رسالة الله - جل وعلا - الى نبينا الاعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) خاتم النبيين وسيد المرسلين حيث تفتتح هذه السورة الكريمة بها في الاية الثانية ، ومن ثم سائر الانبياء ( عليهم السلام ) .

وعندمــا نقـرأ هـذه الـمجاميع من الايات نجد في بدايــــة كل منها تذكرة بالله - سبحانه وتعالى - ، ثم بيانا لسائر القيم التي امر الله البشر بالالتزام بها ، ومثل هذه التذكرة نجدها في كل سورة تتحدث عن رسالات الانبياء من مثل سورة الشعراء ، هذه السورة التي جاءت هي الاخرى ضمن مجاميع من الايات كل مجموعة تحدثنـــا عن رسالة نبي من الانبياء كالنبي نـوح ، وصـالــح ، وشــعيــب ( عليه السلام ) وسـائــر الانــبيــاء ، وكــل مجمــوعة تحدثـنـا عـن رســالة الله - تعالى - الى نـبي من الانبياء ، وهذه الرســالة تتغـير حســب ظـروف تلك الامة

التي بعث النبي اليها ، وحاجتها الى مجموعة معينة من القيم والانظمة .

وفــي فاتحـة هـذه المجموعــة مـن الايـات يـكـون الـحـديـث حـول الله - جـل

وعـلا - ورســالـتـه ، فـفـي ســورة هـود - مـثـلا - نجد هذه الايـة :

« أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ » ( هود / 2 ) وهذه الاية هي ثانية آيات هذه السورة ، فهي تبتدء هكذا : « الر كِتَابٌ اُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا » ( هود / 1 -2 ) وهكذا فان هذه الاية تمثل محتوى هذا الكتاب ، ومحتوى رسالة الله التي ارسلت الى النبي ( صلى الله عليه وآله) عبر القرآن الكريم .

ثم تتوالى بعد ذلك الايات الكريمة فيقول - تعالى - : « وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » ( هود / 3-4 ) .

وفــي الايـة السادسة والعشرين تطالعنا حقيقة مشابهة ، ففي هذه الاية نقرأ حــول نـوح ( عليه السلام ) : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ » ( هود / 25-26 ) وهنا نــلاحظ تكرار نفس الحقيقة رغـم ان التعبير عنهـــا اختلف بعض الشيء ، فهناك " نَذِيرٌ مُبِين " وهنا " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ " ، فالحقيقة واحدة ، والنذير ايضا ينذر بعذاب اليم .

وهذا ايضا هو محتوى رسالة شيخ المرسلين نوح ( عليه السلام ) حيث تتسلسل بعد هذه الاية ايضا مجموعة من القيم في قوله تعالى : « فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِيــنَ كَفَـــرُوا مِن قَوْمِـــهِ مَـا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَــا .. » ( هود / 27 ) الى اخر الايات التي تحدثنا عن بقية مبادىء وبصائر الله

سبحانه وتعالى - الى النبي نوح ( عليه السلام ) .

وفي الاية الخمسين من سورة هود نجد هذه الاية الكريمة : « وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ » وهنا نلاحظ ان نفس الفكرة قد تكررت ، وفي الاية (61) من هذه السورة ايضا يأتي الحديث حول قوم ثمود ، والنبي صالح ( عليه السلام ) الذي ارسله الله - تعالى - اليهم فيقول - عز من قائل : « وإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ » .

وفي الاية الرابعة والثمانين من نفس السورة يدور الحديث حول مدين ، والرســول الذي بعث الــــى مدين كان شعيبا حيث يقول - عز وجل - عنه : « وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ » ( هود / 84 ) فالحديث يدور اولا حول الايمان والتوحيد ، وعن خلوص العبادة لله - سبحانه وتعالى - ثم عن سائر الحقائق .

وفي سورة الاسراء يذكرنا - تعالى - بمجموعة متكاملة من القيم الحياتية ، وقد خصصت هذه السورة تقريبا للحديث عن مسؤولية الانسان في الحياة ، وتبتدئ هذه الآيات وتختتم بفكرة التوحيد ، فالحديث يتركز حول الامر ببر الوالدين ، وايتاء ذي القربي حقه ، وعدم التبذير ، والنهي عن قتل الاولاد ، والنهي عن الزنا وما الى ذلك من حقائق ، ولكن هذه الايات تبدأ بهذه الكلمة : « لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ اَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً » ( الاسراء / 22-23 ) ثم تأتي الآيات الاخرى لتحدثنا عن بقية القيم ، الى ان تنتهي بنفس الفكرة التوحيدية فيقول - تعالى - :« ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً » ( الاسراء / 39 ) .

ومن هنا فقد جرت على لسان بعض المفسرين كلمة جميلة تقول اننا اذا اختصرنا كل القرآن فالمختصر المركز له هو كلمة التوحيد (لا اله الا الله) ، واذا ما اردنا ان نبسط هذه الكلمة ونشرحها فانها ستصبح القرآن كله ، فاختصار القرآن هو كلمة التوحيد ، وتفصيل كلمة التوحيد هو القرآن الكريم ، ومن هنا ندرك اننا اذا اردنا ان نصل الى مفتاح فهم الدين والفلاح والهدى فلابد ان نفهم ونعرف حقيقة الايمان ، ونسعى من اجل ايجادها في انفسنا، فالايمان عندما ينعكس على قلب الانسان ، وعندما يعمر قلب الانسان بنوره فحينئذ ستكون نتيجة وخلاصة ما يحدث في هذا القلب .

الهدى والفلاح غاية المؤمن :

وعن هذا الانسان يقول الله - تعالى شأنه - : « أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ » ( البقرة / 5 ) اي ان خلاصة ما يحصل الانسان عليه من خلال الايمان يمكن ان يوجز في كلمتين هما (الهدى والفلاح) ، فالهدى يعني معرفة الحقائق ، وما يتصل بروح الانسان وعقله ووعيه ، واما الفلاح فيتصل بجسد الانسان وحياته ومعيشته ، والمؤمن على هدى من الناحية العقلية ، ويمتلك وضوح رؤية وبصيرة ومعرفة بالحقائق ، ومن الناحية الحياتية يمتلك الفلاح ؛ اي انه يتمتع بأعلى درجات السعادة الا وهي الفلاح ، لان الفلاح يمثل ذروة السعادة ، فالانسان قد يكون سعيدا ، فقد جاء في الحديث الشريف : " من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب البهي ، والولد الصالح " (1) وهذا من سعادة الانسان ، ولكن هل يكتفي المؤمن بهذه الاربعة فقط ؟ طبعا لا ، فهو يحاول ان يصل الى اعلى درجات السعادة ، وحب الله - تعالى - من الدرجات العلى للسعادة والايمان في نفس الوقت .

اننا نقرأ - على سبيل المثال - في سورة المائدة هذه الآيـات الكريمة : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ » ( المائدة / 54 ) والان لنحاول ان نتدبر في هذه الآية الكريمة ، انها تقول انه قد تحدث ظروف ارتداد في الامة فيما يتعلق بالمسلمين الضعاف الايمان ، على ان الخطاب هنا ليس موجها لعامة الناس ، ولا المسلمين وانما للمؤمنين الذين يمثلون اعلى درجات المسلمين ؛ اي ان هناك ظروفا صعبة تجعل الانسان المؤمن يرتد عن دينه ارتدادا كاملا .

وفــي ظـــروف الارتــداد والتراجـع والهـزيمــة هذه تجد رجالا وصلوا الى القمة ، والله - سبحانه - يأتي بهم لمعالجة ظروف الارتداد ، ومن صفاتهم الاساسية ان الله يحبهم ، ويحبونه ؛ اي انهم وصلوا الى مرحلة العلاقة المتبادلة بينهم وبين الله - جلا وعلا - ، فتجاوزت علاقة المصالح المشتركة ، وعلاقـة الجنة والنار ، حتى وصلت الى القمة ؛ اي علاقة الحب المتبادل ، ومثل هؤلاء تجدهم على طراز مختلف تماما عن الاخرين ، فالانسان نجده عادة يخضع للقوة ، ولكن هؤلاء يقاومونها ، ونحن نجد الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) يعبر عن هذه الفكرة بوضوح في قوله : " القــوي العزيـز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه ، والضعيف الذليل عندى قوي عزيز حتى آخذ الحق له " ؛ اي ان العلاقة لاتكون علاقة القوة والضعف ، بل هي علاقة الحق ، لان الانسان الكافر ذليل في رؤية المؤمن مهما كان قويا .

قمم شامخة في رحاب الايمان :

وبالطبع فان هؤلاء هم القمم الشامخة في رحاب الايمان ، والله - تعالى - يصفهم قائلا: «ُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِــينَ أَعِـــزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ » ( المائدة / 54 ) وهذه الذروة هي الفلاح لان الانسان لايقتنع ، ولايكتفي بأن يحصل على حياة هانئة ، بل يطلب من الله - تعالى - دائما ان يكون موته قتلا في سبيله ، فهو لايريد الموت الطبيعي ، بل يريد الشهادة ، ومثل هذا الانسان يمتلك طموحا وتطلعا اعلى ، فهو يريد مجاورة النبي ( صلى الله عليه وآله ) واهل بيته ( عليهم السلام ) في الجنة .

وعلى هذا فان الفـــلاح قمة من قمم الايمان ، او ذروة من ذرى السعادة البشرية ، والمؤمنون حقا هم المفـلحون لان الله - عـز وجـل - يقول بشــأنهم : « أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ » ( البقرة / 5 ) .

الايمان منطلق تحمل المسؤولية التغييرية

كمــا ان الشمس هي مصدر انبعاث كل نور ، واصل كل طاقة كامنة كانت ام ظاهرة ، فكذلك الحال بالنسبة الى الايمان بالله - جل وعلا - ، الذي يقتضي الايمان بالقدرة والهيمنة والتدبير الالهي ، فهو - اي الايمان - مصدر سيادة كل قيمة خيرة ، واصل وينبوع كل فضيلة في حياة الانسان .

وبالايمان بالله - تعالى - تنطلق المسيرة الفكرية في الجادة السوية ، وينتظم النشاط الذهني ، ويضاء العقل فيغدوا محملا للنور الالهي الذي به تشرق سبـل الحياة ، وتتفتح امامها الآفاق الحضارية . ذلك لان الله - جلت قدرته - هو مصدر كل نور ، فهو نور السماوات والارض « مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيِّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ » ( النور / 35 )

وعندما يؤمن الانسان بالله - سبحانــه - ويضــاء عقله ، ويشرق فكره بالنور

الالهي ، فان سائر معارفه عن الحياة سوف تتمحور حـول منهاج صائب سليم . فمعرفة الخالق هي نور القلب ، والمؤمن انما ينظر الى الحياة ، ويلج ابوابها ، و يتحـرك في رحابها بهدى من ذلك النور الالهي . فبه يكتشف مجاهل واسرار الحقائق ، ويتوصل اليها ، ويعرف كنهها بمقدار ما تسمح له طاقته العقلية ، وبدرجة قوة النور الالهي الذي يعمر قلبه وذهنه .

الحدود الواسعة للمعرفة :

وهذه المعرفة لا تتوقف عند مظاهر الاشياء ، لان هذه الظواهر هي وسيلة العقل المؤمن لكشف الحجب ، ومعرفة ما قدر الله - تعالى - لاوليائه من الغيوب . فكما انه - تعالى شأنه - علام الغيوب ، وعالم الغيب والشهادة ، فكذلك المؤمن فبما تفضل عليه ربه من نور من عنده - تعالى - فانه يعلّمه ، ويوحي اليه ، ويطلعه على بعض انباء غيبه كما يقول القرآن الكريم :

« ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ » ( آل عمران / 44 )

وعلم الغيب يعني علم ما وراء الظاهر ، وعلى سبيل المثال فان النار تحرق وهذا هو الظاهر منها الذي تدركه الحواس مباشرة ، ولكن لماذا تحرق ؟ ان هذا هو الغيب الذي يكمن وراء حقيقة الاحراق الظاهرة .

ولعل من ابرز الحقائق المغيبة التي استطاع العقل بالنور الالهي ان يكشف الحجاب عنها هو التساؤل الفلسفي العام الذي اجتهــــد الفلاسفة والحكماء واهل الكلام في سبيل الاجابة عنه ، وهو : ماهي الحكمة ، وماهي الفلسفة من هذه الحياة التي نحياها ؟ وما الهدف من ورائها ؟

ان الحقائق تكشف للانسان المؤمن عن ما وراءها من المغيبات مادام ينظر اليها بنور العقل الالهي المنبعث من بؤرة الايمان بالله - تعالى - اما الانسان العادي البسيط فانه ينظر الى الاحداث ، والظواهر المحيطة به نظرة سطحية عابرة . فلا يكلــف نفسه عناء الكشف عن القوانين ، والحقائق الخفية الكامنة وراءها ؛ فهو - على سبيل المثال - عندما يستقل واسطة نقل ما ، كأن تكون دابة ، او سيارة ، او طائرة لتنقله من مكان الى آخر ، فانه ينظر اليها نظرة عادية بسيطة كبساطته ، فلا تعدو عنده سوى وسيلة تنقله من مكان لآخر فحسب . في حين ان الانسان المؤمن ينظر اليها على انها اداة مسخرة له باذن الله - تبارك وتعالى - ولذلك نجده يردد قوله - تعالى - وهو ينظر اليها :

« سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُـونَ » ( الزخرف / 13 - 14 )

وهكذا فان نظــرة المؤمن لا تقف عند ظاهر الاشياء ، او مرحلة من مراحلها ، بل هي نظرة الـى سلسلـــة ممتدة ، وجواهر باطنة تقوده الى ربه ، وتقربــه اليــه - تعالى - . وبتعبير موجز فان النظرة الايمانية هي نظرة جوهرية تستمد عمقها ، وتستلهم حكمتها من نور الله العظيم ، وهذه النظرة المنطلقة من الايمان هي التي جعلت المؤمن يعيش الشعور العميق بالمسؤولية تجاه كل شيء في الوجود ، والمسؤولية هذه هي احدى أهم الحقائق التي ينبغي البحث عنها وتحملها .

العلم المغيب :

وهذا ما نلمسه في القرآن الكريم ، حيث وضع حقيقة مسؤولية الانسان عن حياته ضمن منظومة من آيات الله - تعالى - في الطبيعة إذ يقول - جل وعـلا : « اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ اُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ » ( الرعد / 8 ) . فهذه حقيقة عجز العلم الذي بلغ ما بلغه من عظيم التطور والتقدم والرقي في معلوماته وامكانياته وتكنلوجيته عن التوصل اليها . فالمسألة لا تتوقف على كون الجنين ذكرا أو انثى ، بل ان حديث العلم الالهي الذي يعكسه القرآن في هذه الآية يمتد الى اكثر من ذلك ؛ فمما يريد تبيانه من علم مغيب على الانســـان في هذا الصدد هو : هل ان هذا الــــذي سيولد في المستقبل سيكون سعيدا أم شقيا ، مؤمنا أم كافرا ، بطلا ام جبانا ، وماذا سيكون في طبعه ونفسيته ... وما الى ذلك من الموروثات ، حتى أحصيت عدد الاحتمالات التي سيخرج بواحد منها بثلاثمائة ألف مليار احتمال ، فانظر كم هو هائل هذا الرقم ، فأنّى للعلم مهما تقدم ، وتطور ان يحدد هذا الاحتمال الواحد بين ذلك العدد الكبير ؟

ان هذا هو الذي تعنيه الآية الكريمة ، فعلم كهذا يبقى مغيبا عن الانسان ، ويبقى علمه عند الله - جلت قدرته - وحسب ، ولذلك فمن المستحيل ان يولد اثنان متشابهان في كل الصفات والطباع . والمراد بقوله - تعالى - : « وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ » ، هو حالة عدم انعقاد النطفة ؛ اي عدم تخصيب بيضة المرأة ، وهــو ما نسميه اليوم بـ ( العقم ) الذي قد يكون بسبب احـــد الزوجين ؛ فاما ان تحدث الحالة الطبيعية ، وهي كون الوليد واحدا ، او الحالات الشاذة وهي حــالات العقم او " غيض الرحم " ، او حالات تعدد الاجنة ، وهو ما يشير اليه - سبحانه - في قوله : « وَمَا تَزْدَادُ » .

/ 9