المقدمـة - لکی نواجه النفاق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

لکی نواجه النفاق - نسخه متنی

السید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



المقدمـة


على الرغم من عدم قبول الانسان لنفسه المرض ، إلاّ انه قد يسقط ضحيته . وعلى الرغم من نفرة الانسان من الفقر ، إلاّ انه قد يصاب به ..


كذلك لا يرضى أي انسان لنفسه بالنفاق ، ولكنه قد يقع في شركه .


غير ان هذا لا يعني ان الانسان عاجز عن مواجهة النفاق ، كما انه غير عاجز عن مواجهة المرض والفقر .


ويخطأ من يستهين بالنفاق دون ان يحصن نفسه منه ، وذلك لان النفاق يسلب من الانسان كل صفات الخير ، ويحرمه من فعل الصالحات ، وينتزع منه كل القيم السامية .. حتى يجعله منبوذاً مدحوراً .


ولا نبالغ ان قلنـا ؛ اننا اذا لم نحذر النفــاق ، فانه سوف ينفذ الى قلوبنا من حيث لانشعـر ، دون أيـة صعوبـة تذكر . وعندها ليس من


السهل يمكننا التخلص منه ، والنجاة من آثاره .


وهذا ما يدعونا الى ان نحصن انفسنا من النفاق بسور منيع .


ولا يغبب عنا ؛ ان انشاء مثل هذا السور لايتم إلاّ بفهم حقيقة النفاق ، والاطلاع على مساوئه وسلبياته .. وكذلك معرفة صفات المنافقين ، وأمثالهم في المجتمع .


عن هذا تحدث سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي في مجموعة محاضرات هامة ، ونحن بدورنا عمدنا الى جمعها وتحريرها ، لينال الناس منها ما يرجون من فائدة ، وقد توجنا هذا الكتاب بشذرات من احاديث النبي وأهل بيته عليه وعليهم السلام في خصوص هذا الموضوع ، آملين ان تعود على القارئ العزيز بنفع جم ، والله ولي التوفيق .

القسم الثقافي


في مكتب آية الله المدرسي


1 / ربيع الثاني / 1418 هـ


شذرات من الأحاديث


النفاق يفسد القلب :


1/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أربع يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر ؛ استماع اللهو، والبذاء ، وإتيان باب السلطان ، وطلب الصيد . ([1])


دعائم النفاق وشعبه :


2/ قال أمير المؤمنين عليه السلام : النفاق على أربع دعائم ؛ على الهوى ، والهوينا ، والحفيظة ، والطمع . فالهوى من ذلك على أربع شعب ؛ على البغي ، والعدوان ، والشهوة ، والعصيان . فمن بغي كثرت غوايله ، وتخلى منه ، ونصر عليه . ومن اعتدى لم تؤمن بوائقه، ولم يسلم قلبه . ومن لم يعدل نفسه عن الشهوات ، خاض في الحسرات ، وسبح فيها . ومن عصى ضل عمداً بلا عذر ولا حجة . وأما شعب الهوينا ؛ فالهيبة ، والغرة ، والمماطلة ، والأمل . وذلك أن الهيبة ترد عن الحق ، والاغترار بالعاجل تفريط الأجل ، وتفريط المماطلة مورط في العمي . ولولا الأمل علم الانسان حساب ما هو فيـه ، ولو علم حساب ما هو فيه مات خفاتا من الهول والوجل . وأما شعب الحفيظة ؛ فالكبر ، والفخر ، والحمية ، والعصبية . فمن استكبر أدبر ، ومن فخر فجر ، ومن حمى أصر ، ومن أخذته العصبية جار . فبئس الأمر أمر بين إدبار وفجور وإصرار وجور عن الصراط . وشعب الطمع ؛ الفرح ، والمرح ، واللجاجة ، والتكبر . فالفرح مكروه عند الله ، والمرح خيـلاء ، واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حمله الاثام ، والتكبر له ولعب وشغل واستبدال الذي هو أدنى الذي هو خير . فذلك النفاق ودعائمـه وشعبـه ، والله قاهر فوق عباده تعـالى . ([2])


مبدأ النفاق :


3/ عن أمير المؤمنين عليه السلام : ان النفاق يبدو لمظة سوداء فكلّما ازداد النفاق عظماً ازداد ذلك السواد ، فاذا استكمل النفاق اسودّ القلب". ([3])


اولئك حزب الشيطان :


4/ من خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام يصف فيها المنافقين : قال فيها : اوصيكم عباد الله بتقوى الله ، واحذركم أهل النفاق ، فانهم الضالون المضلون ، والزالون المزلون ، يتلونون الواناً، ويفتنون افتاناً، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد . قلوبهم دوية ، وصفاحهم نقية . يمشون الخفاء، ويدبون الضراء . وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء . حسدة الرخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء . لهم بكل طريق صريع ، وإلى كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء . إن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا. قد أعدوا لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً. يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم وينفقوا به أعلاقهم . يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون ، قد هينوا الطريق وأضلعوا المضيق . فهم لمة الشيطان، وحمة النيران ، اولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون . ([4])


ذلكم هو المنافق :


5/ عـن علـي بن الحسين عليه السلام ، قال : المنافـق ينهـي ولا ينتهـي ، ويـأمر بما لا يأتى . إذا قام في الصلاة اعترض ، إذا ركع ربـض ، وإذا سجد نقر ، واذا جلس شغر . يمسي وهمّه الطعـام وهو مفطر، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر . إن حدثك كذبك ، وإن وعـدك أخلفك ، وإن ائتمنته خانك ، وإن خالفته اغتابـك . ([5])


من صفات المنافقين :


6/ وقال عليه السلام : المنافق إذا حدث عن الله وعن رسوله كذب ، وإذا وعد الله ورسوله أخلف . وإذا ملك خان الله ورسوله في ماله ، وذلك قول الله عز وجل : « فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونـه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون » وقوله : « وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم » . ([6])


علامة المنافق :


7/ عن رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما علامة المنافـق فأربعـة؛ فاجر دخله ، يخالف لسانه قلبه ، وقوله فعله ، و سريرته علانيته . فويل للمنافق من النار . ([7])


من علامات النفاق :


8/ قال الامام الصادق عليه السلام : أربع من علامات النفاق ؛ قساوة القلب ، وجمود العين ، والاصرار على الذنب ، والحرص على الدنيا . ([8])


علامة النفاق :


9/ قال الامام الصادق عليه السلام : المنافق قد رضي ببعده من رحمة الله تعالى ، لأنه يأتي بأعماله الظاهرة شبيها بالشريعة ، وهو لاغ باغ لاه بالقلب عن حقها مستهزيء فيها. وعلامة النفاق قلة المبالاة بالكذب والخيانة والوقاحة ، والدعوى بلا معنى ، وسخنة العين ، والسفه والغلط، وقلة الحياء ، واستصغار المعاصي ، واستضياع أرباب الدين ، واستخفاف المصايب في الدين ، والكبر، وحب المدح والحسد، وإيثار الدنيا على الاخرة ، والشر على الخير، والحث على النميمة ، وحب اللهو، ومعونة أهل الفسق والبغي ، والتخلف عن الخيرات وتنقص أهلها ، واستحسان ما يفعله من سوء واستقباح ما يفعله غيره من حسن ، وأمثال ذلك كثيرة . وقد وصف الله تعالى المنافقين في غير موضع فقال عز من قائل : « ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين » وقال عز وجل في صفتهم : «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا » .


قال النبي صلى الله عليه وآله : المنافق من إذا وعد أخلف ، وإذا فعل افشى ، وإذا قال كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا رزق طاش ، وإذا منع عاش .


وقال النبي صلى الله عليه وآله : من خالفت سريرته علانيته فهو منافق ، كائنـاً من كـان ، وحيث كـان ، وفي أي أرض كان ، وعلـى


أي رتبة كـان . ([9])


خلتان لا تجتمعان في المنافق :


10/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : وخلتان لاتجتمعان في المنافق ؛ فقه في الإسلام ، وحسن سمت في الوجه . ([10])


البذاء من النفاق :


11/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الغيرة من الايمان ، والبذاء من النفاق . ([11])


مكمن النفاق :


12/ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع من كن فيه فهو منافق ، وإن كانت فيه واحدة منهنن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر . ([12])


منبت النفاق :


13/ قـال أميرالمؤمنين عليه السلام : إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان ، وينبت عليهما النفاق . ([13])


الخصومة تورث النفاق :


14 / عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل و تورث النفاق و تكسب الضغائن و تستجير الكذب . ([14])


الرياء مع المنافق :


15/ وقال الامام الصادق عليه السلام : الرياء مع المنافق في داره عبادة ، ومع المؤمن شرك . ([15])


صانع المنافق بلسانك :


16/ قال الامام الصادق عليه السلام لإسحاق بن عمار : صانع المنافق بلسانك ، واخلص ودك للمؤمن ، وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته . ([16])


معالـم النفـاق


الرؤية القرآنية لظاهرة النفاق


بادئ ذي بدء لابد من ان نستعرض حقيقة مهمة في ظاهرة النفاق، ألا وهي ان النفاق يعد من الظواهر الاكثر خفاء في حياة الانسان والمجتمعات. فلابد ان تكون هنالك رؤية واضحة لدى الامة الاسلامية وقيادتها، من اجل ان تستطيع اكتشاف وتشخيص هذه الظاهرة الخفية الخطيرة، ومعرفة خطوط النفاق، وعناصره، واساليب المنافقين. وفي نفس الوقت فان على كل انسان مؤمن ان يمتلك رؤية واضحة، وبصيرة نافذة يتعرف من خلالهما على صفات المنافقين، لكي لا يتورط في ممارسة هذه الصفة المريضة الذميمة متوهما انه بعيد عنها .


لابد من رؤية واضحة :


ولان آثار النفاق لا يمكن ان تظهر على الانسان بشكل واضح وملموس، فلابد من ان نزوّد انفسنا برؤية واضحة لتمييز واكتشاف النفاق على مستوى الفرد والمجتمع . والقرآن الكريم يزودنا بهذه الرؤية سواء كنا نمثل قاعدة ام قيادة ؛ وسواء كان النفاق يمثل صفـة او ظاهرة، او كان يمثل طبقة اجتماعية معينة. وقد قال ربنا عز وجل:


« عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ * لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَـوْمِ الاَخِـرِ أَن يُجَاهِدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُـونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ* وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُـمْ فَثَبَّطَهُـمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُـوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِيـنَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاُمُورَ حَتَّى جَـآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِيـنَ » (التوبة / 43 - 49)


وقبل ان نبدأ بتفسير هذه الآيات الكريمة يجدر بنا ان نقول اننا لا نستطيع ان نفهم القرآن بمجرد ان نعرف رؤاه ، بل يجب ان نطبقه على واقعنا الاجتماعي الذي نعاصره ، وان نطبقه ايضاً على واقعنا كأفراد لكي نفهم هذا الواقع من خلال القرآن .


المؤمن في أهبة الاستعداد :


في البدء يقـول القرآن الكريم عن المنافقين : «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِيــنَ


يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ » ، وهذا القول يعني ان المؤمن الحقيقي يعيش دائماً حالـة الانـذار والاستعداد . فهو ممتلئ بروح الجهاد والعمل المستمر ، ولا يحتاج إلاّ الى مجرد توجيه بسيط من الرسول صلى الله عليه وآله،ومن القيادة الشرعية لكي يتحرك للجهاد .


ان النبي صلى الله عليه وآله لا يحرك المؤمنين ، لانهم متحركون ومتحمسون للجهاد بذاتهم. ولذلك فانهم لا يتملصون من المسؤولية ولا يتقاعسون ولا يستأذنون القيادة في الجهاد ، بل يندفعون اليه اندفاعاً . فالجهاد بالنسبة الى المؤمنين اشبه شيء بالطاقة الكهربائية الموجودة دائماً في الاسلاك المتصلة بمصدر هذه الطاقة ، فما علينا إلاّ ان نوصل رؤوس هذه الاسلاك مع بعضها لكي تنفجر وتنبعث تلك الطاقة . فالانسان المؤمن هو طاقة بحد ذاته ، وهو يميل الى الجهـاد دائمـاً .

المنافق متقاعس :


اما الانسان المنافق فهو على العكس من ذلك تماماً ، فأنت بحاجة الى ان تدفعه دفعاً جديداً كلما وجهت له أمراً جديداً . فهو لا يمتلك في نفسه طاقة ذاتية للتحرك . والاسوء من ذلك انه يريد دائماً ان يبرر تكاسله وتقاعسه عن الجهاد بأن يجعل عليهما غطاء من التبرير الشرعي ، ولذلك فانه لا يكتفي بعدم القيام بالعمل الجهادي بل يريد ايضاً ان يبرر عدم قيامه هذا بالسؤال والاستئذان . فلا يريد ان يجاهد ولا يريد ان يطيع اوامر رسول الله صلى الله عليه وآله . والادهى من ذلك انه يريد منه صلى الله عليه وآله ان يوافقه على تقاعسه ، وتبريره لتكاسله . وهذه صفة مقيتة تميز بين المنافقين والمؤمنين .


الاستئذان ديدن المنافقين :


وعن المؤمنين والروح الجهادية لديهم يقول القرآن الكريم : «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ » . في هذه الآية تعريض الى الذين يستأذنون على اعتبار انهم لا يؤمنو بالله واليوم الاخر ، ولذلك فانهم يطلبون الاذن . وهذا ما يشير اليه تعالى في قوله : « إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ » . فهم عندما يصلون فانهم لا يصلون عن ايمان ، وعندما يعطون الزكاة فانهم لا يعطونها بدافع من اليقين ، وهكذا الحال عندما يشتركون في العمل الجهادي .. فاعمالهم كلها تتقلب بين الريب والشك .


ويبدو لي أن هذه الصفة ليست هي المعيار الاساس في تمييز الفئـة


المنافقة عن غيرها ، بل اننا نستطيع على ضوئها ان نميز حالات النفاق عن الحالات الاخرى . فالانسان لا يبقى على مستوى واحد، ومن الخطأ ان نتصور ان احدنا اذا اصبح مؤمنا بالله تعالى ، وادى الصلاة بشكلها الصحيح ، وزكى امواله ، وصدق مع الاخرين ، وكانت جميع اعماله مستوحاة من الاسلام ، فانه قد اصبح مؤمناً صادقاً ، ووصل الى حقيقة الايمان . فالانسان له في كل يوم شأن ، بل هو يتغير مع مرور الساعات . فقد يكون في فترة من الفترات مؤمناً صادقاً مخلصاً ، واذا به يتحول بفعل الظروف والمفاجآت التي تحدث في حياته الى منافق من الدرجة الاولى - لاسمح الله - وهو لا يشعر بذلك . ذلك لانه لا يمتلك مقياسا لتشخيص حالة النفاق ، وتمييزها عن الصفات الاخرى ، واذا ما امتلكه فان كبرياءه لا تسمح له بان يطبق هذا المقياس على نفسه .


ضرورة المحاسبة الذاتية :


ومن هنا وردت الروايات الكثيرة عن الائمة المعصومين عليهم السلام لتؤكد على ضرورة المحاسبة الذاتية يومياً ، بل وفي كل يوم مرات . ففي هذا المجال يقول الامـام أمير المؤمنين عليـه السلام : ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فان عمل خيراً حمد الله واستزاده وان عمل سوء استغفر الله". ([17]) فالانسان الذي لايحاسب نفسه في كل يوم مرة على الاقل ، ولم يعرض نفسه على المقاييس الصحيحة بخصوص الايمان والنفاق ، والصلاح والفساد ، فانه ليس من الدين في شيء .


وهكذا فان صفة ( الاستئذان ) والتكاسل عن العمل الاسلامي بمجرد تلقي الاوامر ، بل والاسوء من ذلك محاولة اقناع المتشرعين والفقهاء بأن يضعوا للانسان المتقاعس حلاً شرعياً لاعماله الفاسدة، هي من صفات المنافقين التي نستطيع من خلالها ان نميز حالاتهم عن حالات غيرهم .


ومن الملاحظ - وللاسف الشديد - ان كثير من الناس يفتشون عن دين تهواه انفسهم. لذا تجدهم لايرغبون في قيادة حازمة تأخذهم بالشدة والصعوبة ، بل يبحثون عن قيادة ضعيفة بحيث تجعلهم يسترسلون في اهوائهم ورغباتهم ، وتبرر لهم تملصهم من مسؤولياتهم وتقاعسهم عن اداء مهماتهم الرسالية .. وهذه هي العلاقة الفارقة بين الانسان المنافق وغيره ، وعلينا ان نحول هذه الميزة الى رؤية لاكتشاف الفئة المنافقة في المجتمع ، وان نعوّد انفسنا على استخدام ذات هذه الرؤية لاكتشاف نفاقنا في بعض الاوقات . واذا ما اكتشف أحدنا انه مؤمن، صادق ، مخلص .. فليحذر من ان يعجب نفسه ، ويصيبه الغرور. فمن الممكن ان يتحول غداً الى انسان منافق ، فعليه ان يحاسب نفسه ، ويعيد النظر فيها بين الحين والآخر .


التبرير علامة النفاق :


ثم يحدثنا القرآن الكريم عن صفة اخرى من صفات المنافقين، والتي تميزهم عن المؤمنين الصادقين: « وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَــدُّوا


لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِيـنَ » .


فمن الناس الذين يمكن ان نضمهم الى فئة المنافقين اولئك الذين لا يعملون من اجل ان يربوا انفسهم على بعض الصفات التي تعينهم على القيام بدورهم الرسالي في الحياة . فالانسان لا يمكن ان يصبح مبلغاً ، وعاملاً رسالياً في المجتمع إلاّ إذا كان أديباً او شجاعاً ومعروفاً بين الناس ، وهذه الصفات يستطيع الانسان الرسالي ان يوظفها في سبيل الدعوة ، وفي سبيل تبليغ رسالات الله .


ان الانسان الذي يتهاون في اداء المقدمات رغم سهولتها يتهاون عن تربية نفسه واعدادهـا للقيام بدورها الآتي . فانه عندما يكلف من قبل القيادة الشرعية للامة بعمل ما ، تجده يختلق الاعذار والتبريرات كقوله - على سبيل المثال - : أنا لست اديباً وهذا العمل يحتاج الى معرفة بالادب .. أو أنا لست مقاتلاً لانني لم ادرب على السلاح ..


والحق ان المنافقين لو كانوا صادقين في استئذانهم لكانوا قد اعدوا العدة في ايام الرخاء لايام الشدة ، ولذلك تراهم يلجؤون الى التبريرات عندما تحين ساعة الجهاد والبذل والعطاء .


اما المؤمن الصادق فان ديدنه اعداد نفسه لكل خدمة ، لانه يحبها ويفتش عنها دائماً . فهل يمكن للانسان ان يخوض غمار الجهاد دونما تدريب ؟!


اننا جميعاً نتمنى ان نحارب بين يدي الامام الحجة عجل الله فرجه، ولكن هذه الامنية يجب ان تكون مسبوقة بالتدريب والاستعداد، والعدة التي وردت في قوله تعالى : « وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ». تعني التدريب الذاتي بالسلاح، وبالاعداد الروحي والنفسي.


غير ان المنافقين لم يوفروا في انفسهم ذلك ، لذا قال الله عز وجل عنهم : « وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ » . فلانهم لم يستعدوا، ولم يتهيأوا للعمل الرسالي فان القرآن الكريم يقرر انهم ليسوا اهلاً لها، وذلك لان للعمل في سبيل الله فضل لا يناله كل انسان ، بل يتشرف به الشخص الذي احبه ، وجاهد في سبيله ، وهيأ نفسه له . فهو وحده الذي يوفقه الله عز وجل له . اما الانسان الذي يمن بعمله على الله جل وعلا سوف يضل ضلالاً مبيناً .


أولئك هم المنافقون :


وهكذا فان القرآن الكريم يتحدث عن الطبقة المنافقة ، ويزود الامـة المجاهدة المخلصة بالرؤية الواضحة ، فيقول ذاكراً صفات اخرى للمنافقين : « لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيـمٌ بِالظَّالِمِيـنَ » .


فالقـرآن الكريـم يحذر من الاتصال بالفئـة المنافقـة، ويوصي بابعادهـا وطردها من بين المؤمنين ، مقرراً ان المؤمنين - مهما كان عددهم قليلاً - هم افضل من المنافقين ولو كان عددهم كبيراً ..


فالمنافقون من شأنهم ان يعيقوا طريق المؤمنين « لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ » فهم يريدون تشكيل جبهة داخلية ضد المؤمنين الذين كثيراً ما نرى بعضهم سماعين لاشاعات واراجيف المنافقين .


ومن ثم يقول ربنا جل وعلا : « لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ » .


فعلى الامة الاسلامية ان لا تنخدع بهذه الفئة التي تعلن الحرب دائماً ضد الاسلام باساليبها الخبيثة ، بمجرد ان تقوى شوكتها وتجد في نفسها شيئاً من القوة ؛ وذلك من خلال لبس قناع الدين ، والنفوذ في اوساط المؤمنين ، وهدم الاسلام من الداخل .


وفي آية اخرى يخاطب عز وجل المؤمنين قائلاً : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا » (البقرة/104) فلا ينبغي للانسان المسلم ان يطلب من القيادة ان تخفف عنه الاحكام الدينية . فأوامر الله لا يمكن ان تتبدل ، وفي هذه الحالة سنكون قد انهزمنا نفسياً ، ولم نهيىء انفسنا لتطبيق احكام الشريعة . وبدلاً من ذلك لابد لاحدنا ان يوحي لنفسه منذ اللحظة الاولى بالشجاعة ، والعزم ، والتصميم ، وان يعمل بما انزل الله جلت قدرته ، ويطبق احكامه على الواقع العملي . وبهذه الصراحة والثقة بالذات ينبغي ان ننطلق في اعمالنـا .


والقرآن الكريم يصف المنافقين بانهم يريدون ان يجعلوا من الدين تبعاً لاهوائهم ومصالحهم وشهواتهم وتبريراتهم . والقرآن يتحدث عن صفاتهم هذه قائلاً : « وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلا تَفْتِنِّي» . وهنا يقرر الخالق عز وجل ان مجرد الاستثناء وطلب الاستئذان والتخصيص من دون الاخرين انما هو فتنة يبتلى الانسان من خلالها، وينكشف نفاقه عبرها . ولذلك يعلق القرآن على تبريراتهم تلك قائلاً بكل حزم وتحذير يشعر بنزول العذاب القريب : « أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا » .


وفي الحقيقة فان الانسان عندما يبدأ باختلاق الحجج الواهية ، والتبريرات السخيفة من اجل ان يخفف عن كاهله اعباء ومسؤوليات الرسالة ، فانه سوف ينجرف في تيار النفاق والانحراف ، لتحيط به في يوم القيامة نار جهنم كما يشير الى ذلك تقدست اسماؤه في قوله: « وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ » .


ضرورة اكتشاف ظاهرة النفاق :


وخلاصـة القـول ؛ فان من الضـروري ان نكتشف ظاهـرة النفـاق


المرضية بجميع ااقسامها واشكالها ، سواء على مستوى الجماعات ام الافراد ، ام على صعيد ظاهرة النفاق نفسها كصفة سلبية لها جوانبها وحالاتها وابعادها الخاصة بها .


ولذلك فان من الواجب ان تمتلك الامة الاسلامية رؤى تمكنها من معرفة الفئة المنافقة وتمييزها عن الفئة المؤمنة ، كما ان من الضروري ان يمتلك الفرد المؤمن نفس الرؤية لكي يكتشف حالات النفاق التي يبتلى بها هو نفسه بين الحين والاخر . والآيات القرآنية السابقة تمكننا اذا ما درسناها دراسة وافية في تزويد انفسنا بتلك الرؤية التي تعتبر الان مهمة اكثر من اي وقت مضى ، نظراً لكثرة المتقاعسين والمتملصين من المسؤوليات والمهام الرسالية .


حقيقـة النفـاق


في الآيات التالية من سورة البقرة يفصل لنا الله سبحانه وتعالى القول عن طائفة اخرى من الطوائف الانسانية المختلفة بعد ان يحدثنا عن المؤمنين المتقين ، ثم عن الكفار ؛ ألا وهي طائفة المنافقين ، الذين يعرفهم بكلمة ثم يبين صفاتهم بان يقول انهم هم الذين يدعون الايمان بالله تعالى واليوم الاخر ... ولكنهم يضمرون الكفر .


« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » (البقرة / 8).


وهذا التقسيم القرآني الذي يبين لنا الله تبارك اسمه عبره صفات المؤمنين المتقين ، والكفار الجاحدين، ثم المنافقين هو البديل المبدئي عن التقسيمات القومية والاقليمية وما الى ذلك من تقسيمات لايعترف بها الاسلام والقرآن . ولعل هذا هو السبب الذي جعل القرآن يستخدم تعبير « وَمِنَ النَّاسِ » ؛ اي ان الناس على ثلاثة اقسام : المتقين، والكفار ، والمنافقين الذين يعتبرون البرزخ بين الطرفين .

تعريف المنافق :


وربما يتبادر الى الاذهان في هــذا المجال التساؤل التالي : لماذا لم يقل تعالى : ومن الناس المتقون ، او الكفار ، او المنافقون ؟


والسبب في ذلك ان وجود المتقين في المجتمع هو شيء ظاهر كوجود الكفار ، إلاّ ان الامر الذي يحتاج الى بيان وايضاح هو وجود الانسان المنافق في المجتمع . لان الكافر لايستطيع ان يخفـي كفره ، والمتقي يكون واضح التقوى . في حين ان المنافق الـذي يستمر كفره بغلاف من ادعاء الايمان ، فان القرآن لابد ان يفضحـه.


لذا قال ربنا جل وعلا : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ » . اي ان الايمان الذي يدعيه هؤلاء المنافقون هو ايمان شامل ، فهم لا يدعون الايمان بالله تعالى وحسب ، بل يزعمون انهم يؤمنون باليوم الآخر ايضاً . ومن المعلوم ان الايمان باليوم الآخر هو الايمان الذي لابد ان تظهر آثاره على اعمال وسلوك الانسان .


ولذلك فان الله جلت قدرته يستعمل كلمة الايمان ولا يقول : اسلمنا ، لان هناك مسافة بين الاسلام والايمان . فالاسلام - في ظاهره - هو الخضوع للهيمنة الاسلامية ، والسلطة الدينية كما تشير الى ذلك الآيـة القرآنية التاليــة ، مميزة بين الاسلام والايمان : « قَالَتِ


الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ » (الحجرات / 14).


وهكذا فان الاسلام هو مجرد الاعتراف بالسلطة ، والحكومة الدينية. وهذا هو ادنى مراتب الدخول في الدين ، اما المراتب الايمانية العليا فهي تلك التي يشير اليها الامام علي عليه السلام في قوله : لانسبن الاسلام نسبة لم ينسبها احد قبلي ولا ينسبها احد بعدي ؛ الاسلام هو التسليم . ([18]) فالاسلام هو التسليم ، اما ادنى مراتب الاسلام فهو الاعتراف بالسلطة الدينية .


وعلى هذا فان ادعاء الايمان هو الادعــاء العظيم الذي لابد ان يثبته العمل ، ولذلك يقول عز من قائل : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » . وهذا هو التعريف الموجز للمنافقين .


الخداع اصل النفاق :


وتعتبر صفة الخداع من أهم وأبرز صفات المنافقين ، بل ان الخداع هو اصل النفاق ، لان القرآن الكريم يقول : « يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ » (البقرة/9) اي انهم يحاولون خداع الله تعالى وخداع المؤمنين ، ولكنهم لايخدعون إلاّ انفسهم .


وعلى هذا فان صفة الخداع هي جذر صفات المنافقين ، الذين تتفرع منه سائر الصفات . فهم يحاولون خداع رب العالمين ، وحتى في يوم القيامة نرى بعض هؤلاء المنافقين الذين يحملون صفة النفاق من الدنيا الى البرزخ ، بل وحتى في يوم الحشر يحلفون لله تعالى كذباً، وهو شاهد عليهم .


ومع ذلك فان المنافق الذي يحاول خداع الطرف الاخر ، فانه يبتلى - في الواقع - بالخداع الذاتي ، لان الناس لا يقبلون منه خداعه . ولكنه ولكي يثبت خداعه ، فانه يبحث لنفسه عن بعض الادلة الواهية التي تتراكم في ذهنه بمرور الزمن وبشكل تدريجي حتى تتحول الى قناعة كاذبة .


ان هذه المحاولة - محاولة خداع الاخرين - انما تتحول الى خداع ذاتي للسبب التالي الذي سنحاول ان نوضحه من خلال ضرب هذا المثال :


عندما تريد ان تقنع شخصاً ما بان ما في القدح الذي في يدك هو عصير برتقال وليس ماء ، فانك ستقول له ان هذا السائل الذي في القدح هو عصير ، او ماء مضاف ، او ماء برتقال . ولكي تثبت ادعاءك هذا فانك ستحاول ان تبحث عن دليل فتقول له - على سبيل المثال - ان عصير البرتقال ليس برتقالي اللون ، بل هو عديم اللون . فيقول لك الطرف المقابل ان عصير البرتقال برتقالي اللون . وكذلك تقول له ان هناك نوعا من البرتقال في بعض بلدان العالم عصيره عديم اللون ، فيجيبك : ولكنه يفقد الطعم . فتقول له : نعم ولكن حاسة ذوقك مخطئة ، فيشرب وهو يوحي الى نفسه ان فيه طعم البرتقال . وهكذا تحاول ان تقنعه بشتى الادلة بان الذي يشربه هو عصير البرتقال وليس ماء .


وهكذا تتراكم الادلة حتى تقتنع انت من الناحية النفسية بان السائل الذي في القدح هو فعلا عصير برتقال ، في حين ان الطرف المقابل اكتشف منذ البداية انك غير صادق فيما تدعي ، ولكنك شيئا فشيئا تورطت واصبحت اسير كذبك .


وفي هذا المجال تروى قصة لطيفة تقول ان شخصين اتفقا على ان يدعيا للناس ان احد المواضع مدفون فيه احد ابناء الائمة عليهم السلام ، فأصبح احدهم سادناً ، والاخر خادماً . فما كان من اهل القرية الا ان التفوا حول هذا الموضع بسبب بساطتهم وسذاجتهم، وبالطبـع فانهم في هذه الحالة مثابون لانهم فعلـوا ذلك بنيات صادقة، واهداف زاكية . وعندما جمع الاهالي مقداراً من المال ، واعطوه لذينك الشخصين ، اختلف هذان الشخصان على المال ، فقال احدهما ؛ لي ثلثاه باعتباري سادناً ، ولك الثلث لانك خادم . اما الآخر فقد قال : لقد اتفقنا منذ البدء على المناصفة ، فلابد ان يكون لكل منا نصف المال . واذا باحدهما يحلف للآخر قائلاً : بحـق المدفون في هذا القبر فان هذا المال لي . فضحك الآخر وقال: واي مدفون تقسم به ، ان هذا القبر الوهمي ليس فيه اي احد ! وهكذا وبسبب تكراره الكذب على الآخرين اقنع داخلياً بسلامة وصحة كذبه .


والملاحظ ان القـرآن الكريـم في الآية السابقـة لم يقل (وما يعقلون)، بل قال (وما يشعرون)، لان الشعور ادنى من العقل . فالانسان الذي يكذب على الآخرين ثم يصبح هو نفسه اسير كذبته بسبب كبريائه وغروره ، واخذ العزة له بالاثم ، فانه لا يمتلك العقل فحسب ، بل انه لا يمتلك الشعور ايضا نتيجة لهذا الخداع الذاتي .

حقيقة النفاق :


وبسبب شذوذ هؤلاء ، وانحراف مسيرتهم ، فان جميع ابعاد حياتهم سوف تنحرف كعلاقتهم بانفسهم ، وعلاقتهم بالطبيعة من حولهم ، وعلاقتهم بالله تعالى وبالناس .. فكل هذه العلاقات سوف تنحرف عن مسيرتها الصحيحة .


ثـم يقول ربنـا عز وجل : « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً» (البقرة/10). وقد جاء في الروايات ان هذا المرض هو مرض الشك ؛ اي ان في قلوبهم شكاً، فزادهم الله سبحانه شكاً الى شـك.


ويبدو لي ان هذا المرض ليس مجرد الشـك؛ فالسبب الحقيقـي للنفاق هو ان الانسان عندما لا يستطيع ان يواجه وضعاً اجتماعياً معيناً مواجهة شجاعة فانه يلجأ الى النفاق . فلو كان المنافقون يمتلكون شجاعة وثقة بالذات ، لدخلوا اما في صف المتقين والمؤمنين، واما في صف الكفار . ولكننا نراهم مذبذبين لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ، يريدون ان يكتسبوا خيرات المؤمنين ، وان لا يحرموا - في نفس الوقت - من مكاسب الكفار . وهذا التذبذب ان دلّ على شيء فانما يدلّ على وجود مرض في قلوبهم هو مرض الجبن ، والانهزام النفسي، والاستسلام للواقع الاجتماعي دون ان يجرؤوا على تحديه .


وهذا المرض يزداد ويتفاقم من خلال النفاق . فالشيطان يخدع الانسان ويدفعه في اتجاه خاطىء بسبب هوى النفس ، او سوء التربية وما الى ذلك . فاذا اعترف هذا الانسان بواقعه المنحرف هذا فان من المحتمل ان يعود الى الطريق المستقيم . اما اذا تعقد قلب هذا الانسان، وفتش لنفسه عن تبرير لانحرافه ، فان الامل في اصلاحه ضعيف . وعلى سبيل المثال فقد يقول شخص انه يعرف ان الصلاة واجبة ولكنه - مع ذلك - لا يصلي ، فانه من الممكن في يوم من الايام ان يهتدي ، ويتوب الى الله تعالى بنصيحة من احد المؤمنين . اما الذي لا يصلي ولا يعترف بوجوب الصلاة فان الشيطان سيخدعه في هذه الحالة، فيتحول بشكل تدريجي من كافر وفاسـق بسيط الى جاحد بالصـلاة وباحث عن تبرير لعـدم صلاتـه .


في قلوبهم مرض :


وهكذا فعندما يتلبس الكفر والفسوق بلباس من التبرير والخداع الذاتي، فان الامل في اصلاح مثل هؤلاء الناس يصبح ضئيلا ، لانهم يبتلون بمرض الجبن والاستسلام والشك . عندما يجدون لانفسهم غطاء من النفاق ؛ اي يحاولون خداع الله سبحانه وتعالى ؛كأن يبرر أحدهم عدم ادائه لصلاة الصبح بانه يتعب في الليل ، ويعمل من اجل عياله . ويبرر الآخر عدم جهاده في سبيل الله لتكفله برعاية زوجته واطفالـه ..


ان من القبيح ان يحاول الانسان خداع الله تبارك وتعالى . والادهى والاسوء من ذلك ان لا يعترف بخطئه ، بل يحاول ان يبرر خطأه هذا بفكرة يبحث عنها هنا وهناك . وفي هذه الحالة يتكرس هذا المرض في نفوس هؤلاء الاشخاص ويصدق عليهم قول الله عز وجل : « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً » بسبب محاولة خداع الخالق .


فمن الجهل والسذاجة ان نخادع الله ، وهو الخبير بنا ، والاقرب الينا من حبل الوريد . وهو الذي يعلم من انفسنا مالا نعلمه ، فربما يقوم الواحد منا بعمل ويعتقد بانه على طريق صحيح ، ولكن الله تعالى يعلم ان نيته غير خالصة .


وقد جاء في حديث مروي عن الامام أمير المؤمنين في وصيته لابنه عليهما السـلام ، يقــول : ان من البـلاء الفاقة ، وأشــد من ذلــك


مرض البدن ، وأشد من ذلك مرض القلب . ([19])


فربمـا يبتلي شخص بمرض السرطان وبمجرد ان يخطر على بالـه بانه مبتلى بهذا المرض الخطير يهتز ضميره حتى الاعماق . ولكن هل تدري ان بعض الذنوب اشد على الانسان من السرطان ، كتلك الذنوب التي نرتكبها ونستهين بها . فمن اسوء الذنوب ذلك الذنب الذي يستصغره صاحبه ، فلربما تكون هناك كلمة واحدة تسقط الانسان من اعلى عليين الى اسفل سافلين . وفي هذا المجــال يقــول نبينــا الاعظم صلى الله عليه وآله : وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد السنتهم . ([20])


وهذا الكذب يتحول الى عذاب اليم في الدنيا كما يقول تعالى : «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون» (البقرة/10) . ذلك لانهم يعيشون دائماً حالة الخوف والارهاب الذاتي من ان يفتضح أمرهم امام الاخرين ، وهذه الحالة من التردد تقتلهم داخلياً .


الطبيعة المفسدة للمنافق :


ومن ثم يقول ربنا عز وجل : « وإِِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ » (البقرة /11) .


وبناء علـى ذلك فان علاقتهـم بذاتهـم هـي علاقـة انطـواء وتعقيد


وامراض نفسية وعذاب اليم . وهذا في واقع انفسهم ، اما في واقع الطبيعة من حولهم فان حياتهم مليئة بالفساد والافساد .


اما الانسان المؤمن فان طبيعته الصلاح والاصلاح . فهو - مثلاً - عندما يسير في طريق ويرى في هذا الطريق اذى فانه يبــادر الى اماطته عن الطريق ، وديدنه البحث عن طريقة لخدمة المجتمع والاحسان الى الاخرين . وباختصار فان حياته عبارة عن كتلة من العطاء والاحسان والاصلاح . اما الانسان المنافق فانه على العكس من ذلك تماماً من طبيعته نشر الفساد ، حتى تتحول حياته الى سلسلة متصلة من عمليات الافساد . في حين ان الاسلام يأمر بالاصلاح وذلك في قوله تعالى : « وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُـحْسِنِينَ » (الاعراف/56)


فالاسلام انما هو دين الاصلاح ، كما ان المجتمع المسلم النموذجي هو مجتمع مصلح ، وحياته ذات طابع اصلاحي . فالاستهلاك اقل عنده من الانتاج ، ولا يفكر - على سبيل المثال - في ان يستصلح الارض من اجل قوته ، بل هو يفعل ذلك لان الارض التي تبقى بوارا، في حين يمكن لصاحبها ان يزرعها ويعمرها تأتي يوم القيامة شاكية الى الله سبحانه وتعالى صاحبها . في حين ان المنافق على العكس من ذلك تماماً ، ولذلك يقول عز من قائل : « وإِِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * اَلآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ » (البقرة/11-12)

انقلاب المقاييس :


ترى من الذي جعل هؤلاء يزعمون انهم مصلحون ؟


ان المقاييس قد انقلبت عندهم بسبب محاولة خداع الاخرين، واخـذوا


يزعمون ان فسادهم انما هو اصلاح . اما علاقتهم بالناس فهي علاقة التعالي ، ولانها علاقة التعالي والتسفيه والاعتقاد بانهم لا يفهمون شيئاً ؛ فاننا نجدهم لايستفيدون من الاخرين ، ولا يعتبرون بتجاربهم، ولا يتفاعلون مع المجتمع المحيط بهم .. والى هذا المعنى يشير سبحانه في قوله : « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُوا كَمَآ ءامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءامَنَ السُّفَهَآءُ اَلآ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَ يَعْلَمُونَ » (البقرة/13) .


والانسان عندما يتعالى على الاخرين فانه يصنع بينه وبينهم حجابـاً، فلا يستفيد من تجاربهم، ولا من افكارهم .. ولذلك لا تنمو معارفه وتجاربه ، ولا تتكامل نفسه ، فيتحول الى سفيه . في حيـن ان الانسان المؤمن يعترف بالاخرين وبافكارهم وتجاربهم . فالناس المحيطون بنا ليسوا سفهاء ، فقد تكون بصيرتهم ورؤيتهم اكثر وضوحاً من بصيرتنا ورؤيتنا . ومشكلة الانسان هو انه قد يكـون سفيهـاً دون ان يعلم انه سفيـه ، لان الجهل المركب لا يدع صاحبه يفهم شيئاً كما يقـول الشاعـر :


قــال حمـار الحكيـم يومـا لو انصف الدهر كنت اركـــب


فـانـنــي جــاهـل بسـيــط وراكبــي جاهــل مـركـــــب


ثم يقول تعالى مشيراً الى علاقتهـم بـه : « وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءامَنُوْا قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىِءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُـونَ » (البقرة/14-15)


فليس هناك مصدر للخير سوى الله تعالى ، فاذا انغلق هذا المصدر عن الانسان فماذا يبقى له ؟ والله ارحم الراحمين ، ومع ذلك فان هؤلاء يغلقون ابواب الرحمة دون انفسهم الى درجة ان الله جل وعلا يمدهم في طغيانهم فلا يرجى لهم الفلاح أبداً .


الله يستهزء بهم :


وهناك في هذا المجال حديث يفسر هذه الآية يقول : ان الله سبحانه يسهزىء بهم في يوم القيامة ، بعد ان يدخل الصالحين في الجنة . وكما نعلم فان جهنم موضع ضيق ومظلم والناس فيها يقتحم بعضهم البعض وينشب الصراع بينهم ، والمنافقون يدخلون جهنم ايضاً بين الكفار . وبينما هم يعذبون في النار واذا بباب يفتح امامهم في الطرف الاخر فينظرون الى نعيم الجنة فيقومون من مجالسهم باتجاه ذلك الباب ، علماً ان الطريق الذي يوصلهم الى باب الجنة تكمن فيه العقارب والحيات والنيران . وبعد ان يمضي عليهم تسعون عاماً يصلون الى مقربة من ذلك الباب ، واذا به يغلق في وجوههم ، ويفتح لهم باب في الطرف الاخر فيبدؤن بالتحرك في الاتجاه المضاد ، ويبقون


على هذه الحالة ، آلاف السنين !


ثم يقول سبحانه :


« اُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ » (البقرة/16) .


فهم باعوا الهدى واشتروا الضلالة بما فيها من ألم وعذاب في الدنيا، وعذاب عظيم في الاخرة . فنعوذ بالله سبحانه من النفاق . ونعوذ به من غواية الشيطان ، والاستهزاء بآيات الله ، والتعالي على عباده .. ونعوذ به عز وجل من مرض القلب ، ومن ان ترين الذنوب والسيئات على قلوبنا .


احـذروا النفـاق


ومن خصائص القرآن الكريم انه يضرب للناس الأمثال لعلهم يتفكرون في واقعهم ، ويعتبرون بمصير الغابرين ، وبالتالي يفقهون حقائق الأمور .. حتى لا تفوتهم فرصة الهداية ، ولا يغيب عنهم نور الحق .


ومن تلك الأمثـال ما ذكره لنـا القـرآن الكريم عن طائفة من الناس يتيهـون في الصحراء ؛ واذا بالظلمات تلفهم ، والوحشة تهز اعماقهم .. فنراهـم يفتشون عن جذوة نار ، وعندما يوقدون النـار ، واذا بريح صرر تهب عليها فتخمدها ، فلا يعودون يمتلكون ضياء ولا دفأ ؛ كما ذكر ذلك ربنا عز وجل في قوله : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَيُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَيَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءاذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِم ْوَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (البقرة/17-20)


ترى ما هي العلاقة بين هذا المثل وبين المنافق ؟


ان الحياة صحراء ، والشهوات في هذه الحياة ظلام ، واليأس والتردد والقلـق هو بمثابـة البرد في الصحراء . والايمان هو نار ونـور ، ففيه دفء النار ، وضيـاء النـور . وهذا الايمان يتقد لهم ، والله سبحانه وتعالى ينزله عليهم . والبعض من المنافقين ، بل جميع المنافقين إلاّ من شذ وندر تتنور - في لحظة طيبة من لحظات حياتهم - قلوبهم بضياء الايمان ، وتستنير انفسهم بدفئه . ولكن لا تلبث الشهوات وحجب الكفر والعناد والاستكبار ان تطفىء في قلوبهم ضياء الايمان ، فلا يعودون يمتلكون ايماناً ولا دفئـاً ولا نـوراً .


والقرآن الكريم لا يقول مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا بصيغة الجمع ، بل يقول : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً» . لان المنافق يعيش فردا حتى وان كان يعيش ضمن فئة ، والانسان عندما يكون على شكل جماعة في الصحراء فان بعض هذه الجماعة سيؤنس البعض الآخر . اما اذا كان فرداً في صحراء موحشة ، وفي ظلمات بعضها فوق بعض ، وكان محتاجاً الى دفء ، فانه سوف يحـاول بمفـرده ان يحصل على قبس من نـار . ولكن هذا القبس ما يلبث ان يخمد ، ويذهب بأمله .


ولنتدبر هنا في دقائق كلمات القرآن الكريم ؛ انه يقول: « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَيُبْصِرُونَ » . فالملاحظ هنا ان القرآن يأتي مرة بضمير المفرد ، ثم يعود ويأتي بضمير الجمع في نهاية الآية .


ظلمات الشهوات والذنوب :


وهؤلاء المنافقون عندما يذهب الله تعالى بنورهم ؛ اي يذهب بنور الايمان من قلوبهم ، فانه يتركهم في ظلمات لا يبصرون . والظلمات ما هي إلاّ شهوات الانسان ، وذنوبه وحجب الكبرياء والغرور وسائر امراض القلب ، وهي ظلمات بعضها فوق بعض . وقد كان الامل الوحيد لهذا الانسان في التخلص من الظلمات ، هو الله سبحانه وتعالى ، ولكنه تركه جزاء نفاقه .


وقد جاء في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام : ان الله تبارك وتعالى لايوصف بالترك . ([21]) والقرآن الكريم عندما يقول ان الله تركهم في ظلمات لا يبصرون ، فان ذلك لا يعني ان هؤلاء كانوا بأيدي الله ثم تركهم ونبذهم . بل ان معنى الترك في هذه الآية : ان الله عز وجل منع التوفيق عنهم ، واذا ما تركهم الخالق ، فهل هناك من احد يستطيع ان يعطيهم شيئاً ؟


« وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُــوراً فَمَـا لَهُ مِن نُـورٍ » (النور/40) .


فلو انه تبارك وتعالى ذهب بالشمس ، فهل هناك من يأتي بشمس مثلها ؟ وهكذا الحال بالنسبة الى نور الايمان .


السمع اداة الحضارة :


ثم يقول عز وجل ذاكراً حالة اخرى من حالاتهم : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَيَرْجِعُونَ » .


فهناك آذان تسمع ، ولكن بثقل . ولكن اذا كانت الاذن منعدمة السماع كالانسان الذي يولد اصم ، فان هذه الحالة تسمـى بـ (الصمـم) .


والملاحظ في هذا المجال ان السمع جاء في القرآن الكريم مفرداً في اكثر الاحيان ، في حين ان البصر جاء بصورة جمع . والسبب في ذلك ان السمع اقرب الى العقل من البصر ، كما انه اقرب الى الامور المجردة من البصر . فالبصر يرى اشياء يحدد مسافاتها وابعادها والوانها المختلفة ، ولكن السمع يأخذ عادة التجارب ملخصة وموجزة وبشكل كلي ومطلق . ولذلك فان السمع يعتبر اداة الحضارة ، لان الانسان يستطيع ان ينتفع من تجارب الاولين من خلال سمعه ، وحتى القراءة فان الانسان لايمكن ان يعلمها إلاّ بالسمع .


وهكذا فان السمـع الذي هـو بمثابـة الاداة الناقلـة للتجارب ، هــو


اصم بالنسبة الى اولئك المنافقين ؛ اي انهم لايستفيدون من تجارب الاخرين وافكارهم . فقد تجلس لساعات مع شخص وتقدم اليه النصائح ولكنه لا يسمعك بوعي ، في حين ان هناك اذناً تعي وتستوعب وصفها الله سبحانه وتعالى في قوله : « وَتَعِيَهَآ اُذُنٌ وَاعِيَةٌ » (الحاقة/12) . واذا لم تكن هذه الاذن تسمع بوعي ، وتستوعب النصائح والارشادات والانذارات ، فانها ستكون صماء لا تسمع اساساً .


ونحن عادة ما نرى الاطفال الذين يولدون وآذانهم صماء ، فهؤلاء الاطفال لايمكنهم ان يتحدثوا ايضاً ، لانهم لا يسمعون حتى يعرفوا النطق . وعندما يفقد هؤلاء القدرة على سماع واستيعاب تجارب الاخرين ، فان كلماتهم تصبح عديمة الفائدة . فهم صم بكم عمي لاينتفعون من التجارب ، ولايمكنهم ان ينقلوا الى الآخرين تجارب جيدة ، ولايستطيعون ان يستفيدوا بانفسهم من تجارب الحياة ، لانهم صم بكم عمي فهم لايرجعون ؛ اي ان هؤلاء لايمكنهم ان يرجعوا الى الايمان ، والى التقوى . فالانسان قد يذنب ذنبا ثم يتوب ، ومن تاب يجد الله غفوراً رحيماً ، ولكن المنافق لا أمل له بالعـودة .

لنحذر النفاق :


وربـما يزعـم البعض ان المنافقيـن هم فقط اولئك الذيـن يحملـــون


السلاح ضد النظام الاسلامي ، او اولئك الذين حاربوا الامام علي عليه السلام كالقاسطين ، والناكثين ، والمارقين .. صحيح انهم كانوا نماذج واضحة للمنافقين ، ولكننا نحن ايضاً قد نتورط في النفاق . فعندما نستمع الى آيات الذكر الحكيم ، فلابد من ان نضع امامنا هذا الاحتمال ، وهو ان يكون الواحد منا تنطبق عليه هذه الآية في يوم من الايام .


والله سبحانه وتعالى يضرب لنا الامثال لكي لا يصبح الواحد منا منافقاً . وهناك - بالاضاف الى المثل السابق - مثل آخر يذكره تعالى في قوله : « أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي ءاذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِم ْوَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .


وباعتبارنا بعيدين عن الزراعة ، ولا نعرف اهمية المطر ، الا ان المزارع يفهم هذه الحقيقة وهي ان كل زخة مطر تحمل معها بركات السماء . والمزارع عندما يحرث الارض ، ويبذر البذور ، ويتعب نفسه في اصلاح الارض وتسويتها ، والبحث عن السماد ، فانه يفعل كل ذلك ثم يجلس وهو يرقب السماء ، حتى تجود بمطرها . فاذا رأى ان وابلاً من المطر نزل على ارضه فانه يطير فرحاً ، ولا تسعه الارض من السرور .


ولذلك يضرب الله تعالى لنا مثلاً بالصيب من السماء ؛ اي المطر الشديد . ولكن المطر قد لا ينزل بالبركات ، بل قد يكون معه الخوف . فقد يقترن المطر بالرعد ، والبرق ، والظلمات . ولذلك فان اولئك الذين يسكنون في بيوت من طين يحتملون في كل لحظة ان ينهار السقف عليهم ، ولذلك فانهم يجعلون اصابعهم في آذانهم من الصواعق حذرا من الموت .


/ 4