الامــام الباقــر ( عليه السلام )قدوة وأسوة - إمام الباقر قدوه و اسوه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمام الباقر قدوه و اسوه - نسخه متنی

سید محمد تقی المدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



الامــام الباقــر ( عليه السلام )قدوة وأسوة

تمهيــد


الحمد لله رب العالمين - وصلى اللـه على سيدنا محمد وآله الطاهرين - .


في فاتحة الحديث عن الإمام الباقر (ع) ينبغي أن نشير إلى نهجين متنافرين في تقييم حياة الأئمة والنهج القديم بينهما .


فهناك فريق يقيِّمون حياة المعصومين عليهم السلام بمقياس السياسة . ومدى دورهم فيها . ويكاد تفسيرهم لعبادات الأئمة ، وعلومهم ، وأخلاقهم يكون أيضاً بمنظار سياسي .


بينما تجد أغلب المؤرخين لحياتهم عليهم السلام يختصرون حياتهم في حدود فردية ضيقة ، حتى يفصلونها من السياق الزمني لها .


وبين المنهجين حالة وسطى تجعل حياتهم ذات إشعاع فردي يتجاوز حدود الزمان والمكان .. وذات أفق سياسي يتفاعل مع الظرف التاريخي الخاص به ..


بلى . الأئمة هم قدوات البشر ، ونسبة رجال السياسة إلى سائر الناس نسبة ضئيلة ، فلم يكن من المناسب أن يكون كل قدوات البشر في قمة السلطة حتى يكون سلوكهم مناراً لأمثالهم من أصحاب السلطة فقط ، بل كان من المعقول أن يكونوا في مختلف المستويات الإجتماعية حتى تتم حجة اللـه على خلقه بأنفذ ما يكون بلاغاً وقوةً !


ولو كانوا كلهم في قمة السلطة لقال الناس أن مسيرتهم تخص أولي السلطة فحسب فما لنا للدخول في شأن السلاطين .


علــــى أن بعضهم لايزال يحاول التنصل من اتباع الأنبياء والأوصياء والصالحين ، بــزعـــم أنهم ليسوا ببشـــر .. وبالتالي فهو لايمكنه أن يتبع هداهم ، أو يقدر أحدنا أن يتمثل شخصيَّة الملائكة ..


إلاّ أن ما نزل بأنبياء اللـه وأوصياءهم من الضنك والأذى . وما تعرضوا له من السجن والتعذيب والتهجير والخوف وحتى القتل والأسر والتشهيـــــر .. كل ذلك دليل كونهم بشراً أمثالنا ميّزوا بالوحي والعـزم والإعتصام بحبل اللـه ، وقال ربنا سبحانه :


« قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِــــدٌ » (الكهف/110)


وقال :


« قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ


إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » (ابراهيم/11)


ولعل هذه الحكمة كانت أيضاً وراء إذن اللـه سبحانه بتعرض أوليائه لبعض الأذى ، لكي لا يرفعهم الناس إلى مستوى الألوهية فيهلكوا ، ولكي يرفع اللـه به درجاتهم عنده . ولكي لايترك الدينَ البسطاءُ من الناس فراراً من الأذى .


ونحن إذ نشرع في الاستضاءة بسيرة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والعلم السابع من قدوات الأئمة المعصومين عليهم السلام بجوار مقام السيدة زينب في الشام . نسأل اللـه أن يتم نورنا به ويجعلنا من أشد تابعيه تمسّكاً وأحسنهم عاقبة .. إنه ولي التوفيق .

الفصل الأول :الميلاد الميمــون


ولد الإمام الباقر (ع) من والدين علويين هما الإمام السجاد (ع) ، وأم عبد اللـه بنت الإمام الحسن المجتبى (ع) ، وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة . أي في عام 57 من الهجرة . وكان ذلك الثالث من صفر أو العاشر في رجب ، ( في ذلك اختلاف بين الرواة ) . ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنّاً ، إلاّ أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتباعا لأمر رسول اللـه (ص) .


وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عن ذلك وقال : يا ابن رسول اللـه هلا أوصيت إلى أكبر أولادك ؟ قال : يا أبا عبد اللـه ليست الإمامة بالصغر والكبر ، هكذا عهد إلينا رسول اللـه ، وهكذا وجدنا مكتوباً في اللَّوح والصحيفة [1] .


وكانت أمّه - حسبما قال : الإمام الصادق (ع) - صديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها [2] .

النشأة الطيبة :


عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات ، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلت في حياة السبط الشهيد ، ولا ريب أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها على نفسية الإمام الباقر (ع) الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة .. لأنه - حسب بعض الرواة - كان ممن حضرها مع سائر ابناء الأسرة الهاشمية .


وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام (19) سنة و (60) يوماً في ظل والده سيد الساجدين [3] ، حيث كانت حياته الكريمة مثلاً أعلى للصبغة الربانية ، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلى اللـه .. حتى اليوم .


ومنذ باكورة حياته المباركة تجلت فيه ملامح الإمامة . وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال : كنا عند جابر بن عبد اللـه فأتاه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبي ، فضمه جابر إليه فقال علي لابنه : قبّل رأس عمك فدنا محمد من جابر فقبل رأسه ، فقال جابر : من هذا ؟وكان قد كفّ بصره - فقال له علي : هذا ابني محمد فضمه جابر إليه وقال : يا محمد ! محمد


رسول اللـه (ص) يقرأ عليك السلام ، فقالوا لجابر : كيف ذلك يا ابا عبد اللـه ؟


فقال : كنت مع رسول اللـه (ص) والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال :


يا جابر يولد لابني الحسين ابن يقال له علي إذا كان - يوم القيامة - نادى مناد ليقم سيد العابدين ، فيقوم علي بن الحسين ، ويولد لعلي ابن يقال له محمد ، يا جابر إن رأيته فاقرأه مني السلام واعلم أن بقاءك بعد رؤيته يسير . فلم يعش ( جابر ) بعد ذلك إلاّ قليلاً ومات . [4] وبعد والده اضطلع بمقام الإمامة العامة .

الإمامة وعلم الأنبياء :


عندما آلت شمس بني أمية إلى المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة .. وجد الإمام الباقر (ع) فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت (ع) من رسول اللـه ..


في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلى معارف القرآن ، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات ، فعلى أي أساس نقيم هذا المجتمع الجديد .. وماهي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول ..


بالأمس نشر الإمام السجاد (ع) راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته . وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام .


أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست ، ويأتي الإمام الباقر (ع) ليبني عليها صرح المعارف . ويكمله الإمام الصادق (ع) ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه ..


ماهي المعارف التي نشرها الإمام الباقر (ع) وكيف استطاع إليها سبيلاً ؟


قد يسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلى القواعد العامة . وقد ننطلق من تلك القواعد إلى المفردات الجزئية . وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم ، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي ، ومن هنا جاء في الحكمة المأثورة : العلم نقطة كثَّرها الجاهلون .


والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام ، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي ، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهج بالإيمان والإلهام في افئدة العارفين باللـه .. ذلك العقل الذي أوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله اللـه لنبيِّه وأوصياء نبيّه . وإن توهج نور العقل عند أبناء البشر . وتجليــــه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص ، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهــم . وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار ..


كل ذلك يهدينا إلى معنى العلم الكوني الذي يلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه .. وجاء في الحديث الشريف : العلم نور يقذفه اللـه في قلب من يشاء .


وترى بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة ، والمحدثين من فقهاء الأمة .. يستشهد بقول اللـه سبحانه : « وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ » (الانعام/59)


وقوله : « قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللـه » (النمل/65)


حقّاً إذا كان مراد هؤلاء أن الإنسان لايعلم الغيب بصفة ذاتية ، فإنه حق لاريب فيه ، ولكن : إذا أرادوا أنَّ اللـه لايقدر على تعليم الغيب لبعضهم ، نقول : بلى هو قادر ، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل ، فمثلاً أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لاريب فيها . وان اللـه يبعث من في القبور . وأن الشمس تشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم ؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم ، والهدف الأساسي منه ؟


واللـه سبحانه علّم الإنسان مالا يعلم ، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده .. وقد قال ربنا سبحانه : « عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً » (الجن/26-27)


وقال : « وَمَا كَانَ اللـه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللـه يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِاللـه وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » (آل عمران/179)


وقال : « ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ » (آل عمران/44)


وأخيراً : إن هؤلاء شككوا في مدى علم الأنبياء والأوصياء ، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة ، فهم ينطلقون في تكذيب هذا المدى من العلم من ذات المنطلق الذي كذب الأولون بالنبوة ، وهو الجهل بالمقام الذي جعل للإنسان الذي يتوجه إلى اللـه ويخلص له وجهه ، بيد أن هؤلاء اضطروا إلى الإعتراف بالنبوة ، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلى أقل قدر ممكن ، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أنى استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلى الأوصياء فنفوا كرامتهم على اللـه ، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً ، وإذا أنصفوا أنفسهم وأنصفوا للحق لما وجدوا مانعاً عقلياً من الإعتراف بذلك ، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهــــم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصب أعمى أو أحكام مسبقـــــة .


وقد ابتلى الإمام الباقر (ع) ، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام بنمطين متنافرين من الناس ، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه ، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم .


من النمط الأول كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب على الإمام الباقر (ع) ، حتى قال عنه الإمام لبعض أصحابه ( سليمان اللَّبان ) : أتدري ما مثل المغيرة بن سعيد :


قال قلت : لا .


قال : مثله مثل بلعم الذي أوتي الاسم الأعظم الذي قال اللـه « ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ » . (الاعراف/175) [5]


أما النمط الثاني فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون ، وكرامته على اللـه ، واستجابة اللـه دعاءه في الأمور !!


فهؤلاء لاينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط ، بل ويرون أنها من المستحيلات ، لماذا ؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء اللـه وأوليائه عليهم صلوات اللـه ومعرفة كرامتهم على اللـه . ولو كانوا يتفكرون في خلق الإنسان وكيف استخلفه اللـه في الأرض ، وسخر له ما فيها بما آتاه من علم وقدرة ، لعرفوا أن من حكمة اللـه سبحانه أن يفضل بعض الناس على بعض في العلم ، وليهب لمن أطاعه وأخلص له المزيد من المعرفة سواء عبر الوحي كالرسل أو عبر الإلهام ، كما فعل بأوصياء الرسل .


ثم إن ما أوحى به اللـه من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلاّ من امتحن اللـه قلبه بالإيمان ، لأنه نور اللـه الذي يشع من مشكاة النبوة . إنه ذكر اللـه الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه :


« اللـه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ » (النور/35) .


قال : « فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللـه أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللـه » (النور/36-37) .


ثم قال : « وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللـه لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ » (النور/40) .


هكذا نور اللـه الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان ، فإذا به يعرف علما يسخر به كل شيء من حوله ، إنه لو سلب منه ترى ماذا يبقى له ؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً . فلو اجتمعت البشرية وحاولوا إعادة مجنون إلى رشده . أو شيخ مخرف إلى سابق علم ، أو تعليم هرة دروس الرياضيات ، هل استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ؟ كلا .. فلماذا ينكرون على اللـه الذي منح البشر هذا النور أن يكون قادراً على مضاعفته لخيرة عباده ؟


هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن اللـه في خلقه ، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب .


وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لايخرج من دائرة هذه السنن أيضاً ، فإما أنَّه مستوحىً من الوحي أو بالإلهام .


ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية :


أولاً : العلم من كتاب اللـه . بالتدبر فيه وتأويل آياته على الحقائق والوقائع . أليس في القرآن علم ما كــــان وما يكون ، وفصل ما هو كائن ، ومن أولى بكتاب اللـه ممن أنزل في بيوتهم وزقوا علمه مع اللبن زقــاً .


وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوله بالقرآن ، عظيمي الإحترام له ، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة ، وربما في كل يوم ، وكانوا يقولون أنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قرائته حتى أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة ، فقد قال الإمام الصادق (ع) - فيما روي عنه - :


واللـه إني - أعلم ما في السماوات وأعلم ما في الأرض وأعلم ما في الدنيا وأعلم ما في الآخرة - .


فرأى تغير جماعة - فقال وهو يخاطب بكير بن أعين :


يا بكير إني لأعلم ذلك من كتاب اللـه تعالى إذ يقول : « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ » [6]


ثانيا : أحاديث الرسول (ص) والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلى الإمام أمير المؤمنين ، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم االسلام جميعاً.


فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لجابر بن عبد اللـه :


يا جابر إنّا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللـه كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم [7] .


ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلى رسول اللـه . وورثها أهل بيته (ع) . ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم .


حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن عندي الجفر الأبيض .


فلما سأله الرواي وأي شيء فيه ؟ قال :


زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ، ما أزعم أن فيه قرآناً ، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ، ولا نحتاج إلى أحد ، حتى أن فيه الْجُلدة ونصف الْجَلدة وثُلث الْجَلدة وربع الْجَلدة وأَرشُ الخدش ، الحديث [8] .


وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي .


منها مصحف فاطمة وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين (ع) في صحيفة ، وحسب ما جاء في رواية أن فيه ما يكون من حوادث وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة [9] .


كمـــا أن من تراثهم كتاب يسمى بالجامعة ، وهو من إملاء رسول اللـه (ص) وكتابة أميـر المؤمنيــــن (ع)


طوله سبعون ذراعاً وفيه أحكام الشريعة كلها .


هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد اللـه الصادق (ع) قال :


سمعته يقول وذكَّر ابن بسترمه في مسألة أفتى بها : أين هو من الجامعة إملاء رسول اللـه بخط علي فيها جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش [10] .


وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر ، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً على أنه وصيه . لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر (ع) أن والده الإمام السجاد (ع) التفت إلى ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي ابنه . فقال :


يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ثم قال .. أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءاً علماً .


ونتساءل : كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعا؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً على أصول العلم ومعاقله وضيائه ، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم . كما علَّم النبي (ص) الإمام علياً (ع) أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة ، حيث جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) : أوصى رسول اللـه إلى علي بألف كلمة يفتح كل كلمة ألـــف كلمـــة [11] .


وفي تعبير آخر جاء على لسان الإمام الباقر (ع) عن جده أمير المؤمنين أنه قال : لقد علمني رسول اللـه ألف باب يفتح كل باب ألف باب [12] .


وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصــــول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرســــول (ص) ، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر (ع) أنه قال :


إن رسول اللـه أنال في الناس وأنال وأنال ، وإنَّا أهل بيت عندنا معاقل العلم ، وأبواب الحكم ، وضياء الأمر .. .


وفــي حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن رسول اللـه قد أنال في الناس وأنــال وأنــــال ، - يشير كذا وكذا - وعندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه [13] .

علم الإلهام :


إذا كـــان العلــــم نور اللـه يقذفه في قلب من يشــــاء فما الذي يمنع عن قذف نــــور العلم في قلب أوليائــــه ،


هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام ، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند اللـه .


كذلك روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع ، قال : أما الغابر فما تقدم من علمنا ، وأما المزبور فما يأتينا ، وأما النكث في القلوب فإلهام ، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك .


وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف : قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لايرى الشخص قال ..


إنه يلقــــى عليه السكينة فيعلم أنه من الملك ، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع . وإن كان الشيطـان - يأزره - لايتعرض لصد هذا الأمر [14] .


وعلم الإمام الباقر (ع) - كما سائر أئمة الهدى انبعث من هذه الروافد ، فلم يكن غريباً ، ما أظهر اللـه على لسانه من معارف الدين حتى قال الشيخ المفيد ( قدس سره ). لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه [15] .


من هنا ترى عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير ، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة عن الحكم بن عتيبة ( وكان من كبار فقهاء عصره ) أنه قال في تفسير قوله تعالى : « إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (الحجر/75) .


قال : كان واللـه محمد بن علي منهم [16] .


وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه ، فقال اذهب إلى ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك ، وأشار إلى الباقر (ع) فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال : إنهم أهل بيت مفهمون [17] .


والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر ، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند اللـه يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام .


ولذلك ترى من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتى روي عن عبد اللـه بن عطاء أنه قال : ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (ع) ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه [18] .


وقد روى عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث ، أما جابر الجعفي فقد قال : حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً [19] .


ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسنى للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلى جادة الصواب ، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات ، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة على ما وراءها من الحجج البالغة .


1- لقد كان عبد اللـه بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (ع) وأهل بيته ، وكان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه ، فقيل له ولا ولده ، فقال أفي ولده عالم فقيل له هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم ؟ قال فمن عالمهم اليــوم ؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي ، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر فقيل له هذا عبد اللـه بن نافع ، قال : وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار ، فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك ، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه ، فقال له أبو جعفر : أتراه جاءني مناظراً ؟. قال : نعم !. قال : يا غلام ، اخرجْ فحط رحله ، وقل له إذا كان الغد فائتنا ، فلما أصبح عبد اللـه بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد اللـه وأثنى عليه وصلى على رسوله (ص) ثم قال : الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته ، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث ، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد اللـه أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين حتى انتهوا إلى حديث خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللـه ورسوله ويحبه اللـه ورسوله ، كرّاراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح اللـه علي يديه فقال أبو جعفر (ع) ما تقول في هذا الحديث ؟ قال : هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد ، فقال له أبو جعفر : ثكلتك أمك ، أخبرني عن اللـه عزَّ وجلَّ أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم ، فإن قلت لا كفرت ، فقال : قد علم ، قال : فأحبه اللـه على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته ، فقال : على أن يعمل بطاعته ، فقال له أبو جعفر : فقم مخصوماً ، فقام وهو يقول حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، اللـه أعلم حيث يجعل رسالته [20] .


2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلى رؤية الإمام الباقر (ع) ومناظرته ، حيث كانت المدينــــة المنـورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهيــــة ، ولذلك فقد انتشر علم الإمـــام إلـــى


كل الآفاق ..


من هنا جاء قتادة إلى المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام : أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال : نعم ، فقال : ويحك يا قتادة إن اللـه عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً عى خلقه فهم أوتاد في أرضه ، قوام بأمره ، نجباء في علمه ، اصطفاهم قبل خلقه ، أظلةً عن يمين عرشه . فسكت قتادة طويلاً ثم قال : أصلحك اللـه ، واللـه لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك ، فقال له أبو جعفر : أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن اللـه أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللـه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأنت ثم ونحن أولئك . فقال له قتادة : صدقت واللـه جعلني اللـه فداك ماهي بيوت حجارة ولا طين ، قال : فأخبرني عن الجبن ، فتبسم أبو جعفر وقال : رجعت مسائلك إلى هذا ، قال : ضلت عني ، فقال : لا بأس به ، فقال : إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت ، قال : ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم ، إنما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة ؟ قال قتادة : لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر : ولِمَ ؟ قال : لأنها من الميتة ، قال له : فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها ؟ قال : نعم قال : فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة ، ثم قال : فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه [21] .


3- وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتى سمي باقراً ، فقد جاء في لسان العرب أنَّه لقب به ( أي بالباقر) لأنه بقر العلم ، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه . والتبقر التوسع [22] .


وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة : سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف ، وحقائق الأحكام والحكم ، ولطائف مالا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه[23] .


وقد أفاض الإمام على المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية ، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار وآخرين .


كمــــا أنه نشر العلم عبر من روى عنه من علماء عصره من أمثال : ابن المبارك ، والزهري ، والأوزاعـي . وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والبطري والبلاذري والسلامي


والخطيب وغيرهم [24] .


وكان الولاة يجأرون إلى أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة ، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم .


من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال :


دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في ( إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً ، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال : هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة ؟ قلت يا سيدي هو عبد الملك بن مروان ! قال : فما كان السبب في ذلك ؟ قلت : لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة ! فقال : سأخبرك : كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية ، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً ، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية ففعل ذلك ، فأنكره وقال : ما أغلظ هذا في الدين والإسلام ، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب ، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها ، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك ، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و « شَهِدَ اللـه أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ » (آل عمران/18) ، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير ، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل ، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى بلاد الروم ، أنتشر خبرها ووصل إلى ملكهم ، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك : إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته ، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا ، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت ، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق ، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر ، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية ، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال : إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي ، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً ، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية ، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول : إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة ، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً ، فأحب أن تقبل هديتي ، وترد الطراز إلى ما كان عليه ، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك ، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال : أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول اللـه (ص) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب ، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم ، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به ، فقال له روح بن زنباع : إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه ، قال ويحك من ؟ قال : الباقر من أهل بيت النبي (ص) قال : صدقت ولكن أُرتج عليّ الراي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكّرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه ، واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليه ، فلما وافى أخبره الخبر فقال له الباقر (ع) :


لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين :


( احداهما ) أن اللـه عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول اللـه (ص) .


( والأخرى ) وجود الحيلة فيه ، قال : وماهي ؟ قال : تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير ، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول اللـه (ص) ، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان ، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ، وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية ( نوش خر ) أي كل هنيئاً ، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس .


ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام ، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها ، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ، ويقول : إن اللـه عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية ، فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال : إنما اردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال . وثبت ما اشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم ثم رمى يعني الرشيد بالدرهم إلى بعض الخدم [25] .


إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة ، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل ، إنه كان وراء إرشاده إلى السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم .


وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق ، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم .


وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن اللـه ، وبالتوسم بنور اللـه وبتأييد ملائكة اللـه .


وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (ع) بالذات .


فقد روى الحلبي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : دخل الناس على أبي ( الإمام الباقر ) وقالوا : ما حد الإمام ؟ قال : حده عظيم ، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء ، وعليه أن يهديكم ، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً ، لأن رسول اللـه (ص) كذلك كان ، وكذلك يكون الإمام ، قالوا : فيعرف شيعته ؟ قال : نعم ساعة يراهم ، قالوا : فنحن لك شيعة ؟ قال : نعم كلكم قالوا : أخبرنا بعلامة ذلك قال : أخبركم باسماءكم وأسماء آبائكم وقبائلكم ؟ قالــوا : أخبرنا ، فأخبرهم ، قالوا : صدقت ، ( قال : ) وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالى: « كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ » (ابراهيم/24) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا ، ثم قال : يقنعكم ؟ قالوا : في دون هذا نقنع [26] .


وينقل عبد اللـه بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة ، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلى الإمام الباقر (ع) ، فلم يأبه بها الإمام لأن اللـه أطلعه على أنه معزول قريبا ، يقول سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (ع) أنه كان على المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وماعنده أحد من الناس ، فقال : يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك ، وإني قد علمت أنه لايبلغ عني غيرك ، فأحببت أن تلقى عمَّيـْك محمد بن علي وزيد بن الحسين (ع) وتقول لهما : يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما ، أو لتنكران ، فخرجت متوجهاً إلى ابي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلى المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال : بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال : القَ عمَّيك فقل لهما كذا ؟ قال : أخبرني ابو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً ، ثم قال : يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد ، فإنه معزول ومنفي إلى بلاد مصر واللـه ما أنا بساحر ولا كاهن ، ولكني أتيت وحدثت ، قال : فواللـه ما أتى عليه اليوم الثاني حتى ورد عليه عزله ونفيه إلى مصر وولي المدينة غيره [27] .


أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (ع) يراقبه ويؤدبه يقول :


كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء ، فلما دخلت على أبي جعفر عاتبني وقال : من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ اللـه به ، أي شيء قلت للمرأة ؟ فغطيت وجهي حياءً وتبت فقال أبو جعفر : لا تعد [28] .


ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول : كنت مع الباقر في مسجد رسول اللـه (ص) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (ع) إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلى ولد العباس ، وما قعد إلى الباقر إلاّ داود فقال الباقر (ع) : ما منع الدوانيقي أن يأتي ؟ قال : فيه جفاء ، قال الباقر (ع) : تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال ، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال مالم يجتمع لأحد قبله ، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال : ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود ؟ فقال : هو كائن ، قال : وملكنا قبل ملككم ؟ قال : نعم ، قال : يملك بعدي أحد من ولدي ؟ قال : نعم ، قال : فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا ؟ قال : مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة ، هذا ما عهده إليّ أبي ، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (ع) [29] .

خصال الإمام :


لا يختار اللـه عبداً لمقام الإمامة . ويجعله حجة بالغة على خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة . وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية اللـه وتوقيره . وتعظيمه وتجليله . وإخلاص العبودية له والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله . فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً .


وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (ع) الحميدة ، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام ، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها ، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها . أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة ، كلا .. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم ، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم ، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه ، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة ، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم ، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (ع) .


وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها .


قال : ابن شهراشوب في المناقب : كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة ، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعــف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام ، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا ، وكان كثير الذكر ، كان يمشي وإنه ليذكر اللـه ويأكل الطعام وإنه ليذكر اللـه ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر اللـه ، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر ، ويأتي قول المفيد : وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله ، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف ، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه ، وكان إذا ضحك قال : اللـهم لا تمقتني . وقال الأبي في كتاب نثر الدرر : كان إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول : سموهم بأحسن أسمائهم [30] .


وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت : الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر [31] .


وكان من شدة خشوعه ما يذكره ( أفلح ) مولى أبي جعفر أنه قال : خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فقلت : بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً [32] فقال لي : ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل اللـه تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفــــــــــوز بها عنده غداً ، قال ( أفلح ) ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه مـن سجــــوده فــإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائـــلاً : كـــان إذا ضحك قال : اللـهـــــم


لا تمقتنــــي [33] .


ويقول نجلُه الإمام الصادق (ع) وهو يصف تبتل والده إلى اللـه : كان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر اللـه ، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر اللـه ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر اللـه . وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا اللـه إلاّ اللـه ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر [34] .


ويقول الإمام الصادق (ع) :


إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي . وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللـهم أنت ربي حقاً حقاً ، سجدت لك تعبداً ورقاً ، اللـهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي ، اللـهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم [35] .


وكان (ع) شديد الحب لكتاب ربه ، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته ، حتى أن أبان بن ميمون القداح قال : قال لي أبو جعفر (ع) : إقرأ . قلت : من أي شيء أقرا ؟. قال : من السورة التاسعة ؟ قال : فجمعت ارتمسها فقال : اقرأ من سورة يونس فقال .. قرأت « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ » (يونس/26) قال : حسبك ، قال : قال رسول اللـه (ص) : إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن [36] .


وكان يستلهم من كتــــاب ربه معارف الدين حتى أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن ، هكذا يروي أبو الجارود قال : قال أبو جعفر (ع) : إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب اللـه . ثم قال : حتى حديثه أن اللـه نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال : فقالوا يابن رسول اللـه وأين هذا من كتاب اللـه ؟ فقال : إن اللـه عزّ وجلّ يقول في كتابه : « لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ » (النساء/114) وقال : « وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللـه لَكُمْ قِيَاماً » (النساء/5) وقال : « لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » (المائدة/101) [37] .


وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل باللـه ، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقــــر (ع) كيــــف أصبحــــت : قــــال : أصبحنــــا غرقى في النعمـة ، موتورين بالذنوب ، يتحبب إلينا إلهنــــا


بالنعم ، ونتمقت إليه بالمعاصي ، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا [38] .


وكان (ع) شديد التسليم لأمر اللـه فقد روى بعض أصحابه أنه قال : كان قوم أتوا أبا جعفر (ع) : فوافَوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ( قال ) فقالوا : واللـه لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نرى منه ما نكره ، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللـه فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع ان نرى منك ما يغمنا ، فقال لهم : إنا لنحب أن نعافى في من نحب ، فإذا جاء أمر اللـه سلمنا فيما يحب [39] .


وكان (ع) لا يلويه عن العمل الصالح شيء . وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول : - حضر أبو جعفر (ع) جنازة رجل من قريش وأنا معه ، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن ، قال : فلم تسكت فرجع عطاء قال : فقلت لأبي جعفر (ع) إن عطاء قد يرجع ، قال : ولِمَ ؟ قلت : صرخت هذه الصارخة فقال لها : لتسكتن أو لنرجعن ؟ فلم تسكت فرجع ، فقال : إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم ، قال : فلما صلى على الجنازة قال وليها لأبي جعفر : إرجع مأجوراً رحمك اللـه فإنك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال فقلت له : قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها ، فقال : إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع ، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك [40] .


أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب ، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول : كنت زميل أبي جعفر (ع) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه ، وصافح ، قال : وكان إذا أنزل نزل قبلي ، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه ، فقلت يابن رسول اللـه إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا ، وإن فعل مرة لكثير ، فقال :


أما علمت ما في المصافحة ، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر واللـه ينظر إليهما حتى يفترقان [41] .


وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً ، وكان يعفو عن السيئة أنى استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس ، فقد قال له نصراني يوماً : أنت بقر قال : لا أنا باقر قال : أنت ابن الطباخة ( يريد تعييره بها ) قال : تلك حرفتها ، قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية ؟ قال : إن كنت صدقت غفر اللـه لها ، وإن كنت كذبت غفر اللـه لك ، فانبهر النصراني بأخلاقه ، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديــه [42] .


وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق ، وقد روي عن نجله الإمام الصادق (ع) أنه قال :


إذا استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه ، قال : وإن كان أبي ( الإمام الباقـــر عليه السلام ) ليأمرهم فيقول كما أنتم ، فيأتي فينظر ، فإن كان ثقيلاً قال باسم اللـه ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً تنحى عنهم [43] .


وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة ، حيث كان الأئمة (ع) يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلى اللـه .


في ذلك يروي أبو عبد اللـه الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن اعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء يعظك ؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ على غلامين له أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أشهد لأعظنه ، فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً ، فقلت أصلحك اللـه يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال ؟ قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند وقال : لو جاءني واللـه الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللـه تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللـه ، فقلت : يرحمك اللـه أردت أن أعظك فوعظتني [44] .


وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه ، إلاّ أنه أحب أن يراه اللـه كاداً في سبيل إعاشة عياله .


ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (ع) يقول :


أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمســـــك خيارهم . فقلت : يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء ؟ فقال : إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا [45] .


هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة ، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد .. فسلام اللـه عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً .


الفصل الثاني : الامــام وعصــره


من خلال مراجعة سريعة لعصر الإمام الباقر (ع) نعرف أن هدوءاً غاضباً كان يسوده قبل أن تهدر العاصفة الثائرة ، التي أطاحت بالحكم الأموي بعد وفاة الإمام الباقر (ع) ، وحملت إلى الساحة النظام العباسي في عهد الإمام الصادق (ع) .


ومن خلال الشواهد التي نستوحيها من قصص حياته (ع) نتلمس ملامح ذلك العصر .. وكيف أن إرهاصات العاصفة كانت ظاهرة هنا وهناك .


أولاً : الشاهد الأول ظاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي الذي قاد ثورةً إصلاحية من قمة هرم فمع النجاح الجزئي الذي كسبه هذا الخليفة . إلاّ أنه لم ينجح لسببين :


الأول : لأنه جاء متأخراً جّداً إذ أن الفرق الإسلامية التي تبنت معارضة الحكم الأموي كانت راسخة الجذور في الأمة .. ولم تكن تنخدع بهذه اللعبــــــة السياسيــة . وفي طليعتها شيعة أهل البيت عليهم السلام ، الذين كان وعيهم بالسياسة إلى درجة لم يكن بإمكان ابن عبد العزيز أو عبد اللـه المأمون أن يؤثرا فيهم ، وذلك بفضل ثقافتهم القرآنية . وتوعية الائمة بحقائق الإسلام . ومن أبرزها أن الحكم ليس بالوراثة أو القوة ، وانما هو بأمر الدين ، فها هو الإمام الباقر (ع) يقول لأصحابه أن أهل السماء يلعنون عمر بن عبد العزيز - وذلك حتى قبل توليه السلطة - لنستمع إلى الحديث التالي :


روى أبو بصير قال : كنت مع الباقر في المسجد إذ دخل عمر بن عبد العزيز ، وعليه ثوبان ممصران متكئاً على مولى له ، فقال :


لَيَلِيَنَّ هــذا الغلام فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثم يموت فيبكي عليه أهل الارض ويلعنه أهل السماء ، قال : يجلس في مجلس لا حق له فيه ، ثم ملك وأظهر العدل جهده [46] .


هكذا يعتبره الإمام ملعوناً لأنه قد جلس في مقام الخلافة الذي لا يحق له الجلوس فيه أبداً .


صحيح أن ابن عبد العزيز أعاد فدكاً إلى البيت العلوي ، وكانت فدك رمزاً لظلامة أهل البيت ، وكان ردها دليلاً عند الناس على صدق مذهبهم .


إلاّ إن الأئمـــــة لم يعبأوا بذلك ولم يعتبروه كافيــاً لحسن سلوك النظــــام ، لأن النظام كان اساسه باطـــــلاً ،


وكانت حركة الأئمة تستهدف إصلاح المجتمع من جذوره كما يفعل الأنبياء (ع) .


والحديث التالي يكشف عن طريقة تفكير طليعة الأمة فيما يتعلق بنظام عمر بن عبد العزيز ، دعنا نستمع إليه .


فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان أن أوفد إليّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهــم عن سيرتك ، فجمعهم عامله وقال لهم ذلك ، فاعتذروا وقالوا إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته ، وعدله لا يقتضي إجبارنا ، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده ، ولساننا لديه ، فقوله قولنــــا ، ورأيه رأينا فأوفد به العامل إليه ، فلما دخل عليه سلم وجلس ، فقال له : أخل لي المجلس ، فقال له : ولم ذلك ؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك ، أو تقول باطلاً فيكذبوك فقال له : ليس من أجلي اريد خلو المجلس ، ولكن من أجلك ، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه .


فأمر بإخراج أهل المجلس ثم قال له : قل ! فقال : أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك ؟ فسكت طويلاً فقال لــــه : ألا تقول ؟ فقال : لا ، فقال : ولم ؟ فقال له : إن قلت بنص من اللـه ورسوله كنت كاذبـاً ، وأن قلت بإجماع المسلمين ، قلت فنحن أهل بلاد المشرق ولم نعلم بذلك ، ولم نجمع عليه ، وإن قلت بالميراث من آبائي ، قلت بنو أبيك كثير فلِمَ تفردت به دونهم ؟ فقال له : الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك ، أفأرجع إلى بلادي ؟ فقال : لا فواللـه إنك لواعظ قط فقل ما عندك بعد ذلك فقال له : رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين ، وعلمت من نفسي أني لا استحل ذلك ، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت ، فقال له : أخبرني لولم تل هذا الأمر ووليه غيرك ، وفعل ما فعل من كان قبله ، أكان يلزمك من إثمه شيء ؟ فقال : لا ، فقال له : فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك ، وسلامته بخطرك فقال له : إنك لواعظ قط ، فقام ليخرج ثم قال له : واللـه لقد هلك أولنا بأولكم وأوسطنا بأوسطكم ، وسيهلك آخرنا بآخركم ، واللـه المستعان عليكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .


وموقف الإمام من عمر بن عبد العزيز كان انتهاز الفرصة المؤاتية لتبليغ الرسالة ونصيحة الولاة ، ويصحح ما يمكن تصحيحه من أوضاع الأمة دون الإعتراف بشرعية النظام بالجملة ، وفيما يلي نقرأ حديثاً يصف دخول الإمام عليه ونصيحته له :


يروي هشام بن معاذ ويقول : كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز حيث دخل المدينة ، فأمر مناديه فنادى من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب ، فأتى محمد بن علي يعني الباقر (ع) فدخل إليه مولاه مزاحم فقال : إن محمد بن علي بالباب ، فقال له : أدخله يا مزاحم ، قال : فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع فقال له محمد بن علي :


ما أبكاك يا عمر ؟ فقال هشام : أبكاني كذا وكذا يا ابن رسول اللـه ، فقال محمد بن علي (ع) : يا عمر إنما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم ، ومنها خرجوا بما يضرهم ، وكم من قوم قد غرتهم بمثل الذي أصبحنا فيه ، حتى أتاهم الموت فاستوعبوا ، فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا مما كرهوا جنة ، قسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن واللـه محقوقون ، إن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها ، فنوافقهم فيها ، وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوف عليهم منها ، فنكف عنها .


فاتـــق اللـه واجعل في قلبك اثنتين ، تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدِّمه بين يديك ، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك فابتغ به البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ، ترجو أن تجوز عنك ، واتق اللـه يا عمر وافتح الأبواب وسهِّل الحجاب ، وانصر المظلوم ورد المظالم . ثم قال : ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان باللـه ، فجثا عمر على ركبتيه وقال : إيه يا أهل النبوة فقال : نعم يا عمر من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ، فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب : بسم اللـه الرحمن الرحيم ، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي (ع) فدك .


ثانياً : يبدو أن بني أمية كانوا يتجنبون قتل أبناء علي (ع) بصورة ظاهرة ، للآثار السلبية التي خلفتها عليهم واقعة الطف ، وكان الأئمة بدورهم لا يجدون الظروف مؤاتية للقيام بنهضة دموية . والقصة التالية التي يذكرها الرواة تشهد بذلك ، فبعد أن نازع زيد بن الحسن الإمام الباقر في ميراث رسول اللـه استنجد بالخليفة الأموي ( عبد الملك بن مروان ) ودخل عليه وقال له : أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه . فكتب عبد الملك كتاباً إلى واليه على المدينة أن يبعث إليه محمد بن علي مقيداً ، وقال لزيد : أرأيتك إن وليتك قتله قتلته ؟ قال : نعم .


ولكن عامله على المدينة استدرك الأمر وكتب إلى الخليفة : إن الرجل الذي أردته لا يوجد اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه ، وإنه ليقرأ في محرابه فيجتمع الطير والسباع تعجباً لصوته ، وإن قراءته وكتبه مزامير داود ، وإنه من أعلم الناس ، وارق الناس ، وأشد الناس اجتهاداً وعبادةً ، وأضاف في كتابــه : وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له ، فإن اللـه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهـم ..


وهكذا تراجع عبد الملك مما بدر منه . وبعد أن اكتشف كذب زيد بن الحسن أخذه وقيَّده وهيَّـأه ، وقال له : لولا أني أريد أن لا أبتلى بدم أحد منكم لقتلتك . ثم كتب إلى الإمام الباقر (ع) بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه [47] .


من هذه القصة نعرف أن ملوك بني أمية كانوا يتجنبون ما أمكنهم قتل أولاد علي (ع) بصورة ظاهرة .


ثالثاً : كانت المعارضـــة العلنية لحكم بني أميــــة أصبحت معروفة ، ويـــــروي التاريخ بعض النماذج منهـــا ونذكر فيما يلي اثنين منها :


1- يحكي الديلمي قصة طريفة في كتابه إعلام الدين يقول :


قال رجل لعبد الملك بن مروان أُناظرك وأنا آمن ، قال : نعم ، فقال : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك أبنص من اللـه ورسوله ؟ قال : لا ، قال : اجتمعت الأمة فترضّوا بك ؟ قال : لا ، فقال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فرضوا بها ؟ قال : لا ، قال : فاختارك أهل الشورى ؟ قال : لا ، قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بغيثهم ، دونهم ؟ قال : بلى ، قال : فبأي شيء سُميت أمير المؤمنين ؟ ولم يؤمرك اللـه ورسوله ولا المسلمون ، قال له أخرج عن بلادي وإلاّ قتلتك ، قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثم خرج عنه [48] .


2- وقصة أخرى ينقلها الشيخ الطوسي في أماليه عن الشيخ المفيد عن الثمالي قال :


حدثني من حضر عبد الملك بن مروان وهو يخطب الناس بمكة ، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته ، قام إليه رجل فقال له : مهلاً مهلاً ، إنكم تأمرون ولا تأتمرون ، وتنهون ولاتنتهون ، وتعظون ولا تتعظون ، أفاقتداء بسيرتكم أم طاعة لأمركم ؟ فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا فكيف يقتدى بسيرة الظالمين ، ومــا الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال اللـه دولاً ، وجعلوا عباد اللـه خولاً ، وإن قلتم أطيعوا أمرنا ، واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه ؟ أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، واقبلوا العظة ممن سمعتموها ، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات وأعرف بوجوه اللغات منكم ، فتزحزحوا عنها وأطلقوا أقفالها وخلّوا سبيلها ، ينتدب لها الذين شردتهم في البلاد ، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد ، فواللـه ما قلدناكم أزمة أمورنا ، وحكمناكم في أموالنا وابداننا وأدياننا ، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين ، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة وبلوغ الغاية وتمام المحنة ، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه ، وكتاب لابدّ أن يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال : فقام إليه بعض أصحابه المسالح ، فقبض عليه ، وكان آخر عهدنا به ، ولا ندري ما كانت حاله [49] .


رابعاً : خروج الإمام إلى الشام .


إن حادثة استدعاء هشام بن عبد الملك الإمام الباقر (ع) من المدينة إلى الشام ، تكشف عن طبيعة علاقة الإمام بالسلطة السياسية ، وما كان يعانيه منها ، وكيف كان يتحداها ، ونحن إذ نثبت نصّاً تاريخياً فيها ندع للقارئ فرصة التأمل فيها ، على أن النصوص مختلفة في تفاصيل هذه الواقعة وإنما نذكر أكثرها تفصيلاً بإذن اللـه .


وقـــد حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علــــي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهما السلام . وقال الإمام الصادق (ع) : الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً وأكرمنا به فنحن صفوة اللـه على خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه ، فالسعيد من اتبعنا والشقي من عادانا وخالفنا .


ثم قال :


/ 3