<p/> الامــام علــي ( عليه السلام)قدوة وأسوة - إمام علی علیه السلام قدوة و أسوة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمام علی علیه السلام قدوة و أسوة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید







الامــام علــي ( عليه السلام)قدوة وأسوة

تمهيــد


الحمد لله ، وصلى اللـه على محمد وآله الطاهرين .


حين يقف المرء على محيط بعيد الشواطئ ، عالي الموج يتردد كثيراً قبل ان يخوض غماره ؟


كذلك ترددت ، قبل أن أقرر الكتابة حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، بل بيَّضت بعض الأوراق قبل عشرين عاماً بحياة إمام المتقين ، ولمّا أكملها حتى اليوم . ولولا أني فرضت على نفسي ذلك ، بالنذر لَمَا اقتحمت هذه العقبة .


ولكن ، إذا كانت حياته بحراً زخاراً واسع الأطراف ، أفلا يخسر من لا يبل غليله منه ولو بقطرة ؟..


فهذه السحب الخيرة لاتزال تروي الأراضي الموات ، أكثر من ألف عام فَيُحييها الربُّ بها ، أفلا أعرض قلبي لها ، فلعل اللـه يُحييه فيما يُحيي ؟


حياته الفذة التي تكاد لا تنتهي عِبَرُها ، أفلا أجعلها نبراساً في ظلمات دهري ؟ بلى .


والتــــزاماً مني بأسلوب هذه السلسلة ( قدوة وأسوة ) اجتهدت في لملمة أطراف الموضوع قدر المستطاع ، وأسأل اللـه ان يوفقني بفضله لإتمام المشروع ، إنه ولي التوفيق .


الفصل الأول : الأصل الكريم والميلاد المبارك


وليداً عظيماً :


كانت مكة تحتفل بالوافدين إلى زيارة بيت اللـه الحرام .. في الشهر الحرام ، رجب الأصب . وكانت الوفود الكريمة تؤدي مناسك البيت ، والناس يطوفون حوله ، وينادون ربهم حيناً ، والأصنام أحياناً . وكانت هنالك امرأة كريمة ، تطوف لا كما يطوفون ، إذ كانت تتجه إلى اللـه وحده لا شريك له ، فتغمر نفسَها ضراعةُ المتبتِّل ، وخشوع المحتاج ، ووقار المطمئن إلى فضل اللـه ، تدعو اللـه وحده ، وتسأله أن يخفف عنها وطأة ما تخافه وتحذره .


لقد كانت أُمّاً لثلاثة أبناء وبنت واحدة ، ولكن لم يشتد بها المخاض ولا عصر أعصابها كهذه المرة .


ودعت ، فألحت في الدعاء لعل اللـه يخفف عنها آلام الطلق ، وتضرعت فأبلغت في التضرع ، وفي الجانب الغربي من البيت ، إذ اجتمع طائفة من الحجاج ، حدث أمر عجيب :


لقد كانت في أُخريات أشواطها ، عند مقترب الركن اليماني ، إذ انشق لها جانب البيت ، وكأن نداءً خفيّاً يدعوها أن ادخُلي بيت ربك !


دخلت البيت ، والناس يشهــــدون في ذهول ويصيحون صيحة العجب !. فيتقاطر عليهم سائر الطائفيـــــن ، يسألون عن الحدث ؟ ومن هذه السيدة التي كانت الساعة تطوف ؟. إنها حفيدة هاشم بنت أسد ، زوجة أبي طالب والدة أم هاني وطالب وعقيل وجعفر . إنها فاطمة !.


ويجتمع الناس وبينهم الزعماء والأشراف .. وبعد مدة ، ينشق الجانب ذاته ، فتتهلَّل وجوه الحاضرين كما يتهلل وجه الوليد العظيم ، وهو يتقلب على أذرع الوالدة الكريمة .


إنه حادث فريد من نوعه ، أن ينشق طرف البيت ، فتدخل الحامل وتلد في مركز الإشعاع الروحي والبركة الإلهية ، بيت اللـه الحرام الذي يعتبر أقدس محل يحترمه العرب ..


وإنها لكرامة لبني هاشم على قريش ، ولقريش على العرب أن يوليّهم ربُّ البيت بهذه العناية ، فيسمح لامرأة منهم أن تضع حملها ببطن بيته ، مكرَّماً ومعظّماً .


وسرت البشرى في بيوت الهاشميين !. وانطلقت نساؤها تزف تهانيها إلى فاطمة معجبة مغرمة .. وجاء الزعماء يبشرون أبا طالب بالوليد العظيم ، ومن بين هؤلاء فتى يهمه أمر الوليد أكثر من غيره ، ينظر إليه لا كمــــــا ينظر الرجال الآخرون .. إنه محمد بن عبد اللـه (ص) الذي لم يزل يحسب من عائلة أبي طالـــب ،


فإذا تناول الوليد تلا آياتِ اللـه فأعجب به وبارك بولادته .


وقالوا : إن الوليد لم يفتح عينيه إلاّ على محيَّا ابن عمه النبي العظيم وسُمِّيَ عليّاً ، واختارت أمه له اسم ( حيدر ) وإذا كان هذا الاسم يوحي باكتمال الجسم الذي يبشر بالبطولة ، فإن الاسم الآخر كان يوحي ببشائر السموِّ المعنوي .

الولادة المعجزة :


كانت لولادته - كما لمقتله - (ع) ، شهادة حق على صدق رسالات اللـه .. إنه آية اللـه العظمى في كل جوانب حياته ، من ولادته إلى شهادته .


فلماذا تحاط ولادة الرسل والأئمة بالآيات ؟ فموسى (ع) يقذف في التابوت ليلقيه اليم بالساحل .. وليُصنع على عين اللـه .


وعيسى (ع) يولد من غير أب ، ويكلِّم الناس في المهد صبيّاً .


وسيدنا محمد (ص) ترافق ولادته حوادث عظيمة ، تسقط شرفات قصر فارس ، وتخمد نيرانهم ، وتغيض بحيرة ساوة ، وتفيض الأخرى في سماوة و. و.


والإمام علي يولد في الكعبة بعد أن ينشق لأمه فاطمة بنت أسد ، جانب المستجار ، لماذا ؟.


هل لأنهم قد اصطفاهم اللـه لرسالاته قبل الولادة ، حيث بادروا بالتلبية في عالم الذر قبل غيرهم من الصالحين ، فاجتباهم على علم ، وأبان فضلهم بالولادة المعجزة [1].


أم لأن اللـه سبحانه اطَّلع على مستقبل حياتهم ، فأكرم مواقفهم المسؤولة التي يعلم أنهم سوف يختارونها بكل حرية فأكرم مثواهم ، وجزاهم بطيب الولادة ، وإعجازها ؟..


أم لأن الرب سبحانه أراد بذلك أن يكرم الأصلاب الشامخة والأرحام الطاهرة ممن ولدوهم ، كما فعل بمريم الصدِّيقة ، لمكانها عند ربها ، أو بزكريا وزوجته عليهم السلام جميعاً ؟.


أم لأسباب أخرى ؟


ولكن الولادة المعجزة بلاغ مبين للناس ، بشأن الوليد العظيم بدون أدنى شك .


بعد أن خرجت أم علي (ع) تحمله ، استقبله النبي محمد (ص) وهو يعلم أنه سيكون وصيَّه وخليفته ، فعمَّ السرور قلبه الكبير .


ولم يتفارقا منذ تلك اللحظة حتى ارتحل عنه النبيُّ (ص) إلى ربه ، فلزم الوصي سنَّته حتى الشهادة .


وحين يصف الإمام بفخر عظيم تلك العلاقة الحميمة بينه وبين النبي (ص) لايدع لنا إشكالاً في أنها كانت من تقدير اللـه عزَّ وجلَّ وأن لها آثارها في بلاغ رسالاته إلى الناس .. يقول :


أنــــا وضعت في الصغر بكلاكل العرب ، وكسوت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعــــي مــــن


رسول اللـه (ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسُّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قوله ، ولا غلطة في فعل ، ولقد قرن اللـه به (ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتِّباع الفصيل أثر أُمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمرني بالاقتداء به . ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللـه (ص) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة . واشم ريح النبوَّة [2].

الفتى المبارك :


ولم يزل يدرج ويترعرع متميزاً بين أترابه ، في أعماله ، وأقواله ، ففي ذات يوم ، وكان له آنذاك سنوات قلائل .. وكان يلعب مع أترابه ، إذ ينزلق أحد الأطفال بجانب بئر كانت هناك .. وقبل أن يسقط فيها يلحقه علي (ع) فيأخذ منه عضواً ، فيعلق رأس الطفل إلى الأسفل وتمسك عضوه الأعلى يد عليّ ، ويصيح الأطفال ، ويأتي أهل الطفل .. ويتعجبون للمنظر .. وكان يسمّى عليٌّ - مباركاً - فقالت والدة الطفل : أيها الناس أترون مباركاً ، كيف أنقذ ولدي من الهلاك .


وكانت الظروف صعبةً في مكة ، وقد أصاب البلد الحرام قحط شديد ، عمَّ بيت أبي طالب . فجاء النبي (ص) إلــــى بعض أعمامه الأثرياء ، يفاوضهم في الأمر . واقترح أن يتكفلوا أبناء عمه . فلما عرضوا عليه قــــال : أبقوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم . فأخذ كل من العباس وحمزة عمّا النبيِّ وهاله بنت عبد المطلب عمتــــه ، واحداً من أبناء أبي طالب ، وبقي علي (ع) فإذا بالنبي يستدعيه ليكون له صاحباً ، فيغمره البشـر ، ويأوي إليه كما يأوي الفصيل إلى أُمه .


إن علــيّاً الذي فتح عينيه - أول ما فتحهما - على ملامح النبي (ص) ، وظل مغموراً ببركاته أيام صغره . إن عليّاً الذي رأى في محمد (ص) الحب والحنان ، وكل خصال الخير والجمال ، لابد أن يأوي إليه ويسارع إلى قبول كفالته له ، ويفيض فرحاً بذلك وابتهاجاً .


أخذ علي ، يتبع كفيله وحبيبه النبيَّ محمداً (ص) ويطمئن إليه بكل قلبه ، ويقلده في كل عمل !


وذهب النبي (ص) يغدق على ابن عمِّه كل ما أفاءت إليه رحمة اللـه ، من آداب حِسان وخُلق كريم !


.. ولم يزل عليٌّ يرى النبي (ص) دائم التفكير يقلّب وجهه في السماء يلتمس من ربه نوراً .


في تلك الأيام التي كان يتعبد النبي في غار حراء ، كان علي يتدبر في عبادته ، ويفكر فيها فيفهم معنى العبادة ومغزاها ، ويؤمن بمن يعبده ويهتدي إليه بفطرته النقية التي لم يتسرب إليها الشك أبداً !


إن علــــيّاً (ع) أوتي من النبوغ والذكاء ما يؤهله لكل ما كان النبي (ص) مؤهلاً له . ومن الخطأ أن نحدد


أول وقت آمن فيه ، فلقد كان مؤمناً بفطرته ولا يصح لنا ان نقرن إيمانه بزمان دون زمان - هكذا عبر النبي - ذات مرة إذ سأله رجل من المسلمين عن أول وقت آمن فيه الإمام علي فقال : إنه لم يكن كافراً حتى يؤمن ، كما أنه نفسه بيّن ذلك حين أكد أنه لم يكن مسبوقاً بالشرك .


وعندما هبط الوحي على قلب محمد (ص) وجاء النبيُّ إلى الإمام يخبره ، ينفتح قلبه على أمر موعود ، وحقيقة منتظرة ، ذلك اليوم كان عمر الإمام عشر سنوات ، ولم يكن يعرف إنسانٌ طيب يمتاز عليه من الآخرين ، بل كانت فيه كل معاني الفضيلة والسمو ، صدقه ، أمانته ، بره بالخلق ، إحسانه ، صلته للرحم وغير ذلك .. أجل لم يكن هناك من يمتاز عليه غير محمد بن عبد اللـه (ص) البر الكريم ، فيكف لايصدقه وكيف لا يتبعه .


وذات يوم دعاه النبي إلى الصلاة ، فقام عليه السلام يتعلم قواعدها ويتوجّه إلى المسجد الأقصى حيث القبلة الأولى للمسلمين .. فيصلي بصلاة النبي ، وتصلي وراءهما خديجة زوجة الرسول . فهؤلاء ثلاثة ليس لهم الآن نظير على الأرض ، يبتهلون إلى اللـه بركعات ، يرتلون من آي الذكر الحكيم ، ما يزيدهم هدى ، ويملأ شعورهم إيماناً واطمئناناً .


لقد تشكلت الآن أول خلية حيّة ، بين ملايين الخلايا الميتة في المجتمع البشري . وإنها تسعى لكي تزيد نفسها حجما وقوة ، وتبعث الحياة - بإذن اللـه - إلى سائر الخلايا .


ومن هذا العقد من حياة علي (ع) يبتدئ عهده مع الجهاد والتضحية ، لقد انتقل من بيت كفيله إلى بيت والده من سنتين ، بيد أنه لايزال يقضي غالب أوقاته في بيت خديجة قريباً من الرسول (ص) ليرفع له كل يوم علماً في المعارف والآداب ، فيتَّبعه .


وظل الإسلام يتخذ من هذه الأنفس المباركة - أنفس محمد وعلي وخديجة - أولى قواعده وأزكاها .. حتى اجتمع إليه رجال ونساء يتحدون بالإسلام الوضع الفاسد .


وظل دعاة الإسلام يبذلون في سبيل الدعوة طاقاتهم ودمائهم ، حتى نمت شجرة الإسلام ، وجاء الوحي يأمر النبي بأن يصدع بما يؤمر وينذر عشيرته الأقربين وإظهارها للناس أجمعين .


فأمر النبي عليّاً (ع) أن يهيئ طعاماً ويدعو بني هاشم إلى بيته . واجتمعوا إليه يقودهم أبو طالب سيدهم ووالي أمورهم .


فلما طعموا ورأوا أن قصعة الثريد ، التي أكلوا منها لم ينقص منها شيء وعجبوا ، وجاء النبي يكلمهم بشأن الدعوة راح عمه أبو لهب ، يبعث كلماته الساخرة !!


إن أبا لهب كان من ألد أعداء الإسلام ، مع أنه كان من أقرب الناس رحماً بالنبي (ص) ولم ينزل في القرآن آية يذكر فرداً من معاصري النبي بالسوء غير ما نزل في حق أبي لهب ، وفي سورة كاملة تُبتدأ بقول شديد :


« تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ » (المسد/1)


وقد كان أول المستهزئين بالرسول ، ذلك النهار ، حيث قال بين فتيان بني هاشم الذين كانوا زهاء أربعين رجلاً ، قال : لشد ما سحركم صاحبكم ، أي ما أعجبه رجلاً قد سحركم . فتفرق القوم ولم يكلمهم الرسول (ص) .


فلما كان من غد استضافهم علي (ع) مرة أخرى فجاؤوا وأكلوا وشربوا ، وقبل أن يتكلم أبو لهب ، ابتدأهم الرسول قائلاً :


يا بني عبد المطلب ! إني - واللـه - ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به . إنِّي قَد جئتكم بخير الدنيا والآخرة . وقد أمرني اللـه تبارك وتعالى أن أدعوكم ، فأيكم يؤازرني على أمري ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ .


فأحجم القوم جميعاً ، إلاّ علياً ، وكان ذلك اليوم - كما يصف نفسه - أحدثهم سنّاً ، وأرمضهم [3] عيناً وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم [4] ساقاً فقال :


أنا يا نبي اللـه أكون وزيرك عليه .


فأخذ برقبته ثم قال : فاسمعوا له وأطيعوا


فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعليِّ وتطيع .


وظلت هذه الدعوة تتراوح بين علي (ع) وخديجة (ع) ثلاث سنوات ، وكان النبي يصلي بهم في خفاء ، ويؤدي بهم مناسك الحج على سنّة الإسلام ، حنيفاً بها عما كان يأتيه أهل الجاهلية .


فلقد أُثر عن عبد اللـه بن مسعود قوله : إن أول شيء علمته من أمر رسول اللـه (ص) قدمت مكة في عمومة لي ، فارشدونا إلى العباس بن عبد المطلب ، فانتهينا إليه وهو جالس إلى مَن ثَمَّ [5] فجلسنا إليه فبينما نحن عنده ، إذ أقبل رجل من باب الصفا تعلوه حمرة ، وله وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه ، أقنى الأنف ، برّاق الثنايا ، أدعج العينين [6] كث اللحية [7] رقيق المسربة [8] شثن الكفَّين [9] حسن الوجه ، معه مراهق أو محتلم تقفوه امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصدوا نحو الحجر ، فاستلمه ثم استلمه الغلام ، ثم استلمته المرأة ، ثم طاف بالبيت سبعاً ، والغلام والمرأة يطوفان معه . فقلنا : يا أبا الفضل !. إن هذا الدِّين لم نكن نعرفه فيكم . أوَ شيءٌ حدث ؟ قال : هذا ابن أخي محمد بن عبد اللـه والغلام علي بن أبي طالب ، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد ، ما على وجه الأرض أحد يعبد اللـه تعالى بهذا الدِّين إلاّ هؤلاء الثلاثة .


وقال عفيف الكندي : كنت امرءاً تاجراً ، فقدمت الحج فأتيت العباس بن عبد المطلب ، لابتاع منه بعض التجارة ، - وكان امرءاً تاجراً - فواللـه إني لعنده بمنى إذ خرج من خباء قريب منه فنظر إلى الشمس ، فلما رآها قد مالت ، قام يصلِّي ( قال ) ثم خرجت امرأة من الخباء الذي خرج ذلك الرجل منه فقامت خلفه فصلَّت ، ثم خرج غلام هيِّن راهق الْحُلم من ذلك الخباء فقام معه فصلَّى ( قال ) فقلت للعباس مَن هذا يا عباس ؟ قال : هذا محمد بن عبد اللـه بن عبد المطلب ابن أخي ( قال ) : فقلت : مَن هذه المرأة ؟. قال : امرأته خديجة بنت خويلد ( قال ) فقلت : من هذا الفتى ؟. قال : علي ابن أبي طالب ابن عمه (قال ) فقلت له : ما هذا الذي يصنع ؟ قال : يصلِّي ، وهو يزعم أنه نبي ولم يتَّبعه على أمره إلاّ امرأته وابن عمه هذا الفتى ، وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر .


ومضت على الدعوة مدة ، وعليُّ يستقيم على الصراط السوي ، ويقاوم الضغوط ، ويصوغ الوحي شخصيته الفذة . ثم التف حول الدعوة رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر ربهم . فلما أمرهم النبي بالهجرة إلى الحبشة وأمَّر عليهم جعفراً أخا عليٍّ عليهما السلام ، قامت قيامة قريش الذين رأوا من مناوئهم - العظيم - القوة وحسن التدبير ، فأخذوا يدرسون خطة أخرى أشد وأقسى مما سبق ، وذلك بفرض حصار إجتماعي على بني هاشم زاعمين أنهم شذُّوا عن النظام الإجتماعي السائد .


فدبروا أمر الصحيفة الملعونة ، حيث أَجمعوا على أن لايخالط النبيَّ (ص) ومن دار في أفقه من الهاشميين ، وعلى رأسهم سيدهم أبو طالب ، ولا يعاملهم أحدٌ أبداً .. فجمع أبو طالب أهله في شِعْبٍ له ، وذبَّ عنهم بما كان لديه من طاقة وسلطان .


وتلك كانت فرصــــة سانحة للإمام عليّ (ع) أن ينهل من نبع النبي الفيّاض ، كل مكرمة وفضيلة ومعرفـــــة ، كما استطاع أيضاً أن يمارس جهاده الشاق طيلة ثلاث سنوات . ولعل هذا كان أول ميادين الجهـــــاد التي خاضها ابن أبي طالب (ع) ولكن كان له من قبله جهاد آخر ، إلاّ أنه ليس في هذا المستــــوى ، وذلك أن النبي (ص) كان يمر بطرقات مكة فيرشقه أبناء مكة بالحجارة والحصى ، بأمرٍ من أوليائهم ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعبأ بذلك ، بيد أن علياً (ع) كان يصاحبه ، فإذا أساء أحدهم إلى النبي (ص) أخذه وجدع أذنه ، وكان عليّ (ع) قويّاً منذ صباه وشجاعاً ، وكان كذلك مهيباً في أعين أترابه ، فإذا رأوه يمشي مع النبي ، قالوا لبعضهم مهلاً فإن معه القضم ، أي الذي يقضم آنافهم وآذانهم .



الفصل الثاني:حياته في عهد الرسول (ص)


الهجــرة :


وبعد ما نُقضت الصحيفة الملعونة ولم تفتَّ في عضد الدعوة ، واضطرت قريش أن تسمح لبني هاشم بالدخول في رباع مكة ، والإختلاط مع الناس ، أصاب المرض عمَّه وكفيله أبا طالب ، كما أصاب زوجته الوفية خديجة عليهما السلام ، لما كانا قد لاقياه في الشعب من العنت ، فماتا في السنة التالية التي سميت بعام الحزن ، وفقد النبي (ص) أكبر معين وأشد ركن يعتمد عليه في الملمَّات .


وعزم النبي (ص) على الهجرة إلى المدينة المنورة ، وعزم الكفار أن يقتلوه غيلة قبل أن يهاجر إليها ، وانتخبوا من بينهم ثلاثين مقاتلاً مغامراً ، يهجمون على دار النبي (ص) ليلاً فيقتلونه ، وينتمي كل منهم إلى بطن من قريش فيضيع دمه بين قريش جميعاً . وجاء نبأ ذلك إلى النبي (ص) فرسم خطة مسيره إلى المدينة ، وذلك بان يتجه تحت جنح الظلام إلى غار ثور ، ثم يتخذ طريقاً منحرفاً عن الجادة إلى المدينة ، بيد أن الخطة كان يعوزها شيء واحد ، وهو أن هؤلاء الفتية من قريش إذا عرفوا خروج الرسول أول الليل ، فإنهم سوف ينتشرون حول مكة بحثاً عنه ، ولا محالة سوف يجدونه ، وإن وجدوه قتلوه ، فقرر الرسول (ص) أن يموِّه عليهم بأن ينام مكانه شخص ، ليخيَّل إليهم أنه النبي ، وسوف لايكتشفون الحقيقة إلاّ بعد أن يكون النبي مبتعداً عن مكة أميالاً أو يستقر في غار ثور فعلاً .


ولكن من هو ذلك الذي يُقدم على الموت على الفراش ؟. وليس في ساحة الحرب ، حيث الثورة والهياج وحيث يُقاتِل فَيَقتل ويُقتل ، بل الموت على الفراش لايدافع عن نفسه ، ولا تثور أعصابه ، ولا يقوم بحركة !


إن لهذه المهمة رجلاً واحداً فقط ، هو ابن أبي طالب !! إنه لا يتهيَّب أبداً وَقَع الموت عليه ، أو وقع هو على الموت .


وجاء إليه النبيُّ (ص) يعرض عليه أمر الهجرة ، ويأمره بالمهمة ، فإذا بعليٍّ (ع) وكأنه قد بُشر بملك الدنيا ، يرحب بها بعد أن يطمئن إلى سلامة الرسول (ص) . وينجو الرسول من أيدي المتآمرين ، ويتقلب الإمام على فراشه ، وتلمع حول البيت سيوف تنتظر الفجر لتهجم على المستلقي على الفراش فتقطعه إرباً إرباً ، وعندما اقترب الصبح ، رمَوا حجراً إليه ، فلم يتحرك ، ثم رمَوا الثاني . وعندما رمَوا الثالث قام من مكانه ، فقال قائلهم من هذا ؟. إنه ابن أبي طالب ، يا عليّ ، اين محمد ؟ فأجال عليٌّ طرفــــه بينهم وقال : وهل أودعتموني محمــــداً ؟.. فأراد بعضهـــم أن يفتك به ، ولكن منعه الآخرون ، وأنجــــاه


اللـه من شرّهم .


وكان على الإمام (ع) مهمة كبيرة أخرى ، تلك مسؤولية حمل أهل بيت النبي (ص) وضعفاء المسلمين المتخلفين في مكة إلى المدينة . وكانت مهمة شاقة حيث إن أهل مكة حينما عرفوا بغياب النبي تمـيَّزوا غيضاً ، لما علموا بأن تخلص النبي عن أيديهم سوف يكلِّفهم كثيراً . فعزموا على أن يمنعوا بقية أصحابه عن الالتحاق به بكل وسيلة ، وراحوا يراقبونهم ، مراقبة شديدة ، ألاّ يفلتوا من أيديهم ، وعلى رأس هؤلاء أهل النبي (ص) وعياله .


وبعد مدة جمع علي (ع) أمره ، وخرج - خفية - بالفواطم : فاطمة بنت ( رسول اللـه ) ، وفاطمة بنت أسد ( والدة الإمام ) وفاطمة بنت الزبير ( عمته ) وبعض الضعفاء من المسلمين يريدون المدينة ، وكانوا قد ابتعدوا عن مكة أميالاً ، عندما علم أهل مكة بالأمر ، فجهزوا سرية سريعة إلى الركب لإعادته قسراً إلى مكة ، وكانت السرية بقيادة جناح ، مولى حارث بن أمية .


فجاءت حتى إذا بلغت الركب ، التفت إليهم علي (ع) فحمل عليه جناح بسيفه فأسرع علي (ع) وأخذ السيف من يده ، وضربه ضربة فأرداه قتيلاً ، واستسلم سائر الافراد لما رأوا من شجاعة علي (ع) وقوة بأسه ، فتركهم الإمام ، وحث راحلته إلى المدينة .

غزوة بدر :


وحشدت قريش قواها ، لتحارب النبي (ص) الذي أخذ يكوِّن في مهجره مجتمعاً إسلاميّا يهدد الظالمين ، فإذا بها ترسل إلى المدينة الف مسلح شجاع ، وجنَّد النبي (ص) لها ما كان يملك من قوة عسكرية فالتقى الجمعان في منطقة ( بدر ) .


وفي يوم السابع عشر من شهر رمضان في السنة الأولى من الهجرة ، ابتدأ الفريقان بالمبارزة . وكان من بينهم ثلاثة من الشجعان يدعون شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن ربيعة ، فبرزوا للحرب وطالبوا بأقرانهم من قريش، فأَنهضَ رسول اللـه عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب . وعليّاَ (ع) فراح الإمام حتى قتل الوليد وشيبة ، وشارك في قتل الآخر .. وبذلك فقدت قريش أشجع أبطالها ، وبعد مبارزة أخرى قتل فيها علي (ع) حنظلة بن ابي سفيان ، والعاص بن سعيد بن العاص ورجالاً آخرين من شجعان مكة ، فانهزموا وانتصر المسلمون بإذن اللـه تعالى .

غزوة أُحد :


ورجع جيش مكة منهزماً وقد قتل شجعانه وأبطاله . فأخذت سلطة الأشراف تستعد لشن حملة أخرى ، تغسل بها ما أصابها في بدر من عارٍ وذلٍّ ، وتبيد بها دعوة النبي (ص) ورسالته .


ويصف علي (ع) هذه الغزوة ، فيقول : وأقبل إلينا أهل مكة على بكرة أبيهم - قد استحاسوا ( أي حرضوا وجمعوا ) من يليهم من قبائل قريش ، طالبين بثأر مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرائيل على النبي (ص) فأنبأه بذلك ، فذهب النبي (ص) وعسكر بأصحابه في سد أُحد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة وبقيتُ مع رسول اللـه (ص) . ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة كلٌّ يقول قُتل النبي (ص) وقُتل أصحابه - ثم ضرب اللـه عزّ وجلّ وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول اللـه (ص) نيفاً وسبعين جرحةً ، منها هذه وهذه ، ثم القى عليٌّ (ع) رداءه وأمرَّ بيده على جراحاته .

غزوة الأحزاب :


ثم كانت الأحزاب ، حيث تجمعت قريش والأعراب لمحاربة الإسلام من جديد ويصف ذلك الإمام ويقول : وعقدت بينها عقداً وميثاقاً ، لايرجع من وجهها حتى تقتل رسول اللـه ، وتقتلنا معه - معاشر بني عبد المطلب - ثم أقبلت بحدِّها وحديدها ، حتى أناخت علينا بالمدينة ، واثقة بأنفسها ، حينما توجهت له فهبط جبرائيل على النبي (ص) ، فأنبأه بذلك فخندَّق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار ، فقدمت قريش فأقامت علىالخندق محاصرةً لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، تُرعد وتُبرق ، ورسول اللـه (ص) يدعوها إلى اللـه عزَّ وجلَّ ، ويناشدها بالقرابة والرحم ، فتأبى ولا يزيدها ذلك إلاّ عتوّاً . وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبد ود يهدر كالبعير المغتلم ، يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحـــه مرة وبسيفه مرة ، ولا يقدم عليه مُقدم ، ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تُهيجه ، ولا بصيرة تُشجعه ، فأنهضني إليه رسول اللـه (ص) وعمَّمني بيده ، وأعطاني سيفه هذا ( وضرب بيده إلى ذي الفقار ) فخرجت إليه ، ونساء أهل المدينة بواكٍ إشفاقاً عليَّ من ابن عبد ود ، فقتله اللـه عزَّ وجلَّ بيدي ، والعرب لاتعد لها فارساً غيره ، وضربني هذه الضربة - وأومأ بيده إلى هامته - فهزم اللـه قريشاً والعرب بذلك ، وبما كان مني من النكاية .


بل كانت تلك هي الضربة التي عدلها النبي (ص) بعبادة الثقلين ، فرجحت وقال :


ضربة عليٍّ يوم الخندق تَعْدِلُ عبادة الثقلين [10]


ومضى أصحاب الرسول (ص) يمجِّدون تلك الضربة التي أنقذت المسلمين من اخطر هجوم عسكري قام به كلُّ مستكبري قريش والقبائل المشركة ، بالتعاون مع اليهود والمنافقين .


يروي الشيخ المفيد في إرشاده ، عن قيس بن الربيع عن أبي هارون السعدي ، أنه قال : أتيت حذيفة اليمان فقلت له : يا أبا عبد اللـه ، إنا نتحدث عن عليٍّ ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنكم تُفرطون في علي ، فهل أنت محدثي بحديث فيه ؟


فقال حذيفة يا أبا هارون !. وما تسألني عن علي ؟ فوالذي نفسي بيده لو وُضعت جميع أعمال أصحاب محمد في كفة الميزان ، منذ بعث محمد (ص) إلى يوم القيامة ، وَ وُضع عمل علي في الكفة الأخرى ، لَرجــح عمل علي على جميع أعمالهم . فقال : هذا الذي لايقام له ولا يُقعد ولا يُحمل ، فقال حذيفة : يا لكع !. وكيف لا يُحمل ، وأين كان فلان وفلان ، وجميع أصحاب محمد (ص) يوم عمرو بن عبد ود العامري ، وقد دعا إلى البراز ، فأحجم الناس كلهم ما خلا عليّاً فإنه برز إليه وقتله اللـه على يده ؟ والذي نفسي بيده ، لَعَمَلُه ذاك أعظم أجراً من أعمال أصحاب محمد إلى يوم القيامة [11] .


وبعد وقعة الخندق ، سار النبي إلى مكة ، وكان يحب أن يدخل مكة معتمراً ، ومعه عدد كبير من المسلمين .


فأعطى اللواء لعلي عليه السلام ، فلما وصل مشارف مكة منعته قريش منها ، واجتمع أصحاب الرسول تحت شجرة هناك وبايعوه على الموت بما سمي بعدئذ ببيعة الرضوان ، وقال بعض المفسرين : نزلت الآية الكريمة فيها :


« لَقَدْ رَضِيَ اللـه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَاَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » ( الفتح / 18 )


فلما رأت قريش مدى استعداد المسلمين للقتال طلبوا الصلح ، والهدنة ، وكان من بين بنود الصلح التي أصرت قريش عليه ورفضه النبي صلى اللـه عليه وآله أنهم قالوا :


يا محمد !. خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقَّائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فردُّوهم إلينا .


فقال : إذا لم يكن لهم فقه في الدين - كما يزعمون - سنفقِّههم فيه .


ثم أضاف : يا معشر قريش لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللـه عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن اللـه قلبه بالإيمان .


فقالوا : من هو ذلك الرجل يا رسول اللـه ؟


فقال : هو خاصف النعل .


وكان قد أعطى نعله لعليٍّ يخصفها له [12] .


هكذا نعرف مدى خشية قريش ، وسائر المشركين من بأس الإمام (ع) ، وأنه كان سيف اللـه الذي لاينبو ، وسهم الإسلام الذي لا يُخطئ ، يبعثه النبي (ص) متى أحس بالخطر على الدِّين ، ويُنذر به الأعداء متى ما تمادوا في الغي .


كيف اقتحم الإمام (ع) حصون خيبر ؟


كـــان اليهـــــود يشكِّلون خطــــــراً كبيــراً في الجزيــــرة العربيـــة ، وكانوا يتحصنون بمــواقع جيدة ، ربمـــا تشبـــه مستعمراتهم اليوم في أرض فلسطين . وكانوا قد نقضوا عهدهم مع الرسول ، وشاركوا في حرب المشركين في الأحزاب ضد المسلمين ، فلما استراح المسلمون من شر قريش ، بسبب صلح الحديبية السابق ، انعطف النبي (ص) بأصحابه على أعظم قلاعهم في خيبر وحاصرها . وكان النبي (ص) يبعث كل يوم قائداً من المسلمين لاقتحامها فيعود خائباً . ويروي ابن إسحاق أن النبي (ص) بعث أبا بكر ثم عمر ، فما فتح اللـه على أيديهما شيئاً . وبعث غيرهما فعادوا جميعاً خائبين ، فقال كلمته المعروفة :


واللـه لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب اللـه ورسوله ويحبه اللـه ورسوله .


فتمنى كلٌّ أن يكون هو !. لعلمهم بأن عليّاً أرمد العينين ، ولكنه حين أصبح نادى أين علي ؟ فلما جيء به معصَّب العين من شدة الألم ، مسح عليها فأزال اللـه مرضها واندفع الإمام يحمل راية النصر ، واشتبك مع طلائع اليهود ، وقتل بطلهم المعروف ( مرحباً ) بضربة صاعقة قدَّت مغفرته ، ووصلت إلى أضراسه ، فولّى اليهود منهزمين إلى حصونهم التي اقتحمها الإمام (ع) وقلع باب خيبر العظيم وتترَّس به ، وكانت تلك من آيات النصر الإلهي التي تجلت على يد أمير المؤمنين علي (ع) .


وبعد عودة المسلمين إلى المدينة ، ونقض قريش لمعاهداتهم في صلح الحديبية الذي كتب الإمام بُنودَه ، استعدَّ الرسول (ص) لفتح مكة . وكان يريدها مفاجأة ، إلاّ أن بعض ضعفاء النفوس تجسس لقريش مجاناً ، فكتب رسالة إليهم ينبأهم بخبر التعبئة ، وسلَّمها لزوجته وسارت بها إلى مكة ، وأنبأ جبرائيل النبي (ص) بذلك فسيّر إليها عليّاً والزبير .


فلما أوقفاها ، أنكرت وعاد الزبير أدراجه ، إلاّ أن الإمام امتشط سيفه ، وأنكر على الزبير رقته لها ، وقال : إن رسول اللـه يخبرنا بأنها تحمل كتاباً إلى أهل مكة ، وتقول أنت بأنها لاتحمل شيئا ؟. ثم قال للمرأة : واللـه إن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك . فأخرجت له الكتاب من عقيصتها .


وهكــذا حافظ الإمام - بأمر من الرسول - على سرِّية الحركة ، وسار الجيش البالغ اثنا عشر ألف مقاتل ، وأعطى الرسول الراية لعلي (ع) الذي دخل مكة وهو يقول : اليوم يوم المرحمة ، إيذاناً بالعفو العام الذي أصدره النبي (ص) بعدئذ ، وقال لهم اذهبوا فانتم الطلقاء .


وحطــــم الأصنام التي على الكعبة ، حيث حمل النبي (ص) الإمام وأمره بأن يحطم أصنام قريش ، ففعـل (ع) .

ويوم حنين :


لقد تم فتح مكة بيسر لم يحلم به المسلمون ، ودب إلى قلوبهم الغرور ، ولكنهم لم يهنأوا به طويلاً إذ استقبلهم خطر عظيم فها هي هوازن وثقيف وحلفاؤهم المشركون ، يُعَبِّأون كل طاقاتهم للهجوم على المسلمين ، فيجهزون جيشاً يبلغ ثلاثة أضعاف جيش الإسلام . وحين بادرهم الرسول (ص) بالخروج إليهم استفادوا من خبرتهم بأرضهم ، فكمنوا له في مضيق جبلي لابدّ من مرور جيش الإسلام به في وادي حنين ، وهي من أودية منطقة تهامة ، ويصف المعركة بعض مشاهديها قائلا :


فمـــا راعنــا - ونحن نسير إلى القوم لنأخذهم على غرة قبل أن يأخذوا حذرهم - ، إلاّ وكتائب هوازن ومن


معهم من العرب قد شدُّوا على المسلمين شدَّة رجل واحد من كل جانب ، فأمعنو فينا ضرباً وطعناً ، واختلط الناس بعضهم ، فاستولى الخوف على المسلمين ودب فيهم الذعر ، فانهزموا عن النبيِّ (ص) لا يلوون على شيء ، وثبت رسول اللـه (ص) في مكانه ، ومعه علي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ، واسامة بن زيد [13] .


وثبت الرسول وحوله الفتية من بني هاشم يتقدمهم علي بن أبي طالب (ع) الذي أخذ يكشف الكرب عن وجه رسول اللـه ، ويضرب بالسيف يمنـةً ويسرةً ، فلم يقترب إلى الرسول أحد إلاّ وضربه بسيفه . ونادى العباس عم النبي برفيع صوته وبأمر الرسول : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أهل بيعة الرضوان ، إلى اين تفرُّون عن اللـه ورسوله ، فعادت طائفة منهم بلغت زهاء مائة فبرز جرول حامل راية هوازن فتحاماه الناس لصولاته الشديدة ، فبرز إليه علي (ع) وقتله فدب الذعر في نفوس القوم ، وقتل الإمام منهم أربعين بطلاً وعاد المسلمون إلى المعركة ، والْتَحم الجيشان ، وأخذ النبي (ص) حفنة من التراب وأعطاها للإمام فألقاها في وجه المشركين وهو يقول : شاهت الوجوه ، وخلال ساعات دارت المعركة على الكفار وتركوا أرض المعركة ، وفيها نساؤهم وأطفالهم وأموالهم ، وحمل الإمام علي (ع) وسام النصر كعادته في كل الحروب .

وحين استخلفه الرسول على المدينة :


وعاد الرسول إلى المدينة ، فانتهى إليه ، في العام التاسع من الهجرة ، خبر مفاده أن الروم يُعِدُّون جيشاً لغزو البلاد الإسلامية . فعبأ قواته لمواجهتهم ، وكان ذلك أول مواجهة - لو تمت - بين المسلمين والكفار خارج الجزيرة ، وبالذات مع الأمبراطورية الرومانية العظيمة ، وكان من الحكمة أن يرتب الرسول أمور بلاد العرب بصورة تامة حتى إذا لم تقدّر له العودة ، تكون البلاد الإسلامية بأيد أمينة ، تأمن شر الإعتداءات الخارجية والمؤامرات الداخلية التي كانت قد أضحت في تلك الفترة متنامية بسبب دخول مجاميع من الناس في الإسلام ليحفظوا دماءهم ويحصلوا على مغانم ومكاسب .


وهكذا استخلف النبي عليّاً مكانه ، إلاّ أن المنافقين الذين كانوا ينتظرون فرصة كهذه ، ليقفزوا إلى السلطة أو ليعيثوا فساداً في أرض الجزيرة ، راحوا يبثون شائعات بأن النبيَّ (ص) إنما استخلف عليّاً لأنه لم يحب أن يكون معه ، فحمل الإمام سيفه وسلاحه ولحق بالرسول في منطقة الجرف فأخبره بمقالة المنافقين ، فقال له النبي (ص) :


إنما خلفتك لما ورائي ، إن المدينة لاتصلح إلاّ بي أو بك . فأنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي .


ولعــــل وراء استخلاف النبي (ص) للإمام (ع) وتسليمه شؤون البلاد الإسلامية أثناء غيابه عنها ، حكمــــة


بالغة ، إذ أن عليّاً وصيَّه الذي اختاره اللـه له وأعلن ذلك للناس منذ يوم الدار حين أنذر عشيرته الأقربين ، فلابد إذن من تمهيد الظروف لذلك . ويوحي بهذه الحكمة ما نجده في مسند أحمد من قوله (ص) بعدئذ حسب هذا المصدر .


لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي [14] .


ويا ليت شعري ، كيف لايترك الرسول المدينة إلاّ وعلي خليفته ، ثم يترك الدنيا دون أن يستخلف عليّاً (ع) ؟.

الغارة التي خلدها الكتاب :


أذعنت الجزيرة العربية لحكم اللـه ، بعد فتح مكة ومعركة حنين ، إلاّ أن الأعراب الذين كان دأبهم الغزو ، تجمَّعوا في منطقة قريبة من المدينة وأرادوا الإغارة عليها على حين غفلة من أهلها . فلما انتهى خبرهم إلى الرسول ، ندب لهم أبا بكر ثم عمراً ثم عمرو بن العاص ، ولكنهم كانوا يؤثرون الإنسحاب بسبب تحصن الأعراب بواد هناك يسمى وادي الرمل ، كان صعب المسالك كثير الأحجار ، وكان موقع المدافعين الحصين سبباً لكثرة إصابات المسلمين .


وكعادة الرسول في الإستعانة بعلي (ع) عند الشدائد ، أرسله وضم إليه القيادات السابقة ، فمضى إليهم الإمام يكمن بالنهار ويسير بالليل ، فلما اقترب منهم وحاصر مواقعهم في الليل ، انقض عليهم أول الفجر ، وأمعن فيهم قتلاً وأسراً حتى استسلموا .


وذات صباح صلَّى الرسول بالمسلمين صلاة الغداة وقرأ عليهم فيها سورة لم يسمعوها من قبل :


« وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً » (العاديات/1-5)


فلما سألوه عنها قال :


إن عليّاً ظفر بأعداء اللـه ، وبشرني جبرائيل في هذه الليلة [15] .


وحين عاد الإمام (ع) استقبله النبيّ (ص) والمسلمون معه ، فترجَّل الإمام عن فرسه احتراماً للرسول فقال له النبي اركب فإن اللـه ورسوله عنك راضيان . وأضاف :


لولا أني أشفق أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك مقالة لا تمر على ملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدمَيك .[16]


وهكذا كان الإمام (ع) سيف الإسلام الذي لا ينبو ، يوجهه الرســــول (ص) حيث يُحدق الخطر بالرسالــة ، وقد بعثه مرتين إلى اليمن - حسب الأخبار - حيث أسلمت على يَديه قبائلها ، وبالذات قبائل همدان .

بيعة غدير خم :


وفي السنة العاشرة بعد الهجرة - حين عزم النبي (ص) على المسير إلى مكة وأداء الحج الأخير الذي سمي بحجة الوداع - كان الإمام (ع) في اليمن أو نجران . فكتب إليه الرسول (ص) بأن يوافيه مكة حاجّاً ، وقد أُوحي إلى النبي (ص) أنه راحل عن أمته .


فلما قفلوا عن مكة راجعين ، أوقف الرسول الركب بمنطقة تسمى بغدير خم حيث نزلت عليه الآية الكريمة :


« يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللـه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » (المائدة/67) .


فقام في الناس خطيباً وقال في مستهل حديثه : أيها الناس يوشك أن أُدعى فَأُجيب .


وأضاف : إني تارك فيكم الثقلَين : كتاب اللـه ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يَرِدا علَيَّ الحوض .


ثم قال بعد أن أخذ بيد علي ورفعها :


ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟


قالوا : بلى يا رسول اللـه ، فقال :


من كنت مولاه فعليٌّ مولاه . اللـهم والِ من والاه وعادِ من عاداه .


ثم أفرد النبي لعلي خيمة وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل ذلك كلهم حتى من كان معه من أزواجه ونساء المسلمين .


فأنزل اللـه تعالى على رسوله ما يعتبر إعلاناً عن خاتمة الوحي :


« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً » (المائدة/3) .


وانتشرت في الآفاق أنباء استخلاف النبي لوصيه الإمام علي !. ولكن النبي (ص) الذي كان أخبر قائدٍ بالناس من حوله ، كان يعلم أن الكثير من التمهيد يحتاج إليه المسلمون ، خصوصاً وقد تكاثر عدد الوصوليين بينهم بعد فتح مكة ، وإن الكثيرين منهم يطالبون عليّاً بأوتار الجاهلية ، فلا يقبلون بولاية الإمام (ع) بسهولة .


كما أحيط علماً بالمؤامرات التي كانت تجري في البلاد للسيطرة على الحكم من بعده ، وكانت قريش التي دخلت - الآن - في الإسلام تتخذ منه أداة جديدة لسلطتهم على الجزيرة العربية ، كانت مركز هذه المؤامرة . ومن هنا لم يدع الرسول (ص) مناسبة إلاّ وأعلن فيها عن أن وصيه الذي اختاره اللـه للولاية من بعده إنما هو الإمام علي (ع) ، لتبقى الأقلية المؤمنة وفية بعدها مع اللـه والرسول ، وملتفّة حول قيادة الإمام (ع) وتحافظ على الخط السليم للامة ، وتكون ميزاناً للحق والباطل ، ومقياساً سليماً لمتغيرات الحوادث .


من هنا نجد النبي (ص) يسعى حتى آخر لحظة من حياته في هذا السبيل ، فقد جاء في رواية البخاري - من كتاب المرض والطب - أنه اجتمع عند رسول اللـه رجال فيهم : عمر بن الخطاب ، فقال لهم النبي (ص) هلموا أكتب لكم كتاباً لاتضلوا بعده أبداً . فقال عمر بن الخطاب : إن النبي غلبه الوجع ، وعندنا القرآن ، حسبنا كتاب اللـه فاختلف الحاضرون واختصموا فأمرهم النبي بالإنصراف [17] .


وفي بعض روايات البخاري قال بعضهم ما شأنه أهجَرَ ؟! استفهموه فذهبوا يرددون عليه فقال : دعونـــي ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصاهم بثلاث : إخراج المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفود بمثل ما كان يجيزهم ، وسكت الراوي عن الثالثة أو قال : إني نسيتها [18] .


وواضح أن المسلمين لم يكونوا لينسوا وصية نبيِّهم الأخيرة ، إلاّ أنها كانت متعلقة بالوضع السياسي بعد النبي مما يستدعي تناسيه رغَباً أو رَهَباً .


والواقع أن الخليفة الثاني بَرَّر ذات مرة اتِّهامه للنبي ( بأنه قد غلبه الوجع ) بأنه لم يكن يرى مصلحة في استخلاف النبي للإمام علي .. فقد جاء في شرح ابن أبي الحديد : روى أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد مسنداً عن ابن عباس قال : دخلت على عمر في أول خلافته وقد أُلقي له صاع من تمر على خصفة ، فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرٍّ كان عنده واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد اللـه يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد اللـه ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلفت ابن عمك - فظننته يعني عبد اللـه بن جعفر - قلت : خلفته يلعب مع أتراب له . قال : لم أعْن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت ، قلت : خلفته يمتح بالْقُرَب على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن . قال : يا عبد اللـه عَلَيَّ دماء البدن إنْ كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة ؟. قلت : نعم . قال : أيزعم أن رسول اللـه نص عليه ؟. قلت : نعم ، وأزيدك أني سألت أبي عمَّا يدَّعيه فقال : صدق . فقال عمر : لقد كان من رسول اللـه في أمره ذروٌ من قولٍ لا يُثبت به حجة ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يرجع في أمره وقتاً ما ، ولقد اراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام . لا ورب هذه البنيَّة لاتجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وَلِيهَا لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها . فعلم رسول اللـه أني علمت ما في نفسه فأمسك وأبى اللـه إلاّ إمضاء ما حتم [19] .



الفصل الثالث: الإمــام علــي (ع) يواجه المحنــة


أوصى النبيُّ (ص) الإمام (ع) بأنه سيعاني من أمته الكثير ، وبأنهم لا يمتثلون أوامره فيه وفي سائر أهل بيته ، فعليه أن يتسلح بالصبر . ثم الْتَحق النبيُّ (ص) بالرفيق الأعلى ، وفاضت نفسه ورأسه الشريف على صدر الإمام (ع) .


واشتغل الإمام بمراسم الغسل والتكفين والدفن ، كما يقول (ع) :


ولقد قبض سول اللـه (ص) ، وإن راسه لَعَلَى صدري ، ولقد سالَتْ نفسُه في كفي ، فأمررتهُا على وجهي ، ولقد وَليتُ غسله (ص) والملائكة أعواني ، فضجَّت الدار والأوفينة ، ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم ، يصلُّون عليه حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحق به مني حيّاً وميتاً [20].


إلاّ أن هناك مَن كان يفكر في كيفية الإنقلاب . ويبدو أن ثلاثة خطوط ارتسمت على الخارطة السياسية بعد وفاة النبي (ص) مباشرة هي :


أولا : خط الإمام علي (ع) ومعه جمهور الأنصار وثلة من المهاجرين .


ثانياً : جناح سائر المهاجرين ، وثلة من الأنصار خصوصاً من قبيلة الخزرج .


ثالثاً : حزب الأمويين بقيادة أبي سفيان .


وبالرغم من أن الخط الثالث ، كان منبوذا ، ولاتزال ذكريات بدر وأُحد حيةً في نفوس المسلمين ، وبالتالي لم يكن لرموز هذا الخط الجرأة بأن تطرح نفسها كسلطة سياسية ، إلاّ أن انتشار شبكتها في الجزيرة وتراكم التجربة القيادية لديها ، وامتلاكها لكثير من الرجال الأشداء ، والأموال الطائلة ، كل ذلك كان يجعلها الغائب الشاهد في كل قرار سياسي للأمة ، حيث كانت أكبر قوة ضاغطة من وراء الأحداث .. ويبدو للباحث في التاريخ أن أية قوة سياسية كانت تتحالف مع خط أبي سفيان ، كان بامكانها أخذ أزِمَّة الأمور بيديها . وإن أبا سفيان حاول في البدء التحالف مع الإمام علي (ع) فرفضه ، فتحالف مع بعض عناصر الخط الثاني الذي كان يعتبر معتدلاً تجاهه ، إذا قيس بتصلُّب الإمام علي (ع) ومدى شدته في ذات اللـه .


فقد جـــاء في بعض النصوص التاريخية ، أن أبا سفيان مشى إلى الإمام (ع) بعـــد وفـــاة الرســــول ، فحثَّـــه


على المطالبة بحقه ، ووَعَده بأن يملأها خيلاً ورجالاً . فأبى (ع) ذلك بقوة ، والقى خطاباً هامّاً رغَّب الناس في الآخرة وزهَّدهم في الدنيا ، جاء في أوله :


أيها الناس ! شُقُّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة . افلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح . هذا ( الدنيا أو الملك ) ماء آجن ، ولقمة يغصُّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها ، كالزارع بغير أرض ، فإن أقل يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت [21].


وهكذا غلب الخط الثاني والذي اتَّفقت قياداته على بيعة الخليفة الأول على السلطة ، وكانت قيادات الجيش متفقة مع هذا الخط في الأغلب . وباستطاعتنا أن نفسر سيطرة هذا الخط بأنه سيطرة للخط العسكري . فبالرغم من أن الإمام عليّاً كان أبرز القيادات العسكرية في ذلك اليوم ، حيث حمل راية الإسلام في أكثر المعارك ، إلاّ أن أغلب أنصاره كانوا من المحرومين والمستضعفين كالأنصار .


وهكذا يمكننا أن نفسر تسيير النبي (ص) لجيش اسامة إلى خارج العاصمة - بل خارج الجزيرة العربية - وقد ضم إليه كبار الأصحاب فيما بينهم أنصار وقيادات الخط الثاني ، إلاّ أنهم لم ينفِّذوا جيش أسامة ، وتخلفوا عنه ، سواء عن سابق إصرار ومعرفة بالهدف من بعثهم فيه ، أو لاشفاقهم على حالة الرسول كما زعموا .


وقد قال الرسول (ص) :


نفِّذوا جيش اسامة ، لعن اللـه مَن تخلَّف عن جيش أسامة .


وقد جاء تفاصيل ذلك في نص صريح مأثور عن الإمام أمير المؤمنين (ع) جاء فيه :


ثم أمر رسول اللـه بتوجيهه الجيش الذي وجَّهه مع أسامة بن زيد عندما أحدث اللـه به المرض الذي توفاه فيه . فلم يَدع النبيُّ (ص) أحداً من أبناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجَّهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئا مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع عن الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده . ثم كان آخر ما تكلم به في شيء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم ، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز ، وأكد فيه أكثر التأكيد .


فلم أشعر بعد أن قبض النبي (ص) إلا برجالٍ من بَعْثِ أسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وأخلّوا بمواضعهم ، وخالفوا أمر رسول اللـه (ص) فيما أنهضهم له وأمرهم به ، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم ، والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره ، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها اللـه عزَّ وجلَّ ورسوله لي في أعناقهم ، فحلّوها ، وعهد عاهدوا اللـه ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجَّت به أصواتهم ، واختصت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد من بني عبد المطلب ، أو مشاركة في رأي ، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي .


فعلوا ذلك ، وأنا برسول اللـه مشغول ، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود ، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية ، وفاجع المصيبة ، وفَقْدِ من لا خلف منه إلاّ اللـه تبارك وتعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها على تقاربُها ، وسرعة اتَّصالها .


ثم التفت (ع) إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟. قالوا : بلى يا أمير المؤمنين عليك السلام [22] .


كيف طالب الإمام (ع) بحقه :


ولم يشأ الإمام علي (ع) أن يحمل السيف ، ويأخذ حقه بقوة السلاح لأمرين - كما يبدو للباحث في تاريخه - وهما :


أولاً : لأنه لم يجد تجاوباً كافياً لدى المؤيدين له ، مما كان يجعل مطالبته نوعا من المغامرة .


ثانيا : خشيته على الإسلام أن يرتد عنه أولئك الذين لَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم .


ولقد أشار (ع) إلى هذين الأمرين في أكثر من مناسبة ، نذكر منها قوله - في حديث مفصل يأتي إن شاء اللـه - : فقلت يا رسول اللـه فما تعهد إليَّ إذا كان ( ذلك ) ؟ فقال :


إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً كُفَّ يدَك ، واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً [23].


/ 7