المقدمـة - حج ضیافة الله نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حج ضیافة الله - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید




المقدمـة



على الرغم من ان مكة المكرمة لم تحيطها البساتين الزاهرة والحقول الخضراء، ولم تتزين بانهار جارية كالنيل والفرات، ولم تعش طقساً لطيفاً من حيث المناخ .. بل هي واقعة بين جبال وعرة، وتحيطها صحاري قاحلة، وان حرارة الشمس فيها تجعل من رمال الصحراء ناراً تلتهب .. مع ذلك تجد المسلمين من كافة أقطار العالم يسعون جهدهم كل عام ليحضروا في هذه البقعة المباركة، ليؤدوا مناسك الحج، التي دعاهم الله تعالى إليها في قوله للنبي ابراهيم عليه السلام: « وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ» (الحج/27-28)



وثمة سؤال كثيراً ما يراود البعض، وهو: لماذا الاصرار على المشاركة السنوية في موسم الحج، حتى ان البعض حضر الموسم أكثر من عشر مرات، ولا زال يريد الحضور أيضـاً، في حين ان الواجب فـي اداء هذه الفريضة يكفي ان يحج الانسان مرة واحدة؟



بغض النظر عن اداء الواجب من مناسك الحج، الحق لابد من القول ان الحضور في هذا الموسم انما يبعث في الانسان روح الايمان والتقرب الى الله تعالى، كما وان الانسان يكتشف نفسه من خلال اعمال الحج..



وحينما يدخل الحاج في ضيافة الله، يعيش الاطمئنان والراحة النفسية، ويدخل عليه السرور من حيث لايحتسب.. لذا تجده يقاوم حرارة الطقس بكل بساطة، ويتكيف بتواجده في مهرجان الحج المليوني دون أي ضجر من زحمة الحضور، ويتجاوز مشاكل السفر من سكن ووسائط نقل وما الى ذلك بكل رضى ..



فكل الصعاب التي تعترضه تصبح في عينه امور سهلة، وكل مرارة تصيبه تضحى في فمه حلاوة.. لانه كله يقين ان الأجر على قدر المشقة فلا يأبه بالمشقة مهما تعاظمت، ولايبالي بالصعاب مهما كثرت..



وبالتأكيد كل من يعرف عظمة الحج وقيمته، وميزاته وفوائده.. تجد قلبه يتطاير شوقاً للمشاركة في الحج وروحه تتلهف للحضور في هذا الموسم، وان كان ذلك يكلفه الغالي والنفيس.



ومن خلال متابعتنا لمحاضرات سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي، وجدنا أحاديثه في خصوص الحج تزيد المرء معرفة وهدى، وتفتح له آفاق الخير والعمل الصالح.. مما تجعله لا يتوانى عن اللحوق بركب الحجاج. هذا ما دعانا الى جمعها وتحريرها لنقدمها لقراءنا الاعزاء في كتاب، آملين ان ينالوا منه نفعاً كثيراً، والله ولي التوفيق.

القسم الثقافي



في مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي



طهران 11/ ربيع الاول /1419هـ

شذرات من الاحاديث





أحب الى الله تعالى:



عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أحب الارض الى الله تعالى مكة، وما تربة أحب الى الله عز وجل من تربتها، ولا حجر أحب الى الله من حجرها، ولا شجر أحب الى الله من شجرها، ولاجبال أحب الى الله من جبالها، ولاماء أحب الى الله من مائها ([1]).



من معطيات الحج:



قال الامام علي بن الحسين عليهما السلام: حجّوا واعتمروا تصحُّ أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤونات عيالكم ([2]).



من ختم القرآن بمكة:



قال الامام أبـو جعفر عليه السلام: مـن ختم القرآن بمكة لم يمت حتى



يـرى رسـول الله صلى الله عليه وآله ويرى منزله من الجنة ([3]).



تسبيحة بمكة:



قال الامام علي بن الحسين عليه السلام: تسبيحة بمكة أفضل من خراج العراقين ينفق في سبيل الله ([4]).



النظر الى الكعبة :



عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أيسر ما يطعى من ينظر الى الكعبة أن يعطيـه الله بكل نظرة حسنة، وتمحى عنه سيئة، وترفع له درجة ([5]).



الجنة ثواب الحج:



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحج ثوابه الجنة، والعمرة كفارة كل ذنب ([6]).



من حجّ البيت:



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ([7]).



الحجاج على ثلاثة اصناف:



قال الامام أبو عبد الله عليه السلام: الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف؛ صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذلك أدنى ما يرجع به الحاج ([8]).



استبشروا بالحاج:



عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: يا معشر من لم يحج استبشروا بالحاج وصافحوهم وعظموهم، فان ذلك يجب عليكم تشاركوهم في الأجر ([9]).



لمن يعوق اخاه عن الحج:



قال الامام الصادق عليه السلام : ليحذر أحدكم أن يعوق أخاه عن الحج، فتصيبه فتنة في دنياه، مع ما يدخر له في الآخرة ([10]).



من مات ولم يحج:



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من مات ولم يحج حجة الاسلام، ولم تمنعه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، او سلطان ظالم، فليمت على أي حال شاء، ان شاء يهودياً أو نصرانياً ([11]).

جوهـرة الايمـان



مظاهر الحياة وظواهرها تتصل بجواهر معدودات، وكل جوهر تتصل به مئات الظواهر والمظاهر. واولوا الالباب وهم العقلاء الحكماء من البشر ، هـم الذيـن ينفـذون ببصـيرتهم الى جوهر الحقائق ، ولا يقفون عند المظاهر السطحية التي لا تغني ولا تسمن من جوع. مثلاً؛ نحن ندعو الله تعالى دوماً ان يرزقنا العافية ، بتمامها وشمولها ودوامها ، ولكن نتسائل : ما هي العافية ؟



العافية هي ان تكون بُنية الانسان الاساسية سالمة ، فحتى لو طرأ مرض من الامراض على هذا الانسان ، فان هذا المرض سرعان ما يتلاشى ويتبدد ويعود الجسم بكامل صحته . اما اذا كانت بُنيـة هذا الانسان ضعيفة ، فإن العافية لا تزوره. فلا يكاد يتخلص من مرض . إلاّ ويبتلى بمرض آخر. اذن نحن يجب ان نبحث عن جوهر العافية وليس فقط عن مظاهرها الخارجية .



هـذا فـي الانـسان كفـرد ، كذلك فـي المجتمـع ، فبعض المجتمعات مثلاً تجدها مبتلاة بعشرات الاخلاقيات السلبية السيئة والعياذ بالله من قبيل الكبر ، والرشوة ، والدجـل ، والازدواجية ، والخيانة ، وعصيان من هو اكبر ، وظلم من هو اصغر ، والتفكك الاسري، وغيرها من الاخلاقيات السيئة .



ونتسائل : ما هو الخلق الفاضل في المجتمع ؟



ويجيب علماء الاجتماع؛ بان اساس الخلق الفاضل في المجتمع، هو ايمان ذلك المجتمع بالاخلاق بانها السبيل لسيرته في الحياة. فالمجتمع الذي يتمتع بالخلق الفاضل، هو المجتمع الذي يملك جوهر الاخلاق. بينما المجتمع الذي يفقــد ذلك هو المجتمع الذي لا يعتمد الاخلاق منهجاً ، ولا يتمسك بالآداب طريقاً ، ولا يهتم بالجوهر الذي امر الله سبحانه وتعالى به .



لـذلك مثـل هـذا المجتمـع اذا تكلمـت معه عن مفردات الاخلاق ، وارشدتـه الـى السليـم منهـا ونبهتـه الـى السقيـم منهـا ، فأنـه لاينتفــع بذلك، لان المشكلة ليست مشكلة المصاديق والمفردات ، وانما المشكلة هي ان هذا المجتمع طبيعته اللاإلتزام والا اهتمام واللاتأدب ، لذلك تجد ان كل المفاسد الاجتماعية متراكمة فيه .



الايمان جوهرة وتجليات :



قـد نتحـدث عن الصلاة وعن الصوم وعن الصدق وعن الوفـاء وعن



سائر الواجبات التي امر الله سبحانه بها ، ولكن كل تلك انما هي مفردات الايمان وتجلياته ومصاديقه. اما الايمان فهو شيء آخر .



فـإذا كان الايمـان ضعيـفاً ، فإن كل هذه المصاديق تكون ضعيفة. فحتى لو صلى ، فإن صلاته لا روح فيها. فهو يسهى عنها ، وبالتالي لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، ولا تأمره بالعطاء والانفاق للمساكين. لـذلك فـإن الصـلاة التي لا خشوع فيهـا ، انما هي ويل على صاحبها « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ » (الماعون/4-5)



فبدلاً من ان تكون رحمة ، تكون ويلاً. وكما الصلاة كذلك سائر الواجبات التي قد يؤديها الانسان بصورة آلية.



ان المجتمع الناهض، هو المجتمع الذي تكون جوهرة الايمان فيه جوهرة نقية، صافية، حقيقية، اما المظاهر فليست مصاديـق. فقد نجد مجتمـعاً من المجتمعات كمجتمع الكوفة في زمن الامام الحسين عليه السلام يقيم الصلاة بوقتها، ولكنه يجتمع مع ذلك على قتال حقيقة الصلاة وجـوهرها ورمزهـا وامامها، أبا عبد الله الحسين عليه السلام.



ان جيش الكوفة بقيادة عمر بن سعد ، اقام صلاة المغرب والمعشاء ليلة عاشوراء ، وكذلك صلاة صبح يوم العاشـر مـن المحـرم ، ولكن اية صـلاة كانـت تلك؟! انها الصلاة التي يصدق عليها قوله تعالى: « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» . ويل لهذا الانسـان الذي يصلي بهذه الصلاة ، التي هي شرك وتصدية ومكاء . ان صلاته بدل ان تكون معراجاً الى الله سبحانه



وتعالى، فإنها تكون وزراً عليه.



الحج جوهرة الايمان :



الحج من الفرائض الدينية التي تزيد جوهرة الايمان في الفرد ، وكذلك في المجتمع. فالمجتمع الذي يبعث بوفـده الـى الرحمـن سبحانه وتعالى، هذا المجتمع تزداد فيه جوهرة الايمان وحقائقه، وليست فقط مظاهره. ذلك ان الحج ليس ذا جانب فردي فقط ، وانما هو عبادة فردية واجتماعية .



فالانسان منـذ ان يخـرج من بيته متوجهاً الى الله سبحانه، وملبياً داعي الله، فإن الملائكة منذ تلك اللحظة تحف به، ويكون قلبه يخفق بالايمان ، وينبـض بالتقـوى ، ولا يواجـه في طريقه صعوبة او مشكلة او أذاً ، إلاّ وتسجل له بذلك حسنة.



ان هذا الانسان هو في ضيافة الله، محفوفاً بملائكة الله، الى ان يذهب الى التلبية .. لبيك اللهم لبيك .. لا شـريك لك.. وهنا لك يستجيـب الله سبحانه وتعالى له، لانه ضيف عند اكرم المضيفين.



وهكذا فإن هذا الانسان منذ لحظة خروجه من بيته حاجاً ، الى ان يصل الى الميقات ، ومن الميقات الى مكة المكرمة .. الى ان يكون في وادي عرفة ، فإذا كان ظهـيرة يوم عرفة في ذلك الواد ، فإن الله سبحانه يخاطبه، ويقول له عبدي : قد غُفر لك ، وطهرت من الدنس، فاستقبل واستأنف العمل . ([12])



وكما جـاء فـي الحديـث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: .. فقال أبي عليه السلام : ما وقف بهذا الموقف -عرفات- أحد من الناس من مؤمن ولا كافر إلاّ غفر الله له . ([13])



فهـذه الاوراق الـتي طـلاها الحاج بالسواد باعماله السيئة في كل حياته ، تتساقط عنه وتزول ، ويفتح صفحة جديـدة ، ويكون كيوم ولدته أمه. ولكن المشكلة هي بمجرد خروجه من عرفات، لان الشيطان يلحقه مرة اخرى، كما جاء في الحديث الشريف، لذلك فإن الكثير من المؤمنين يتمنون الموت في تلك اللحظة، ويدعون الله بذلك .



روي ان الحج افضل من الصلاة والصيام ، لان المصلي انما يشتغل عن أهله ساعة ، وان الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم ، وان الحاج يشخص بدنه ويضحى نفسه وينفق ماله ويطيل الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا الى تجارة . ([14])



ذلك ان الحاج يواجه في الحج تلك الصعوبات؛ في عرفات، وعند الجمرات، او في الطواف.. وقد يواجه هناك الموت من شدة الحر والزحام، فهو حاسر الرأس امام اشعة الشمـس اللاهبـة، وهو هناك ليس فقــط لا يجوز له ان يزاحم أحـد او يدفعــه ، بل حتـى الجـدال بالحـق لا يجـوز له « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَـن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ



وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ » (البقرة/197)



فهو لا يستطيع ان يقول لا والله، بلى والله. فهناك تسليم مطلق لله عز وجل.



فالمجاهد اذا يقتل فهو قد قاتل وقَتل وقُتل، اما الحاج فانه إن مات مات بـدون ان يدافع عن نفسه ، ولو كـان يـدافع عن نفسه لربما لم يمت . وهذا التسليم المطلق يربي في الانسان جوهرة الايمان ويصقلها ويصبغ حياته صياغة ايمانية جديدة .



خصائص الحج الاجتماعية :



لو نظـرنا الى الحجـاج وهم يطوفون حول البيت الحرام ، وسألناهم من أي البلاد هم ، لوجدنا انهم قد اجتمعوا من كل بلد ، قرب او بعد. ولو اخذنا مثلا الف حاج كعينة ، لوجدنا ان كل واحد من هؤلاء ربما هو من منطقة تختلف عن مناطق الاخرين. وهذا يزيد ايمان الامة بنفسها وبقيمها وبكتابها وبرسولها ، وبالتالي بالله سبحانه وتعالى.



لذلك جاء في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام انه اذا الكعبة اهملت ، فلا يُنظرون. أي ان الامة الاسلامية كلها ستدمر وتزول. فبقاء الامة ببقاء الناس حول الكعبة .



لقد جعل الله سبحانه الكعبة هـدى ورحمـة وبركـة للامة الاسلامية جميعاً وفي كل منطقة من المناطق ، حتى البعيدة منها. فالامة انما تعيش بالكعبة . لذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: « وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ » أي قلنا لابراهيـم .. يا ابراهيـم هنا مكان البيـت « أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً » من هذا نستفيد؛ ان هناك علاقة بين بيت الله الحرام، وبين التوحيد في المجتمعات .



ثم قال ربنا عز وجل: « وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكّـَعِ السُّجُـودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ » (الحج/26-27)



لقد جاء ابراهيم عليه السلام بزوجته هاجر وطفلـه الصغير اسماعيـل ،



وتركهم في تلك الارض القاحلة بين الجبال بأمر الله سبحانه وتعالى، والذي امره ايضاً بأن يذهب الى اعلى جبل قُبيس ويدعو الناس للحج ..



وحينما قال ابراهيم : يا رب؛ لمن ادعو، فليس هنـاك احد في هذا الوادي ، وبين هذه الجبال التي ليس فيها ماء ولا كلاء . جاءه الجواب: ان يا ابراهيم عليك الاداء وعلينا البلاع .



وهكذا صعد ابراهيم ذلك الصديق الى اعلى جبل قُبيس ونادى: ايها الناس؛ هلموا للحج.. وكما جاء فـي الحديـث عن أبي عبد الله الامام الصادق عليه السلام قال: لمّا أمر الله عز وجل ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتـمّ بناؤه أمره أن يصعد ركناً ثم ينادي في الناس : ألا هلمّ الحج، فلو نادى هلمّوا الى الحج لم يحجّ إلاّ من كان يومئذ إنسياً مخلوقاً، ولكن نادى هلمّ الحج، فلبّى الناس في اصلاب الرجال: لبيك داعي الله لبيك داعي الله، فمن لبّى عشراً حج عشراً، ومن لبّى خمساً حجّ خمساً، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك، ومن لبّى واحداً حج واحداً، ومن لم يلبّ لم يحج . ([15])



لذلك ترى الناس حين يأتي موسم الحج ترى قلوبهم تتلهف للحج ، واذا بالامور تتهيأ لبعضهم فيوفقون للحج ، ولا تتهيأ للبعض الاخر فلا يتوفقون. وهذا التوفيق، انما جاء منذ ذلك اليوم .



بعد ذلك قال الله تعالى: « لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ »



ان الحج ليس مجرد عبادة فردية ، وانما اضافة الى ذلك هي عبادة تتصل بالحياة وبتطوير الامم. فقد جعل الله سبحانه ارض مكة منطقة حرة اعطاها حرمة كاملة ، هو سماها البيت الحرام الذي لا يحق للانسان فيه ان يتجاوز ويعتدي على أي شيء ، حتى النملة اذا كانت على بدنه فلا يحق له ان يأخذها ويرميها على الارض ، وانما عليه ان يضعها في مكان أمين ، وحتى الطير لا يحق للحاج ان يكشه. لذلك تجد ان كل شيء هناك آمن .



وكما يقول الشاعر العربي قبل الاسلام النابغة الذبياني :



والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبـان مكـة بين العـين والسلــم



أي قسما برب الذي اعطى اماناً لهذه الطيور العائدة ، التي يمسح على ظهرها المسافرون الى مكة ، وهي بين تلك الاحطاب وتلك الشجيرات البرية التي تسمى بالعين والسلم .



البيت الحرام ، والمسجد الحرام ، المشعر الحرام ، ماذا يعني ذلك ؟ انه يعني الحرية ، بل اقصى انواع الحرية . فهناك يجوز للانسان ان يتحدث بكل صراحة ، ولا يحق لاحد ان يعتدي على احد .



وبالرغم من ان هذه الآيات الكريمة لم تطبق بالصورة الكاملة، الا ان ما طبـق منها حتى الان في المسجد الحرام افادت الامة الاسلامية فائـدة كبـيرة.



ان الحج ينضح كل عام في الامة الاسلامية تياراً من الامل والايمان والتحدي للمشاكل الى ابعد الحدود. وهذا التيـار عليـنا ان نسزيد منه عبر تطهير انفسنا والذهاب الى الحج وقد ادينا كل الحقوق والواجبات التي علينا من قبل الله والناس ، وخصوصاً حقوق الارحام. وبذلك نزداد في الحج طهراً ونقاءاً وايماناً بـإذن الله .



ثم ان علينـا ان نبرمج لحجنـا ، فخـلال الايـام التي يقضيهـا الحـاج في



ضيافة الرحمن عز وجل ، علينا ان نستفيد من تلك الساعات بأقصى قدر ممكن من الاستفادة بذكر الله عز وجل، وبتلاوة القرآن. ففي الحديث الشريف: من ختم القرآن في مكـة لم يمت حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله ويرى منزله من الجنة . ([16])



ثم الدعاء والتبتل لرب العزة، والدعاء لاخواننا المؤمنين، ولذرياتنا، ولقضاء حوائجنا لدنيا والآخرة، انه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

محطّة التقـوى



« الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة/197)



تختصر الآية الكريمة أعلاه احكام الحج وفلسفته، كما تمنح الحاج بصيرة نافذة عن كيفية الحج، وبماذا يمكن أن يعود به، وكيف يتحول الحج بالنسبة إليه إلى نقطة تغيير ذاته في حياته، ليكون من قبل الحجّ وبعده نمطين من الشخصية؛ الاول: شخصيته قبل الوقوف بعرفة، والثاني: شخصيته بعد الوقوف بعرفة.



فمن الناس من يستفيد من هذه النقطة الاساسية فيعود بزاد عظيم «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » ، ومنهم من يقتصر الاستفادة القليلة.



ولاريب إن أعمال ومواقف الحجّ كلّها فوائد تعود على الحاجّ، وفي الحديث المروي عن مولانا الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام جاء: أعظم الناس ذنباً من طاف بهذا البيت -مشيراً الى البيت العتيق- ووقف هذا الموقف -مشيراً الى الوقوف بوادي عرفة- ثم ظنّ أن الله لم يغفر له ذنبه، فهو أعظم الناس ذنـباً .



بمعنى أن الانسان يجب أن يكون على يقين خالص بأن الله قد محا كل ذنوبه وخطاياه اذا وقف في عرفات؛ الموقف الذي هو بمثابة الأوج في سلسلة أعمال الحجّ وأحكامه. فهو بحق ولادة جديدة لإنسان، حيث تتجدد روحه وإيمانه ونظرته الى حقائق الحياة وحقائق الآخرة.



ولكن نجد بعض من يعود من الحجّ، يعود الى ما كان عليه قبل ذلك بداعي ما اعتاد عليه من سلوكيات غير صالحة، بالاضافة الى احتمال هذه الفريضة الربانية على غير محملها، والاخلاص الذي ينبغي أداؤها فيها. فالفرق شاسع للغاية بين من لا يتزود من الحج بشيء، وبين من يتزود بالتقوى. وعلى كل حال فالجميع يسمى عائداً.



إن الهدف الأكبر من أداء فريضة الحج توضحه الآية الكريمة بجلاء كامل. فهي بعد أن تشير الى أن الحجّ في أشهر معلومات، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة، تؤكد الآية مرة أخرى بأن من أحرم للحج، عليه الالتزام بمجموعة من التعاليم تنتهي الى الولادة الجديدة، التي هي الهدف من فريضة الحجّ. وهذه التعاليم هي: نبذ الرفث، نبذ الفسوق، ونبذ الجدال خلال الحجّ.



« فَلا رَفَثَ » فكل ما يتصل بالجنس والشهوة يجب أن يتهاوى وأن



يبتعد الحاجّ عنه، حتى قال الفقهاء: من ثبوت الاحرام يجدر بالحاج ان يمتنع حتى عن أن يكون شاهداً في عقد الزواج. فوجوب التخلص، ولو لفترة محدودة عن جاذبية الشهوات، أمر لابد من الالتزام به.



« وَلا فُسُوقَ » وللفسوق تفسيرات عديدة، ولكنّ التفسير الاشمل هو كل ما يخرج الانسان عن جادة الصواب. أي ضرورة الالتزام بهجرة الذنوب؛ الصغائر منها والكبائر. بمعنى أن في الحجّ برنامج عمل متكامل لتربية وتزكية الحاج بصورة مباشرة. فكل ذنب من الذنوب له عقاب مباشر، وقد يصل بعض انواع العقاب الى بطلان الحجّ من الاساس، وذلك إذا تمادى الحاج في ارتكابها. هذا فضلاً عن مسألة قبول الله لها أو عدم قبوله.



ويبدو ان النموذج الأشمل للفسوق في الحج هو التلبس -اعتقاداً وسلوكاً- بكل ما من شأنه التمييز الطبقي أو العرقي أو غير ذلك بين انسان وآخر. بمعنى أنّ الحجّ فريضة المساواة بين الناس أمام خالقهم، لايتفاضل أحد على أحد، ولايتفاخر أحد على أحد، والمحرمون جميعهم يحرمون بملابس ذات نوع وشكل وطريقة واحدة، ولا حق لأحد أن يبتدع شيئاً من عنده إلا ما قررته الشريعة.



إنّ الحجّ فريضة العقيدة والعمل؛ الفريضة التي تقوّم المعتقد والسلوك في آن واحد. وفي هذه الفريضة لابد للإنسان من التؤكد قولاً وفعلاً بان كرامته ومجده وشرفه وقيمته لاتكون فيما يمتلك، أو الى أي شعب أو عشيرة ينتمي، أو في مستوى علاقته الاجتماعية أو في منصبه، أو في أي شيء من مشتقات هذه الامور الزوائل. بل إن كرامة المرء لها خصوصية ذاتية. إذ الانسان أكرم من الممتلكات والاقارب والعلاقات والمنصب.. ولنفترض أنه إذا كان يعيش في مكان مجرد، لا مال له ولا إمكانات ولا علاقات.. فهل يعني أنه لا قيمة فيه أو لديه؟!



الاسلام جـاء ليعيد الناس الى هذه الحقيقة الأصلية، وقد أكدت الآيات القرآنية الكثيرة بانّ الشريف هو الانسان؛ وأن المكرّم هو الانسان وليس ما يحيط به. فشرف الدرّة بالدرّة، وليس بالخرقة التي تلفّها...



« وَلاَ جِدَالَ » إن الانسان الذي يغفل عن حقيقة الوجود وعن حقيقة نفسه تجده مستميتاً في الذبّ والدفاع عن نفسه، « وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً » (الكهف/54) وهذه هي الإشكاليـة.



إذن؛ فالحاج يقصد بيت الله ليتطهّر؛ ليس فقط من الذنوب، وإنما من تلك الجذور العميقة الضالة في عمقه، تلك الجذور التي تتفرع عنها الذنوب. فالمذنب يذنب بشهواته المادية أو بعصبياته وجدله ومفاخرته ومباهاته واستحقاره للآخرين.. جاء الحاج ليتطهّر منها في لحظات التجلي الربانية، اللحظات التي يتعرف فيها الانسان الى حقيقة نفسه المجردة العاجزة، فيزداد معرفة بربّه. وصدق الحديث الشريف القائل: من عرف نفسه فقد عرف ربّه ([17]) .



ولحظات التجلّي هذه تضرب في عمق الإنسان الحاج الصادق والراغب الى الله تبارك وتعالى؛ فتراه يحنّ الى أداء الحجّ مرات ومرات. فقد أشرق نور الرب على قلبه وأحسّ بالاطمئنان والسكينة واللّذة الروحية التي لا لذّة فوقها رغم الصعوبات والمتاعب الجسدية التي لاقاها أثناء أدائه مناسك الحجّ. فتراه مرة أخرى يبحث ويفتّش عن تلمس تلك اللّذة من جديد.



إن من كرم الله سبحانه وتعالى علينا أنه يرينا آياته إيماناً ويقيناً كما أراها لنبيه موسى بن عمران عليه السلام فخرّ صعقاً . والتفاوت يقترن بمستوى الايمان والمنزلة. والمقدار البسيط الذي يرينا الله تبارك وتعالى إياه يثبت لنا ويدفعنا نحو التكامل والاتصال بمقام تلقي النور الأقدس.



وبعد ذلك يقول الله تعالى: « وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» .



والخير الذي يمكن للانسان ان يفعله أثناء الحجّ بوجه خاص؛ الاخلاص لله سبحانه وتعالى، ووعي الاهداف الأصلية لأنواع المناسك والإتيان بها.



والتزوّد الذي يأمر الله تعالى به، هو التزوّد بالتقوى. والتقوى عبارة عن حالة نفسية لا تنمو بالمال ولا بالدروس ولا بالمحاضرات، بل التقوى ملكة نفسية ينميها المرء من خلال تجارب عملية تترك في ذاته آثاراً ايجابية عميقة.



إن القرآن الكريم خاطب الناس خطاباً مباشراً دعاهم الى التزوّد من التقوى اثناء ادائهم مناسك الحجّ، والمهم في الانسان الحاج أن يسعى الى الحصول على التقوى، مهما كانت درجة هذا الحصول والتزوّد والطموح. ومن يحصل على هذه الملكة النورانية، هو الذي يتلمس السعادة ويذهب الى الله عز وجلّ بقلب سليم.



وهنا تجدر الاشارة الى ان أمام الانسان رحلة شاقة ووعرة في حياته، لا يعلم مداها بأي حال من الاحوال. فقد تقصر وقد تطول، وهو يجهل موعد مواجهته لملك الموت المفاجئة. ولكن بين هذا وذاك كان الله تبارك وتعالى قد أطلعه كل الإطلاع على إن الأمر المهم في حياته هو أن يمارس ارادته في التصدي لوساوس الشيطان الرجيم الذي لا ينفك عن محاصرته والتغرير به، حتى ولو كان على جبل عرفات..



فلحظة واحدة يرجع فيها الانسان الى نفسه، ليعلن فيها عزمه على التغيير والمسير نحو نور الله. فالرب تبارك وتعالى لا يطلب من المؤمن غير إشارة بسيطة ليقترب منه، ويفتح أمامه أبواب الرحمة والسعادة الأبدية. وما هذه المصائب والبلايا التي تواجه الانسان في عمره إلا صعقات لإيقاضه من غفلته وتنبيهه عما هو فيه ليتوب ويعمل صالحاً فيما ترك.



ولا نبالغ ان قلنا: ان فريضة الحجّ انما هي محطة لاستراحة الحاج من ذنوبه، ومركز مثير لإيقاف الدوامة الشيطانية الهوجاء التي تعصف به. فهـي محطة جديرة باحترام الانسان كي لا تفقد قيمتها بانشغالـه بمسائـل



ثانويـة وتافهـة.



إن قصد الهدف الاسمى من الحجّ بتجرد، والتوجه الى لبّ المسألة ، هو المرآة الناصعة التي ينعكس فيها قولـه تعالـى : « وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَاب » .



فليس كل انسان ينخرط في عداد من سماهم القرآن الكريم « أُوْلِي الأَلْبَاب» بل هي تسمية تصدق على الذين يستهدفون عمق القضايا والمفاهيم فحسب. أما اولئك الذين يقنعون بالظاهر من الامور، فحري بهم العيش على السطح، أو يكتفوا من البحر بزبده.



نسأل الله سبحانه أن يجمعنا وإياكم على الهدى، ويزيّننا بالتقوى، وان نتخذ من الحج مناسبة لولادة التاريخيـة الجديـدة.

بوتقة الاخـلاص



في كل عام ، وعندما يقترب موسم الحج يستعد مئات الالوف من المؤمنين الذين توافدوا من اقطار الارض الى بيت الله الحرام؛ يستعدون لرحلة الحج العظيمة التي هي بمثابة بوتقة تصهر الملايين من البشر بمختلف اجناسهم، وجنسياتهم في وحدة توحيدية بالغة الصفاء والقيمة.



ايام مباركات:



ان الايام العشرة الاوائل من شهر ذي الحج، التي اشار اليها الله تبارك وتعالى في قوله : « وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ » (الفجر/1-3)، وقوله: « وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً » (الاعراف/142). هذه الايام تعتبر من الايام المباركة العظيمة، لان وفود الرحمان تستعد فيها للقيام بتلك الرحلة الالهية العظيمة. فلقد اذن مؤذن الرب تعالى ابراهيم الخليل عليه السلام في الناس بالحج، فاذا بقلوب الملايين تهوي الى الكعبة المباركة، والمسجد الحرام، والمشاعر المقدسة، وتتعلق بهذه الديار التي تتجلى فيها رحمة الله، وتستقطب نفوس المسلمين اينما كانوا.



ولذلك فعلى الرغم من الصعوبات والاخطار التي كانت وما زالت تهدد الوافدين الى مكة المكرمة ، وعلى الرغم من الاموال الهائلة التي لابد لكل انسان مسلم ان ينفقها ليصل الى تلك الديار.. على الرغم من كل ذلك ترى السلمن يعشقون الحج ، ويبذلون الغالي والنفيس من اجل ادائه. وهذا دليل على ان هذه النفوس انما تهوي استجابة لنداء ابراهيم عليه السلام: « فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » (ابراهيم/37).



ومنذ ذلك الزمن البعيد والى الآن ؛ اي بعد حوالي خمسة آلاف عام او اكثر مازال هذا البيت العتيق يستهوي الملايين من البشر، وكأنه مؤتمر الهي عظيم. فالذين يذهبون الى هذه الديار انما هم ممثلون عن المسلمين ؛ اي عن اكثر من مليارد ومائتي مليون انسان مسلم منتشرين في بقاع الارض المختلفة، صهرتهم بوتقة التوحيد ، وجعلتهم يحافظون على وحدتهم رغم انهم يتحدثون بلغات شتى ، ويعيشون في بيئات مختلفة، ويتفاعلون مع مؤثرات متفاوته. فترى الواحد منهم ينتمي الى جنس من الممكن ان لايكون الآخر قد سمع به ، ومع كل ذلك نرى هذه الامة المنتمية الى جميع الانبياء ما تزال هي الامة الواحدة كما يقول تعالى:



« إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » (الانبياء/92)



فالامة ماتزال بكل عنفوانهـا وشبابهـا ونظارتها وحيويتهـا ، وما يزال



الحج هو بوتقة هذه الأمة ، والسبب الذي جعلها واحدة رغم كل الحواجز ، لان الحج يصهر هذه النفوس انصهاراً عينياً واضحاً في تلك البوتقة الواحدة .



الله قريب منا ولكن ... :



ان ربنا العزيز الرحمان الرحيم قريب منا، ولكننا نحن البعيدين عنه. فالله سبحانه وتعالى لا يبحث عنه في القفار ، او في اعالي الجبال ، اوفي عمق السماء.. فهو شاهد حيث يكون الانسان حاضرا، وهو قائم قيوم حي، يسمع ويرى، كما اكد على ذلك في قوله الكريم: « وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ» (المجادلة/1)، وقوله: « إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى » (طه/46).



وهكذا فان الله جل وعلا قريب منا، ولكننا نحن البعيدين عنه. كما يشير الى ذلك قوله عز من قائل: « وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » (البقرة/186).



اى اننا بعيدون عن الله جل وعلا لسبب واحد، هو اننا محجوبون عنه بمجموعة كبيرة من الحواجز. فالشمس تشرق كل يوم وتملأ الخافقين ، ولكن غرفتي التي أغلقت ابوابها ، واسدلت ستائرها بعيدة عن الشمس محجوبة عنها. وهكذا الحال بالنسبة الى علاقتنا بالله جل وعلا، فنحن بعيدون عنه، لاننا محجوبون عنه بالتوافه الدنيوية. فالدنيا هي اكبر حاجز بين الانسان وربه، كما يقول الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: حب الدنيا رأس كل خطيئة ([18]).



والاسـوء من ذلك ان الواحد منا يعيش الانانية ، ويعيش السجن الذي وضع نفسه فيــه حتى اذا ما خرج من هذا السجن دخل في رحاب الحقيقة . ولذلك جاء في الدعـاء المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي : واعلم انك للراجين بموضع اجابة ، وللملهوفين بمرصد اغاثة... وان الراحل اليك قريب المسافة ، وانك لا تحتجب عن خلقك إلاّ ان تحجبهم الاعمال دونك... .

ضرورة الاخلاص:



فلنخلص العمل والنية، ولنحطم الانداد والاصنام، فاذا بنا نجد انفسنا عند الله سبحانه وتعالى نناجيه ويناجينا، ونتحدث معه ويتحدث معنا. فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله: قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمان ([19])؛ اي ان هذا القلب يتقلب مع الله جل وعلا ، كما كان حال امامنا أمير المؤمنين عليه السلام الذي وصف نفسه قائلا: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه .



صحيح ان عين الانسان ترى المظاهر المادية، ولكن علياً عليه السلام ينفذ ببصيرته من خلال هذه المظاهر الى رب المظاهر ، ومن خلال الدلائل الى رب الدلائل ؛ اي انه لا يرى المظهر، بل يرى ما روائه. ولذلك اكد عليه السلام على ان الخالق جل وعلا ، انما يرى من خلال البصائر والحقائق وذلك في قوله : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان . ([20])



وعلى هذا لكي نصل الى الله جلت قدرته، ولكي نتحدث معه، ولكي نحبه ويحبنا ، ونرضى عنه ويرضى عنا.. فان علينا ان نسقط كل الاصنام التي يقف في مقدمتها صنم الانانية. فكلنا من آدم، وآدم من تراب. ومادامت حبات التراب لاتختلف، فان البشر ايضاً لايختلفون عن بعضهم إلاّ بالتقوى، كما يقول رب العزة: « يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات/13) .



وعلى هذا فان من الواجب علينا ان لانفتخر بأصلنا ونسبنا. فالنسب لايمكن ان ينفع الانسان من دون العمل الصالح. فعلى سبيل المثال ان ابن شيخ المرسلين نوح عليه السلام لم تنفعه صلته القريبة بهذا النبي، ولم تستطع ان تنجيه من الغرق، لانه لم يكن مؤمناً بالله تعالى كما يروي لنا ذلك القرآن الكريم في قوله: « وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ » (هود /45-46) .



وعلى هذا يجب علينا ان نسقط هذا الحجب والحواجز، وننصهر في بوتقة الايمان. ولذلك نجد المسلمين في مكة المكرمة عند الطواف والمسعى ، وفي عرفة والمشعر ومنى وغيرها من المشاعر المقدسة هم اقرب ما يكونون من الله جل وعلا، لانهم حطموا في تلك اللحظات جميع الحواجز. فتراهم جميعهم على اختلاف الوانهم ، ولغاتهم ، ومراكزهم الاجتماعية يهتفون قائلين : لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك .



فالميزات التي تميز الانسان عن الآخر تسقط كلها في موسم الحج. فعلى سبيل المثال، فان الملابس التي تعتبر من الامور التي يتميز بها انسان عن آخر ، ترى في الحج ان الجميع يرتدون لباساً واحداً متشابهاً، هو لباس الاحرام. فتتهاوى مظاهر الترف والزينة، لانها تعتبر من الامور المحرمة في الاحرام .



وهكذا ففي موسم الحج يشعر الانسان بالروحانية والصفاء . فترى النفوس تلتهب ايمانا وتتوقد معرفة بالله تقدست اسماؤه، فكلمات الدعاء تنبع من اعماق الانسان، وتختلف عما نعيشه في غير موسم الحج، حيث تحيط بنا الدنيا وزخارفها.



فلنخرج من هذا السجن الذي حبسنا فيه انفسنا، لتشرق على قلوبنا شمس الحقيقة، وحينئذ نقترب من الله جل وعلا، ونتخلص من حالة البعد والاحتجاب عنه بالحواجز والحجب الدنيوية .



في استقبال ايام الحج:



وبالاضافة الى ذلك فاننا كلما نقترب من الايام العشرة الاولى من ذي الحجة الحرام ، ونستقبل يـوم العيد الذي هو من الايام العظيمة عند الله، فان علينا ان نهئ انفسنا - إن لم نوفق الى الحج - كما يهيؤها الحجاج، ولنشاركهم في روحانيتهم ، وتوجهاتهم الانسانية ، وان نهتم في ليالي تلك الايام المباركة بقراءة القرآن والادعية واداء صلاة الليل واداء النوافل من العبادات.. والاهتمام بالتوجيهات الروحية التي من شأنها ان تخرجنا من سجن هذه الدنيا. بهذا يمكننا ان نحظى ولو على شيء من فضيلة الحج وكرامته، وان ننههل من معين فوائده الجمة.

موقف المعرفـة



إن المسافة بين الأرض والسماء يتصورها البعض مسافة لاتنتهي، في حين أن هذه المسافة نفسها لدى البعض الآخر لا تعدو أن تقطع بأقصر زمن وأخف حمل. إذ أن هذا البعض يمتطي خلال رحلته مطية الاستغفار والتوبة دون حجاب والتوبة دون حجاب واحد من حجب الكبر والغرور والاثم.



فمن أيِّ الناس أنا؟ ومن أيّ الناس أنت؟



وبكل اختصار أشير الى أن الله سبحانه وتعالى يرفع في -لحظة- عرفات القلم عن التدوين ليضعه في يد الانسان حتى يقرر ويقدر مصيره بنفسه، تماماً كما فعل سبحانه وتعالى ويفعل ذلك في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان الكريم حيث ليلة القدر، فيختار المرء مسيره نحو اليمين أو الشمـال . والفرق بين المناسبتين ؛ أن مناسبة ليلة القدر تعم جميع الناس، بينما لحظة عرفات تختص بشريحة معينة منهم ممن حضر



المنسك الكريم عند وادي عرفات.. وطوبى لهم من حضور.



وعلى هذا الاساس يكون من الجدير القول بأن عزيمة الحاج الى أداء مناسك الحج، انما تتأتّى ضمن دعوة رسمية صادرة من قبل الله تبارك وتعالى موجهة إليه. بمعنى أنه سبحانه وتعالى ينظر بعين الرحمة والحكمة الى عباده، فيختار منهم من يختار الى الوقوف بين يديه في تلك المواقف المقدسة، بينما تبقى تلك الفجاج العظيمة تنتظر دورها عسى الله ربها يرحمها ويتعطّف عليها حيث يأتي دورها وتشملها الدعوة الربانية.



ويستطيع الحاج أن يراجع ذكرياته الجميلة منذ أول خطوة خطاها لأداء المناسك؛ كيف تكونت لديه الفكرة، وكيف أحسن بالرغبة العارمة الى الحج، وكيف واجهته عقبات السفر فتجاوزها الواحدةبعد الاخرى حتى تشرف بالوصول الى الديار المقدسة وأدّى فريضته..



ومن هذا المنطلق يجدر بالحاج أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الدعوة الخاصة والمقدسة ويتقن بكل وعي وإخلاص وتوجه أداء مناسكه، ويعرف كل المعرفة كيفية الاستفادة من هذه الضيافة، ويتعلم أصول اللقاء إذ الداعي هو جبار السماوات والأرض رب الدنيا والاخرة ومالك كل شيء.



ليبدأ قاصد الحاج بالخطوة الاولى، وليتأكد بأن ارتداء ملابس الاحرام وخلع ملابسه العادية لاتقتصر على هذه العملية الظاهرية، بل هي مجرد رمز الى ضرورة إماطة الحجب الباطنية التي من شأنها الحيلولة دون رؤية الحقائق الملكوتية. ولعل في كل شرط من الشروط التي يجب أن تتوافر في ملابس الاحرام، يمكن رمز من رموز العرفان والزهد والتوجه الخالص الى البارئ سبحانه وتعالى. فالتجرد من الثياب العادية يرمز الى التجرد من الذاتية والأنانية، وكأن المحرم يعلن عن أنه ليس ذلك الانسان السابق الغريق في أو حال المادة. وهذا التجرد يعني في الوقت ذاته الاعلان عن الدعاء والتضرع والاستعداد لتلقي الرحمة الإلهية.



ولقد رأيت بنفسي بعض الحاج لايكاد يجرؤ على لبس ثياب الاحرام أو أداء شعار التلبية شكاً في نفسه من أن يكون كاذباً في عمله أو مدّعاه؛ وخوفاً من ربّه العزيز أني يبادره بالإعراض والجفاء تبعاً لذلك. ورأيت أعينهم تفيض من الدمع، وجلودهم تقشعرّ من الخوف في تلك اللحظة العظيمة؛ لحظة الاحرام والتلبية.



الآن وقد عزمنا على الذهاب الى عرفات ([21]) ونستعد لطيّ المسافة، لابد لنا من أن نعرف قبل كل شيء أن الله تبارك وتعالى قد تفضل علينا قبل كل ذلك باختزال هذه المسافة، حتى لتكاد الفاصلة بين السماء والارض لتنعدم وتتلاشى.



ولابد ان يستحضر كل منا ان اول واجب يقع على عاتق الواقف بعرفات ، هو واجب معرفـة الله سبحانـه ؛ معرفـة قلبية تتصل بالنــور ،



وتخرق الحجب، وتصل الى معدن العظمة والقدرة والملكوت.



وثمة قضية أخرى ينبغي التوجه إليها، وهي أن معرفة المؤمنين من ضمن المسائل التي لابد للواقف بعرفات أن يحوزها. فهناك تلتقي أرواح المؤمنين، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام: الارواح جنود مجندة، ما تعارف منها أئتلف وما تناكر منها اختلف هناك أيضاً تكتشف الصديق الجدير من غيره فهو سيكون صديقك في الدنيا والآخرة.



والأعظم من معرفة الصديق، معرفة الامام. إذ ان فلسفة الحج وروحه وحقيقته تكمن في معرفة الامام.



ومن اراد ان يزداد معرفة بامامه، يتطلب منه ما يلي:



أولاً: أن يتحول القلب الى مركز ومهوى لحب الامام وحب أهل البيت عليهم السلام وحب ما أحبّوا وبغض ما يغضوا.



ثانياً: مطالعة الأحاديث والأدعية المتواترة عن أئمة الهدى المعصومين، فأرواحهم تتجلى تجلياً ناصعاً في هذه الأدعية والأحاديث، ومن ذلك دعاء المإمامين الحسين والسجاد عليهما السلام الخاص بيوم عرفة. وهذه المطالة لابد وأن تكون بروح متفتّحة وقلوب طاهرة ومنزهة عن الوساوس والشكوك والزيف والاهتمم بالدنيا.



/ 4