- نبی و اهل بیته نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

نبی و اهل بیته - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


النّبي واهل بيته

المقدمــة


المقدمــة


بســم اللــه الرحمــن الرحيــم


الحمد لله رب العالمين وصلى اللـه على قدوة المرسليـــن محمد المصطفى وعلى آله الهداة الميامين .


اين كانت البشرية اليوم لولم يبعث اللـه فيهم رسلا من انفسهم يتلون عليهم آياته ويزكونهم ويعلمونهم ، أولم يكونوا في ضلال مبين ؟


أنى لهم الهدى وقد قادتهم اهواءهم الى ذلك التيه البعيد بالرغم من كل الرسل واوصياءهم والربانيين والشهداء من تابعيهم وما قدموا من عطاء وما تحملوا في اللـه ومن اجل انقاذ البشرية من أذى .


حقا تلك كانت نعمة كبرى منّ اللـه بها علينا فقال سبحانه :


« لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ »

(آل عمران/164)


واكتملت مسيرة الرسالات الإلهية بنبوة خاتم الأنبياء وسيدهم محمد المصطفى صلى اللـه عليه وآله . ولكن حاجة البشرية الى بيان الحق ، وتفسير الرسالة ، والشهادة على تطبيقها تلك الحاجة لم تزل ، أولم يختلفوا فيها ولمّا يدفنوا صاحبها الحبيب . فجاءت النعمة الثانية ، والعظيمة إذ منّ اللـه على الأمة بأئمة الهدى الذين اصطفاهم من ذرية الرسول واختارهم لقيادة الأمة .


فكانوا اعلاماً لهدى القرآن ، ومناراً لضياء الرسالة ، وبيوتا لذكر اللـه أذن اللـه لها أن ترفع .


في طليعتهم سيد الوصيين الإمام أمير المؤمنين (ع) وسيدة النساء الصديقة الزهراء (ع) ثم سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين (ع) ، ثم الأئمة الهداة من ذرية السبط الشهيد (ع) .


لقد كانت حياتهم دفاعا عن مثل الرسالة وقيم الحق . وتبياناً لحقائق الدين ، وتفسيراً للقرآن الكريم وتبصرة بمعارفه وموعظة وحكمة بالغة .


لم تأخذهم في اللـه لومة لائم جاهدوا في اللـه حق الجهاد ، وسالت دمائهم الطاهرة ودماء ذريتهم وشيعتهم لترسم على الافق لوحة الخلق الرفيع وجمال التضحية في اللـه ومن أجل الحق والحرية .


أربعة عشر قدوة واسوة إلهية شهداء على درب الإيمان ، معالم في طريق الجنة ، وأعلاماً للهدى ، هل تجد لهم في الخلق نظيراً ؟


وأورثــوا الأمــة مــن بعدهــم - الـى جـانب كنـوز العلـم - تلك السيرة النيّرة التي لاتزال تدعونــا الى الفضيلــة


والهــدى .


مسيـــرة اعلام الهدى تعطينا - ابداً - عزما راسخـا لاقتحـام المستقبــل واكتشــاف المزيد مــن امكانـات الانسان الكبيرة وبالذات الافاق الروحية التي لاتحد .


واليوم حيث استطاع الانسان بفضل نعمة المعرفة والتقنية ، ان يتقدم خطوات واسعة نحو تسخير الطبيعة . ازدادت حاجته الى الاخــــلاق لكبــح جماح فرس العلم برسن الفضيلة لئلا يقتحم بنا وديان الدمار ..


فليس سواءً المتكبّر المجرم الذي يمسك بيده خنجرا والذي يمسك بيده زرا لعشرات الالوف من القنابل النووية ولاريب ان التوازن بين المادة والروح قد اختل منذ زمن فياترى كم نحن بحاجة الى العطاء الروحي لاعادة التوازن ؟


واني لا اشك ولم اشك لحظة ان اعادة التوازن وبالتالي بسط راية السلام والامن في ربوع الارض لايمكن إلاّ بالقرآن ومفسريه من النبي وأهل بيته الطاهرين فهما امان لأهل الأرض .


وان نشر سيرتهم النيِّرة ليساهم في هذا السبيل . ولذلك فقد سعيت بالتوكل على اللـه لرسم لوحات من تلك السيرة ولا ريب انني لم اقتطف من تلك الرياض الروحية إلاّ عدداً بسيطاً من الزهور - ولكنها - بالرغم من ذلك - تعطينا شذى - رائعاً نافعاً .


واليوم حين تبادر دار الكلمة الطيبة باعادة طباعة هذه اللوحات الاربعة عشر ارجو اللـه سبحانه ان ينفع بها المؤلف والناشر والقراء الكرام ما يكون زاداً لآخرتهم ورحمة جامعة لدنياهم انه ولي التوفيق .


13 / رمضان المبارك / 1413 هـ


محمد تقي المدرسي


النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم )


قدوة وأسوة


تمهيــد


كل من وقف أمام الشخصية الفذة التي خلقها اللـه تعالى . كأفخر وأروع شخصية في الحياة . ثم تأمل في سيرة هذه الشخصية ، انبهر بها أيّما انبهار .


فشخصية النبي محمد (ص) هي اللوحة الجميلة الجليلة التي رسم فيها كل سمو ، وكل جمال تأخذ بمجامع قلوب الناظرين إليها ، سواء كان الناظر مسلماً أو غير مسلم .. وسواء كان ممن يدرك معنى الجمال والكمال ، أولا يفهم ذلك ، فإن هذه اللوحة الباهرة تبلغ من الظهور والوضوح مبلغاً لايدع فرداً نظر إليها إلاّ وجذبته نحوها جذباً .


إن هذه اللوحـــة الرائعة ، التي أريد أن أبدي جانبا منها - بعرضي هذا - هي لوحة تاريخ رسول الإســلام . محمد بن عبد اللـه (ص) ، التي يصعب عليَّ - وأنا أحاول أن أوجزها في صفحات قليلة - أن أقحم كل ما في العالم من مظاهر الجمال والكمال في قطعة صغيرة .


ولذلك فليُعلم أن كل نقص يظهر في هذا الجانب من اللوحة ليس نقص المعبَّر عنه من واقع التاريخ النبويّ ، بل هو لنقص في الريشة التي رسمته ، لانها حاولت تركيز الدنيا في مكان صغير .. وهكذا أعتذر من كل نقص يرى في هذه القطعة من اللوحة .. وأسال اللـه القدير ، ان يتقبل مني هذا اليسير ، وهو المستعان .


مكة المكرّمة .. مدينة حجازية أنشئت منذ عهد إبراهيم الخليل (ع) ، الذي أمره اللـه تعالـــى أن يرحل ببعض ذريّته إلى أرض الحجـــــاز ، ليبني هناك بيتاً لله يعبد فيه ولا يشرك به ، فجاء وعمَّر البيت الذي سُمي الكعبة .


ومن نسل إبراهيم انحدرت قبائل استعربت فيما بعد .. وكانت إحدى هذه القبائل تسمّى بقريش وكانت هذه القبيلة منقسمة إلى عشرة فروع .. وكان لكل فرع سيادته واستقلاله ، كما كان لكل منها نظامه القبلي الخاص الذي يتكوّن من رئيس للقبيلة النافذ الكلمة ، المُطاع الأمر ، ومن سائر أفراد القبيلة التابعين له اتباع الفصيل لأمه .

بنُو هاشم :


وكانت إحدى هذه القبائل العشر تسمى بـ بني هاشم كما كانت لفظة بني أمية قد وضعت لقبيلة أخرى .


وبنو هاشم ، هي القبيلة التي كان النبي محمد (ص) ينتسب إليها ، حيث إنه كان من أحفاد عبد المطلب الذي كان بدوره من أبناء هاشم ، شيخ العشيرة .


عبد اللـه وآمنة :


كان عبد المطلب ، شيخ بني هاشم ، ورئيسها المطاع . وكان له عشرة أولاد ، أصغرهم وأفضلهم هو عبد اللـه .


وكانت فــي مكــة قبيلــــــة قريبة تعرف ببني زهرة ، منحدرة مـــن نسل زهرة بن كلاب بـــن مُرة .. وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى بـ آمنة بنت أحد شرفائها وهب بن عبد مناف .


فلمّا شبَّ عبد اللـه ، زوّجه والدُه بآمنة ، وتمَّ الزواج على أسعده .

الميلاد المبارك :


ولم تمض إلاّ مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد الـبريّة النبــي محمد (ص) في حين أن عبد الله ، واـــده الكريم ، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام . فلما بلغ مدينة يثـــرب التــي سميت فيما بعـد بمدينة


الرسول ، توفاه اللـه تعالى ، فولد النبي يتيما .


ورافقــت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث انخمدت نيـــــران فارس المجوسيـة ، وغاضــت بحيرة ساوة [1] وسقطت شرفات قصر كسرى ملك الفرس ، ونُكّست الأصنام .

عهد الرضاع :


واحتفلت أسرة بني هاشم بمولده المبارك احتفالاً باهراً ، وذلك لأن عبد اللـه كان أحبّ بني هاشم إلى أنفسهم . غير أن المنيّة اختطفته وهو في نُضرة شبابه .. وبقيت منيته ثلمة في قلوبهم وجرحا عميقا في نفوسهم . فكان ميلاد محمد (ص) بلسماً لذلك الجرح ، وسدَّاً لذلك الفراغ ، وذكرى لذلك الشاب العظيم .


وحيث كان من عادة الشرفاء في مكة ان يطلبوا لأبنائهم مراضع من أهل البادية ، لتكون نشأة أولادهم سليمة عن الضعف الجسمي والنفسي ، فقد اتخذ عبد المطلب - شيخ بني هاشــم ، وكفيــل النبــي محمـد - امرأة عربية من أفصح القبائل العربية لساناً وأكرمهم خُلقاً لتكون مرضعةً ومربيةً لـه . تلك كانت حليمة المنسوبة إلى قبيلة بني سعد التي كانت تسكن أطراف مدينة طائف .


ودرج الطفل المبارك في أحضان القبيلة البدوية التي كانت تنظر إليه نظرة المحبة والود ، لانه كان منشأ البركة والخير فيها ، وأخذ ينمو نمواً سريعاً .


ولما بلغ السادسة من عمره ، رافق أمه آمنة في سفرة ودّية الى يثرب المدينة .. وحينما قفلوا راجعين . توفيت آمنة في منزل الأبواء تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين .


ولما بلغ الثامنة توفّي عبد المطلب جد النبي وكفيله ، وترك كفالة محمد (ص) إلى أبي طالب ، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم . ووفادة الحاج .


ولم يكن أبو طالب كفيل النبي فقط ، بل كان بمثابة والدٍ حنون يرى في إكرام ابن أخيه محمد وفاءً لحق أخيه عبد اللـه ، وإطاعةً لأمر أبيه عبد المطلب ، وأداءً لمسؤولية سيادته على بني هاشم ، وعملا بوظيفته الإنسانية المقدسة في الحياة .


فكان النبي (ص) يذهب معه الى المرافق العامة ، حتى تلك المناطق التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف ، مثل دار الندوة التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء في المملكة . وكان لايدخلها إلاّ من كان سيداً في قومه ، ذلك لأن أبا طالب كان حريصا على حياة محمد وتربيته ، حتى أنه لما أراد أبو طالب أن يواصل رحلة قريش التي كانت تتّجه إلى كل من اليمن في الشتاء ، والشام في الصيف لغرض التجارة ، اصطحب معه النبي (ص) وهو فتىً لم يبلغ مبلغاً من العمر يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار.


وحينما سارت القافلة ، رأوا شيئا غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل . فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس . وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة .

الراهب بُحيرا :


بالقرب من مدينة بصرى القديمة ، كانت تقوم صومعة يسكن فيها عابدٌ مسيحيٌّ اشتهر في الناس انه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة .


ولم يكن هذا الراهــب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز ، لأنه كان مستغنياً عنهم ، في الوقت الذي كانوا محتاجين إليه ..


وكانت قد مَّرت قافلة قريش التجارية بهذه المنطقة مرات عديدة ، ولم يرمقهم هذا الراهب بطرف ولا خطروا عنده ببال .


أما في هذه المـــرة فقد تبدلت الأمور .. قبل أن يصل الركب ، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء .. ثم يقلب وجهـــه في السماء كأنه يطلب شيئاً في الأرض وشيئاً في السماء .. فلمــا اقترب الركــب ، لاحظ الناس أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سـواء بسواء . وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلــك الليلـــة ، وتعجب الناس كلهم من هذه البادرة ، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال : إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم ، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة .


وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام ، حيت التقى بالنبيِّ راهب آخر كان يدعي بـ ابو المويعب وبشر الناس قائلاً : هذا نبيّ الزمان .


ورجع النبي الى مكة وامتلأ رفاقه في تلك الرحلة إعجاباً به وإعظاماً له . فلما قصّوا على الناس قصصهم في السفرة ، اشتهر أمر النبيّ أيَّما اشتهار .


ثم بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه نظر التوقير والإحترام . فحينما هدم السيل بنيان الكعبة ، وأرادت قريش ترميمها ، اختلفت في الذي يجب أن يحظى بفخر وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة ، فقد كان لذلك الحجر شأن عظيم في نظر قريش وسائر العرب . وكاد الزعماء في قريش يحارب بعضهم بعضا ، بيد أنَّ حكماءها قالوا : لنحتكم إلى أول داخل من هذا الباب ، فرضي الجميع بذلك .


ووقف الناس ينتظرون أول الداخلين من ذلك الباب ، فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ قد أشرقت عليهم ، وإذا صوت واحد يقول : هذا الأمين قد رضينا به . فعرف النبيُّ ماجرى بينهم ، فأمر بأن يؤتى بثوب ، ثم أمر بأن يأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه . وهكذا حفظ النبي بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها ، كما أنه فاز بفخر تركيز الحجر بنفسه ، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين .


وكانت الرذيلة والأخلاق السيئة متفشّية بين الشباب بصورة فاحشة ، حتى أنه لم يكن في العرب شاب لم يتدنس بسيئاتها إلاّ الشاذ النادر .


ومع كل ذلك فلم يسجل العرب المعاصرون للنبي والمراقبون لأيام شبابه ، أي ميل إلى الباطل أو أي مشاركة في لهو أو لغو ، بل العكس فقد لاحظ الناسُ في النبيِّ (ص) كلَّ معاني الشرف والنبل ، وكل سمات الإنسانية والصلاح .


والمعروف أنه كان قد تم الإقتراح على شرفاء مكة وساداتها ، أن يكوّنوا لجنة تدافع عن حقوق الضعفاء ، وتراعي أمورهم . فاستجابت النفوس الطيبة إليه ، وأقسموا قسمـــاً شرفيّاً بذلك ؛ وسُمِّيَ بـ حلف الفضــول وســواءً كان النبي هو المقترح أو غيره ، فإنه قد حضره وقد أشــاد به بعــد الرسالة حيث قـــال : لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللـه بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت .

الأمين .. الحكيم :


وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السموّ الخُلقي والنبل المعنوي ، فقد ائتمنوه على أمورهم ، وسلَّموا إليه ودائعهم ، كما أفشوا إليه أسرارهم ، واستشاروه في قضاياهم الخاصة .. فكان يعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم .


أما ما يخصّ أمر كفيله أبي طالب ، فقد كان النبي وفياً له ، بّراً به . فلقد كان أبو طالب فقيراً معيلاً ، حيث إنَّه كان سيداً يتحمل مسؤوليات السيادة الخطيرة التي كانت تحتاج إلى المال قبل كل شيء ، وكانت موارده قليلة جدّاً ، فلذلك أخذ النبي يفكر منذ صباه في طريقة للعيش يخفف بها مسؤولية الكفالة عن عمه أبي طالب .


فاشتغل برعي الغنم شـــــأن صبيان العرب في مكة ، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالـة ايضــاً ، وذلك أنه ما بعث اللـه نبيّاً إلاّ وقد كان راعياً في يوم من أيام حياته !


ومرّت الأيام ، وشبّ النبي ، ولم تعد هذه الطريقة لائقة به في مثل سنّه ، فأخذ يمارس التجارة . ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد ، المرأة الثرية التي كان يتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة ، على ان يكون الربح بينها وبينهم ، فتمَّ له ذلك .


وحينمــا ذهب النبــي (ص) في هذه الرحلـــة التجارية ، كان من أوفق التجارات التــي تمــت بمـــال خديجـــة


إلى ذلك الحين . وقد كان ظهر من النبي (ص) في تلك الرحلة معاجز كثيرة ، لما قُصت على خديجة رغبت بالزواج بالنبيّ ، فقبل النبيّ بذلك ، ووافق عليه عمه أبو طالب . فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف . وكان زواجه تحولاً في حياته الإجتماعية . حيث لم يعد الآن صاحب بيت وأولاد فقط بل وصاحب ثروة كبيرة ضخمة أيضاً .


ورزق النبيَّ من خديجة خمسة أولاد هم ( زينب ) و ( أم كلثوم ) و ( فاطمة ) و ( رقيّة ) و ( القاسم ، أو الطاهر ) عليهم السلام .


لقد كان هذا الزواج أوفق زواج يعرف في صدر الإسلام . أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت به : زوجة النبيّ ، والأم الكبرى للمسلمين . بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين . وأمّا بالنسبة للنبيّ (ص) فقد كانت خديجة أول من آمن به ، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة . ولم يزل النبيّ يذكر لها ذلك حتى آخر لحظة من حياته . وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ (ص) موت عمه أبي طالب ، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً . ثم فقدهما في عام واحد حينما كان أحوج ما يكون إليهما معاً .


وبعــد الرسالـــة


العالم في ذلك الوقت أحوج ما يكون إلى رسالة . وإلى رسول .


فهذي عربٌ تئد البنات وتقول : نِعْمَ الصهرُ القبر . وتُكثر الحرب ، وتحسب أنها مفخرة للإنسان . وتؤمن بالخرافات بالكهّان والعرّافين ، وتعبد الأصنام وقد شاع بها الظلمُ ، فهناك طائفة من المستغلين الذين لايعرفون للطمع حدوداً ، ولا للاستغلال قيودا . وهناك طائفة من الكادحين الذين تُستنزف جهودهم استنزافاً وتُستثمر قواهم استثماراً . وهذه سائر مناطق الأرض في مملكة الروم ، وفي امبراطورية الفرس ، شاع فيها الفساد والعدوان ، وكثرت فيها الفواحش والموبقات .


وهؤلاء حكماء العرب الذين يطلعون على الكتب السماوية مثل : ورقة بن نوفل وعبد اللـه بن جحش وعثمان بن الحويرث وغيرهم ، يبشَّـرون بنبيٍّ يُبعث ، وينقذ الإنسانية من هذه الهاوية السحيقة .


وهؤلاء يهود يثرب يتطاولون على العرب بنبيٍّ يبعث فيهم ويأتي بكتاب عظيم ، ويخضع لدعوته العالم ، فيصبحون أعزاء في الحياة .


وهؤلاء الكهنة والعرّافون لايزالون ينتظرون النبيّ الذي يكون خاتم النبيين . وسيَّدهم .


فمن هو هذا النبيَّ ، ومتى يبعث .؟؟.


هنا في بيت خديجة - بمكة وفي أرض الحجاز - يُعرف رجل لم يشترك في باطل قط ، ولم يعزف عن حق قط . ولم يَعرف الإثم جنابه ولا غاب الخير والصلاح عن رحابه .


إنَّ هذا الرجل تجتمع فيه جميع مؤهلات الرسالة ؛ وكل ما ذكر في الكتب من علائمها . فهو من أعرق العرب فخراً ومجداً ، ومن أسمى أُسَر العرب شرفاً وكَرماً .. وهو أحسن الناس خُلقاً ، وأفضلهم عملاً ، وأقربهم إلى الحق وابعدهم عن الباطل .


وقد حدث مرات عديدة ، أن فقدته مكة فَوُجِدَ في غار حِراء يعبد اللـه ويطيعه ، ويمارس نُسكاً خاصة لايعرفها أهل مكة .


ففي الشمال الشرقي من مكة ، يرتفع جبل النور ، وفيه غارٌ أعتاد النبيّ (ص) أن يظلّ فيه أياماً يواصل

فيها عبادةً مجهولة عند الناس .


وذات يوم يروح محمدٌ (ص) إلى حِراء فيرى كلَّ شيء قد تبدّل . فإن روحانية جديدة تشمل كيانه ، وتستوعب شعوره .. وإذا به يرى السماء قد فتحت أبوابها ، والْمَلك على أرجائها ، وجبرائيل يهبط إليه ويقول له : اقرأ .. فيقول له الني ّ : ما أقرأ ؟


فقال له جبرائيل (ع) :


« بِسْمِ اللـه الرَّحمنِ الرَّحيم ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ »

(العلقِ/1-5) .


وكــــان هذا الحادث في السابع والعشرين من شهر رجب حيث يحتفل المسلمون بعيد المبعث النبـــويّ باعتباره بَدْءَ حياة الخير والسعادة للإنسان على وجه الأرض .


وهكذا بُعث النبي بالرسالة .. وابتدأت مرحلة جديدة من حياته الكريمة ، حيث لم يعد الإنسان الطيب الذي يعمل المعروف فقط ، ويؤدي الأمانة ويصدق الحديث ، ويعيل الأقرباء ، بل أصبح الآن البشير النذير الذي يحمل على كتفه مسؤولية قيادة الإنسان الى كل خير . وصيانته من كل شر .


كما أنها ابتدأت بالبعثة مرحلة جديدة للجزيرة العربية ، بل للعالم كله . فسوف لايبقى العالم يسوده الظلم والظلام ، والشر والطغيان ، بل ستفتح فيه أبواب الخير التي تنتهي إلى سيادة العدل والنور والخير والمعروف .


ورجع النبي إلى مكة فبلَّغ خديجة ما جرى له ، وقص عليها القصة فآمنت به ، كما أنه حدَّث بها ابن عمه عليّاً - وهو فتى مراهق كان النبي قد تكفل تربيته - فآمن ثم آمن كذلك جعفر أخو علي .. ثم أعلن النبي (ص) دعوته حينما نزلت هذه الآية :


« يَآ أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ »

(المدّثِّر/1-3)


وابتدأ بعشيرته حيث نزلت عليه آية اخرى تقول :

« وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ »

(الشعراء/214) .


فجاء النبيُّ (ص) حتى وقف على الصفا فنادى : يا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك ؟ قال : أرأيتكم إن أخبرتُكم أنَّ العدوَّ مُصبحكم أو مُمسيكم ، ما كنتم تصدقوني ؟


قالوا : بلى .


قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .


فقام أبو لهب - أحد أعمام النبيّ - وقال : تــبّاً لك ، ألهذا دَعوتَنا !.


وخطب فيهم مرةً أخرى وقال :


أيها الناس !. إن الرائد لايكذب أهله . ولو كنت كاذباً لَمَا كَذَبتكم . واللـه الذي لا إله إلاّ هو ، إني رسول اللـه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ؟ واللـه لَتموتون كما تنامون . ولَتُبعثون كما تستيقظون ولَتُحاسبون كما تعملون ؛ ولَتُجزون بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً . وإنها الجنة أبداً ، والنار أبداً . وإنكم أول من أنذرتم .


ولكن لم تكن تلبية القوم إلاّ مثل تلبية أبي لهب . فقد أعرضوا عنه ، واستهزأوا به ، وسخروا بدعوته . أما هو فقد ظلَّ يواصل دعوته بشتى الأساليب ، حتى اشتهر خبرها في مكة وما حولها . وبلغت دعوته بعض النفوس النيِّرة الخيِّرة التي كانت تريد الحق والخير ، فآمنت بها ، واتَّبعتها . بيد أن أكثرية التابعين لها كانوا من الطبقة الفقيرة التي لم تكن تملك لنفسها نفعاً ولاضراً .


أما سادة قريش وأشرافها .. أما المستغلون المرابون .. أما الذين كانت مصالحهم ترتبط بالأصنام والأزلام . أما ذوو العقول المتحجرة ، والنفوس المتصلبة .. أما هؤلاء فقد اعتبروا هذه الدعوة شرّاً يجب أن يقاوَم وأن يحاربّ بكل وسيلة .


ولذلك فهؤلاء لم يمتنعوا عن قبول الدعوة فقط ، بل أخذوا يسلكون معها مسلكاً معادياً ، وساروا في جبهة معاكسة تماماً .. فكل من أسلمَ قابلوه بالكبت والإضطهاد ، وحاولوا ردَّه إلى دينهم الخرافي السخيف . فكم من رجل منشرح الصدر ، ومنوَّر القلب اعترف بالنبي ، فتعرّض للتعذيب والتنكيل من جانب قريش ؟ وكم من عبد أو أمة آمن بالرسالة فَهُدِرَ دَمُه ومات فداء إيمانه ! فهذا عمار قد عذَّبوه ونكَّلوا به . وهذا ياسر أبوه ، وهذه سُميّة أمّه قد قتلوهما قتلاً !.


ولم يكن نصيب النبي (ص) من هذا التعذيب والأذى قليلاً . فإنه كان كلما سمع أنَّه عُذِّب أو أوذيَ أحدٌ في سبيل دعوته تألَّم وتأثَّر ، ولربما فاضت عيناه بالدموع .. وبالإضافة الى ذلك فقد كانت قريش تتعرض للنبي بالذات ، إذ كان أبو لهب يرمي النبيّ بالحجارة ، وكانت زوجته تُلقي في طريق الرسول الأشواك . وكان أبو جهل يحاول إثارة غضبه بإلقاء الغرث على رأسه وهو في الصلاة ، أو يرمي القذر في طعامه وهو يأكل ؟[2]


وشجَّ أحد الكفَّار رأسه الشريف بالقوس حتى جرت دماؤه على وجهه الكريم !. وكان بعض آخر منهم يلطِّخون داره بالأقذار ، وقد يلقون بها في فناء داره ..


أما السخرية والاستهزاء والتقريع ، فقد كانت تمتلئ بها افواه الكفاّر . ويصبُّونها على النبيَ كلَّ حين !.


وكــان النبيّ (ص) يقابل كـــلّ ذلك بصبـــر حكيم ، وحلـــم قائـــد . وأنـــاة نبيّ .. فإذا جــــاءت إليه طائفــة من


الكفّار استقبلهم بكل طلاقة ، ودعاهم إلى الدِّين بأحسن طريق . فإذا لبّوا دعوته يكون ذلك خيرٌ ، وإلاّ فانه كان يطلب منهم أن يأتوا بمثل ما أتى به من القرآن .. ثم يتلو عليهم :

« قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً »

(الاسراء/88) .


ولطالما كانوا يسخرون منه ويستهزئون بدعوته ، فكان يعظهم ويدعو اللـه لهم بالهداية دون ان يغضب أو يثور .


وكان في بعض الأحيان يتجوَّل في العشائر والمجامع ، ويدعو الناس إلى ربهم . بيد أن كفار قريش كانوا يعرقلون طريق دعوته بأمرين :


الأول : أنهم كانوا يحذرون الناس من ان يتأثروا بدعوته قائلين لهم : إنَّ الرجل منّا ، وهو ساحر ومجنون أو كذّاب . حتى أن الناس كانوا يضعون القطن في آذانهم لكي لايسمعوا قول النبي (ص) .


الثاني : أنه كان يسير خلفه رجل منهم ويصيح إنه كذاب فلا يُسمع قولُه ، ولا تُلَبَّى دعوتُه .


وعجز كفارُ قريش عن أن يمنعوا سير الدعوة الحثيث واشتهارها بهذه المعارضات . ففكّروا في انتهاج مسلك آخر في منع الناس عن الإسلام ، فجاؤوا إلى النبيِّ (ص) وقالوا له : يا محمد شتمت الآلهة ، وسفَّهــت الأحلام ، وفرَّقت الجماعة . فإن طلبت مالاً أعطيناك ، أو الشرف سوَّدناك ، أو كان بك علة داويناك .


فقال (ص) : ليس شيء من ذلك ، بعثني اللـه إليكم رسولاً ، وأنزل كتاباً فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه أصبر حتى يحكم اللـه بيننا .


وفكروا هذه المرة بأن يستأصلوا الشجرة الطيبة من أصلها وأن يغتالوا النبيَّ (ص) نفسه ، بيد أنَّه كان يومئذ يأوي إلى ركن شديد ، وسندٍ قويّ ، لم يقتدر الكفار أن يأتوا عليه ، وهو عمُّه وناصره أبو طالب سيد قريش وشيخ بني هاشم . فحاولوا أوّل الأمر إغراء أبي طالب فقالوا له : إننا نعطيك ولداً وسيماً من أبنائنا ونأخذ محمداً ونقتله . فقال : ما انصفتموني . آخُـذ ولدكم فأُطعمه وأسقيه ، وتأخذون ولدي فتقتلونه . فقالوا له : إنَّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفَّه أحلامنا ، وضلل أباءنا . فإما أن تكفه عنّا ، وإمّا أن تخلِّي بيننا وبينه فنكفيكه .


لكن أبا طالب الذي لم يشك في صدق مقالة ابن أخيه والرسول المبعوث إليه ، ردّهم ولم يقبل أيَّ واحد من اقتراحاتهم ؛ وخاطب النبيَّ (ص) قائلا : أُدع إلى ربّك . فإني لن أتخلَّى عنك أبداً ..


وحينما رأت قريش أن أبا طالب لن يتخلى عن النبي ، دبّرت له خطة أخرى ، حيث أجمعت أمرها على مقاطعة النبيِّ وكلّ من يؤازره من بني هاشم . وكتبوا صحيفة بشأن هذا القرار ، ومنعوا الناس من أن يبيعوا شيئاً إلى بني هاشم . فجمع أبو طالب بني هاشم وجعلهم في شِعْبٍ كان له في أطراف مكة ، وبقوا هناك ثلاث سنين في اشدّ ما يكون من سوء العيش . وأكثر ما يكون من الخوف والقلق ، حتى أن أبا طالب كان يبدل فراش النبي في كل ليلة مرات خوفاً على حياته الكريمة .


وشاء اللـه بأن تنقضي مدة هذا النفي فأمر بالأرضة وهي دابة صغيرة بأن تأكل الخطوط الملعونة التي رسمت على الصحيفة . فأكلتها ، وأَلْهَم نبيَّه بشأن ذلك ، فأخبر النبيُّ أبا طالب (ع) - وهو بدوره - ذهب إلى الكفار وحدثهم بذلك . وقال إن ذلك علامة صدق ابن أخي في ادّعائه الرسالة ، وكذبكم في إنكاركم أمره .. فجعلوا الاطلاع على الصحيفة حكماً بينهم فإن كانت الصحيفة كما أخبر الرسول أخرجوهم من المنفى ، وإن لم تكن فإنهم ماكثون فيه .


وحينما اطَّلعوا عليها وجدوها كما أخبر الرسول . فخرج بنو هاشم من المنفى منتصرين . وتمَّ بذلك عهد كان من أشد العهود على النبيِّ وآله . وأصعبها جميعاً .


وإنّ الضراء التي مست الأسرة الهاشمية في منفاها بِشِعْب أبي طالب كانت شديدة للغاية . ولذلك فإن خسارتها كانت بالغة وكبيرة أيضاً ، حيث نتج عن الحصار الإقتصادي والإجتماعي على بني هاشم موت خديجة زوجة النبي (ص) ، وموت أبي طالب عمه وكفيله .


لقد كانت خديجة شريكة النبيِّ (ص) في كلّ آلامه وآماله ، والمسلّية له بما أصابه من أذىِ ، بل كانت المعينة له على مكاره قريش ، كما كان أبو طالب حامي النبي الذي كان قد ألقى بينه وبين أذى قريش حجاباً ثقيلاً .


لقد كان أبو طالب سيّد قريش وشيخ بني هاشم ؛ وكان له حق مشروع في الدفاع عن النبيّ محمد (ص) في منطق النظام الإجتماعي السائد في تلك الأيام ، حيث إنه كان يعتبر النبيَّ ابناً له . والمرء يمكنه الدفاع عن ولده في ذلك النظام بكل أسلوب وفي جميع الأحوال حتى ولو كان ابنه خارجاً عن طريقة أهل البلاد ودينهم .


فموت أبي طالب وخديجة كان بمثابة هدم حصن حصين ذي ركنين ثابتين بالنسبة إلى النبي (ص) في تلك الظروف ، ولذلك سميت تلك السنة بعام الحزن . وحيث اشتدّ فيه حزن النبيِّ وتاثره بموت حامِيَيهِ والمدافعين عن دعوته ورسالته . وكان ذلك بين العام السابع والثامن من البعثة .


واشتدت الأزمة بالنبي (ص) بعد وفاة أبي طالب . لأن قريشاً أجمعت أمرها على سحق المسلمين ومحق الدعوة الإسلامية ، فقامت بضغط عنيف على المسلمين ، وبأذىً كثير للنبيِّ (ص) وحاولوا مراتٍ عديدةً قتله إلاّ أنَّ اللـه منعه منهم . فأخذ النبي (ص) يعدّ تدابير لهذه الأزمة المحيطة به وبالمسلمين .. فبــالنسبة إلى المسلمين أمرَهـم بالهجـرة إلى الحبشـــة .. وقـــد تمـــت هذه الخطة بترحيــل طائفتيــن كبيرتيـــن منهم إليها عن طريق البحر ، فتخلصوا من شرّ الكفار وكيدهم ، وقد آواهم ملك الحبشة . وأكرم وفادتهم .


وأما بالنسبة إليه نفسه (ص) فقد ذهب إلى الطائف - وهي مدينة قريبة من مكة تقطنها ثقيف القبيلة الكبيرة - لعله يستطيع أن يهدي أهلها فيمنعوه من قريش . بيد أن هذه الخطة لم تحظ بنجاح ، فقبيلة ثقيف لم تقبل الإسلام ، بل سلّطت سفهاءَها وجُهَّالها على النبي (ص) ؛ فآذوه شر أذية وأرسلوا إلى مكة ينقلون إلى قريش قصة دعوته لهم إلى الإسلام ، فاستعدت قريش له من جديد ، فلم يأمن النبي (ص) يومئذ على نفسه من الرجوع إلى مكة بصورة عادية ، فاضطرّ إلى أن يراسل بعض سادات قريش ورؤسائها يطلب منهم أن يجيروه من قريش ، فأجاره واحد منهم حتى جاء إلى مكة تحت حمايته .


وعرف النبي (ص) أخيراً أن أهل مكة لايمكن أن يكونـــوا الحاملين للرسالة الإسلامية المقدسة إلى الآفاق ، لأنَّ دعوته الملحَّة المستمرة التي ظلت فيها زهاء عشر سنوات لم تجده نفعا أبدا ، ولم تُنتج غير اصرار من الكفار وعناد بالغين .


فصمَّم على نشر الدعوة بين سائر القبائل العربية الأخرى ، فإذا استطاع أن يهدي قبيلة واحدة ذهب إليها وظلّ ينشر نور الإسلام من خلال أفرادها . فأخذ يدعو الناس في المواسم التي كانت العرب تتدفق فيها على مكة لغرض العبادة أو التجارة فيذهب إلى القبيلة ويقول لها :


يا بَني فلان : إني رسول اللـه إليكم ، وأنا آمُركم أن تعبدوا اللـه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وان تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبيِّن عن اللـه ما بعثني به .


وكانت قريش ترسل وراءه من يعقّب على كلامه بتحذير العرب من طاعته ، وتهجّن دعواه ، وكان عمّه أبو لهب يتولى هذه المهمّة في أغلب الأحوال .


أما القبائل العربية فكانت تتعصّب لآلهتها المزعومة ، وتؤثر البقاء على تقليد الآباء . كما كانت تحذر من قريش إذ لو كانت تُسلم لكانت تتعرض لحرب قريش قطعاً . فكانت تردّ النبي ولا تقبل دعواه وتردُّه إما ردّاً جميلاً أو قبيحاً .


إلاّ أن قبيلة واحدة استجابت إلى دعوة النبي (ص) ، تلك كانت القبيلة العربية الساكنة في يثرب ، والتي كانت منقسمة إى طائفتين . الأوس والخزرج ، وكانت الحرب بينهما قائمة على أشدها ، وكانوا قد ملّوها .


نعــم ، استجاب أهل يثرب إلى قول النبي (ص) وقبلـــوا دعوته . وبذلك أخذ الإسلام ينتشر في المدينــة يثرب انتشار الضياء بعد ليل طويل .


وتمّــت بيعة مسلمــي المدينة الثانيـــة مع محمـــد (ص) في العقبــــــة بمنى فــي السنــة الثانيــة ، وتمــت بهـــا


الاتفاقية العسكرية بين النبي وأنصاره من أهل المدينة . وكان اللازم بموجبها على المسلمين من أهل المدينة الدفاع عن النبي (ص) وعن سائر المسلمين من أتباعه بكل ما لديهم من قوىٍ حربية .


وابتدأ النبي (ص) بتنظيم الهجرة الى المدينة . فأخذ يرحّل أصحابه إليها واحداً بعد آخر على حين غفلة من كفّار قريش .


وحينما سمع الكفّار بذلك قالوا في ما بينهم : إنَّ المسلمين إذا اجتمعوا في المدينة ، كَوَّنوا قوةً معارضة تكلفنا كثيراً من المال والدم .. ففكروا في إعاقة الهجرة بمنع المسلمين ترغيباً أو ترهيباً .. بيد أنَّ المسلمين أخذوا يفلتون من أيديهم تحت أجنحة الظلام وفي غياهب الليل .. فقال الكفَّار لأنفسهم : إنَّ النبيّ لايزال بين ايدينا ، وليس له منعة عنّا . فلو هاجر إلى المدينة وجمع أنصاره حوله ، فهنالك يصبح من الصعب القضاء عليه . فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر . حتى استقر رأيهم على أن يأتوا من كل قبيلة برجل ، ثمَّ يهجموا على النبيِّ هجمةً واحدةً فيقتلوه ويضيع دمه بين قبائل العرب ، فلا يستطيع بنو هاشم من أخذ الثأر منهم .


واختاروا من كل عشيرة رجلاً ، فجاؤوا وأحاطوا بدار النبيِّ (ص) ، ولكن الوحي نزل وأمره بأن يتخذ الليل جملاً مهاجراً إلى المدينة ، ثم أوضح له كل شيء من تدابير قريش وخططهم .


فجعل النبي الإمام عليّاً مكانه يبيت في فراشه لكي يظن الكفار ان النبيّ (ص) موجود فيشتغلوا به ويخرج هو من طريق آخر .. فبات الإمام على فراش الموت ينتظر المصير الكائن .. بينما ذهب النبيّ يلتمس طريقه إلى غار ثور .. حيث بقي هناك وقتاً كافياً ثم سار إلى المدينة على غير الجادة ، لكي لا تلحقه قريش أو عملاؤها الذين جعلت لكل من أخذ محمدً منهم مقداراً كثيراً من المال .


وعندما وصل النبيّ إلى المدينة احتفلت احتفالاً رائعاً بقدومه ، وسارت فيها مواكب السرور بأهازيج الفـرح .


وتمت بذلك الهجرة النبويَّة التي كانت بداية حياة جديدة للمسلمين ، حياة العزة والمنعة ، وحياة الدفاع عن حقوقهم ، والجهاد لأعدائهم ، وحياة التوسع والانطلاق إلى آفاق العالم .. وفي الواقع كانت الهجرة بدء تكوين الأمة الإسلامية الموحدة ولذلك اتخذ المسلمون منها بدء تاريخهم الديني ، لأنها كانت أهم الأحداث بالنسبة إليهم .


وبقيت في مكة طائفة من المسلمين تَمَّ ترحيلُهم ايضاً بقيادة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، بعد التغلب على صعوبات شديدة . وهناك فكّرت قريش في أساليب أخرى للقضاء على الإسلام والمسلمين بعد ما فات وقت الأساليب السابقة .


الأساليب الجديدة كانت توجز في خطتين اتبعتهما قريش الواحدة تلو الأخرى :


الخطة الأولى :

كانت بعث رسائل إلى أهل المدينة يريدون فيها منهم تسليم محمد (ص) إليهم مع شيء من الترهيب والترغيب ، بيد أن المسلمين هزئوا بهذه الفكرة ، وسخروا من أهلها ، وبعثوا بقصيدة هجائية إلى قريش بيَّنوا بها جوابهم الصريح بعد أن أثبتوا حقيقة النبي (ص) وحقيقة قريش التي تناوئه .


والخطة الثانية :

وضع الحصار الإقتصادي على المدينة حيث كانت لقريش كل التجارة العربية .. وكانوا قد أمَّنوا طرق تجارتهم بالتحالف مع القبائل البدوية التي كانت تسكن في طريق الشام وطريق اليمن . فأصدروا إليها بياناً حظروا فيه بيع المواد الغذائية لأهل المدينة ، أو الإجازة لمرور القوافل التجارية لأهل المدينة التي ترمي إلى استيراد المواد إليها .


وأما النبي (ص) الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن المدينة والذي كان يرى أن الحصار الإقتصادي الذي ابتلي به أهل المدينة إنما هو لأجله وبسببه . فإنه دبر خطة دفاع عن هذا الحصار بما سيأتي من أمر غزوة بدر ، إلاّ أنه يجب علينا أن نلقي نظرة عاجلة على حالة أهل المدينة وامكانيتهم المادية والمعنوية قبل الحديث عنها .


فقد جاء النبي (ص) إلى المدينة فوجد فيها عناصر ثلاثة :


1- المسلمون :

وهم يتألفون من أوس وخزرج ومهاجرين ، وكل منهم يختلف عن الآخر .. فاستطاع النبي (ص) أن يصهرهم في قالب واحد ، حتى صاروا أخوة متألفة قلوبهم ، متراصة صفوفهم ، وأصبحوا أمة واحدة كأسنان المشط .. في التساوي والتعاون .


2- المنافقون :

وهم طائفة كبيرة من العرب . أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر . وقد قدر النبي (ص) على أن يشل حركات هذه الطائفة ونشاطاتها باللُّطف حينا ، وباعطائهم بعض المناصب التي تشغلهم ، وبعض المسؤوليات التي تسدّ فراغهم حيناً آخر .. واشترك الوحي في تقويمهم بالآيات التي نزلت في المنافقين وكانت تؤكد على

« إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ »

(النساء/145) .


3- اليهود :

الذين كانوا قوة رهيبة يملكون من المال والسلاح والحيلة الشيء الكثير . ولقد وضع النبي (ص) اتفاقيات سياسية وعسكرية معهم ، تضمن للفريقين التعايش السلمي والدفاع المشترك عن البلاد وأهلها .


وكانت مسؤوليات الرسول (ص) في المدينة أكثر منها في مكة ، وإن كان الضغط هناك أكثر . حيث كان الرسول يريد أن يكوِّن أمة ، قبل ان يشيد دولة . فمسؤولية التبليغ لغير المسلمين ، ومسؤولية تهذيب المسلمين ، ومسؤولية تطبيق نظم الإسلام ، ومسؤولية الدفاع عن المسلمين في الجزيرة العربية التي كان شعارها الحروب والغزوات ، ودثارها السيوف والرماح ، هذه المسؤوليات كانت بعض ما أخذ النبيُّ (ص) على عاتقه أداءها من المسوؤليات الخطيرة . ففي نفس الوقت الذي كان النبيُّ (ص) يقود الجيش الإسلامي إلى جبهات القتال كان يوصيهم بأداء الأمانة والوفاء بالعهد ولو مع العدو اللدود . وفي نفس الوقت الذي كان يلقنهم دروس التضحية والجهاد للدين ، كان يشرح لهم معاني العفو والصفح ، واشاعة السلام وإطابة الكلام . وفي نفس اللحظة التي كان يتولَّى دفن الشهداء في أُحُد وقد مُثِّل بهم شرَّ تمثيل فامتلأت قلوب المسلمين حقداً على الكفار وغيظاً وأملاً بالثأر ، كان النبي (ص) يتلوا عليهم آيات العفو وتحريم المثلة ولو بالكلب العقور ..


ومن كل هذا نكتشف مدى خطورة مسؤولية النبيِّ (ص) التي كانت تهدف إلى تكوين الأمة الموحدة ، كأفضل وأمجد أمة في الحياة .


وهنا نرجع الى الحصار الإقتصادي الذي ضربه كفّار مكة على المدينة لنعرف ما كان موقف النبيِّ (ص) وكيف فكه عنها .


فالخطة التي اتَّبعها النبيُّ (ص) في رد هذا الحصار كان شيئا مماثلاً .. فالقوافل التجارية التي كانت تريد أن تسير إلى الشام من مكة كان الواجب عليها أن تقطع المضيق البرّي بين البحر الأحمر والمدينة . فجعل النبيُّ (ص) سرية مسلحة لمراقبة هذه المنطقة .. وكانت هذه السرية من المهاجرين حيناً ومن الأنصار حيناً آخر ، وكانت وظيفة هذه السرية منع القوافل التجارية . ولكن القوافل هذه كانت قد تعاهدت مع القبائل البدوية في الطريق على أن تمنعها من المهاجمات التي كان يقوم بها قراصنة الصحراء ، على أن تعطي القوافل التجارية لها ضرائب معلومة كل سنة . ولذلك فقد فشلت هذه الخطة مرات عديدة حيث كانت هذه السرية المسلحة تريد التعرض للقوافل ، فكانت القبائل البدوية تدافع عنها بحجة المعاهدة التي بينهما .


بيد أن النبي (ص) ذهب الى هذه القبائل البدوية العربية وعقد معها اتفاقية في شأن الأمور الحربية ، وبذلك أَمِنَ من دفاعها عن قوافل مكة .


وأرسـل النبيّ (ص) طائفة من أصحابه إلى موضع بين مكــة والطائف ليترصدوا له قافلة قريش التجارية ، فكتب رسالة مختومة وأعطاها قائد هذه الطائفة المدعو بـ عبد اللـه بن جحش وقال له : اذهب في اتّجاه مكة ، فإذا سرت يومين فافتح الكتاب واعمل بما فيه . فلما فتحه وجد فيه ما يلي :


إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزلَ نخلَة بين مكة والطائفة فتَرصد بها قريشاً وتَعلم لنا من أخبارها.


فذهب إلى نخلة ورأى قافلة تجارية تمر بها في طريقها إلى مكة ، فاستولى عليها . وأتى بها إلى المدينة بعد أن أسر منها رجلَين وقتل رجلاً وهرب آخر .


والنبيُّ (ص) وإن كان لم يرضَ بفعل هذا القائد إلاّ أنه استفاد من هذا المال .. في حين كان أحوج ما يكون إليه . كما أنه ربح الموقف بإلقاء الرعب في قلوب الكفار .


وقاد النبيُّ (ص) السرية المسلحة في المرة الثانية ، وأخذ يراقب بنفسه الركب التجاري لقريش وسمع غير مرة بمسيرة قريش للتجارة . وخرج إليها . غير أن الركب كان قد فاته ولم يلحق به .. ولقد سبق أن قلنا : إن إعاقة مسير قريش للتجارة كان دفاعاً مشروعاً للنبيِّ ، باعتباره عملا مماثلا لمنع القوافل التجارية عن أهل المدينة ؛ وفكّاً للحصار الإقتصادي ، وإدانة لقريش مقابل ما استولوا عليه من أموال المسلمين في مكة ولم يرضوا إعطائها لهم .


وذات مرةٍ خرج النبيُّ (ص) لهذه الغاية - حيث سمــع بركب قرشي للتجارة فخرج إليه ليستولي عليه - فوصل الخبر إلى الركب ، فأرسل بخبر ذلك إلى مكة واستنفرهم بأن أموالهم في خطر والعرب في مكة كانوا يفدون أنفسهم لأموالهم ، ويبذلون أرواحهم في سبيل حفظها ، فحينما سمعوا بالنبأ ، وهو أن محمداً (ص) يتعرض لأموالهم ، خرجوا إليه مسرعين نحو المدينة .


وكان أبو سفيان يتولى رئاسة القافلة التجارية ، فتنكب بها عن الطريق حتى سيّرها على ساحل البحر الأحمر بعيداً عن النبي (ص) وعن سريته المسلحة ، وأنقذها بذلك من سيطرة واستيلاء المسلمين عليها.


وأما كفّار قريش فإنهم ساروا إلى جهة المدينة . ومع أنهم سمعوا بنجاة القافلة التجارية ، فإنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالرجوع إلى مكة إلاّ بعد إبادة المسلمين وكسر شوكتهم .


وكان النبيّ (ص) لايزال في طريقه إلى مكة - وهو يطلب عير قريش - وقريش في طريقها إلى المدينة تريد إبادة المسلمين ، فالتقيا على ماء كان يسمى ببدر ولم يكن النبيُّ (ص) قد استعد للحرب ، بل كما سبق كان هدفه الاستيلاء على أموال التجارة القرشية . ومع ذلك فإنه رأى رجوعه إلى المدينة انهزاماً ، ولم يسمح لنفسه بذلك حتى لايدبَّ الطمع في قلوب الكفّار بالقضاء على المسلمين .


وكانت هذه أول حرب يخوضها المسلمون وكانت في السنة الثانية من الهجرة ، وكان عدد الكفار يتجاوز تسعمائة وخمسين رجلا ، بينما لم يكن عدد المسلمين يبلغ أكثر من ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، ومع كل ذلك فقد ربحها المسلمون وألحقوا خسارات فادحة بأعدائهم وهزموهم بإذن اللـه .


لقد كان التكتيك الحربي في الجزيرة العربية لايعدو عن مقابلة الفرد بالفرد في مشهد ينظر إليه الفريقــان ، حتى إذا قتل الأبطال ، هاجم الفرد ، أو الجبهة - الجبهــة المعاديـــة - حتى ينهزم أحد الفريقين .


بيد أن النبيَّ (ص) اتبع في حرب بدر طريقة جديدة حيث شكَّل مثلثاتٍ حربيةً فريدةً من نوعها . وذلك بأن أمر باصطفاف المسلمين على شكل مثلث كبير على شرط أن يكون ظهر كل فرد داخل المثلث - أي إلى سائر أفراد المثلث - ووجهه إلى الخارج - أي إلى الكفار - .


ولقد نصره اللـه بجنودٍ من الملائكة أنزلهم لِنُصرة نبيَّه (ص) فانهزم الكفّار بعدما قُتل أبطالهم على يد الإمــام علي بن أبي طالب (ع) . وانجلت الحرب عن سبعيــــن قتيلاً من الكفّار أكثرهم من رؤسائهم وأبطالهـــم ، وأربعة عشر شهيداً من المسلمين ، ثمانية منهم من الانصار ، وستة من المهاجرين .


وهذه الحرب الدامية فتحت باب الحروب بوجه النبي (ص) ، الذي تصدى لها ببسالة وصمود .. فجعلت قريشا موتورة بقتلاها ، وطالبة لثاراتها ؛ كما جعلت المسلمين مؤمنين بنصر اللـه لهم وقدرتهم على صد كلَّ هجومٍ مسلَّح من أيِّ طراز كان .


وهذه الحرب دعت قريشاً إلى حبك المؤامرات الكائدة للنبيِّ (ص) . فقد أرسلت ببعض أبطالها إلى المدينة خفية للغدر بالنبي وقتله . بيد أن اللـه تعالى فضحه . فلما جيء به إلى النبي (ص) وتكلم النبي معه وأخبره بالمؤامرة تفصيلاً اسلم الرجل الذي كان يدعى عمير بن وهب وذهب إلى مكة داعياً للإسلام متحمساً نشيطاً .


وهكذا فشلت هذه المؤامرة الماكرة .


ثم قامت قريش بمحاولة فاشلة أخرى ، إذ خرجوا وهم مائتا نفر يقودهم أبو سفيان ، وأغاروا على المدينة ليلاً فقتلوا رجلَين . فلما لحقهم المسلمون بقيادة النبيّ (ص) ولَّوا هاربين ، وخلفوا بعض أمتعتهم ليخففوا عن أنفسهم في السير .. وتسمى هذه الغزوة بـ السُّوَيق حيث إن المسلمين غنموا من السويق ما كان زاداً للكفار .


وأخذ أبو سفيان قيادة قريش هذه المرة ، إذ نصب لواء الكفر وحشد تحته خمسة آلاف رجل مقاتل ، وزحف نحو المدينة . فلما بلغ جبل أُحُدٍ على بعد كيلو مترات من المدينة ، تصدّى له الرسول (ص) بجيش لم يتجاوز عدده ستمائة محارب . ووضع النبيُّ خطة حربية باهرة ، إذ اتَّخذ من الجبل ظهراً للجيش ، وجعل على ثغور الجبل الذي وراءَه سريّة برئاسة عبد اللـه وأمرهم بأن لايغادروا موقعهم الحـربي الخطير مهما كان الأمر ، غلب المسلمون أو غُلِبوا ، ثـــم أمر المسلمين بالهجوم الموحد على الكفـــار .


والكفار الذين لم يكونوا يعرفون نظام الهجوم الموحّد لأنهم لم يروه من ذي قبل انهزموا بعد ساعات من الاشتباك الدامي ، فاستولى المسلمون على امتعتهم - فرأى أهل الثغور خلف المسلمين فوق جبل اُحُد رأى هؤلاء ان اخوانهم - في تقدم باهر وفي جمع الغنائم فنزلوا عن الموقع الخطير واشتركوا في جمع الغنائم . وكلما ناشدهم قائدهم عبد اللـه بالبقاء لم يقبلوا منه ، وحينما رأى الكفَّار ذلك داروا من خلف الجيش الإسلامي ، وهجموا على ما بقي من أصحاب عبد اللـه - صاحب الثغر - بقيادة خالد بن الوليد وكان في جيش قريش ، وقتلوهم وهجموا على المسلمين من ورائهم ونادوا بالكفار المنهزمين ليرجعوا . فأحاط جيش قريش بالجيش الإسلامي ، وهرب القسم الأكبر من المسلمين . بيد أن الذين بقوا مع النبيِّ والإمام علي عليهما الصلاة والسلام وطائفة أخرى من المسلمين المخلصين ، ربحوا الموقف . وأخيراً قتل الإمام عشرة أفراد من حاملي ألوية الكفار حتى وقع لوائهم وانهزموا راجعين ..


وبعد ذلك غنم المسلمون غنائم كثيرة .. مع أنهم خسروا خسارات باهظة ، مثل قتل حمزة بن عبد المطلب الشجاع البطل والقائد الثالث للقوات الإسلامية بعد النبيِّ والإمام عليّ ، والذي سمَّاه النبيُّ (ص) بسيد الشهداء .


وجمع أبو سفيان فلول جيشه وعسكر في بعض المواقع بين مكة والمدينة . فخرج الرسول (ص) إلى الروحاء مع كل ما لحقه من خسارات الحرب الباهظة ، وكل ما أضر باصحابه من متاعبها ومصاعبها . وحينما وصل إليه هابه ابو سفيان وفرَّ هارباً إلى مكة .


وكان خروج النبي هذا كسباً للموقف بعد خسارته ، وإرجاعاً لمكانة الجيش الإسلامي في نفوس أعدائه بعد زوالها .


ثم بعد مدة جمع أبو سفيان ألف مقاتل وزحف بهم إلى المدينة ، فلما سمع النبيُّ (ص) بخبره خرج حتى بلغ بدراً ولكن الكفار لما سمعوا بذلك ولَّوا هاربين ولم يبق من أمر كفار قريش مع النبيِّ إلاّ غزوة واحدة فقط ، وهي غزوة الخندق التي اشترك فيها قريش وغيرها .


وقاد هذه الغزوة ابو سفيان بوصفه قائداً للقوات العربية في مكة ، حيث جمع قريشاً والأعراب وتحالفوا مع بعض اليهود في المدينة ، وجاؤوا إلى إبادة المسلمين .


والحروب التي خاضها المسلمون في حياة النبيِّ (ص) كانت تنقسم إلى ثلاثة أنواع :


/ 35