الوجيـز فـي أصـول العقائد وأحكام التقليد والبلوغ - وجیز فی اصول العقائد و احکام التقلید و البلوغ نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

وجیز فی اصول العقائد و احکام التقلید و البلوغ - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

آية الله السيد محمد تقي المدرسي

الوجيـز
فـي أصـول العقائد
وأحكام التقليد والبلوغ

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على خير المرسلين المصطفى محمد وآله الهداة المرضيين.

وبعد..

من أنا، من أين قدمت، وإلى أين أصير، ما هي مسؤوليتي تجاه نفسي والآخريـن؟ وعشرات من الأسئلة المصيرية تطرحها على الإنسان نفسه بين الحين والآخر ولا يجد الإجابة الوافية إلاّ عندما يستمع الى منادي الوحي، فإذا بفطرته تستجيب كما يستجيب الكبد الحرى لشربة مـاء فرات.

وكلّما ازداد وعياً بآيات الذكر، وما فسرتها من أحاديث النبي وأهل بيته عليه وعليهم السلام، كلّما ازداد عقله تفتحاً، وضميره سكينة، وروحه راحة.

وهكذا كانت نصوص الدين إثارات للعقل لكي ينفتح على العقائد الصحيحة، وتنبيهات للضمير لكي يستيقظ.

وثمة سنة حسنة كانت لفقهائنا السابقين، حيث كانوا يكتبون منظومة من العقائد الإسلامية قبل بيان الفروع الفقهية في أحكام الشريعة، ونحن نجري على تلك السنة الحسنة في هذا الجزء من سلسلة الوجيز في الفقه الإسلامي الذي يحتوي أيضاً على قسمين أساسيين في الفقه أحدهما؛ في أحكام البلوغ، والثاني؛ في الاجتهاد والتقليد.

ونسأل الله العلي القدير أن يتقبل هذا الكتاب، وينفع به المؤلف والقارئ معاً، ويجعل العمل بفروعه الفقهية مجزياً، ويثيب عليه أحسن الثواب في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء.

محمد تقي المدرسي

طهران

21/ جمادي الثاني/ 1423

اُصول العقائـد

تمهيـد

لماذا علينا أن ندرس العقائد ونؤمن بها عن وعي وبصيرة ومعرفة؟

لأن العقائد تبين مبدأ الإنسان ومصيره وخط سيره في الحياة الأولى والآخرة، ومن لا يدرس العقائد ببصيرة، قد يحسب أنه على صراط النجاة، بينما هو على طريق الشقاء في الدنيا وسبيل النار في الآخرة فيخسر نفسه في الدارين، ومن هو أشقى ممن خسر نفسه في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (الكهف/103-104)

ولدراسة العقائد ثلاثة مناهج مختلفة:

1- منهج الفلسفة، ويعتمد على المنطق الأرسطي وفلسفة الاغريـق الإلهيين وعلم الكلام الإسلامي المقتبس منهما. ودراسة العقائد وفق هذا المنهج استعارة ناشزة للقالب الفلسفي في عرض العقائد الإسلامية حيث تتلوث بتصورات البشر الوثنية، بينما الإسلام مبدء حنفي جديد على الإنسان، موحى إليه من الغيب، وله قالب يناسبه، وأي إقحام لمفاهيم الفلسفة ومناهجها وألفاظها في بنائه الفكري يشوّه صبغته ويخل بتوازنـه ويقضي على وحدته العضوية الداخلية. وقد نعت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أول من قام بهذه المحاولة الخاطئة في المسلمين بأنه "سامري هذه الأمة" ([1]) لأنه بدل عبادة الله الأحد بعبادة التوهمات الغريبة عندما أشاب نقاء الحنفية الإسلامية بوثنية الأغارقة المشركين.

2- منهج التصوف، وينبثق هذا المنهج من الإغراق في التقشف، ويعتبر الإنسان رمز الشرور والخطيئات الذاتية، ويرى أن فناء الإنسان في غياهب العدم والسلبيةهو المنهج الموصل الى الحقيقة. ونجد هذا التصور الخاطئ بارزاً في الفلسفة البرهمية والفلسفات الآسيوية البعيدة، وقد طرقت أبواب المسلمين في بداية القرن الثاني مع نشاط حركة الترجمة بين المسلمين.

وينكر هذا المنهج دور العقل في معرفة حقائق الكون، ويدعو الى السلبية ونبذ النظم الدينية والاكتفاء بالصفاء الروحي الذي يتحول شيئاً فشيئاً الى الإنطواء واللامبالاة. والواقع: إن ابتعاد هذا المنهج عن روح الإسلام هو كبعد الإسلام عن روح الجاهلية. ([2])

3- المنهج السليم في دراسة العقائد هو المنهج الذي يُستوحى من القرآن الحكيم ويقوم على أسس ثابتة من الفطرة السليمة والمتميزة عن دواعي الهوى والغضب. أما ميزات هذا المنهج القرآني فهي باختصار: إيقاظ الوعي، وإثارة العقل، والدعوة الى التدبر والتفكر، والتوجيه الى الانفتاح على الحياة لمعرفة أعماقها، وملامسة أغوارها ومخاطبة روحها النقية الخالصة. واسلوب الحديث في هذا المنهج: التذكرة والتنبيه والإبتعاد أبداً عن المراء والجدل والمكابرة على الحق.

وعلى المسلم أن يتبع هذا المنهج لمعرفة العقائد، لأن الإسلام لا يمكن فهمه إلاّ عبر الطريق الذي رسمه الباري عز وجل، فهو طريق قريب، واضح المعالم، بليغ البينات، منسجم الفطرة وضرورات الحياة..

ولذلك فإن منهجنا هنا، في عرض العقائد الإسلامية بايجاز، هو الاستلهام من القرآن الحكيم ومن السنة الشريفة الشارحة لـه، دون ان نحاول التأويل في آيات الذكر أو خلطها برواسب الثقافات الغريبة.

الفصل الأول: عن التوحيد

التوحيد في القرآن الكريم

لا تستطيع الخروج من ظلمة الشرك لو لم تخرج من سجن الذات، ومعتقل هوى النفس. وإذا أنعمت النظر لرأيت جذر كل كفر وشرك وعصيان، حب النفس وهواها؛ بل وحتى الذي يعبد الأصنام أو الطغاة فانما يعبد هواه في صورة الطغاة، وشهواته في هيكل الأصنام. فاذا خرجت من حب الذات، وتحديت ظلمات الهوى، فانك تنطلق في رحاب التوحيد باذن الله، بلا قيود وبلا حدود. وبوابتك الى معرفة التوحيد سورة الاخلاص، التي تختصر بصائر الوحي في معرفة الرب ببضع كلمات:

«بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيمْ * قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ».

بالرغم من أن كلمة "أحد" مشتقة من "واحد" كما قالوا، إلا أنها أبلغ دلالة على معنى الوحدانية، وأنه سبحانه لا نظير له ولا شريك، ولا أعضاء فيه ولا أجزاء، لا في الواقع ولا في العقل والوهم سبحانه، وليس معنى الأحد والواحد أنه واحد من اثنين، أو أنه نوع من الأنواع، كلا.. إنه الواحد بلا عدد، الأحد بلا مثل ولا شبه.

وتتجلّى أحديّة الله في معرفة هيمنته الشاملة على كل شيء، وأنه الفعّال لما يريد، وأن له العبادة، وأن ما يُعبد من دونه ليس بشيء.

ومن مظاهر أحدية الله أنه "الصمد" وتشير الصمدية الى حقائق شتى تجمعها بصيرة واحدة، هي أن الله بلا أعضاء وأجزاء، ولا حالات تطرأ عليه سبحانه.

وصفة الصمدية تتجلى أيضاً في أنه لم يلد ولم يولد، إذ الولادة دليل إضافة جزء إليه لم يكن فيه أو انفصال جزء منه كان فيه، والصمد الذي لا أجزاء له لا يتصور فيه زيادة (بالتولد) ولا نقيصة (بالإيلاد).

وإذا اهتدينا الى أن الله صمدٌ لا جزء له، ولا تطور، ولا ولادة، فقد ارتفع الحجاب الأكبر الذي بيننا وبين الله، حجاب التشبيه الذي ينشأ من جهل الإنسان ونقص مداركه. فلأن الإنسان لا يرى إلاّ نفسه والمخلوقات، يقيس خالقه بنفسه طوراً، وبالكائنات أطواراً، غافلاً عن أن هذا القياس يتنافى والإعتقاد بالخالق أصلاً، إذ نقرأ في ختام سورة الاخلاص: «وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ».

أكبـر شهـادة

قال الله سبحانه: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْءَانُ لأُِنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ الِهَةً اُخْرَى قُل لآ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (الانعام/19)

تتلاحق الأحداث، وتترى الظواهر، وتجري سفينة الحياة في بحر عال الموج، عاصف الريح، ولكن وراء تلك الظواهر أنظمة حكيمة تمسكها، والله من وراء تلك الأنظمة يمسك زمامها ويوجهها؛ فالله هو غيب الكون الذي لا يخلو منه مكان وهو شاهدٌ على كل شيء، وحاضرٌ عند كل شيء، وكل شيء آية له، لأنه منه ومعه وإليه. فالله إذاً أكبر شهادة من أي شيء. إنه يدل على ذاته بذاته، ويدل على كل شيء؛ إنه يعطيك السمع والبصر والبصيرة، ويتجلى بآياته في مهرجان الحياة، حتى تعيش معه في كل لحظة ومع كل شيء. يبقى أنت الذي قد تغيب عن ربك (دون أن يغيب عنك)؛ إنه قريب المسافة، بينك وبينه لحظة الالتفات والتوجه. ولكي لا تغيب عنه، ولكي تتكامل ذاتك الى مستوى العيش مع ربك، أرسل الله الأنبياء وزودهم بالكتاب لينذرك، لأن الانذار أقرب الطرق الى قلب البشر.

آيات التوحيـد

قال الله سبحانه: «وإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمآءِ مِن مَآءٍ فَاَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمآءِ وَالأَرْضِ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (البقرة/163-164).

إن هذه الآيات تدعونا الى التوجة الى الله وحده، ونبذ الأنداد من دونه. وهذه الدعوة تتصل بفطرة الانسان الراسخة في حب من أحسن إليه، ومن أعظم إحساناً علينا من الله سبحانه؟

ولكي يكرس القرآن الكريم هذه الفكرة، يوجهنا الى فطرتنا، ويأمرنا بالنظر الى آيات الله في السماء والأرض، خصوصاً تلك التي تعكس رحمة الله الواسعة والمستمرة، من اختلاف الليل والنهار، وجريان الفلك في البحر، ونزول الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وبث الدواب فيها، وتصريف الرياح، وتسخير السحاب و.. و.. إن هذه الآيات ومئات غيرها تدل بوضوح على وحدانية الله عز وجل.

إله واحـد

وقال الله عز وجل: «لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبـُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَالاَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» (النحل/51-52)

الكافر يخضع لما هو خاضع لله؛ يخضع للشمس والقمر والنجوم، يخضع للأنوار والأشجار والأحجار، يخضع للثروة والقوة والدعاية. كلا، لماذا يَـرهب الإنسان جانب الطبيعة حتى يعبدها من دون الله، ولماذا يرهـب الطاغوت حتى يستسلم لـه؟

إن أكثر ما تتم العبادة من جانب البشر للأشياء، إنما تتم بسبب الهيبة والرهبة، ألا فلتسقط هيبة الطبيعة، ألا فلنرهب ربها وخالقها فقط.

وإذا تجاوزنا الخشية من الطبيعة، وتحررنا من رهبتها، أسلمنا الوجوه لرب العالمين، وخضعنا لحاكميته وسيادته القانونية وحده، وبالتالي لدينه الخالص.

كمال التوحيـد

قال الله سبحانـه: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (الممتحنة/4)

لا يكتمل ايمان العبد بربه الأحد إلاّ إذا تبرأ من كل ما هو دون الله، فنبذ عبادة ما سوى الله، ورفض الخضوع لكل من يكفر بالله. فالتوحيد يكتمل بالكفر بالجبت والطاغوت..

فقد كان النبي ابراهيم عليه السلام يتيماً يحتاج الى الحماية الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه لم يخضع لعمه آزر الذي كان يعبد الأصنام، طمعاً في توفير تلك الحماية، بل مضى قدماً على نهجه الحنيف في التمسك بالتوحيد ورفض ما سوى الله سبحانه. فلم يَتَحَدَّ الكفار اعتماداً على عمه ولا على قومه، بل تحدى قومه بدءاً من عمه، وتحدى كل الشرك بدءاً من قومه، فأصبح أسوة المؤمنين في تكميل ايمانهم بالله وتوحيدهم له برفض كل ما سواه. ([3])

التوحيد في السنة الشريفة

حق معرفـة الله

كيف تتحقق معرفتنا لله عز وجل؟ وكيف تكون معرفتنا حق المعرفة؟ ومتى يكون توحيدنا لله سبحانه خالصاً من كل شائبة؟ لنستمع الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجيب على من سأله قائلاً:

ما رأس العلم؟ فقال رسول الله: معرفة الله حق معرفته. قال السائل: وما حق معرفته؟ قال النبي صلى الله عليه وآله: "أن تعرفه بلا مثال ولا شبه، وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، لا كفو له ولا مثل له. فذاك معرفة الله حق معرفته". ([4])

أدعـو الـى الله

في كل تطورات الحياة وتقلباتها يلمس الإنسان بكل وجوده آثار خلق الله وهيمنته وقدرته، فعندما يصيبه الضر يجأر إليه ويدعوه لكي يكشف عنه ضره فيتحسس قدرته اللامتناهية، وحين يواجه مكروباً يستعين بـه فيعينه الله سبحانه.. وهكذا في كل تحولات الحياة الأخرى.

أتى النبي صلى الله عليه وآله رجل من بني تميم يقال له أبو أمية، فقال: الى ما تدعو الناس يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: "أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وأدعو الى من إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن استعنت به وأنت مكروب أعانك، وإن سألته وأنت مقل أغناك". ([5])

بِمَ عرفت ربك؟

إذا تدبر الإنسان في الخلق والخالق، عرف بفطرته تبايـن الخالق عن الخلق، فالمخلوق تحده الجهات، وله صورة مادية تُحس وتُلمس، ولـه قُرب وبُعد، ويتوالد بعضه من بعض، ويتداخل بعضه في بعض.. أما الخالق فليس يشبه خلقه في شيء من ذلك، سبحانه وتعالى عن كل ذلك علواً كبيراً.

فلقد سئل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: بمَ عرفت ربك؟ قال: "عرَّفني نفسه". قيل: وكيف عرَّفَك نفسه؟ قال: "لا يشبهه صورة، ولا يحس بالحواس، ولا يقاس بالناس. قريب في بعده، بعيد في قربه. فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه. أمام كل شيء ولا يقال لـه أمام. داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء. وخارج مـن الأشياء لا كشيء خارج من شيء. سبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره، ولكل شيء مبتدء". ([6])

نفي الصفات

إذا تفكرنا في الخلق وجدنا فيه صفات نقص وضعف فتتحول الى صفات كمال وقوة، ثم تعود الى النقص والضعف. فهو جاهل فيصبح عالماً بالتعلم، ثم يجهل بالنسيان والسهو، وهو عاجز فيصبح قادراً بالتمرس ثم يعجز بالمرض والشيخوخة، وهو صغير فيكبر ثم يعود متضائلاً صغيراً، وهو فقير فيستغني بالكسب أو غيره، ثم يعود فقيراً حين يخسر كل شيء، وهكذا.. ولكن هذه الصفات وتغيراتها لا تصدق بحق الخالق عز وجل إذ توحيده يعني نفي الصفات عنه، لأن طُرُوّ هذه الصفات وزوالها يدل على مصنوعية الشيء والله صانع وليس بمصنوع. لنستمع الى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فهو يلقي علينا درساً بليغاً في التوحيد بقوله:

"أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده،و نظام توحيده نفي الصفات عنه، جلَّ أن تحله الصفات لشهادة العقول أنّ كل من حلّته الصفات مصنوع، وشهادة العقول أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع، فبصنع الله يستدل عليه،و بالعقول يعقد معرفته، وبالفكر تثبت حجته، جعل الخلق دليلاً عليه فكشف به عن ربوبيته، هو الواحد الفرد في أزليّته، لا شريك له في إلهيته، ولا ندَّ له في ربوبيته...". ([7])

ذلكم الله رب العالمين

جاء رجل الى الإمام الحسن بن علي عليهما السلام، فقال له: يابن رسول الله؛ صف لي ربك، حتى كأني أنظر إليه. فأطرق الإمام الحسن بن علي عليهما السلام ملياً، ثم رفع رأسه، فقال: الحمد لله الذي لم يكن لـه أول معلوم، ولا آخر متناه، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بـ (حتى)، ولا شخص فيتجزّأ، ولا اختلاف صفة فيتناهى. فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفِكَر وخطراتها، ولا الألباب وأذهانها صفته فتقول: متى؟ ولا بُدئ مما، ولا ظاهر على ما، ولا باطن فيما، ولا تارك فهلا. خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً؛ إبتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد من استـزاد. ذلكم الله رب العالمين". ([8])

ما هو التوحيد؟

لا نحتاج للاجابة على هذا السؤال أن نلجأ للأبحاث الفلسفية والكلامية المعقدة التي قد لا تزيدنا من الله إلاّ بُعداً، فالسنة الشريفة هي أفضل مصدر لذلك، فهي توجهنا الى حقيقة التوحيد عبر إثارة عقولنا وهدايتنا الى فطرتنا السليمة، بعبارات وجدانية بسيطة وواضحة.. لنصغ الى عدد من الروايات في هذا المجال:

1- عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: سألت الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن التوحيد، فقال: "كل من قرأ: قُلْ هُو الله أحَدْ وآمن بها فقد عرف التوحيد". ([9])

2- روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه سأله رجل فقال له: إن أساس الدين التوحيد والعدل، وعلمه كثير، ولابد لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه ويتهيأ حفظه.

فقال عليه السلام: "أما التوحيد فأن لا تجوِّز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فأن لا تنسب الى خالقك ما لامك عليه". ([10])

3- قام رجل الى الإمام الرضا عليه السلام فقال له: يابن رسول الله؛ صف لنا ربك، فان من قبلنا قد اختلفوا علينا. فقال الإمام الرضا عليه السلام: إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلاً عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، ضالاً عن السبيل، قائلاً غير الجميل. اُعرِّفه بما عرَّف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بُعده لا بنظير، لا يُمثَّل بخليقته، ولا يجور في قضيته. الخلق الى ما علم منقادون، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماظون، ولا يعملون خلاف ما علم منهم، ولا غيره يريدون. فهو قريب غير ملتزق، وبعيد غير

متقص، يحقق ولا يمثل، ويوحد ولا يبغض، يُعرف بالآيات، ويثبت بالعلامات، فلا إله غيره، الكبير المتعال". ([11])

أدنى المعرفـة

ما هي أقل درجات معرفة الله عز وجل؟ هذا السؤال أجاب عنه الإمام أبو الحسن عليه السلام في رواية الفتح بن يزيد، حيث سأله عن أدنى المعرفة، فقال الإمام عليه السلام: "الإقرار بأنه لا إله غيره، ولا شبه له ولا نظير، وأنه قديم مثبت، موجود غير فقيد، وأنه ليس كمثله شيء". ([12])

لا تفكـروا فـي الله

مادام الله هو خالقنا وصانعنا، وهو أكبر منا يحيط بنا ولا نحيط به علماً، فلماذا التفكر في ذات الله؟ إن هذا التفكر يزيد الانسان تيهاً وضلالاً، وقد نهتنا السنة الشريفة عن ذلك:

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: "إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا الى عظمته فانظروا الى عظيم خلقه". ([13])

وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "إياكم والتفكر في الله، فان التفكر في الله لا يزيد إلاّ تيهاً. إن الله عز وجل لا تدركه الأبصار، ولا يوصف بمقدار". ([14])

وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: "تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله، فان الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلاّ تحيراً". ([15])

ثمن التوحيد

إذا كان أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده كما في الرواية السالفة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فإن التوحيد يكون أساس كل شيء في الحياة، وبناءً عليه أو على عدمه تكون الجنة أو النار. فالتوحيد هو باب الجنة، والشرك بالله ظلم عظيم يولج الله صاحبه النار. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "التوحيد ثمن الجنة". ([16])

وروي عن الإمام علي عليه السلام في قول الله عز وجل: «هَلْ جَزاء الإحْسَان إلاّ الإحْسَان»، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله عز وجل قال: ما جزاء من أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة". ([17])

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يقول الله جل جلاله: "لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي". ([18])

وقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى حرم أجساد الموحدين على النار". ([19])

أفضل الأعمال

عن محمد بن سماعة، قال: سأل بعض أصحابنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فقال لـه: أخبرني أي الأعمال أفضل؟ قـال: "توحيدك لربك". قال: فما أعظم الذنوب؟ قال: "تشبيهك لخالقك". ([20])

الفصل الثاني: عن العدل

العدل في القرآن الكريم

أكبر صفات الله العدل الذي يجريه في الطبيعة، حيث يسنّ للحياة سنناً يجريها بقدرته وسلطانه، فلا يدع جانباً منها يطغى على جانب آخر؛ والانسان هو المخلوق الوحيد الذي أكرمه الله بالحرية، ولكنه حدد حريته بوقت، فبعده يعيده الى حدوده بالقوة إن لم يعد إليها بالهداية. ومن أولى بتطبيق العدالة في الحياة من العزيز (المقتدر) الحكيم (الخبير بالأمور)؟ قال سبحانه وتعالى: «شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلآَئِكَةُ وَاُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِماً بِالْقِسْطِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (آل عمران/18)

يأمر بالقسط

وقال الله سبحانه: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» (الأعراف/29)

العدالة فطرة كامنة في البشر، وطموح كبير. وإذا لم يهو أحد القيام بالقسط بنفسه، فلا ريب أنه يحبه للآخرين ويطالبه منهم. والله تبارك وتعالى لا يمكن أن يأمر بغير القسط، والكون كله يشهد له بالعدالة في كل شيء.

الصدق والعدل

قال الله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (الانعام/115)

تتميز كلمات الله، وخلاصة وحيه الى البشرية بأنها تامة، ويعني ذلك أنها تفي بكل الحاجات البشرية، وأنها صادقة تطابق الحق، والحق هو ما في الكون من أنظمة وسنن. وبما أن ربنا هو جاعل هذه الأنظمة ومجريها، فانه سبحانه هدى البشر إليها عبر كلماته بصدق؛ وأن كلمات ربنا سبحانه هي العدالة، حيث انها تعطي لكل فرد حقه ولكل طائفة وقوم وجيل حقه، ذلك لأن الله فوق الميول والشهوات، وقادر وحكيم وعليم، لذلك لا يوجد لديه سبحانه أي سبب للظلم من عجز أو ما أشبه.

لا يظلم أحداً

قال الله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ» (النساء/40)

من أبرز تجليات عدالة الله تعالى، أنه لا يظلم أبداً ولو بمقدار ذرة. فهو يجازي الناس بالضبط وبكل دقة؛ فاذا كفر شخص بقدر وزن ذرة صغيرة، فانه يجازيه بقدر كفره لا أكثر من ذلك، وإذا عمل خيراً بمثقال ذرة فإنه لا يضيع عمله: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ» (الزلزلة/7-8 ).

وقال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (يونس/44)

فعندما يغلق الانسان سمعه وبصره عن تلقي أمواج الهداية الربانية، لا يجوز لـه أن يزعم بأن الله سبحانه قد ظلمه إذ سلبه سمعه وبصره. كلا؛ فالله لا يظلم أحداً، بل الانسان هو نفسه الذي لا ينتفع بسمعه وبصره وبالتالي يظلم نفسه. فالناس هم الذين لا يستفيدون من أدوات التوجيه التي وهبها الله لهم ليهتدوا عبرها، وربما كان تعبير القرآن هنا بكلمتي "الناس" و "أنفسهم" هو لسبب أن الناس يظلم بعضهم بعضاً بالتضليل عن صراط الهدى، ولذلك فإنهم المسؤولون عن هداية بعضهم البعض.

الموازين العادلة

قـال الله تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوَازِيـنَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْـسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّـةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَـا حَاسِبِيـنَ» (الأنبياء/47)

في يوم القيامة يواجه كل انسان جزاءه، حيث الحساب الدقيق والعسير؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وتعالى الله أن يظلم أحداً شيئاً؛ حتى لو أن الانسان أحسن وعمل عملاً بوزن مثقال حبة من خردل، وفي أي مكان على وجه الأرض، وعلى أية درجة من السرية والكتمان، فان الله سيأتي به بقدرته وعلمه اللامحدودين مثبتاً ومسجلاً، يعرضه على صاحبه في يوم القيامة، ثم يعطيه جزاءه العادل عليه.

العدل في السنة الشريفة

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له يحمد الله فيها: "الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه.." ([21])

وقال عليه السلام في خطبة أخرى: "الذي عظم حلمه فعفا، وعدل في كل ما قضى.." ([22])

هـو العـدل

لا شك في قدرة الله على كل شيء.. وأن باستطاعته في أقل من لحظة عين أن يزرع الهدى في قلوب الضالين، أو أن يضل المهتدين. ولكن حاشاه أن يستخدم قدرته في ظلم عباده، فإذا رسخ الهدى في قلب انسان فإن الله لا يظلمه بنـزع الإيمان من قلبه. سُئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن ذلك، حيث قال له الحسين بن نعيم الصحاف: أيكون الرجل مؤمناً قد ثبت له الإيمان ثم ينقله الله بعد الإيمان الى الكفر؟ فقال الإمام عليه السلام: "إن الله هو العدل، وإنما بعث الرسل ليدعوا الناس الى الإيمان بالله، ولا يدعوا أحداً الى الكفر". ([23])

ما عـرف الله..

هناك جملة من الناس تتهرب في الحياة من مسؤولية أعمالها السيئة، وذلك بإلقاء تبعة الذنوب على الله عز وجل، فيزعمون أن الله هو الذي يريد لهم ارتكاب الذنوب، ولولا ارادة الله عز وجل لما أذنبوا، إلاّ أن هذه النظرة تتنافى وعدل الله عز وجل.

يقـول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: "ما عرف الله مَـنْ

شَبَّهَهُ بخلقه، ولا وصفه بالعدل مَنْ نسب إليه ذنوب عباده". ([24])

الله أعـدل

وفي الرواية المأثورة عن الإمام الرضا عليه السلام نجد التعبير عن هذه القضية بلغة أخرى، فالله لا يجبر عباده على السيئات ثم يعذبهم على ذلك، إذ ان ذلك يتناقض مع عدله وحكمته.

روي أن الفضل بن سهل سأل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بين يدي المأمون، فقال: يا أبا الحسن؛ الخلق مجبورون؟ فقال: "الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم". قال: فمطلقون؟ قال: "الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله الى نفسه". ([25])

الله أكـرم

كما أن الله سبحانه لا يكلف أحداً ما لا يقدر عليه، إذ أن ذلك ظلم هو الآخر، والله منـزه عن كل أنواع ودرجات الظلم. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "إن الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون، والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد". ([26])

ليبتلـي من أراد

لماذا إذن نجد بين الناس الفقير والغني؟ أليس من الأفضل أن يقسم الله الأرزاق بالسوية بين الناس، فلا فقير ولا غني؟ كلا؛ ليست المساواة تعني العدل دائماً. فدار الدنيا دار الابتلاء والاختبار، ومن أسباب الإختبار هو السعة أو الضيق في الرزق. يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "وقَـدَّرَ الأرزاق فكـثّرها وقللها، وقسمها على الضيـق والسعة، فعدل فيها ليبلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرهـا.." ([27])

الفصل الثالث: عن الرسالة والرسول

الرسالة والرسول في القرآن الكريم

قال الله سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»

(الحديد/25)

إن الله أرسل الرسل دليلاً إليه وتعريفاً للناس به تعالى، فهم يتحملون مسؤولية محددة هي تبليغ رسالة الخالق الى المخلوقين، وهدايتهم الى معرفته، والايمان بـه، والعمل برسالته. فالرسل هم السفراء بين الخالق والمخلوق، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

ولكن كيف نعرف صدقهم وصدق دعوتهم من بين القادة المنحرفين والدعوات الضالة؟

القرآن يجيب: «بِالبَيِّنَاتِ» ولهذه الكلمة معنيان يبدو أنهما معاً مقصودان بهذه الآية:

1- تفاصيل الهدى المتمثلة في البصائر والمناهج المنبثقة منها، واشتمال رسالات الأنبياء على هذه التفاصيل دليل على أنها وحي من عند الله، إذ قد يهتدي إنسان أوتي صفاء النفس الى بعض معاني الغيب، ولكن أنّى للانسان أن يأتي بهذه المنظومة المتكاملة من البصائر الغيبية، فليس ذلك إلاّ دليل إتصاله المباشر بالوحي.

2- الحجج والآيات التي تهيمن على النفس والعقل، كالمعاجز والخلوص من الهوى والمصلحة، والتمحّض للحق. وهذا يهدينا إلى أن الرسالات الإلهية قائمة قبل كل شيء على الإقناع، لأنه الذي ينمي الإيمان في النفس، ويحرّكه بفاعلية أكبر وأبقى من أي عامل آخر. وحينما يتخلف أحد من المؤمنين عن الاستجابة للرسول وللوحي فإنّ ذلك يدل على تزلزل قناعاته.

ولأن الإيمان بالرسل لا يؤتي ثماره إلاّ إذا تحول الى نظام تربوي، اجتماعي، اقتصادي، سياسي، ثقافي شامل لجوانب الحياة، يكفل للبشرية السعادة، أنزل الله مع رسله شريعة متكاملة الى جانب البينات متمثلاً بالكتاب: «وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ».

الرسل ومسؤولية الإنسـان

ليس الهدف من بعث الرسل هو سلب المسؤولية عن الناس وإلقائها على عاتق الأنبياء، كما كان يزعم البعض، فقد تطرق فريق من الناس فزعموا إن الرسول إنما يأتي ليكون مسؤولاً بدلاً عنهم، أو ليجبرهم على الهدى، أو حتى ليؤمِّن لهم عملياً كل وسائل السعادة. ولكن الله يفنِّد هذا الزعم قائلاً:«وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (الانعام/48)

فالهدف من بعث الرسل هو توفير وسيلة الأمان في النفوس وفي الواقع. فالذين يؤمنون بالرسل ويتبعونهم لا خوفٌ عليهم من المستقبل، مما يدل على وجود حالة السلام في أنفسهم، ولا هم يحزنون من الماضي مما يدل على وجود السلام في الواقع الخارجي حيث لا يصيبهم ما يحزنون بسببه لتمسكهم بمناهج الرسل.

غاية الرسـل

إن الغاية من بعث الرسل هي: التبشير بحياة أفضل، والتحذير من الهلاك، حتى لا يقول الناس غداً: ربنا لِمَ لَمْ تبعث إلينا الرسل حتى لا نضل ولا نقع في الهلاك. إن هذا الهدف العقلاني لدليل على إن الله قد بعث الرسل بالتأكيد، ثم لأن الله قادر على بعث الرسل، ولأنه حكيم فهو لا يعذب البشر قبل أن يقطع عليهم الحجج، ويسوق إليهم الأعذار. قال الله تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (النساء/165)

لا.. للاكـراه

من آثار رحمة الله أنه لم يبادر الى إنزال العقوبة بعباده فور إنحرافهم عن الدين القيِّم، مما يعرّضهم للاصطدام بالسنن الإلهية. كلا؛ وإنما أنذرهم عبر رسله.

أرأيت لو شاهدت طفلاً يلعب على حافة جبل، أولستَ تخشى عليه السقوط وتسعى بكل جهدك أن تردعه؟ كذلك رسل الله سعوا من أجل إيقاف سقوط الأمم في وديان الفساد. ولكن ذلك لا يعني أبداً إكراه الناس على الهداية، بل الذين أجرموا تعرضوا لانتقام الرب في النهاية، أما المؤمنون بالرسل فكان حقاً على الله أن ينصرهم. قال الله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (الروم/47) للناس كافـة

قال الله تعالى: «وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ اِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (سبأ/28)

إن ما يميز رسول الله صلى الله عليه وآله عن سائر الأنبياء عليهم السلام، أنه بُعِثَ لعامة الناس، إذ لم تختص دعوته بجماعة دون أخرى، ولا بقوم دون آخر. وهذا بذاته دليل على صدق رسالته، ذلك أن الانسان مهما حاول التجرد فانه يبقى ابن بيئته التي تعكس عليه آثاره في واقع الثقافة، كما تعكس عليه الآثار الطبيعية. وهكذا حين يأتي الرسول برسالة تتجاوز القومية والعنصرية والاقليمية، نظرياً وعملياً، فان ذلك يكون دليلاً على أن رسالته إلهية.

الرسول أسوة

قال الله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب/21)

معرفة الرسول والاقتداء به لا يمكن إلاّ للانسان المؤمن والعارف بالله، لأن الرسول جاء من عند الله، وكلما ازداد الانسان معرفة بربه ازداد معرفة بنبيه. وقد جاء في الدعاء: "اللهم عرّفني نفسك فانك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرّفني نبيك فانك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فانك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني".

أما الذي يكون هدفه شهواته أو زينة الدنيا، فانه لا يستطيع الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله، الذي أخلص نفسه ووجهه لله، وزهد في درجات هذه الدنيا الدنية، وزخرفها وزبرجها.

ليظهره على الدين

قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (التوبة/33)

لقد بعث الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله لتحقيق هدفين أساسيين، هما:

1- توفير فرصة الهداية للناس حتى يتم الحجة عليهم. والهدى هو الوصول الى الحقيقة، ولا يصل البشر الى الحقيقة إلاّ بالعلم بها والتسليم القلبي لها. ذلك لأن العلم الذي لا يشفعه الإيمان لا يكفي، إذ يبقى الجحود والغفلة حاجزاً بين البشر وبين الحقيقة.

2- إقامة سلطة الحق؛ سلطة العدالة والقانون؛ سلطة القيم والمبادئ، وذلك في مقابل سلطة القوة التي هي شريعة الغاب ومنطق الجبارين. ومن الواضح إن المجتمع إما تسوده شريعة الغاب أو شريعة الله؛ شريعة الحـق أو شريعة الباطل، لأن الله تعالى الذي خلق الحياة، منح قدراً من الحريـة للناس، إلا أن العاقبة هي للحق. ولقد تنامت أمواج الرسالة في العالم منذ انبعاث الرسول العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله والى اليـوم. أوليس ذلك دليلاً على تحقق وعد الله في ظهور الإسلام على الدين كله؟

طاعة الرسـول

قال الله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (آل عمران/132)

حين يتطهر المجتمع من الاستغلال، يتطهر من أكبر أسباب التمرد والنفاق، ويستعد لطاعة الرسول، خصوصاً لدى تحكيمه في الخلافات العرقية والقومية والمصلحية، بين فئات المجتمع. وطاعة الرسول تستدرج الرحمة والرفاه، لأنها تقضي على نوازع الشر، وأسباب الخلاف والتمرد، وتوجه الأمة كلها باتجاه البناء في ظل اطمئنان وارف يشعـر الجميع فيه بأن جهودهم لن تذهب سدى.

التقدم والطاعة

قال الله تعالى: «وَمَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (النساء/80)

إن طاعة الرسول هي طاعة الله، لا اختلاف بينهما ولا تناقض؛ إذ أن الرسول إنما يبيِّن كتاب الله، ولولا طاعة الرسول لانهار بناء التوحيد. وهذا التماسك في المبادئ الاسلامية والتكامل والوحدة فيها لدليل على أنها من الله تعالى، إذ أن أي مبدأ بشري لابد أن تجد فيه تناقضاً بين الأيدلوجية والتشريع، وبين بنود الأيدلوجية ذاتها، وبين قوانين التشريع مع بعضها.

وعلى هذا فان حاجة الأمة الى الطاعة المبدئية هي أكبر من حاجتها الى أي شيء آخر، إذ التعاون والتطوير، والمواجهة مع الأعداء، وبناء وإعداد الجبهة الداخلية.. كل تلك نتيجة مباشرة للطاعة؛ وإنما تتقدم الأمم بقدر تماسكها واندفاعها ووحدة مسيرتها، وهي كلها تأتي نتيجة الطاعة.

الرسالة والرسول في السنة الشريفة

لماذا بعث الله الأنبياء؟

لماذا بعث الله الأنبياء؟ هذا السؤال يطرحه غرور الانسان على طول التاريخ، ناسياً حاجته الملحة لمن يبشره بالطريق الأقوم في الحياة، وينذره من سلوك الدرب الأعوج. فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام: لأي شيء بعث الله الأنبياء والرسل الى الناس؟ فقال الإمام عليه السلام: "لئلا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، ولئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتكون حجة الله عليهم. ألا تسمع الله عز وجل يقول حكاية عن خزنـة جهنم واحتجاجهم على أهل النار بالأنبياء والرسل: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ». ([28])

وفي نفس السياق قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله بالحق، ليخرج عباده من عبادة الأوثان الى عبادته، ومن طاعة الشيطان الى طاعته، بقُرآن قد بيّنه وأحكمه، ليعلم العباد ربَّهم إذ جهلوه، وليقرُّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبّتوه بعد إذ أنكروه. فتجلَّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته، وخوّفهم من سطوته، وكيف محق من محق بالمثلاث، واحتصد من احتصد بالنقمات". ([29])

كيف نثبّت الرسل؟

وروي عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى الإمام الصادق عليه السلام، فقال: من أين أثبتَّ أنبياءً ورسلاً؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنّا لمّا أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع مـا خلـق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، فثبت أنّ لـه سفراء في خلقـه يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم. فثبت الآمرون والنّاهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أنّه لـه معبّرين، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهيـن والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فلا تخلـو أرض الله من حجّة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقـال الرسول ووجوب عدالته". ([30])

حجة ظاهرة

ويزعم البعض أنه تكفينا عقولنا، فهي حجة الله علينا، ولا حاجة لنا بالرسل والأنبياء، غافلين عن أن عقول الناس هي حجج باطنة تدس تحت ركام الجهل والغفلة والعصبية فتحتاج الى من يعضدها من الخارج وهم الرسل. قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "بعث الله رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق الى سبيل الحق". ([31])

وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "إن لله على الناس حجتين؛ حجة ظاهرة، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول". ([32])

استجيبوا لأنبياء الله

ولا يكفي مجرد الإيمان القلبي بالرسل والاعتراف بهم، بل ينبغي أن يكتمل ذلك بالعمل وفق مناهجهم والاستجابة لدعواتهم عملياً. يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "استجيبوا لأنبياء الله، وسلموا لأمرهم، واعملوا بطاعتهم، تدخلوا في شفاعتهم". ([33])

ويقول الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: "يا هشام؛ ما بعث الله أنبياءه ورسلـه الى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله، فأحسنهم إستجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأعقلهم أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة". ([34])

نهج الأنبيـاء

وقد بيّن الإمام الأمير المؤمنين عليه السلام حكمة بعثـة الرسل في كلمات بليغة أشار فيها إلى:

أولاً: إن الله سبحانه قد أخذ من الأنبياء ميثاق الطاعة، فهم يختلفون عن سائر الخلق في الاستقامة على الطريق والاعتصام بالله عن الزلاّت.

ثانياً: لأن أكثر الناس بدّلوا عهد الله اليهم بطاعته وأصبحوا من نصيب الشيطان، كان بعث الأنبياء ضرورياً لهدايتهم.

ثالثـاً: لأن الله سبحانه قد أودع في فطرة البشر توحيده وأخذ ميثاقهم عليه (في عالم الذر) فبعث الأنبياء ليطالبهم باداء ذلك الميثاق.

رابعاً: ولأنه أنعم عليهم بمعرفته ولكنهم نسوه، فبعث الأنبياء ليذكروهم بتلك النعمة المنسية.

خامساً: لأن الله سبحانه يجازي الناس على كفرهم فارسل الأنبياء ليتموا الحجة عليهم.

سادساً: لأن عقول الناس قد دست في ركام الجهالات، أرسل الله الأنبياء عليهم السلام ليثيروا للناس ما دُفِنَ من عقولهم فيعرفـوا الحق والباطل والوسيلة الى ذلك. إن الرسل يقومون باراءة الناس آيات ربّهم في الافاق.

إذاً دعنا نتأمل في كلمات الإمام بدقة، يقول عليه السلام:

"واصطفى سبحانه من ولده (ولد آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمَّا بدَّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم([35]) الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويُذكِّروهم منسيَّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة؛ من سقفٍ فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تُحييهم، وآجالٍ تُفنيهم، وأوصابٍ([36]) تُهرمهم، وأحداثٍ تتابع عليهم؛ ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبيٍّ مرسلٍ، أو كتابٍ منـزلٍ، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة؛ رسلٌ لا تُقصِّر بهم قلَّة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم؛ من سابق سُمّي له من بعده، أو غابرٍ عرَّفه من قبله. على ذلك نسلتِ القرونُ، ومضتِ الدهورُ، وسلفتِ الآباء، وخلفتِ الأبناءُ.

إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورةً سماتُهُ، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذ مللٌ متفرّقةٌ، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبّه لله بخلقه، أو ملحدٍ في اسمه، أو مشيرٍ الى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلّم لقاءه، ورضي له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريماً صلى الله عليه وآله، وخلَّف فيكم ما خلَّفتِ الأنبياء في أممها، إذ لم يتركوهم هملاً، بغير طريق واضحٍ، ولا علم قائمْ". ([37])

لنعظّم الأنبياء جميعاً

/ 6