تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید









آية الله السيد محمد تقي المدرسي



التشريع الإسلامي

مناهجه ومقاصده

الجزء التاسع



بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة



الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد المرسلين محمد المصطفى وآله الأئمة الهداة وسلم.



وبعد:



منذ ثلاثة عقود من الزمن كانت لديَّ فكرة وليدة ثبتها بفضل الله تعالى في مقدمة الطبعة الأولى من كتابي الفقه الاسلامي، ثم لاحظت أن هناك فجوة بين الفقه الذي بأيدينا وبين بصائر الوحي من القرآن والحديث، فعقدت العزم على ألاَّ استمر في دراسة الفقه إلاّ بعد أن أتدبر في آي الذكر الحكيم، ولأتعرف على القيم المثلى التي أرادها الله للبشرية والتي تشكل الأصول العامة لأحكام الشريعة..



وهكذا وفقت لذلك وكتبت تدبراتي في كتاب من 18 جزء طبع تحت عنوان (من هدى القرآن). ثم توكلت على الله سبحانه وبدأت بتأليف هذه الموسوعة (التشريع الإسلامي) إعتماداً على ما تراكمت لديَّ من معارف قرآنية من خلال التدبر في آيات الذكر، بهدف استنباط الحكم البالغة التي هي علل أحكام الشرع وقيمها وأهدافها، والتي هي في ذات الوقت الأصول العامة للفقه التي لابدّ من مراجعتها لاستنباط الأحكام الفرعية.



ومنذ ولادة الفكرة وإلى نضجها وتحققها خلال عقد من الزمان، وأنا يحدوني أمل طموح في أن نجدد فهمنا لأحكام الدين، إنطلاقاً من القرآن والحديث وتطبيقها على معطيات العصر.. فهل وفقت؟

إني أدع الإجابة للآخرين، فهم أقدر على التقييم، ولكن الذي أستطيع تسجيله هنا عدة ملاحظات:



1/ إن هذا المشروع كبير، وإنما يتحقق عبر لجان دراسات، وعبر نهضة فقهية شاملة يقوم بها أساتذة الحوزة العلمية.. وهذا ما آمل أن يتحقق ذلك قريباً، خصوصاً وقد تشعبت حقول العلم، وازداد تعمق الأخصائيين فيها، وانتشرت ظاهرة مراكز الدراسات في العالم، وتيسرت المصادر عبر الأقراص المدمجة، وسهل الحصول على المعلومات عبر شبكات الانترنت.



2/ في الأصل ينقسم هذا المشروع إلى قسمين رئيسيين؛ أحدهما يبحث عن قيم الايمان، بينما يبحث الثاني عن ركائز الكفر وما يتصل به من الشك والشرك والفسوق وسائر الفواحش.. وكل قيمة إيمانية يقابلها ما يضادها من فواحش الكفر. فالباطل يضاد الحق، وضد العدل الظلم والبغي، والكذب والتكذيب هما ضدا الصدق والتصديق، وهكذا..



وإذا أحاط الإنسان علماً بكلمة التقوى، فإنه يعرف بنسبة معينة كلمة الحمية الجاهلية.



ومن هنا يقتضي التوقف عند هذا الحد في هذه الدراسة، إلاّ أن القرآن الكريم وسنة النبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام لم يكتفيا ببيان حقائق الإيمان فحسب، بل وبيّنا باسهاب حقائق الكفر، فأتم الله حجته البالغة على خلقه، ولكي يتمايز الظل والحرور، والموت والحياة، والظلمات والنور.



من أجل ذلك فإني آمل أن يوفقني الرب بفضله ومنّه ورحمته الواسعة لكي أدرس القسم الثاني من هذا المشروع؛ الفقه قرآني في وقت لاحق إن شاء الله.



3/ يحتوي الفقه حسب المنهج السائد على كتب تبلغ 21 كتاباً، إبتداءً من أحكام الطهارات حتى أحكام الديات، ولا نجد في هذه الدراسة كل هذه الموضوعات. والسبب أن هذه الدراسة إهتمت بالقيم الأساسية للفقه، ولم تدخل في التفاصيل، إلاّ في بعض الموضوعات ذات الأهمية والتي فصل القرآن الحديث عنها في آياته. من هنا فإن الأمل يحدو بنا الى أن نبحث أو يبحث من يوفقه الله سبحانه عن كل هذه الأبواب اعتماداً على هذه القيم لتكتمل الصورة بإذن الله تعالى.



4/ وفي الحياة موضوعات مستجدة بحاجة الى اضاءتها ببصائر الدين وأحكامه النيرة، مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والعلاقات الدولية والعولمة.. وفي كل موضوعة منها نستضيء بقيم شتى من هذه القيم الإيمانية؛ مثلاً في السياسة نحتاج الى إقامة القسط، ونشر الأمن، وإشاعة الرفاه، والتمسك بالكرامة والحرية والصدق.. وهكذا ينبغي أن نطبق مختلف القيم الإيمانية على هذه الموضوعة.



وهذه الدراسة لا تتكفل بذلك، ولكنها تصلح أن تكون مرجعاً فيها لمن وفقه الله تعالى.



وفي الختام إني أشكر الله أولاً على عظيم توفيقه لي في إنجاز هذا القسم من مشروعنا الفقه القرآني، ثم أشكر إخوتي في مكتبي بطهران على ما قدموه من جهد، وبالذات أشكر الحاج طالب خان والمساعدين له الذين ساهموا من خلال القسم الثقافي في مكتبي بطهران في إنجاز هذا المشروع. كما وأشكر الحاج حسن الرضوي والحاج مهدي الصادق ومساعديه الذين ساهموا في إعداد الكتاب للنشر. وأسأل الله سبحانه أن يتقبل بفضله هذا الجهد اليسير، وأسأله أن يدخره لنا جميعاً ليكون زادنا الى يوم القيامة، حيث لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم، والله المستعان.



محمد تقي المدرسي

12/ ربيع الثاني/ 1422

مدينة مشهد المشرفة

تمهيـد



لكي تتواصل كلمات الوحي في وعينا، ولكي نعرف الصلة بينها، وتتبلور لدينا في صورة منظومة متكاملة من القيم التي أصلها ثابت وراسخ في قاعدة التوحيد وفروعها في السماء وثمراتها في معرفة الحقائق الخارجية.



من أجل ذلك لا بد أن نقدم عرضاً للقيم التي ندرسها في هذا الجزء، والتي نبحثها في أربعة أبواب، لكل باب منها فصول. ففي الباب الأول ندرس قيم المسؤولية، وفي الثاني قيم الشرف، وفي الثالث قيم التطلع، ونختم الحديث في الباب الرابع بالفضائل التي هي زينة الإنسان.



وهذه القيم ترسم بمجموعها صورة الكرامة البشرية، وأصلها فضل الله على الإنسان إذ كرمه وسخّر لـه ما في الأرض، ووفر له فرص العروج الى أسمى الدرجات. وللكرامة ثلاث ركائز، وثلاثة تجليات. أما الركائز فهي:



1/ الركيزة الأولى تبدأ من المسؤولية التي حمّلها الرب البشر، حيث رزقهم العقل والارادة، ووفر لهم فرص الهداية الى الخير، ثم أرسل إليهم رسله بالكتاب والبينات. ولكنه سبحانه لم يكرههم على الهدى، بل دعاهم الى الإيمان به بكامل وعيهم وحريتهم.



2/ ومن ركائز الكرامة التي منحها الرب للناس، أنه بعث إليهم من أنفسهم رسلاً مبشرين ومنذرين ليعلموهم الكتاب والحكمة وليزكوهم وليكونوا لهم قدوات الى الخير والصلاح.



3/ ومن تلك الركائز، أنه سبحانه هداهم الى السبيل القويم بالبينة وبالرسول وببقية الله وبما أمرهم من نصرة الرسول.



هذه ثلاث ركائز أساسية للكرامة الانسانية. أما تجليات هذه الكرامة فهي:



أولاً: الصدق الذي هو شرف الإنسان، ونابع من إحساسه بالكرامة والعزة. ويتجلى الصدق في الوفاء بالعقود، والتمسك بالمواثيق.



ثانياً: التطلع؛ إذ يتصل طموح البشر بمدى إحساسه بشخصيته وبكرامته، ومن تجليات التطلع الايمان بوحدة البشر ومساواتهم في أصل الخلقة، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى.



ومن تجلياته التنافس والاستباق الى الخيرات، ومن تجلياته القوة والسلطة.



ثالثاً: وأسمى تجليات الكرامة الفضائل التي يتحلى بها عباد الله المتقون، من السكينة والطمأنينة وكظم الغيظ والحلم والعفو والتواضع والنصيحة وسائر الفضائل.



وفيما يلي نعرض فصول هذه الأبواب ببعض التفصيل.

الباب الأول عن المسؤولية سمة الإنسان



الفصل الأول: الإنسان إنه المسؤول

في البدء نتحدث عن الحرية باعتبارها أرضية المسؤولية، وقد تحدثنا عنها من منطلق فلسفي لتسفيه كل التبريرات التي تنفي المسؤولية مثل فكرة الجبر والحتمية. وتنقسم مسؤولية الإنسان الـى ثلاث شعب؛ المسؤولية الشخصية، والملكية التي تعني مسؤولية عن الأشياء، والولاية التي تعني فيما تعني مسؤولية عن الآخرين.



أ- إن الكرامة البشرية تقتضي مسؤوليته عن تصرفاته. فالانسان في الشرائع الإلهية جميعاً، وفي كل الأنظمة والثقافات البشرية إنه مسؤول عن تصرفاته. ومن دون الايمان بقيمة المسؤولية، ينهار نظام المجتمع البشري، بل وينهار ما يتميز به عن الحيوانات من ثقافة وحضارة.



وتكريس قيمة المسؤولية، أعظم إنجاز لأي تشريع. وبحق أقول: الدين الاسلامي قد كرّس هذه القيمة في ثقافة المسلمين وفي مختلف انظمتهم بأفضل صورة ممكنة، إذ سد منافذ التهرب منها والاحتماء الى كهف الظنون والتمنيات (مثل فكرة الفداء أو فلسفة الجبر والتفويض أو صنمية القدر أو أية صنمية أخرى).



كما أن الدين بصّر الإنسان بالجزاء، عاجلاً في الدنيا، وآجلاً في الآخرة، بما جعله يتقي الفساد والفسوق. وكتاب ربنا حقاً كتاب المسؤولية.



ب- لقد كرّم الله بني آدم حين سخّر لهم ما في الأرض وحملهم في البرّ والبحر، وحين رزقهم من الطيبات. وهكذا بدأت هيمنة البشر على الأرض وامتلاكها لما فيها من أشياء وأحياء؛ فبالعلم والقدرة وسائر المواهب التي أعطاها الرب للبشر استطاعوا أن يعمروا الأرض، ويمتطوا صهوة الريح، ويذلّلوا طاقة النار والذرة، ويلينوا الحديد لمأربهم..



وهذه الملكية - التي هي من تجليات كرامة الله الممنوحة للبشر ما هي إلا صلاحيات محدودة، ذات هدف محدّد هو ابتلاء الإنسان وبعثه نحو صفات الكمال التي يقتضيها شكر الله.



ج- والناس مسؤولون عن بعضهم في إطار الولاية الإلهية؛ فالمؤمنون أولياء بعضهم والله وليّهم والرسول صلى الله عليه وآله وليّهم بإذن الله، ومن بعده الأئمة الأطهار أولياءه وشهداء عليهم.



والولاية تعني القرب الذي يورث الأقرب الحق في تولي أمر من يتولاه.. وإذا كان المؤمن قريباً من الله، فإن ولاية الله تشمله، فهو الذي يتولى الصالحين من عباده. وقرب المؤمن من ربه ميراث معرفته به، وتخلقه بأخلاقه وسلوكه الصاعد الى رضوانه.



وإذا كانت ولاية الله راسخة في وجدان المؤمن، فإنها تصبح الميزان لكل علاقته. فمدى قربه أو بعده عن الناس يتحدد بمدى صلتهم بالله؛ فكل من كانت صلته بالله أقرب كانت ولاية المؤمن لـه أوثق.. الأنبياء والأوصياء والصديقون ثم الأمثل فالأمثل من الصالحين، هم الذين يمنحهم المؤمن ولايته، كل بدرجة قربه من ربه..



فكل ولاية عند المؤمن شعبة من ولاية الله تعالى، ومقياسها الحق ولاية الله سبحانه.



الفصل الثاني: علىخطى أنبياء الله

من أجل تحقيق المزيد من كرامة البشر، يجتبي ربنا من عباده رجالاً أكرمين، ويجعل فيهم رسالته ويعصمهم ويؤتيهم الحكمة والنور والتأييد، ثم يأمر عباده باتباعهم والتأسي بهم وحبهم.



والرسل هم قمة هرم البشرية، والصديقون والشهداء هم ولائج بيننا وبين الرسل .



وهكذا لكي يهتدي الناس الى سبيل الله القويم، ولكي ينالوا الكرامة، لا بد أن يتبعوا من هداهم الله واجتباهم. والإتباع أساساً لكتاب الله، ثم لأنبياء الله، ثم لأوصيائهم، ثم للسابقين.



ومن حقائق الإتباع التأسي، حيث يجبر البشر كسر عزيمته وخورها بالتاسي بالسابقين من القدوات الرائدة، وقدوتهم المثلى رسول الله صلى الله عليه وآله الذي أمرنا الله سبحانه بالإقتداء به.



وأسمى صور الإتباع والتأسي ذلك الذي يفيض من ينبوع الحب، لأن الحب تناغم وانسجام، ويتجلى حب الإنسان لربه في الإنابة إليه والرضا بما يقدره ويقضيه والشكر لآلائه والشوق إلى لقائه.



وإذا أحب الإنسان ربه أطاعه إطاعة الأحرار، وحتى إذا ذهب الى لقائه كان في جنته وبين عباده في مقعد صدق عند مليك مقتدر.



ومن حب الله يفيض حب المؤمن لأولياء الله والصالحين من عباده، حتى يكون سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم..



الفصل الثالث: السبيل القويم

من القيم المثلى في حياة الإنسان، ومن تجليات كرامته عند ربه، أن يكون على بصيرة من أمره ويقين وبيّنة. فما هي سمات البصيرة وشواهد البيّنة عند البشر؟

نستوحي من آي الذكر أنها التالية: أولاً: إن البيّنة من عند الله سبحانه وليست من ذواتنا نحن البشر. ثانياً: ومن اُوتي البينة تنـزلت عليه الرحمة. ثالثاً: ويشهد له من يصدقه من الشهداء. رابعاً: وتشهد بصدقه حقائق التاريخ وسنن الله فيه. خامساً: وفعله يشهد على صدق قوله. سادساً: إنه يسعى الى الاصلاح ما استطاع إليه سبيلاً. سابعاً: إنه يتوكل على ربه (ويقتحم غمار التحديات الكبرى).



وتتجلى البينة عند الإنسان الذي أوتي البصيرة في دينه، إنه يسعى أبداً للآخرة التي هي البقية التي أدخرها الله للصالحين. فهو يتسامى عن الدنيا وحطامها، ويتجاوز لذات الدنيا وشهواتها، ويصبر على المكاره إبتغاء تحقيق بقية الله التي هي خير.



كما تتجلى البينة عنده بالولاية التامة للرسول والأئمة والمؤمنين، ولا يكتفي بالولاية الظاهرية بل يترجم ولايته الى الدفاع عن قيمه ونصرة من يتولاهم؛ لأن في هذه النصرة تحقيق قيم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأنها بند أساسي من بنود الميثاق الذي أخذه على النبيين أنفسهم، وإن النصرة حق من حقوق المؤمنين على بعضهم.



والرسول والأئمة هم السبيل القويم الذي هدى الله له المؤمنين، والله سبحانه هو الذي يهدي الى السبيل القويم؛ فأما أن يكون الإنسان شاكراً فيتبعه، وأما أن يكون كفوراً فيجتنبه والعياذ بالله.



الباب الثاني: الصدق شرف الإنسان

تتجلى كرامة الإنسان في صدقه في قوله، وصدقه في عهده، وصدقه في مواقفه عند الشدة. ذلك لأن صدق اللسان دليل صدق القلب، وميراث إحساس النفس بالكرامة والشرف الذاتي وسلامتها من العقد بكل ألوانها. فالحقد والحمية، والكبر والأنانية، والذل والمهانة، والجبن والطمع، وسائر الفواحش الباطنة تورث الكذب، وتمنع الصدق.



والصادق لا يخون، ولا ينقض عهده، لأن الخيانة والغدر دليل ذل النفس وخلوها عن الشرف والكرامة.



والصدق هي صبغة العلاقة بين أبناء المجتمع المسلم. وهكذا تتجلى صفة الصدق في العهود والعقود وفي الوعد والكفالة.



من هنا بحثنا في الفصل الأول من هذا الباب وبتفصيل عن أحكام العقود تحت عنوان: (كلمة الصدق والوفاء بالعهود)، وذلك في خمسة أقسام مهدنا لها بالحديث عن كلمة الصدق التي تتحدث عن هذه القيمة وما ورد فيها من نصوص. أما الأقسام فهي التالية:



في القسم الأول نستوحي بصائر الوحي في العقود، ونستفيد من الآيات الكريمة التي أمر ربنا فيها بالصدق والعدل، ولانفصّل فيها لأن لبحوثها مناسبة أخرى في هذه الموسوعة.



ونستفيد من آيات القرآن التي تنهى عن الظلم، ومن ثم نستوحي بصائر الوحي في حدود الله في العقود؛ مظهرها وجوهرها وحرمة الربا، وما يتصل بأهلية المتعاقدين، ومن شرائط الشرع في محل العقود، ثم نتحدث إن شاء الله بتفصيل عن الفروع الفقهية التي قد نستفيدها من البصائر القرآنية.



وفي القسم الثاني نتحدث عن المكاسب التي حرّمها الشرع المبين، وذلك في أبحاث ثلاثة؛ الأول: عن القواعد العامة. الثاني: عما نستفيده من حديث شريف روي عن كتاب "تحف العقول" فيه تفصيل المكاسب ما يجوز منها وما لا يجوز، ونتأمل فيها - بإذن الله - بما يتناسب ومنهج كتابنا هذا. الثالث: عن تفصيل أحكام الربا؛ سواءً في الدين، أو في العقود، أو بيع الصرف.



أما القسم الثالث فقد خصص لبحث صورة العقد، وحسب تعبير الفقهاء صيغة العقد، حيث يشترط فيها أمران أساسيان هما التنجيز والتعبير؛ أي وجود مظهر خارجي للعقد الذي هو إلتزام قلبي. ويجرنا البحث فيه الى الحديث عن المعاطاة، وهي العقد بلا صيغة قولية.



وفي القسم الرابع نذكر الشروط التي لا بد من توافرها في طرفي العقد (المتعاقدين)، ومنها شروط عامة مثل البلوغ والعقل، ومنها شروط ترتبط بالعقد مثل الرضا والملك.



وعند الحديث عن شرط الرضا يجري الحديث عن الإكراه معناه ومعياره ووسائله، وعن الرضا بعد الإكراه.



كما أنه عند الحديث عن شرط الملك نبحث موضوع عقد الفضولي الذي أخذ جزءاً واسعاً من بحوثنا، وكذلك من بحوث الفقه والقانون.



كما تحدثنا أيضاً ببعض التفصيل عن قاعدة نفي الظلم والضرر، أو قانون الإثراء بلا سبب.



أما القسم الخامس فقد خصص للكلام عن الخلل في التراضي أو ما يسمى بعيوب الإرادة، حيث نتحدث أولاً عن الواجب في تحديد الثمن والمثمن ونفي الغرر. وثانياً عن الخيارات، ما يقتضيها وما يسقطها.



وأما الفصل الثاني من هذا الباب بحث فيه موضوع العهود والمواثيق تناولنا الحديث فيه عن اليمين والوعد والكفالة.



فعن اليمين تحدثنا عن أفق من آفاق كلمة الصدق في حياة المؤمن، ألا وهو إلتزامه بقسمه ونذره. إن ذلك نابع من كرامته عند نفسه، ووجدانه بما منحه الله لـه من شرف وحرمة ومقام. واليمين عقد القلب (بالإلتزام)، ولا يؤاخذ الله عبداً على اللهو في الايمان.



وبعد الحديث عن حقيقة اليمين نتحدث عن كفارة نكث اليمين، ثم نذكّر بكراهة المبادرة الى القسم بالله، ونبين مدى حرمة اليمين بالله كذباً؛ مثل حلف الكفار بالله كذباً على تصديقهم بالرسالة. وأخيراً نتكلم عن حرمة جعل اليمين دخلاً بين المسلمين، وعن القتال مع الناكثين.



كما تحدثنا عن الوعد الصادق، باعتباره شرف المؤمن، ودليل مروته وإحساسه بالكرامة، والله سبحانه لا يخلف وعده، والرسل هم صادقوا الوعد. وضرب الله مثلاً بالنبي اسماعيل الذي كان صادق الوعد، ونبينا الأكرم كان قدوة في صدق الوعد.



وفي موضوع الكفالة نتناول حقيقة أخرى من حقائق إحترام المؤمن لعهده ووفاءه بما إلتزم به. إنها الكفالة التي تعني مسؤولية الشخص عن رزق شخص آخر، كما تعني ضمانة المؤمن لشخص آخر ووصل ذمته بما في ذمة ذلك الشخص.



ولأن المؤمن يكرم نفسه أن تهان وأن تخفر ذمته، فإنك تراه شديد الاهتمام بذمته التي اشغلها بكفالته.



الباب الثالث: التطلع معراج الإنسان

كلما كان إحساس المرء بشخصيته وعزة نفسه أكبر، كلّما كانت همته أعلى وتطلعه أسمى. من أنا؟ إذا عرفت نفسي ذلك المخلوق الذي خصه ربه بالكرامة وسخّر لـه ما في الأرض جميعاً، ودعاه الى أن يعبده لا يعبد أحداً سواه حتى ينال كرامته، ويرتحل غداً الى دار ضيافته، ويكون جليسه في مقعد صدق.. إذا كانت هذه هي رؤيته عن نفسه، فإنه لا يقف عند حد في علو الهمة وسمو الهدف.



وهكذا نتدرج هنا في بحث آفاق التطلع عند الإنسان، وكيف نتجاوز العقبات التي تعترض سبيل تطلع الإنسان وتساميه؛ تلك العقبات تتجسد في محورية القضايا المادية، وفي تجاهل جوهر الإنسانية وحقيقتها.. ونعرف أن الأصل هو الإنسان وليس عنصره أو قوميته أو طبقته أو أرضه وأقليمه.



ونتحدث بعدئذ عن العلاقة السليمة بين الناس، والتي تقوم على أساس الرحمة المتبادلة والتعاون البناء، والتنافس على المكرمات.



ونفصل القول في هذه البصائر عبر أربعة فصول وتمهيد؛ أما التمهيد فإنه يتناول بصيرة التطلع، وعلوّ الهمة، حيث نشير تحت هذا العنوان الى أن من كرامة الله للإنسان أنه سبحانه قد أغرز في وجدانه فطرة التسامي التي تبعثه أبداً الى الأعلى، وإنما دست هذه الفطرة في ركام من الوساوس الشيطانية والتي تنفث فيه اليأس والكسل أو تضله عن الطريق السليم الذي لا بد أن يسلكه لتحقيق تطلعاته. أما منهج الوحي فإنه يتدرج مع الإنسان في ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأولى تستثير فطرة التطلع فيه، وفي الثانية تفك الأصر والأغلال التي تصده عن التسامي، وفي المرحلة الثالثة والأخيرة تعلمه بقائمة الأهداف السامية التي ينبغي له أن يسمو فيها. هذا ما نمهّد به للحديث عن آفاق التطلع عند البشر، ثم نتحدث عبر فصول في بيان حقائق التطلع.



ففي الفصل الأول نتحدث عن الكرامة التي هي من القيم المثلى التي يورثها الإيمان، وبيّنا فيه معنى الكرامة، وحقيقتها في حياة البشر جميعاً، وحقائقها في حياة المؤمنين خاصة.



وفي الفصل الثاني، نتحدث عن تسامي جوهرة الإنسان وتعاليها عن التمايزات والفروق المادية. ذلك أن أصل البشر من آدم، وآدم من تراب. فلا الثروة ولا القوة ولا العلم والجاه والجمال ولا أية قيمة مادية أخرى تميز الإنسان عن نظيره الإنسان، أو تجعل إنساناً رباً والآخـر عبـداً.



وإنطلاقاً من هذه البصيرة التي تكرس كرامة البشر وتجعل الانسانية أصلاً ومحوراً وقاعدة، ينفي الدين الحنيف أي نوع من التمايز بين بني آدم؛ فلا عنصرية ولا طبقية، ولا طغيان في القومية ولا علو في الوطنية، ولا حمية جاهلية من أي مصدر كانت.



وبتجاوز الحواجز التي تفصل بين البشر، يمهد السبيل نحو التعاون الذي أمرنا به الرب سبحانه شريطة أن يكون على البرّ والتقوى وليس على الإثم والعدوان.



ويتسامى التشريع الاسلامي ليبلغ مستوى التراحم، حيث يجب أن نجعل العالم مهبطاً لرحمة الرب بالاحسان والتفضل والعطاء.



وفي الفصل الثالث نتحدث عن الاستباق إلى الخيرات حتى يكون طموح كل فرد بلوغ أسمى القمم في حقل الخير. وجوهر الإستباق الاستفادة من عامل الزمن وكل الطاقات المتاحة في كسب قصب السبق. وهكذا تتصل هذه القيمة بأهمية الوقت، الذي هو متداخل مع حقيقة الخلق، حيث إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وقدرها تقديراً دقيقاً، وجعل الشمس والقمر بحسبان، وجعل لهما وللأرض أجلاً كما جعل لكل أمة أجلاً ولكل إنسان أجلاً مسمى. وهكذا عرفنا ربنا بقيمة الوقت.



ومن دون تدبير الإنسان لحياته واستفادته المثلى لطاقاته، فإن أجله يباغته دون أن ينتفع بعمره ووقته . من هنا ترى المؤمن يحاسب نفسه ويقدر ساعاته حسب حاجاته، ويحرص على عمره أكثر مما يحرص على ماله. ولأجل ذلك تراه يبحث أبداً عن التقدير السليم الذي ينبعث عن حكمة الرب في تقدير كل شيء، ومن سننه الجارية في خلقه. ومن التقدير السليم إعطاء كل شيء حظه، فالتقسيم الدقيق للطاقات ولساعات العمر قيمة أساسية للاستفادة المثلى من الامكانات، وهي بدورها وسيلة للتقدير السليم، وهو بدوره طريق الى المسارعة وكسب قصب السبق، والله المستعان.



وفي الفصل الرابع نتحدث عن إحدى الغايات السامية، التي تعتبر في الواقع الهدف الأسمى لكل أمة، وهي القوة التي تجعل الأمة متمكنة في الأرض وشاهدة على سائر الأمم. وفي الحديث عن القوة نجيب على الأسئلة التالية: ما هي القوة، وكيف ننتفع بها، وما هي أخطارها حين تخالف الحق؟؟

والله سبحانه هو القوي العزيز، ومن قوته يستمد الرسول والمؤمنون قوتهم. فهو الذي ينصر رسله والذين آمنوا، ويمكنهم في الأرض. ومن هنا كانت التوبة الى الله، والتوكل عليه، والاستعانة به، سبباً رئيساً لقوة المؤمنين.



أما ركائز القوة في الحياة، فهي الحق والحكمة والتعاون والتمسك بالميثاق والمال والرجال والبأس الشديد.



وتنفع القوة في التمسك بالدين الحق، وفي الدفاع عن النفس، وفي القيام بما يقيم حياة البشر. ولكن القوة تضر إذا خالفت الحق، وتنهزم أمامه في النهاية أنى كانت شديدة.



الباب الرابع: الفضائل زينة الإنسان

والكرامة الإلهية للإنسان تبلغ ذورتها مع تزكية الإنسان نفسه لتتحلى بالفضائل، فتبلغ السكينة والرضا، وتتربى لدخول الجنة حيث يدعوها الرب إليه ليدخلها في عباده.



وفي الحديث عن الفضائل نختار طائفة منها، وهي التي لم نتحدث سابقاً عنها في سائر أجزاء هذه الموسوعة، وهي تجنب الخوف والحزن، وكظم الغيظ، والحلم عن الجاهلين، والعفو عن الخاطئين، والتواضع، والنصيحة في القول والعمل..



ونستعرض في ختام الباب ونهاية الكتاب سائر الفضائل حسب ما جاءت على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة شريفة يصف فيها المتقين، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وفضله العظيم.



البـاب الأول

المسؤولية سمة الإنسان

الفصل الأول: الإنسان إنه المسؤول

الفصل الثاني: على خطى الأنبياء (ع)

الفصل الثالث: السبيل القويم

الفصل الأول: الإنسان إنه المسؤول

لا للجبر.. لا للتفويض



الإنسان ذلك الكائن (المبتلى) الذي حمل الأمانة وأُوتي المقدرة على أدائها، وأُوتي المشيئة في الاختيار إما شاكراً وإما كفورا. وقد قال عنه خالقه تبارك وتعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ اَخْلَدَ إِلَى الاَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ » (الاعراف/175-176)

فما هي حدود مشيئة البشر التي خولها البارئ إليه، وما هي آفاق حريته التي حبيت لـه، وما هي حدودها؟ فيما يلي بعض التفصيل في هذا الموضوع الشائك.

أولاً: لا جبر ولا تفويض



في علم الفلسفة، كذلك في علم الكلام بحث بعيد الغور حول الجبر والتفويض، فمن الناس من نفى عن الانسان كل ألوان المسؤولية، وقال: كل شيء مقضي عليه، وهو منذ أن خلق كان مسيّراً. ولعل الكفار الذين نسبوا أفعالهم القبيحة الى الله سبحانه، كانوا من هؤلاء حين قال عنهم ربنا: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » (يس/47)

وقال بعضهم (حسب ما يحكي عنهم الرب تعالى): «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ » (المؤمِنون/106)

وذهبت الأشاعرة إلى الجبر، وبالغ بعضهم في مذهبه حتى نسب الى الله كل أفعال العباد، ونفى عن ربه سبحانه صفة العدل.



ومنهم من ذهب الى التفويض، ونفى قدرة ربه على عباده، وزعم أن الخلق قد فاض من ضمير الخالق من دون وعي منه ولا إختيار، ولا يستطيع أن يغير فيه شيئاً. كما أشعة الشمس حين تفيض منها، وحين لا تستطيع فيها صنعاً. سبحان الله!



وقالت اليهود الذين ضاهئوا في هذه الكلمة الفاحشة الفلاسفة الاغريق، قالت: إن يد الله مغلولة. وقال الله سبحانه عنهم: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراًمِنْهُم مَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَاَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » (المائدة/64)

وسواءً الجبر أو التفويض في نفي المسؤولية عن الانسان؛ فمن ذهب الى الجبر تحرر بزعمه من مسؤولية أفعاله، بل إستسلم لقدره واسترسل مع الحتميات التي تقوده من طور الى طور. وتتعدد الحتميات عند هؤلاء؛ مثل حتمية الاقتصاد والشهوات، وحتمية الاجتماع والسياسة، وحتمية الدورات الحضارية وغيرها.



أما القائلون بالتفويض، فإنهم أيضاً يتحللون من مسؤولية أفعالهم حين ينفون أية قدرة على التغيير عند الرب؛ فكيف بهم؟

ولعل القدرية الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وآله في هذه الأمة، وسمّاهم مجوس هذه الأمة، هم الذين يتحللون من المسؤولية سواءً بالجبر أو بالتفويض. وهكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "القدرية مجوس أمّتي". ([1])

أما المذهب الذي أرسى قاعدة المسؤولية عقائدياً، وزرع الإيمان بالقدرة على الاختيار عند الانسان، فهو الدين الحنيف الذي يقول (على لسان الإمام الصادق عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين". ([2])

ثانياً: بين العقل والهوى



1/ قدرة البشر على الاختيار الحر، لا تعني أن لـه أن يختار الباطل على الحق، والهوى علـى العقل.



كلاّ؛ إنما عليه إختيار الحق والرشد، وإن قيمة إختياره الحق تتجلى عندما تكون من دون إكراه. قال الله سبحانه: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَـةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ » (البلد/10-14)

وعلى هذا ترسو قاعدة المسؤولية. فلأنه حر ولأن عليه أن يختار الحق، فإن خالف عوقب. وهذه القاعدة هي أساس كل التعاليم الأخلاقية والأنظمة الجزائية، وهي أساس معاملة الناس جميعاً في الأرض.



2/ فإن كان الشخص مكرهاً لم يحاسب، ولو كان غير ملزم بشيء لم يعاقب على تركه، بينما الانسان محاسب ومعاقب. قال الله سبحانه: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس/7-10)

3/ لقد وفّر الله للانسان فرصة الاختيار، ولكنه فرض عليه إختيار الحق، فإن لم يفعل عذبه في الآخرة عذاباً نكراً. (فهو من الناحية التكوينية حر، ومن الناحية التشريعية مكلف مفروض عليه الحق). قال الله سبحانه: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكُفُرْ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً» (الكهف/29)

وجاء في حديث شريف عن أبي بصير، قال: قال الإمام الصادق عليه السلام: " شاء وأراد، ولم يحب ولم يرض. قلت: كيف؟ قال: شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه، وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال لـه: ثالث ثلاثة، ولم يرض لعباده الكفر. ([3])

ثالثاً: لا إكراه في الدين



مادام الدين الصحيح هو الذي يختاره الشخص بحرية وبعد أن يتعرف عليه بيقين، فإن الدين لا إكراه فيه. ولو أراد الله إكراه الناس على الهدى، إذاً أجبرهم عليه، ولم يكن لأحد حجة عليه. فهو الرب العزيز الجبار، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .



من أعظم ما في الدين، تحرير الإنسان من الجبت والطاغوت. ذلك ان الجبت يضغط على الارادة من داخل النفس، ويفقد الانسان القدرة على الاختيار السليم. فالكبر والحسد والحمية والبخل والجبن والفشل وسائر الفواحش الباطنية والعقد النفسية، إنها جميعاً أغلال تحيط بالمشيئة الحرة عند البشر، ورغماً على صاحبها تدفعه الى حيث لا يريده بعقله، فاذا به يرتكب الفواحش والجرائم ويندم بعد فوات الأوان. والذي يحررك من الجبت أولاً: إيقاظ العقل. ثانياً: أن يذكر الانسان بالجبت ودوره التدميري. ثالثاً: الإنذار والتبشير. رابعاً: تنمية التقوى وتوفير الارادة. خامساً: التوكل على الله سبحانه.



أما الطاغوت فإنه يشكل الوجه الظاهر للجبت، لأن السلطان الجائر أو المجتمع الفاسد أو الاقتصاد الظالم وسائر مظاهر الطاغوت تستغل نقاط ضعف الانسان؛ تستغل فيه الرغبة الجامحة في الشهوات والرهبة الفظيعة من العواقب، وتستغل فشل الارادة وتدني التربية وحب الراحة وحب الاستعلاء. ومن خلال هذه النقاط تستعبده وتستلب حريته، وتحوله الى أداة طيّعة في يده. وإنما الدين التوحيدي الخالص يرفع البشر الى درجة التحرر من الطاغوت والتشرف بوسام التوحيد، وليس فقط عبر تزكية النفس من عوالق الجبت، وإنما أيضاً بالسبل التالية؛ أولاً: بالأمر بالكفر به (معارضته). ثانياً: بالاجتناب عنه (وعدم الركون إليه). ثالثاً: بالاستعانة بالله والتوكل عليه (في مقاومته والاستقامة والصبر على أذاه). رابعاً: بالإيمان بالله وتولي أولياءه (والتمحور حول قيادة إلهية). خامساً: بالهجرة عن ديار الكفر الى دار الإيمان في ظروف معينة، ثم الجهاد باذن الله سبحانه. سادساً: بدفاع المؤمنين عمن استضعف عند الطغاة وطلب النجدة.



وهكذا التحرر من الجبت والطاغوت من أعظم نعم الله سبحانه لعباده المؤمنين.



1/ يذم ربنا سبحانه الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب، لأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت. يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلآءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلاً * اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (النساء/51-52)

ألا ترى كيف يلعن الله أولئك بالرغم من تظاهرهم بالإيمان بالله، لأنهم كانوا يوالون أعداء الله من الكفار، ويعتبرونهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.



2/ أما من يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فإنه قد إستمسك بالعروة الوثقى. قال الله سبحانه: «لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (البقرة/256)

ونستوحي من الآية البصائر التالية:



أ- إن الدين لا إكراه فيه. وهكذا الهدى لا يكره ربنا خلقه عليه، ولا يجوز للناس أن يكرهوا بعضهم عليه. وقد قال الله سبحانه: «وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لأَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَاَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » (يونس/99)

وقال الله تعالى: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وءَاتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» (هود/28)

ب- وقد تبين الرشد من الغي. وهكذا إكتملت عناصر الحجة البالغة على الخلق، وكذلك ينبغي للدعاة أن يجتهدوا للغاية حتى يتبين للناس الرشد من الغي. أوليس الهدف إيمان الناس بالدين إيماناً قلبياً صادقاً؟ وإنما السبيل الى ذلك تبين الرشد من الغي، ويكون ذلك عبر تلاوة القرآن، حيث قال الله سبحانه: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ » (ق/45)

ج- إن الاستسلام للطاغوت ضعف وليس -كما يزعم البعض- قوة، لأن قوة الطاغوت تتمثل في ضعف الخاضعين له، فاذا تحدوه ضعف وقَووا. والاستسلام للطاغوت يفقد الإنسان إستقلاله وحقوقه وطاقاته؛ فأيّ قوة فيه؟

بلى؛ في الإيمان بالله والتوكل عليه والاهتداء بنوره قوة، لأنه تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.



3/ لقد خلق الله البشر ليبتليهم، وجعل مادة الابتلاء الاهتداء. ولو شاء لجعل لهم الهدى بالفطرة كما نور أعينهم، فاهتدوا الى الحق جميعاً. ولكن أين إذاً شرف الحرية، وأين حكمة الاختيار؟ قال الله سبحانه: «وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لأَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَاَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » (يونس/99)

ومن هنا لا يكون هم أحدنا جبر الناس على الهدى، وإنما إبلاغ آيات الهدى إليهم، حتى يتبين لهم الحق.



4/ القرآن مهيمن على سائر الكتب، وهو أسمى منها وأغنى، والله حفظها به. وعلى الرسول أن يحكم بين الناس به، ولا يتركه لأهوائهم. (ولكن لا يعني ذلك إن ما بأيديكم من الكتاب باطل كله، لأن الله) قد جعل لكل (من المؤمنين بالرسالات الإلهية) شرعـةً (وطريقاً واضحاً) ومنهاجاً (يُحدد السبل المختلفة في الحياة). وكان ربنا الحكيم قادراً، لو شاء أن يجعل الناس أمة واحدة (على هدى الحق)، ولكن (جعل لكل شرعة ومنهاجاً) ليبلوهم فيما آتاهم (من الكتاب). والحل الأمثل للخلافات (ليس في الجدليات الفارغة، ولا في الصراعات العقيمة، وإنما في) إستباق الخيرات (والتنافس في المكرمات التي يتفق جميع البشر على أصولها). قال الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » (المائدة/48)

فقه الآيات

1/ الحرية مسؤولية الأمة



من أجل تكامل الانسان وتساميه الى ذروة أهدافه المنشودة، ومن أجل تحول البشر من كونه آلة صماء بيد الطغاة أو برغياً صغيراً في جهاز صناعي، أو عبداً ذليلاً لأهوائه وحمياته.. تحوله ليكون كائناً مفكراً عاقلاً يبحث عن الحق والخير. من أجل ذلك كله، ومن أجل تحقيق هدف الرسالات في الإنسان، أن يكون جليس الرب في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وضيفاً مكرماً في جنان العدل.



من أجل ذلك لا بد أن يسعى جميع أبناء الأمة في مشروع الحرية، الذي يعني بناء إنسان فوق مادي، مؤثر فاعل، متفجر الطاقات، واسع الإمكانات. ولكن كيف؟ دعنا نتابع النقاط حسب التدرج، وليس حسب الأهم والمهم.



أ- منذ نعومة أظفاره يستطيع الانسان الانتخاب. فاذا شجع المربون الأطفال على الاختيار الصحيح، نمّوا فيهم روح الحرية. وبالرغم من أن توقع حدوث هفوات من قبلهم، إلاّ أن الحصيلة النهائية ستكون إيجابية بإذن الله، إذا تم التوجيه الفطري والعقلي المركز إلى جانب توفير عوامل الحرية.



ب- في المدرسة؛ إذا تسلح المعلمون والمربون بالقدرة التوجيهية، وخففوا من وطأة الأوامر الصادرة. فإن الطفل سوف تتكامل شخصيته على أساس التعقل والانتخاب الحر، بعيداً عن عصا المعلم الغليظة، وعن الرغبة في الدرجات العلمية التي تنمي الأنانية والذاتية.



ج- وفي المراحل الدراسية المختلفة، يفضل تنمية حب المعرفة في الطفل والطاعة الواعية للمناهج المؤدية إليها، شأن الدراسة في الحوزات الدينية التي كانت متفوقة في هذا الجانب بلا ريب.



د- في المجتمع؛ ومن أجل تطبيق القوانين والالتزام بالآداب، يفضل التقليل من الاعتماد على القوة القهرية بكل صورة ممكنة، والاعتماد بدلاً من ذلك على الوسائل التوجيهية التي ترسخ القيم المثلى، وتدع الأفراد يتمسكون بها طواعية وتلبية لنداء وجدانهم الحرّ.



هـ- وفي ذات الوقت ينبغي التقليل من القوانين الاضافية، والاكتفاء بالأهم فالأهم من قواعد السلوك، تاركين للفرد حرية التقيد بالبقية الباقية. شأن الدين الحنيف الذي أمر ببضعة واجبات ومحرمات، ثم وجه الى المزيد من الأخلاق والآداب في إطار المستحبات والمكروهات.



و- وإذا تعرضت الأمة لموجات الشبهات، واهتزت قواعد السلوك في أبنائها، فعليهم الاجتهاد في التوجيه وتطوير وسائله وأساليبه، والاستخدام المحدود من القوة القهرية في الحجم والمدة.



ز- تنشيط الحوار والشورى والجدال بالتي هي أحسن، وترسيم قواعد أخلاقية للاختلافات، وتجنب الحدية والتهم وما أشبه.

2/ ركائز الدفاع عن الحرية



من أجل استمرار الحرية، لا بد من التصدي للقوى المناهضة لها، والتي تسعى للسيطرة على مؤسسات الدولة والتحكم من خلالها في الناس، أو تسيطر على الغوغاء منهم وتفرض من خلالهم إرادتها على النخبة المفكرة.



وإنما يمكن التصدي لهذه القوى بتكوين مؤسسات إجتماعية مقتدرة، والدفاع من خلالها عن الحرية، وذلك بما يلي:



أ- لا بد أولاً من تثقيف الأمة بقيمة الاستقلال والحرية، وتوعيتهم بضرورة الدفاع عنها، وتوجيههم بما يمكن أن يتوسل بها أعداؤها من المكر والخديعة؛ مثل إدعاءهم أنهم يريدون الدفاع عن قيم الأمة الأصيلة، وعن أمنهم واستقرارهم، وعن تقدمهم ورفاههم.



بلى؛ كل هذه الأساليب إستخدمها الطغاة من أجل خداع الجماهير وارضاءهم باستلاب حريتهم.



إن من المهم جداً إشاعة ثقافة الدفاع عن الحرية، وتحويلها الى قناعة راسخة في ضمير كل الناس. وفعلاً تحفل النصوص الدينية بأفضل ما يمكن من أصول هذه الثقافة؛ مثل توحيد الله ورفض الصنمية واجتناب الطاغوت ومحاربة أفكاره والتي تحدثنا عنها في مناسبات أخرى. أقول لو أن هذه الثقافة والبصائر الدينية المستوحاة منها كانت قد انتشرت في الأمة من دون تحريف أو تأويل لكانت مشبعة بثقافة الحرية.



ب- ومن أجل الحرية ينبغي أن تجعل في مقدمة قيم الأمة بمستوى أمنها القوي. فلا تبحث عن الرفاه السطحي، والتقدم الصناعي، والتوسع الاقليمي على حساب حريتها.



ج- من ركائز الدفاع عن الحرية؛ الجمعيات الدينية التي تتخذ من القيم الإلهية منطلقاً وإطاراً. وهذه الجمعيات هي -الأكثر قدرة لو أنها تفاعلت- مع حقائق العصر.



د- ومن الركائز؛ الجمعيات السياسية والمهنية والاجتماعية. وكلما تكاثرت هذه الجمعيات في الأمة، كلما استطاعت مقاومة فتنة الطغاة.

3/ الاستباق الى الخيرات



نستوحي من الآية 48 في سورة المائدة، إن حكمة اختلاف الأمم، الابتلاء. وبالرغم من اختلاف الشرائع والمناهج، فان عليهم جميعاً الاستباق الى الخيرات. وإليك بعض التفصيل في هذه البصائر:



أ- لأن لكل أمة ظروفها المتغيرة؛ مادية ومعنوية، فإن لكل منها شرعة ومنهاج. ولعل الشرعة هي بمثابة الدستور (القوانين الكلية)، بينما المنهاج هو سائر القوانين (التشريعات المفصلة).






/ 29