<a name=aaa1> </a> مناسك الحجّ - مناسک الحج نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مناسک الحج - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید






المرجع الديني


آية اللَّه السيّد محمّد تقي المدرّسي

مناسك الحجّ


الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى اللَّه على محمد وآله الطاهرين.


لقد اختارك اللَّه بكل عظمته وجلاله لتكون من وفده إلى بيته الكريم، وأن تدخل في رحاب ضيافته، وتستجيب دعوة الخليل إبراهيم بالحجّ، وإنّه حقّاً لشرف عظيم، ولكن هل تعرف إنّ التفقّه في أحكام الحجّ وما ينبغي لك في هذه الرحلة الإلهية من آداب رفيعة، وما يجب أن توفّره لنفسك من مقدّمات، إنّ ذلك يجعلك إن شاء اللَّه من أكرم ضيوف الرحمن، وأكثرهم نفعاً، وأعظمهم زاداً.بلى إنّ عليك أيّها الحاجّ الكريم أن تجتهد قبل السفر إلى الديار المقدّسة وأثناء السفر، لكي تعرف مناسك الحجّ وفلسفة أحكامه وشروط قبوله.


ومن هنا وفّقنا اللَّه تعالى بمساعدة أخينا الفاضل سماحة حجّة الإسلام الشيخ صالح الكلباسي حفظه اللَّه لتأليف كتاب موجز عن الحجّ وراعينا فيه الاُمور التالية:


أوّلاً: الاكتفاء بأهمّ الأعمال وأكثر المسائل ابتلاءً دون بيان التفاصيل التي لا يحتاجها عامّة الحجّاج، بل العلماء والمرشدين وحدهم، حيث نرجو أن نوفّق لبيان تلك المسائل المفصَّلة في كتاب منفصل.


ثانياً: القرآن الكريم يبيّن مناسك الحجّ وحِكَمَها وآدابها ببلاغة نافذة، والذي يتدبّر في آيات الحجّ في القرآن يستنير بها ويزدادبصيرة ووعياً بحقائق الحجّ.


وهكذا وفّقنا اللَّه سبحانه للتأمّل في تلك الآيات والاستضاءة بنورها وبيان الحقائق التي استفدنا منها عسى أن ينفع الحاج في وعي أبعاد هذه الشريعة الهامّة من شرائع دينه.


ثالثاً: وهكذا السنّة الشريفة تشرح مناسك الحجّ وعللها وفلسفتها بطريقة فريدة تجعلنا نزداد هدى ونوراً، وقد جاء في الروايةالمشهورة بين المسلمين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «خذوا عنّي مناسككم»، وقد حجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين وعلّمهم المناسك خطوة فخطوة، حتى أنّه كان يؤدّي بعض المناسك وهو راكب، لكي يراه الجميع ويسمعه الجميع، فقد لبّى بعد مسجد الشجرة راكباًحتى يسمعه المسلمون، وقد وقف بعرفات راكباً وطاف راكباً.


ومن هنا ذكرنا حجّ رسول اللَّه في البدء، وقبل كلّ منسك اخترنا بعض الأحاديث المتّصلة به وأثبتناها لكي يزداد الحاج بصيرةبأحكام الحجّ التي يسمعها مباشرة من فم النبيّ وأهل بيته الكرام(صلّى اللَّه عليه وعليهم).


رابعاً: وقد استفدنا من سائر الأحاديث الشريفة في آداب السفر إلى الحجّ وآداب العشرة ومن تجارب المهتمّين بشؤون الحجّ وتجاربنا في هذه الرحلة المباركة، استفدنا وصايا وتعاليم أثبتناها في مقدّمةالكتاب لعلّها تنفع القارئ الكريم.


إنّنا نرجو أن يزداد الحاجّ بصيرة بأحكام الحجّ وطريقة أداء المناسك إذا أحاط بكلّ ما كتبناه في هذا المنسك الموجز شريطة أن يتأمّل فيها سلفاً، وقبل السفر إلى الديار المقدّسة.


واسأل اللَّه الرحمن الرحيم أن يتفضّل عليّ، وعلى الاخوة الذين ساهموا في إخراج هذا الوجيز، وعلى القارئ الكريم، بقبول أعمالناقبولاً حسناً، وأن يعيد الحجّاج إلى بلادهم بزاد التقوى وهو أعظم زاد، غانمين بالأجر العظيم، ومتمتّعين بصحّة وسلامة.


وأسأله سبحانه أن يجعل هذا الوجيز مبرءً لذمّة العاملين به وذخيرة لهم ليوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى اللَّه بقلب سليم...إنّه سميع الدعاء.


محمّدتقي المدرسي


مشهد المشرّفة


27 / شوال /1415ه

في رحاب الحجّ

الحجّ في القرآن الكريم


سارة كانت الزوجة الوفية للنبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام، ولكنّها لم تنجب له، وكانت لها فتاة اسمها هاجر فأهدتها لإبراهيم عسى اللَّه أن يرزقه منها ذرية، وهكذا كان، حيث ولدت هاجر إسماعيل، ولكن سارة أخذتها ما تأخذ النساء، وأمر اللَّه إبراهيم بأن يُسكن هاجر وابنها عند بيته في مكّة، فامتثل الخليل أمر ربّه، وقال:


(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ابراهيم: 37


وهكذا كان الهدف من بناء البيت في عهده الجديد إقامة الصلاة، فكانت الكعبة قبلة للصلاة.


وقد استجاب اللَّه دعاء خليله عليه السلام فجعل البيت الحرام كعبة القلوب يتوافد إليها الناس، وتجلب إليها الثمرات من كلّ بلد.. كماجعل اللَّه البيت الحرام مثابة للناس كلّما زاروه عادوا إليه، لما فيه من عطر التوحيد ورَوح الإيمان ورُوحه، وكان أوّل بيت وضع للناس.


وقال اللَّه تعالى:


(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران: 97 -96


ونستفيد من هذه الكلمات البصائر التالية:


1- إنّ بيت اللَّه الحرام كان أوّل بيت لعبادة اللَّه سبحانه، عبادة خالصة لا شائبة فيها من تقديس غير اللَّه من قوم أو عنصر أو لون أو أيّة صبغة بشرية اُخرى.


2- وهكذا كان هذا البيت للناس جميعاً؛ أي للعالمين أسودهم وأبيضهم، أعجميّهم وعربيّهم، العاكف منهم القريب والباد منهم البعيد، فهو بيت الجميع كلّهم فيه سواء.


3- وهو بيت اللَّه ببكة، حيث تلتقي فيها الشعوب والقبائل جميعاً.


4- وفيه البركة لكلّ الناس، حيث يتوافدون إليه ليشهدوا منافعهم، ويتزوّدوا بالتقوى والطيّبات.


5- وفيه هدى للناس، حيث يتفقّه الوافدون في دين اللَّه الحقّ ويزدادون إيماناً وعلماً. أليس فيه آيات بيّنات من آثار إبراهيم، ومن آثار الأنبياءعليهم السلام، ومن تصديق وعد اللَّه بنصر عباده وإظهار دينه على الدين كلّه؟ فهذا مقام إبراهيم عليه السلام يتّخذه الناس حتى اليوم محراباً لصلواتهم ودعائهم تكريماً من اللَّه لعبده الوفي النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام.


6- ومن آيات اللَّه سبحانه أنّ من دخل مكّة كان آمناً، حيث جعل اللَّه هذا البيت حرماً آمناً، وحيث يحسّ كلّ بشر أنّى كان جنسه أو لونه بالسكينة في جوار بيت اللَّه، حتى ولو كانت الدنيا تحاربه. إنّ هذا الاحساس من آيات اللَّه سبحانه ومن أسباب حبّ الناس لهذا البيت واُنسهم به.


7- وجعل اللَّه على الناس جميعاً أن يحجّوا إلى بيته الحرام، فكانت تلك شريعة إلهية مفروضة كدَين لازم في ذمّة كلّ الناس (والحجّ هو التوجّه إلى محل مقدّس)، ولكنّ اللَّه سبحانه خفّف عليهم إذ شرط الاستطاعة في وجوب الحجّ، فقال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).


8- والاستطاعة شرط مفهوم عند الناس، وهي تتغير مصاديقها حسب كلّ زمان وكلّ بقعة وكلّ شخص. فمتى عرف الإنسان من نفسه القدرة على الوفادة إلى بيت اللَّه الحرام، وتوافر عنده صحّة البدن وسلامة الطريق، وما يبلغه إلى البيت من الزاد والراحلة،وما يعود به إلى أهله من كفاية، فلا يفتقر بعد الحجّ إلى أحد في معاشه. أقول: متى عرف الإنسان من نفسه ذلك وجب عليه الحجّ،لأنّه يستطيع إلى بيت اللَّه سبيلاً.

هكذا جعل اللَّه بيته محرماً:


لقد جعل اللَّه المسجد الحرام بيتاً عامّاً للناس جميعاً، وجعل أهله والوافدين إليه سواء فيه، وأنذر الذين يصدون عنه والذين يظلمون فيه بعذاب أليم. وهكذا جعله مثابة للناس وآمناً، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحجّ: 25


ونستدلّ من هذه الآية الكريمة على الحقائق التالية:


1- إنّ الذي يصدّ الناس عن المسجد الحرام ويمنع توافدهم إليه يكون بمثابة الكافر.


2- إنّ المسجد الحرام لا يكون ملكاً لأحد، بل هو سواء للناس، العاكف منهم فيه والوافد إليه من شقّة بعيدة؛ لأنّه بيت الناس وإنّه للعالمين.


3- إنّ الذين يظلمون الناس فيه يأخذهم اللَّه بعذاب أليم. وهكذا عرفت البشرية حرمة هذا البيت، وحتى الجبابرة والطغاة عرفواأنّ التعرّض لهذا البيت أو صدّ الناس عنه يعجِّّل العذاب عليهم، كما فعل اللَّه بأصحاب الفيل حيث أرسل عليهم طيراً أبابيل فجعلهم كعصف مأكول.


4- وقد جعل كلّ شي ء آمناً من حول البيت، حتى الطيور والوحش، وحتى النبات؛ وفرض الإحرام على مَن يقصده، حتى يكون سلماً لمن حوله ولما حوله، فقال سبحانه:


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). المائدة: 2


فكلّ من يقصد البيت الحرام يكون محترماً، وهو بدوره يحترم الناس ولا يصطاد من تلك الأرض منذ تلبّسه بالإحرام، ودخوله في أرض الحجاز حيث البيت الحرام؛ ولأنّ بعض الناس يجلبون معهم ما يهدونه من الأنعام فلا يحقّ لأحد أن يعتدي على تلك الشعائر (أي: ما يسوقه الحاجّ إلى البيت من الذبائح).


5- وحرّم اللَّه على المسلمين أن يعتدوا حتى على اُولئك الذين صدّوهم عن المسجد الحرام. فهاهنا منطقة آمنة لا بدّ ألّا يتّخذهاالناس ساحة لتصفية حساباتهم وميداناً لمعاركهم، بل إنّها محلّ تعاون على البرّ والتقوى.

بيت الطهر والتسليم:


1- وهذا البيت الحرام هو ميراث النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي جعله اللَّه للناس إماماً وجعل البيت الذي بناه مثابة للناس وأمناً،وأكرمه اللَّه حين أمر المسلمين بأن يصلّوا عند مقامه في ذلك البيت، وكان قد أمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهّرا بيت اللَّه (من كلّ رجس) ليكون مهيّأً للطواف والاعتكاف والصلاة، فقال ربّنا سبحانه:


(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). البقرة: 125


2- واستجاب اللَّه دعوة النبي إبراهيم في مكّة إذ جعلها منطقة آمنة، ورزق أهلها من الثمرات. ولكن لم يكن ذلك دليلاً على أنّ أهل مكّة هم مبعدون أبداً من الضلالة والكفر، فقال سبحانه:


(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناًوَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). البقرة: 126


3- وقد سأل إبراهيم ربّه بأن يريه مناسك الحجّ،(فكانت المناسك من بيان إبراهيم وبهداية اللَّه سبحانه) وكانت خلاصتها الدعاءبالقبول والهداية إلى الإسلام، قال اللَّه سبحانه:


(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَاأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). البقرة: 128 -127


ونستفيد من هذه الآيات أنّ أفضل الدعاء عند بيت اللَّه بعد التوبة هو الدعاء بأن يجعلنا اللَّه من المسلمين حقّاً الذين أسلموا للَّه ربّ العالمين، وأن تبقى حقائق الإسلام. في ذرّيتنا إلى الأبد.


4- ويبيّن القرآن أنّ هذا البيت قد وضع لعبادة اللَّه وحده فلا يجوز أن يشرك به غيره، وأنّه يجب أن يطهر (من أرجاس الشرك،وكلّ قذارة)، وقال سبحانه:


(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). الحجّ: 26


ولعّل أحد معاني الشرك هنا، أن يتّخذ أحد هذاالبيت وسيلة لتكريس نفسه أو أفكاره الخاصّة. كلّا، إنّه بيت اللَّه الذي وضع للناس كلّ الناس، لكي يعبدوا ربّهم بالطواف والصلاة.


ونستفيد من الآية أيضاً؛ إنّ خدمة الحاجّ بطهارة البيت لهم (وبسقايتهم وتوفير مرافق الراحة لهم) من مسؤوليات ولاة البيت،وأنّها عمل مطلوب وحميد.


5- ونستفيد من السياق أنّ المشرف على هذاالبيت وكلّ بيت عبادة، يجب أن يكون شخصاً ربّانياً؛ نبيّاً أو وصي نبي، أو واحداًمن أولياء اللَّه الكرام، وهكذا فقد أمر اللَّه النبيّ إبراهيم بإعلان الدعوة إلى الحجّ. قال سبحانه:


(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). الحجّ: 27


ومن الآية نستفيد أنّ السبيل إلى الحجّ قد يكون صعباً ولكن على الناس ألّا يتركوه لصعوبته، ولأنّ اللَّه سبحانه أبلغ إلى الناس جميعاً وعبر العصور أذان إبراهيم بالحجّ، وجعل البيت مهوى أفئدتهم، فقد تلهّفت النفوس إليه حتى تراهم يتوافدون إليه من كلّ فجّ عميق مشاة أو على كلّ راحلة ضمرت من شدة السعي ووعورة الطرق.


6- ورغّب القرآن في الحجّ ببيان جملة منافعه الحياتية والاُخروية، فقال سبحانه:


(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). الحجّ: 28


وهكذا فإنّ الهدف الحياتي الأوّل هو أن يشهدوا منافع لهم، حيث يتعارفون ويتعاونون ويتبادلون التجارب ويديرون التجارة،ويتشاورون فيما ينفع بلادهم ويتّحدون ضدّ أعدائهم. فهو إقامة النسك بتقديم الهدي، حيث يذكرون اسم اللَّه في أيام العيدفيشكرون ربّهم على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويأكلون منها ويطعمون البائس الفقير. (ويكون ذلك درساً في الانتفاع بنعم اللَّه عليهم، ولعلّ هذا إشارة إلى أعمال منى في يوم العيد، والتي منها تقديم الهدي ومنها إزالة الأوساخ).


إنّ تقديم الذبائح للَّه سبحانه سنّة قديمة، وأنّه لمن الشعائر المعروفة، ولكنّ اللَّه سبحانه أمر بأن تهذّب من خرافات الأصنام وألّايذكر عند إهداء القربان إلّا اللَّه سبحانه.


وكأنّ تقديم القربان إشارة إلى استعداد الإنسان لفداء نفسه وأعزّ ما يملك للَّه تعالى، وفي قصّة إبراهيم عليه السلام الذي رأى في المنام أنّه يذبح ابنه فعرف أنّ عليه أن يقدّم ابنه قرباناً، فأسلما وتله للجبين ولكنّ اللَّه فداه بذبح عظيم. في هذه القصة اختصار لحكمة القربان في يوم العيد، إذ يقول ربّنا سبحانه:


(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا كَذلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ).


الصافّات: 109 -102


ثمّ يقول ربّنا سبحانه:


(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). الحجّ: 29


ومن أعمال يوم العيد الحلق والتقصير وإزالةالأوساخ الظاهرة (كرمز لإزالة الذنوب بأعمال الحجّ) ومنها تقديم النذور والكفّارات،ثمّ إذا انتهت الأعمال نفروا إلى بيت اللَّه للطواف (وهو طواف الحجّ).


8- وقد أشار اللَّه إلى سنّة القربان عند الشعوب والهدف منه، فقال سبحانه:


(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الُْمخْبِتِينَ). الحجّ:34


هكذا كان الهدف من المنسك (تقديم الذبائح)بيان أنّ النعم من عند اللَّه، والهدف الأسمى التسليم للَّه والطاعة التامّة لشرائعه.


عندما تصف الإبل للنحر يذكّرنا منظرها بنعمة اللَّه كيف سخّرها لنا (وهي أضخم جثّة منّا) ويبعث على السؤال لماذا سخّر اللَّه الأنعام لنا؟ والجواب؛ لعلّنا نشكر اللَّه، وأن نطعم الآخرين من رزق اللَّه، ونذكره وحده دون الأنداد. وقال اللَّه سبحانه:


(وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). الحجّ: 36

حدود اللَّه في الحجّ:


1- ويبيّن ربّنا حدود الحجّ، وأبرزها إتمامه للَّه. فالحجّ شريعة إلهية وعلينا أن ننوي بها رضوان اللَّه، ولا نؤدّيها رياء أو سمعة أوبهدف العلوّ في الأرض والفساد.


وهكذا نعرف أنّ كلّ أعمال الحجّ يجب أن يسبقها قصد التقرّب بها إلى اللَّه ابتداءً من الإحرام (الذي هو أساساً عقد بالقلب) وحتى النسك ورمي الجمار.


وعلينا إتمام الحجّ، فلا يجوز لمن دخل في الحجّ أن يتركه أو يفسده. قال اللَّه تعالى:


(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ ِ). البقرة: 196


ولا يجوز ترك الحجّ إلّا عند الاضطرار مثل الحصر (بسبب المرض)، وعندئذٍ يجب بعث الهدي إلى حيث يذبح، ولا يجوز الحلق(والخروج من الإحرام) إلّا بعد أن يبلغ الهدي محلّه (مكّة في العمرة ومنى في الحجّ). قال اللَّه سبحانه:


(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).


البقرة: 196


أمّا من كان مريضاً ولا يستطيع أن يصبر على الإحرام، أو كان به أذى من رأسه وهو مضطرّ إلى الحلق فعليه أن يقدّم فدية بعد أن يحلق، فقال سبحانه:


(فَمَن كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). البقرة: 196


2- والحجّ أنواع؛ حجّ متعة، وحجّ إفراد، وحجّ قران.


وحجّ التمتّع يتميّز بالهدي (القربان)، وهو فريضة مَن لم يكن وطنه قريباً من مكّة المشرّفة، قال اللَّه تعالى:


(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌكَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوْا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). البقرة: 196


وهكذا كانت متعة الحجّ فريضة الوافدين إلى بيت اللَّه من الآفاق، وهي التي يفصل الحاجّ فيها بين إحرام الحجّ وإحرام العمرة بالتمتّع بما كان محرماً عليه في الإحرام.


والواجب على المتمتّع الهدي، ومن لم يقدر عليه فصيام ثلاثة أيام وهو في مكّة وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده لتكتمل الأيام العشرة بدل القربان.


أمّا من كان أهله حاضري المسجد وأطرافه (في شعاع 48 ميلاً، بحيث كانت مكّة حاضرتهم التي يتردّدون عليها) فلا هدي عليهم.


وحين قال ربّنا: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي) عرفنا أنّ أفضله نحر بدنة (الإبل)، وأوسطه ذبح بقرة، وأقلّه إهداء شاة.


ويجوز تقديم أكثر من هدي واحد كما نحر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم مأة من الإبل لنفسه وللإمام عليّ عليه السلام.

الإحرام:


1- يشترط في إحرام الحجّ أن يكون في الأشهر المعلومة (شوّال، ذي القعدة، ذي الحجّة)، ويشترط فيه عقد النيّة، بأن يفرض الإنسان على نفسه ترك ما يجب أن يتركه المحرم، وذلك استجابة لدعوة اللَّه له بالحجّ، حيث قال للنبيّ إبراهيم: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ). وهكذا يلبّي المحرم عند عقد الإحرام ويقول: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) وهذا القول من شروط الإحرام أيضاً.


قال اللَّه تعالى:


(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجِّ). البقرة: 197


2- وما يتركه المحرم أربعة محرمات رئيسية:


أ- الرفث؛ وهي مباشرة النساء، وقد حرّم الشرع مقدّمات المباشرة أيضاً، وهي العقد والشهادة عليه والنظر إلى النساء بشهوةواللمس، وكما حرّم ما يكون مثل المباشرة كالاستمناء. وهكذا كبح الشهوة الجنسية بكلّ أبعادها.


ب- الفسوق؛ يعيش وفد الرحمن لحظات روحانية متجرّدين من الانتماء إلى القوم والأرض، فحرّم عليهم التفاخر، والتعالي على بعضهم بكلّ وسيلة وهي ما يلي:


1- حرّم اللَّه الافاضة من غير الموقف وفرض عليهم ذكر اللَّه كذكرهم آباءهم أو أشدّ ذكراً (وسيأتي الحديث عنه لاحقاً).


2- حرّم الزينة بكل أقسامها؛ من لبس الثياب وما يستر الرأس للرجال أو يستر الوجه والكفّين للنساء أو يستر الرجل (الحذاء)أو حلق الشعر وقصّ الأظافر والتطيّب والتدهين والاكتحال للزينة ولبس الخاتم للزينة (وهكذا لبس النظارات للزينة وكذلك الساعة إذا كانت للزينة وما أشبه) وحتى النظر إلى نفسه في المرآة وحتى التظليل في حالة السير.


ج- الجدال؛ وقد حدّده الشرع بالقَسم بأن يقول: «لا واللَّه» أو «بلى واللَّه» وذلك في مقام ردّ كلام الآخرين أو إثبات كلامه لهم.وهكذا قال ربّنا سبحانه عن هذه التروك الإحرامية:


(فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ). البقرة: 197


د- الصيد؛ وقد حرّم من الصيد رميه وذبحه والدلالة عليه والمساهمة في أخذه أو حفظه أو حتى أكل لحمه. قال اللَّه تعالى:


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَايُرِيدُ). المائدة: 1


وحكمة هذه المحرّمات أنّها تعلّم الناس على ضبط كلّ شهواتهم، وذلك أنّ شهوات البشر الجامحة هي التالية:


1- شهوة الجنس؛ وهي تدعوه إلى كثير من المحرّمات (مثل النظر إلى النساء المحرمات عليه، الزنا، الشذوذ)، وقد تجرّه إلى بعض الجرائم والموبقات.


2- شهوة التعالي؛ التي تدعوه إلى التكبّر والفخر والاستهزاء بالآخرين والحسد والعداوات، وبالتالي تدعوه إلى أكثر المحرّمات في الشريعة. وهذه النزعة كانت سبباً لإخراج أبينا آدم عليه السلام وزوجه من الجنّة، وقد جعل اللَّه الجنّة لمن اتّقى منها، وقال سبحانه:


(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). القصص: 83


وفي الحجّ يعلّمنا اللَّه كيف نتّقي هذه النزعة الشيطانية.


3- شهوة الجدال؛ التي يقول عنها ربّنا:


(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً). الكهف: 54


وقد أمرنا اللَّه بأن نجتنب في الحجّ قول الزور،وقال سبحانه:


(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).


الحجّ: 30


إنّ من الصعب على الإنسان قبول الحقّ، والتسليم له ولذلك تراه يجادل فيه أشدّ الجدال.


4- شهوة التملّك (وأبرز مصاديقها الصيد). وهكذا جعل اللَّه الحجّ وسيلة لضبط الشهوات وزيادة التقوى، حيث أمر بترك محرمات الإحرام.

مناسك الحجّ:


1- الحجّ عرفة، والوقوف بوادي عرفات عشية التاسع من ذي الحجّة أوّل مناسك الحجّ بعد الإحرام وأهمّها، ولا إثم لمن ابتغى فضلاً من اللَّه (باكتساب حلال) ولكن لا ينسى ذكر اللَّه فإنّه هدف الحجّ.


2- ثمّ يفيض الحجيج من وادي عرفات متوجّهين إلى المشعر الحرام، وهذه الافاضة ثانية مناسك الحجّ.


3- ثمّ يجتمعون في المزدلفة (المشعر) ليذكروا اللَّه ويشكروه على أهمّ نعمة وهي الهداية.


قال اللَّه سبحانه:


(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). البقرة: 199 -198


وكانت قريش لا تقف بعرفات تعالياً على غيرهم (ولعلّ هذا من أبرز معاني الفسوق)، وقد نهى القرآن الحكيم من ذلك وأمرهم بأن يفيضوا من عرفات وليس من المشعر.


4- وهكذا تتمّ الإفاضة من عرفات إلى منى مروراً بالمزدلفة، وفي هذه المسيرة الإلهيّة يكبّرون اللَّه ويهلّلونه، وفي منى يقدّمون الهدي قرباناً إلى اللَّه، وقد فصل ربّنا منسك القربان عندما بيّن أنّ على المتمتّع ما استيسر من الهدي.


5- وهناك يذكر الحاج ربّه وينتمي إلى اُمّة التوحيد في وادي منى، ويدعو اللَّه سبحانه لقضاء حوائجه التي لا تنحصر بالدنياوفقط، وإنّما تشمل الآخرة أيضاً. قال اللَّه سبحانه:


(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة: 201 -200


6- ثمّ يذكر الحاجّ ربّه في منى أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر) بعد أن يزور مكّة للطواف بالبيت العتيق يوم العيد،وهناك من يبقى في منى إلى اليوم الثالث عشر، وهم الذين لم يتّقوا في إحرامهم الصيد والنساء. قال اللَّه تعالى:


(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيهْ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). البقرة: 203


أي لا إثم يبقى للحاج بعد أعمال منى، سواء تعجّل بالنفر في اليوم الثاني عشر أو تأخّر إلى اليوم الثالث عشر، ولكنّ الذي لم يتّق الصيد والنساء فإنّه ينفر في الثالث عشر حتى تغفر ذنوبه.


7- ومن مناسك الحجّ الطواف بالبيت العتيق،حيث قال ربّنا سبحانه:


(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). الحجّ: 29


قد أعتق اللَّه بيته من ملكيّة غيره، فليس كأي بيت آخر تتعلّق به ملكية الناس. إنّه بيت حرّ من علاقة أي شخص، ومن يطوّف به فإنّما يُخلص العبادة للَّه سبحانه، ويتحرّر من رجس الأوثان والعلاقة بأهل الدنيا، وبمن يملك الثروة أو السلطة أو الدعاية، وقد قال سبحانه بعد بيان واجب الطواف:


(ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواقَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ للَّهِ ِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ). الحجّ: 31 -30


وهكذا نعظّم حرمات اللَّه بالطواف حول بيته لكي نجتنب رجس الجبت والشهوات، ورجس الطاغوت وباطله، وأن نتطهّر من رذيلة الشرك بكل ألوانه (ومنه مثلاً العمل رياء أو سمعة أو أشراً أو بطراً).


إنّ المشرك يكون من نصيب الشيطان ويهوي إلى مكان سحيق.


8- ومن المناسك الصلاة بعد الطواف عند مقام إبراهيم عليه السلام، حيث قال ربّنا سبحانه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً). البقرة: 125


هناك نصلّي للَّه ونذكر عبده وخليله إبراهيم محطّم الأصنام.


9- ومن مناسك الحجّ السعي بين جبلي الصفا والمروة فهو من شعائر اللَّه، بالرغم من أنّ الجاهلية حرفت هذا المشعر وذلك بوضع صنمين عليهما، ممّا جعل البعض يتحرّجون من التطواف بينهما، فنفى اللَّه ذلك وقال سبحانه:


(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌعَلِيمٌ). البقرة: 158


وتشريع السعي بين الصفا والمروة دليل على أنّ عبث الجاهلية ببعض الشعائر لا يلغيه، ولا ينبغي أن تترك شعيرة؛ لأنّ الكفّارحرّفوها عن مواضعها وأهدافها.


10- ومن بصائر القرآن حول الحجّ هو تقديم خدمة لوفد الرحمن، من سقايتهم، وعمارة المسجد، ولكن يجب ألّا يتّخذ الكفّاروالمنافقون ذلك وسيلة للطغيان، فإنّ الإيمان باللَّه والرسول والجهاد في سبيل اللَّه أعظم، قال اللَّه تعالى:


(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ). التوبة: 20 -19


وهكذا بيّن اللَّه فضل خدمة الحاجّ، ولكنّه حذّرعن تفضيل ذلك على الإيمان الحقّ، واللَّه المستعان.

من فضائل الحجّ


* قال الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: «الحاج والمعتمر وفد اللَّه، وحق على اللَّه تعالى أن يكرم وفده ويحبوه بالمغفرة»(1).


* قال الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: «حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤونات عيالكم»(2).


قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة؛ اللازم لهما في ضمان اللَّه إن أبقاه أدّاه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة»(3).


* قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورودالأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام؛ جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته؛ جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب عليكم وفادته فقال سبحانه: (وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن اللَّه غني عن العالمين(4)).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «لو كان لأحدكم مثل أبي قبيس ذهب ينفقه في سبيل اللَّه، ما عدل الحج، ولدرهم ينفقه الحاج يعدل ألفي درهم في سبيل اللَّه»(5).


* قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»(6).


* عن اسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (الإمام جعفر الصادق)عليه السلام؛ إني قد وطنت نفسي على لزوم الحج كل عام بنفسي،أو برجل من أهل بيتي بمالي. فقال: وقد عزمت على ذلك؟ قال: قلت نعم. قال: إن فعلت فأبشر بكثرة المال(7).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «الحاج والمعتمر وفد اللَّه؛ إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن شفعوا شفعهم، وإن سكتواإبتدءهم، ويعوضون بالدرهم ألف [ألف ] درهم»(8).


* لمّا أفاض رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم تلقّاه أعرابيٌّ بالأبطح فقال: يا رسول اللَّه إنّي خرجت أريد الحجّ فعاقني وأنا رجل ميّل -يعني كثيرالمال- فمرني أصنع في مالي ما أبلغ به ما يبلغ به الحاجُّ. قال: فالتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى إبي قبيس فقال: «لو أنّ أبا قبيس لك زنته ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللَّه ما بلغت ما بلغ الحاجّ(9)».


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «الحاج على ثلاثة أصناف؛ صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه،وصنف يحفظ في أهله وماله، وهو أدنى ما يرجع به الحاج»(10).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم وأهوال يوم القيامة»(11).


* قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا تتركوا حج بيت ربكم فتهلكوا». وقال: «من ترك الحج لحاجة من حوائج الدنيا، لم تقض حتى ينظر إلى المحلقين»(12).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق الحج من أجله، أو سلطان يمنعه، فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً»(13).


* عن إبراهيم بن ميمون قال: قلت لأبي عبد اللَّه (الإمام جعفر الصادق)عليه السلام: إنّي أحجُّ سنة وشريكي سنة. قال: ما يمنعك من الحج يا إبراهيم؟ قال: لا أتفرّغ لذلك. جعلت فداك؛ أتصدّق بخمسمائة مكان ذلك؟ قال: الحجّ أفضل. قلت: ألف؟ قال: الحجّ أفضل.قلت: فألف وخمسمائة؟ قال: الحجّ أفضل. قلت: ألفين؟ قال: أفي ألفيك طواف البيت؟ قلت: لا. قال: أفي ألفيك سعي بين الصفاوالمروة؟ قلت: لا. قال: أفي ألفيك وقوف بعرفة؟ قلت: لا. قال: أفي ألفيك رمي الجمار؟ قلت: لا. قال: أفي ألفيك المناسك؟ قلت: لا.قال: الحجّ أفضل»(14).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «إذا كان الرجل من شأنه الحجّ كلّ سنة ثمّ تخلّف سنة فلم يخرج قالت الملائكة الذين على الأرض للذين على الجبال: لقد فقدنا صوت فلان. فيقولون: اطلبوه فيطلبونه فلا يصيبونه. فيقولون: اللهم إن كان حبسه دين فأدِّعنه، أو مرض فاشفه، أو فقر فأغنه، أو حبس ففرِّج عنه، أو فعل فافعل به، والناس يدعون لأنفسهم وهم يدعون لمن تخلّف»(15).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «حجة خير من بيت مملوء ذهباً يتصدق به حتى يفنى»(16).


* قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «من حج يريد به اللَّه، ولا يريد به رياء ولا سمعة، غفر اللَّه له ألبتة»(17).


قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «من مات في طريق مكة، ذاهباً أو جائياً أمن من الفزع الأكبر يوم القيامة»(18).

هكذا حجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم


روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «خذوا عنّي مناسككم»، وقد جاء في الأحاديث تفاصيل حجّ رسول اللَّه ونحن نذكر روايةمنها عسى أن تكون ذات فائدة كبيرة للحاجّ الكريم.


روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثمّ أنزل اللَّه عليه:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، فأمر المؤذّنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يحجّ من عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب، فاجتمعوا فحجّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّماكانوا تابعين ينتظرون ما يؤمرون به فيتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه.


فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في أربع بقين من ذي القعدة، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل، ثمّ خرج حتى أتى المسجدالذي عند الشجرة فصلّى فيه ا لظهر، وعزم ]أحرم [ بالحجّ مفرداً، وخرج حتّى انتهى إلى البيداء عند الميل الأوّل فصفّ الناس له سماطين، فلبّى بالحجّ مفرداً، وساق الهدي ستّاً وستّين بدنة أو أربعاً وستّين، حتّى انتهى إلى مكّة في سلخ أربع من ذي الحجّة فطاف بالبيت سبعة أشواط، وصلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم، ثمّ عاد إلى الحجر فاستلمه، وقد كان استلمه في أوّل طوافه.


ثمّ قال: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فابدؤوا بما بدأ اللَّه به، وإنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شي ء صنعه المشركون، فأنزل اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، ثمّ أتى الصفافصعد عليه فاستقبل الركن اليماني فحمد اللَّه وأثنى عليه ودعا مقدار ما تقرأ سورة البقرة مترسلاً، ثمّ انحدر إلى المروة فوقف عليهاكما وقف على الصفا، ثمّ انحدر وعاد إلى الصفا فوقف عليها، ثمّ انحدر إلى المروة حتى فرغ من سعيه، ثمّ أتى جبرئيل وهو على المروةفأمره أن يأمر الناس أن يحلّوا إلّا سائق هدي، فقال رجل: أنحل ولم نفرغ من مناسكنا؟ فقال: نعم.


فلمّا وقف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ هذا جبرئيل وأومأ بيده إلى خلفه يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحلّ ولو استقبلت من أمري مثل الذي استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم،ولكنّي سقت الهدي، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه. فقال «له» رجل من القوم لنخرجنّ حجّاجاً وشعورناتقطر؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: أمّا إنّك لن تؤمن بعدها أبداً. فقال له سراقة بن مالك بن خثعم الكناني: يا رسول اللَّه علّمنا دينناكأنّما خلقنا اليوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: بل هو هو للأبد إلى يوم القيامة، ثمّ شبّك أصابعه بعضها إلى بعض وقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة.


وقدم عليّ عليه السلام من اليمن على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكّة، فدخل على فاطمةعليها السلام وهي قد أحلّت فوجد ريحاً طيّبة، ووجد عليهاثياباً مصبوغة. فقال: ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج عليّ عليه السلام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم مستفتياً ومحرشاًعلى فاطمةعليها السلام(19) فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت، عليها ثياب مصبوغة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: أناأمرت الناس بذلك، وأنت يا عليّ بما أهللت؟ قال: يا رسول اللَّه،إهلالاً كإهلال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: كن على إحرامك مثلي، وأنت شريكي في هديتي.


قال: فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة بالبطحاء هو وأصحابه؛ ولم ينزل الدور، فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ، وهو قول اللَّه الذي أنزله على نبيّه: (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) فخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مهلّين بالحجّ حتى أتوا منى فصلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثمّ غدا والناس معه، فكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع،ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول اللَّه وقريش ترجو أن يكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللَّه على نبيّه:(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ)، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم، فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شي ء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم، حتى انتهوا إلى نمرة وهي بطن عرفة بحيال الأراك فضربت قبّته، وضربت الناس أخبيتهم عندها فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد، فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان واحدوإقامتين، ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقضون ]يقفون [إلى جنبها فنحّاها، ففعلوا مثل ذلك،فقال: أيّها الناس، إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكنّ هذا كلّه موقف. وأومأ بيده إلى الموقف، فتفرّق الناس وفعل مثل ذلك بمزدلفة، فوقف حتى وقع القرص (قرص الشمس) ثمّ أفاض وأمر الناس بالدعة حتى إذا انتهى إلى المزدلفة وهي المشعر الحرام فصلّى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين، ثمّ أقام حتى صلّى فيها الفجر وعجّل ضعفاء بني هاشم بالليل، وأمرهم أن لايرموا الجمرة (جمرة العقبة) حتى تطلع الشمس، فلمّا أضاءله النهار أفاض حتى انتهى إلى منى فرمى جمرة العقبة، وكان الهدي الذي جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أربعاً وستّين، أو ستّاً وستّين، وجاء عليّ عليه السلام بأربعة وثلاثين، أو ستّ وثلاثين، فنحر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ستّاً وستين، ونحر عليّ عليه السلام أربعاً وثلاثين بدنة، وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤخذ من كلّ بدنة منها حذوة]جذوة [من لحم، ثمّ تطرح في مرقه ]برمة[، ثمّ تطبخ فأكل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم منها وعليّ عليه السلام وحسيا من مرقها، ولم يعطوا الجزّارين جلودها ولا جلالهاولا قلائدها، وتصدّق به، وحلق وزار البيت، ورجع إلى منى فأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق ثمّ رمى الجمارونفر حتى انتهى إلى الأبطح. فقالت عائشة: يا رسول اللَّه، ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً، وأرجع بحجّة؟ فأقام بالأبطح وبعث معهاعبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فأهلّت بعمرة، ثمّ جاءت وطافت بالبيت وصلّت ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام، وسعت بين الصفا والمروة، ثمّ أتت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فارتحل من يومه ولم يدخل المسجد الحرام، ولم يطف بالبيت، ودخل من أعلى مكّة من عقبةالمدينين، وخرج من أسفل مكّة من ذي طوى(20).

وصيّة الإمام الصادق عليه السلام للحاجّ


قال الإمام الصادق عليه السلام:


- إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك للَّه عزّ وجلّ من قبل عزمك من كلّ شاغل، وحُجب كلّ حاجب.


- وفوّض اُمورك كُلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وقدره.


- وودّع الدنيا والراحة والخَلق.


- واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين.


- ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن تصير لك أعداءً ووبالاً، ليعلم أنّه ليس قوّة ولاحيلة ولا حدّ إلّا بعصمة اللَّه تعالى وتوفيقه.


- واستعدّ استعداد من لا يرجو الرجوع.


- وأحسن الصحبة.


- وراع أوقات فرائض اللَّه وسنن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وما يجب عليه من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء، وإيثارالزاد على دوام الأوقات.


- ثمّ اغتسل بماء التوبة الخالصة من الذنوب، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع.


- واحرِم عن كلّ شي ء يمنعك عن ذكر اللَّه عزّ وجلّ، ويحجبك عن طاعته.


- ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية للَّه عزّ وجلّ في دعوتك له مستمسكاً بالعروة الوثقى.




/ 13