الإبتلاء مدرسة الإستقامة - ّّإبتلاء مدرسة الاستقامة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ّّإبتلاء مدرسة الاستقامة - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

آية الله السيد محمد تقي المدرسي

الإبتلاء مدرسة الإستقامة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

منذ أن يفتح الإنسان عينيه على هذه الدنيا، وإذا به ممتحن بكل شيء يتصل به؛ سواء كان خيراً أم شراً. فتراه مرة يبتلى بالغنى وأخرى بالفقر، ومرة بالصحة وأخرى بالسقم، ومرة بالأمن والاستقرار وأخرى بالهجرة والاضطراب..

وعلى هذا من الضروري للانسان وهو يمارس الحياة ونعمة الوجود أن يعرف أن الابتلاء جزء من وجوده دون أن ينفك عنه، ومن دونه تصبح حياته بلا روح وبلا هدف.

وبالتأكيد إن ربنا عز وجل حينما سن هذه السنة، وفّر للانسان من جهته الشروط والمستلزمات التي تجعل الإنسان مسؤولاً عن الامتحان؛ فتكون حجته عليه عندما يفشل ويكفر، ووسيلة لصالحه عندما ينجح ويؤمن.

فلكي يتسامى الإنسان عن حتميات المادة ومؤثراتها الضاغطة، ولكي يبقى مالكاً للدنيا متصرفاً فيها، لا مملوكاً لها مسترسلاً معها، وبالتالي لكي لا تطغيه الثروة والسلطة وتجره الى الترف والفساد.. لابد له من أن ينتبه الى أن الثروة ليست دليل كرامة الإنسان؛ فلا يستبد به الغرور فيزعم أنه على الحق، ثم يتسافل فيزعم أنه بذاته الحق، ثم يبلغ به السفه والطغيان فيزعم أنه الرب الأعلى!!

بلى؛ الثروة بذاتها نعمة وكرامة، ولكنها في ذات الوقت هي ابتلاء واختبار. فليست الثروة رجساً وليست كرامة دائماً، بل هي حقيقة بلا هوية بلا صبغة، وإنما تكتسب هويتها وصبغتها من طريقة تصرف الإنسان فيها. وكذلك الفقر ليس بذاته نقمة، وإنما النقمة الاستسلام للفقر، والاعتقاد بأنه دليل ذلّ ومهانة؛ في حين أن الفقر ليس ذلك، بل هو إختبار. وهكذا جميع الابتلاءات التي يعيشها الإنسان، إنما تهدف إختباره.

وتبعاً لهذا مادام الإنسان خلق ليعيش الابتلاء تلو الابتلاء، فماذا عليه ان يفعل لكي يتجاوز ذلك بنجاح باهر؟

بالتأكيد لا يمكن إحراز هذه النتيجة من دون الاستقامة، وذلك لأن الاستقامة هي جوهر كل إنسان، والذي لا يتمتع بها فانه منهزم في جوهره وكيانه، وعاجز في قدراته، وفاشل في حياته. وبناء على ذلك فان الاستقامة هي مقياس جوهر الإنسان وميزان نجاحه.

من خلال الإطلالة على هذه الحقائق، تلمس ضرورة التأمل أكثر في تفاصيلها؛ ولكي تصل الى مرامك هذا نقدم لك هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن منظومة رؤى وأفكار في هذا المجال، استخلصناها من جملة أحاديث سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي. سائلين الله تعالى أن يجعله مفيداً ونافعاً، وراجين ثوابه، إنه ولي التوفيق.

القسم الثقافي في مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي

20/ ذي الحجة/ 1422 هـ ق

الفصل الأول

حكمة الإبتلاء

لماذا الإبتلاء؟

إن الانسان عندما يولد، تولد معه فرصتان متساويتان ككفتي الميزان اللتين لا رجحان لأحداهما على الأخرى؛ فرصة الخير، وفرصة الشر.. فرصة الدخول الى الجنة، وفرصة الدخول في النار. ثم يدخل الانسان بعد ذلك في سلسلة لا تنتهي من الامتحانات، وهذه الامتحانات تتعمق وتصبح أكثر صعوبة عند البلوغ، وفي بعض الأحيان تغدو امتحانات عسيرة شديدة.

وكلما إزدادت هذه الاختبارات شدة وصعوبة، إزداد نقاء جوهر الانسان. والدليل على ذلك إن أصل كلمة (فتنة) مقتبس من وضع الذهب في النار، لأن هذا المعدن يختلط بسائر المعادن. فلكي يصفى وتذهب عنه تلك الشوائب، فانه يحتاج الى (الفتنة)؛ أي الى أن يعرض للنار ليذوب فيها وتزول الزوائد منه. وقد استخــدم القرآن الكريم هذا المصطلح في مواضع عديدة، منها سورة (البروج) حيث يقول عز من قائـل: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ» (البروج/10)

فما هو - يا ترى - معنى الفتنة للمؤمنين في هذه الآية الكريمة ؟

إنها تعني؛ أن في داخل المؤمن خليطاً من رواسب الشرك والذنوب والخطايا.. فالكثير من الناس كانوا يعانون في مقتبل أعمارهم من إنحرافات، كالكذب والغيبة، والنظر أو الاستماع الى ما حرمه الله تعالى، وما الى ذلك من ذنوب. وهذه الذنوب تظل في أعناقنا بالتأكيد، لأنها مسجلة في اللوح المحفوظ، وقد أحصتها الملائكة علينا. كما أنه كل شيء يشهد على الانسان، كالأرض التي ارتكب الذنب عليها، والجوارح التي مارست بها هذا الذنـب. أضف الى ذلك، إن الذنوب تترك آثاراً على قلب الانسان، فهي ترين عليه، وتحيط به.

الفتنة تطهر الانسان

والفتنة هي التي تتكفل بازالة رواسب الذنوب، والثقافة الجاهلية، والانحراف، والتربية الفاسدة من نفس الانسان وقلبه. وقد تتجسد الفتنة في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو العيش في دار الغربة.. والألم الذي يعاني منه الانسان في هذه الحالة، يؤدي الى تطهير القلب، كما تطهر النار الذهب من الرواسب العالقة به. ولذلك فان الانسان المؤمن حقاً يحب الفتنة، ويتقبلها بصدر رحب، لكي يتخلص من رواسب ذنوبه.

وبالطبع فاننا نعوذ بالله تعالى من جهد البلاء وشدته، ومن التعرض الى الفتن العظيمة التي لا طاقة للانسان بها والتي تؤدي الى تهيبه وتراجعه، وبالتالي سقوطه في الامتحان الإلهي.

وهكــذا فان نظرتنا الى الصراع بيننا وبين أعداء الدين قائمة على أساس الايمان بالفتنة والاختبار الإلهي، وبالتالي فان علينا أن لا نعترض على الارادة الالهية، ولا نتذمر منها قائلين: لماذا كل هذه المآسي والمصائب التي تنزل علينا، ولماذا لا نعيش مرتاحين كما يعيش الآخرون، ولماذا لا نخرج من صراع إلاّ لندخل في صراع آخر؟

فطبيعة الحياة الدنيا تقتضي أن يدخل الانسان سلسلة من الامتحانـــات،

ونحن لا نستطيع أن نهرب من تقديرات الله تبارك وتعالى. فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "ولو أنَّ مؤمناً على قلّة جبل لبعث الله عز وجل إليه شيطاناً يؤذيه". ([1]) الفتنة جزء من الحياة

وإذا ما أراد الانسان أن يتخلص من الفتن، فعليه أن يخرج من هذه الدنيا. وإذا خرج منها، فإن كل شيء سينتهي. فما دامت الحياة قائمة، فان الفتنة قائمة هي الأخرى الى اللحظة الأخيرة من هذه الحياة. ولذلك فقد جاء في بعض الأدعية: "اللهم اني أعوذ بك من العديلة عند الموت".([2]) ففي لحظات الموت يصاب الانسان بعطش شديد، ولذلك فمن المستحب أن يسقى الماء. وفي هذه اللحظات الحرجة والحساسة، والتي هي لحظات الفتنة والاختبار، يأتي الشيطان ويخاطب الانسان قائلا: سأعطيك الماء شريطة أن تكفر بالله. وهناك من الناس من يسقط في هذا الامتحان، فيكفر بربه في اللحظات الأخيرة، فيموت وهو كافر.

فلنحذر من هذه اللحظة، ولنفكر فيها، ولنحاول أن نتجاوزها بنجاح من خلال تعويد أنفسنا على قراءة القرآن وحفظ آياته والتدبر فيها، والعيش في أجوائها، لكي تكون زادنا الذي نتقوى به في تلك اللحظات المصيرية.

وعلى هذا فان صراعنا مع الأعداء هو صراع ثقافي مبدئي؛ وهذا الصراع من مصلحتنا، لأنه يزكينا ويطهرنا من دنس الذنوب ورواسب الشرك وحب الدنيا. فمن الضروري أن تكون في حياتنا الصراعات والمشاكل، لكي لا ننسى الآخرة، ولا نتجه الى الدنيا.

وهذا الصراع الثقافي الدائر بيننا وبين أعدائنا ينبغي أن نديره بمهارة وذكاء، بأن نستغله في تربية الروح الدينية، وتنمية التقوى، وإيجاد زخم معنوي في النفوس، وبعث الحالة الحضارية في أنفسنا من جديد. فكلنا مسؤول، وسنمثل يوم القيامة كلنا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله ليكون شاهداً وحجة علينا فيما عملناه من أجل الاسلام، وما قدمناه له من تضحيات وعطاءات. عقبى الفتنة

والتعرض الى الفتن والابتلاءات والخروج منها ونحن أقوى عزيمة وأشد بأساً، وأكثر مضاء وتصميماً على مواصلة الدرب، والاستمرار في المسيرة.. كل ذلك هو الذي يضمن لنا الارتفاع في درجات الايمان، والتطهر من الذنوب والآثام، وصقل نفوسنا، وبالتالي المثول أمام رب العالمين جل وعلا بوجوه بيضاء، ونفوس مطمئنة، وأرواح متطلعة الى ثواب ربها ورضوانه. وإلا فان سوء العاقبة سوف تكون بانتظارنا لا قدر الله - إذا ما سقطنا في الامتحانات الإلهية، ولم نعرف كيف نستغلها في سبيل الرقي في المدارج العليا للايمان، وذلك من خلال التذمر منها، وعدم الصمود أمامها، والتهرب من مواجهتها.

حتمية الإبتلاء

المصيبة العظمى والداء الوبيل أن يخلد الانسان ويميل بكل كيانه الى الدعة، ويغرق في بحار اللذائذ والترف؛ فيعتقد أن سر وجوده في هذه الحياة وفلسفته، هما التنعم باشباع الغرائز والشهوات، مثله في ذلك كمثل البهيمة المربوطة التي لا همّ لها سوى علفها.

وعندما يسود الذهن البشري اعتقاد كهذا، يقضي بأن الحياة الدنيا هي الأساس والغاية، وبنهايتها تكون خاتمة المسير والمطاف؛ فلا حياة ولا نشور. فان هذه هي المصيبة الكبرى، ذلك لأن هذا الاعتقاد يمثل الضلال المبين الذي يميت القلب، والغشاوة التي تعمي الأبصار، والسبب الحقيقي لمسيرة الانحراف الخطيرة في حياة الانسان؛ ذلك لأن الدنيا لم تخلق ليركن إليها، بل إنها قامت على كدر ومشاكل ومعاناة، وجرت دواليبها بدفع من الجد والجهد والاجتهاد، لذلك يقول تعالى: «يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ» (الانشقاق/6).

وبالطبع فاننا لا نريد أن نلغي التمتع بالنعم في الدنيا، بل نعني أن هذه النعم إن وجدت فانها طارئة منقضية، وأن إحساس الانسان بالراحة والاستقرار هو حالة إستثنائية.

سر ظاهرة الموت

وفي البدء لنتأمل ونمعن النظر في سر ظاهرة الموت التي هي ليست في الحقيقة غريبة وعجيبة، لأننا نعيشها ونلحظها في كل آن، ولكن الغرابة والعجب يكمنان في سر هذه الرحلة. فقد يسأل الإنسان نفسه في هذا المجال قائلا: ترى ما قيمة هذه الحياة التي نحياها اذا كانت تختتم بالموت؟ فها نحن نبني ونعمل وننتج ونعمر الأرض.. وإذا بكل شيء ينتهي في تلك اللحظة المخطوطة، والأجل المكتوب، لينتهي معه النـزاع والتكالب على هذه الدنيا وحطامها رغما عنا.

وبناء على ذلك فما قيمة هذه الحياة، وما قدر هذه الدنيا، وما أعظم تلك العبر والدروس والمواعظ التي علمونا إياها أئمة الهدى عليهم السلام، وأرادوا لنا بها خير الدنيا وثواب الآخرة؟ فها هو ذا إمامنا موسى الكاظم عليه السلام ينطق بالموعظة البليغة، عندما ينظر الى ميت قد إنشغل أهله وأصحابه باهالة التراب على جسده فيقول: " إنَّ شيئاًً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإنَّ شيئاً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره". ([3]) فهذا هو حال الدنيا، فالانسان يسعى فيها ويجهد ويبني ويشيد ثم يأتي هادم اللذات فينغص عليه لذائذه، ويهدم بفأسه آماله وأمانيه.

صحيح إن هذه الدنيا لا تخلو من راحة أو تمتع بنعمة أو نشوة، ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا إن تلك النعم واللذائذ إن خلت من التنغيص فان زوالها السريع هو التنغيص بذاته. ثم إننا كثيراً ما نرى أن ساعات التمتع بالنعم والملذات تتخللها - وربما تفسدها - تلك المنغصات الطارئة أو الكامنة في النفس. فحتى في تلك الساعات التي نفرغ فيها من أداء المهمات والواحبات، ونكون فيها أحراراً من كل مسؤولية؛ في هذه الساعات تنطلق كوامن النفس من هواجس ووساوس وأفكار شتى، وربما تكون وساوس شيطانية تملأ القلب، وتنغص عليه ساعات الراحة تلك.

وهكذا الحال بالنسبة الى النعم واللذائذ، فان أقل منغص لها علمك بزوالها أو زوالك عنها بعد فترة قصيرة، ثم هناك القلق والخوف والتفكير في كيفية الحفاظ على هذه النعمة وحراستها.

لا حياة بدون مشاكل

وعلى هذا الأساس فان الحياة الدنيا لا تخلو من المشاكل والمعاناة والمنغصات الكثيرة، وبالتالي فان الانسان يخرح بنتيجة ملموسة وواقعية، وهي إن الهدف الرئيسي للانسان لا يمكن أن يتحدد في إطار هذه الدنيا؛ فهي ليست خاتمة المطاف، وإن أولئك الذين يغالطون واقعهم ويزعمون أن الدنيا هي الهدف والغاية هم الأكثر بلاء.. والأشد عناء ومعاناة.

ولذلك فان الانسان عندما يعيش الأمل بالراحة وصفاء البال وتوفر النعمة.. ثم إذا به يواجه وابلاً من المشاكل والعثرات، فان من الطبيعي أن يحس بعنف الصدمة النفسية، والغصة في أوج حالة التنعم والارتياح. أما إذا كان قد أعد العدة للمشاكل والصدمات النفسية والعثرات التي تعترض سبيل الراحة والاطمئنان والتنعم، فحينئذ سيكون الأمر بالنسبة إليه عادياً، وسيكون قادراً على إستيعاب تلك المشاكل والمعضلات؛ لا كأولئك الذين يحسبون أن الدنيا دار أنس وراحة وتمتع واستقرار، والذين ينهارون من الناحية النفسية والمعنوية لمجرد أبسط مشكلة تواجههم. ذلك لأنهم عاشوا الدنيا وهم يتصورون أنها الغاية والهدف المنشود، فتراهم لا يعيرون أذنا صاغية الى ناصح، متغافلين عن هتافات وتحذيرات الأنبياء والأوصياء.

فلنأخذ بعين الاعتبار دائماً البلايا والمصاعب ومواجهة العثرات؛ فان جائتنا النعم والخيرات فرحنا بها، وإن واجهتنا الأمور التي لا تبعث على الراحة، وتسلب الاطمئنان، فانها سوف لا تكون غريبة علينا، لأننا كنا قد وضعناها في الحسبان، وأعدنا العدة لمواجهتها.

وبناء على ذلك، فلو نظرنا الى الحياة من خلال هذا المنظار - المنظار الواقعي - فان في ذلك مبعث النجاح والفلاح في هذه الحياة، وفي كتاب الله العزيز نرى أن في كثير من آياته تأكيداً متواصلاً على حقيقة البلايا والمصائب والصراعات والمعضلات والعثرات والفتن والوساوس الشيطانية والموت ومواعظه البليغة. وعلى سبيل المثال فانه يذكّر بالموت ونزوله بالانسان، ويحثه على العمل والجد والاجتهاد والسعي والانتشار في أرض الله الواسعة.. وبذلك فانه يؤكد لنا على أن هذه الحياة لم تخلق بهدف الدعة، وبلوغ الراحة.

ومن خلال هذه النظرة الواقعية الصائبة الى الحياة، يمكن للانسان السيـر نحو الكمال المطلق؛ أي نحو الله سبحانه وتعالى، ويتحول الى ذلك الانسـان الذي يقول عنه: "كنت كالجبل لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف". ([4]) فالمؤمن أقوى وأكثر شموخاً من الجبل، وأصلب من الحديد، لا تنال من عزمه وهمته ولا تثبط حركته ونشاطه في الحياة عواصف الدنيا وقواصفها.

المؤمن خفيف المتاع

والمؤمن الذي يعيش هذا الواقع، نراه لا يخلد كثيراً الى الأرض. فهو خفيف المتاع؛ فعلى سبيل المثال فانه يضع في حسبانه الهجرة، والفرار الى الله سبحانه إن اقتضت الظروف ذلك، فتصبح الهجرة في أرض الله الواسعة بالنسبة إليه مسألة عادية لا يبالي بصعوباتها وتبعاتها. ذلك لأن الهجرة هي حقيقة واقعية في التاريخ. وقد عاشها أولئك الذين سبقوه، ثم إنه قرأ هذه الحقيقة في القرآن فوجد التأكيد المتواصل عليها مما يهونها عليه، ولذلك فانه يتوقعها ويدرك أن الطريق الذي سلكه في هذه الحياة هو طريق الرسالة والايمان والجهاد يتطلب مثل تلك الظروف والتضحيات. فالهجرة هي واقع شهده التأريخ في كثير من محطاته منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأنزله الى الدنيا والى قيام اليوم الموعود.

وهذه الحركة هي أحد متطلبات التغيير في الحياة، والمؤمن الذي يعيش واقع هذه الحركة نراه لا يخلد كثيراً إلى الأرض، ولا يمد جذور عميقة في واقعه، ولا يبني القصور، ولا ينمي الاموال لينفقها في تشييد العقارات.

وكمثال آخر؛ فان الانسان المؤمن ينظم حياته الاقتصادية تنظيماً حكيماً، فهو عندما يدّخر شيئاً من المال فان ادّخاره هذا ليس من أجل الادّخار ذاته كما يفعل الكثير من الأغنياء الذين سيخرجون فقراء جياعاً من هذه الدنيا رغم ما يمتلكونه من الثروات، ورغم ما يدّخرونه. فالانسان المؤمن عندما يدّخر شيئاً فانه يخطط بذلك للمستقبل، والظروف الصعبة التي قد يمرّ بها، فيدّخر لحاجته في الغد حتى لا يمد يده الى أحد، كما إنك تراه في سلوكه المعاشيّ معتدلاً، لا يسرف ولا يفرط، ويصب جل تفكيره في بناء حياة اقتصادية متوازنة.

وهكذا فان القرآن الكريم يوجهنا ويعظنا مشيرا الى معضلات هذه الحياة ومعاناتها وآلامها، والى الفتن والامتحانات التي يتعرض لها الانسان المؤمن. فبصائره تسير في هذا الاتجاه، وتهيّئه - أي المؤمن - لكي يكون مستعداً من جميع النواحي لمقارعة الصعاب، وتحمل المشاق والمصائب.

القرآن بيان للناس

وفي هذا المجال يقول عز من قائل: «هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ». (آل عمران/138) في هذا السياق إشارة أريد تبيانها هنا، وهي إنها تعطينا فكرة عن أهمية الموضوع الذي سيأتي الحديث عنه، والذي يمثل حقيقة كبرى وبصيرة نافذة لا غنى لنا عنها، وأنها تمس حياتنا وواقعنا. فعلى الناس جميعاً أن ينتفعوا من هذا البيان والارشاد الرباني، وهم قادرون على استيعابه، وبالتالي فان الكشف عنه سيكون حجة على الناس كلهم.

ومع ذلك فاننا لا نجد من يأخذ بهذه الحقائق الواضحة البينة، وينتفع بها إلاّ المؤمنون المتقون الذين لا تحجبهم الذنوب، ولا تغشى أبصارهم الشهوات، ولا تعمي قلوبهم الأهواء المقيتة عند انكشاف الحقائق.

ثم ينتقل السياق الكريم ليستعرض تلك الحقائق والبصائر، ويرسم آفاق النجاح، فيقول جل اسمه: «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا». (آل عمران/139) أي لا يحبطنكم التراجع، والانهزام عند مواجهة ركام المصائب، وجبال الهموم والمعاناة، ولا تدعوها تفشل حركتكم ونشاطكم وسعيكم في هذه الحياة ومنعطفاتها. ثم وإياكم والهزيمة النفسية والمعنوية، فانها أصل كل هزيمة واندحار وفشل، كما يقول تعالى: «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ» (آل عمران/139).

فلماذا - إذن - الوهن والفشل مادمنا ندعو الى الايمان والتوكل على الله؟ وكيف نسمح للانهيار والوهن يسيطران على نفوسنا، في حين إن المؤمنين هم الشامخون الأقوياء الأعزاء في نفوسهم ؟

ثم يعود السياق المبارك ليدخل في تفاصيل أكثر فيقول: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» (آل عمران/140).

هذا هو حال الدنيا؛ يوم لك ويوم عليك، والأيام دول بين الناس. فكما أنك تخوض الامتحان، فان عدوك يخوضه أيضاً. ولننظر الى التأريخ في هذا المجال؛ فكم من جبار وسلطان ووزير.. كانت لهم سطوتهم، يرفعون الصولجان على رؤوس الناس ويستعبدونهم ويذلونهم بالسياط والحديد والنار... ولكن أين صاروا، وأين هم الآن ؟

ثم يقول تبارك شأنه: «وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا...» (آل عمران/140).

وهنا تكمن حكمة الفتن والبلايا، وهذه الحكمة تتمثل فـي معرفة أهل الايمان. فالإبتلاء هو المحك، فعند خـوض بحر المصاعب، والسير في الطـرق المليئة بالأشـواك، حينئذ يعرف الايمان الحـق. وعند إجتيـاز الامتحـان بإرادة أصلب وأقوى من الجبال، وبصيرة تنفذ في الصخر الاصمّ، فحينئذ يمكننا أن نصف الانسان الذي إجتاز هذا الامتحان بأنه مؤمن حقاً.

من حكم الابتلاء

ثم يستمر السياق المبارك في بيان المظاهر الأخرى للحكمة من التعرض للابتلاءات، فيقول تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ» (آل عمران/140). والمعنى المراد هنا قد يكون (الاستشهاد)؛ أي إن السياق يريد معنى أن الله سبحانه وتعالى يبتلي الناس، ويعرضهم للاختبارات، فتكون المكافأة في أصعبها، فيأخذ عز وجل الفائزين الى قربه، ويمنحهم وسام الشهادة الرفيع، ويكرمهم بتلك الكرامة العظيمة عندما يقتلون في سبيله.

والمعنى الآخر لقوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ» أن ينبري من صلب المجتمع، ويبرز الى مقدمته الممحّصون الذين امتحنتهم الأحداث فكانت لهم محكا، ويواجهون العواصف العاتية كالجبال الشماء، ويقفون في وجه التيارات المنحرفة، ويتصدون لقيادة الأمة في ساحات المواجهة، والسير بها نحو الأهداف الرسالية المنشودة.. ولعل هذا المعنى هو المراد. فمعنى القيادة والريادة هو المطلوب في الآية السابقة.

ثم يقول عز من قائل: «وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران/140). وللأسف فان الكثير منا يتصورون أن الله سبحانه وتعالى يحب الظالمين، ذلك لأنهم يرون بعض الظلمة قد ظلوا يتسلطون رغم المصائب التي أنزلوها في ساحة الملايين من الناس، غافلين عن سنة إلهية جرت في العباد، وهي أن الله جل وعلا إنما يبقي على الظالمين ليزدادوا إثماً. فلنحذر من الانحراف في المفاهيم، وتغيير القيم. فهذا هو أيضاً إبتلاء إلهي لنا، ثم علينا أن لا ننسى أن لله في إرادته وسننه حكماً لا ندركها إلاّ في وقت تجليها.

محق الكافرين

ثم يضيف السياق مبيناً أسراراً أخرى للبلايا والشدائد التي يتعرض لها المؤمنون وتنـزل بالكافرين، فيقول تعالى: «وَلِيُـمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ» (آل عمران/141). فالكافرون عندما ينزل عليهم العذاب الشديد على أيدي المؤمنين، يدمرهم ويستأصلهم. وهذا هو معنى (المحق)؛ أي زوالهم على أيدي المجاهدين الرساليين الذين يمحّصون، ويبلون بلاءً حسناً في مثل هذه المواجهات الحاسمة. ذلك لأن المؤمنين لا تخلو قلوبهم من الشوائب؛ فكما أن الكافرين يصلون الى أعلى درجات كفرهم عند المواجهة، فان المواجهة هذه تكشف أيضاً عن أولئك المؤمنين الذين صفت قلوبهم، وخلصت نياتهم لله سبحانه، لأن الانسان المؤمن لا يمكن أن يدخل الجنة وقلبه مشوب بتلك الشوائب. وهذه القضية ليست بالسهلة الهينة، بل هي في غاية الأهمية، والحديث الشريف يؤكدها، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لن يدخل الجنة عبدٌ في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر". ([5])

ترى من منا يمكنه الادعاء بأن قلبه طاهر نظيف من الكبر والحسد والغل والرياء ؟ لا يمكن لأحد أن يدعي هذا الادعاء، ولذلك فان الخالق تبارك وتعالى جعلنا عرضة للبلايا والمصائب ليمحّصنا ويمتحننا ويكشف عن صدق ادعاءاتنا، ليعرف مدى صبرنا وصمودنا ومقاومتنا، ثم يمهد لنا سبيلاً الى الجنة عند النجاح في هذه الابتلاءات والشدائد. ثم علينا أن لا ننسى أن هذه البلايا والمصائب والشدائد مهما بلغت، فانها ضئيلة ازاء عذاب الآخرة، وأهوال يوم القيامة.

ثمن الجنة

ثم ينتقل السياق الكريم ليؤكد على ثمن الجنة، وطريق الولوج الى عوالمها الرحبة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (آل عمران/142)

فلنفكر في هذا الأمر، لأنه مرتبط بمصيرنا مادامت الدنيا في طريقها الى الفناء، ولن يكون بعدها سوى جنة تقابلها نار. فالمصائب والشدائد منتهية وزائلة لا محالة، ولكن الذي يبقى هو شعلة الايمان تضيء وهاجة، وراية العمل الصالح ترفرف خفاقة، وهما يدلان على طريق الجنة والنعيم الأكبر.

فالجنة مثلها كمثل قصر نظيف مزخرف واسع، مزينة جدرانه وقوائمه، مزخرفة سقوفه وأروقته، فيه من الأطعمة والأشربة ما تلذ به الأنفس.. وإذا بآتٍ يأتيه وعليه الكدارة والأوساخ والملابس القذرة يريد الدخول فيه، فهل - يا ترى - سيجد الطريق إليه مفتوحاً؟

كلاّ - بالطبع - فلابد من أن يمنعه الحرس الواقفون على بابه قائلين لـه: إذهب وتنظّف وتطهّر وغيّر مظهرك القذر هذا، وارتد الثياب النظيفة الجميلة.

وهكذا الحال بالنسبة الى الجنة، فانها ترفض إستقبال الانسان الملوث بألوان الذنوب، وأنواع الخطايا والسيئات. فالجنة لا يمكن دخولها بهذه السهولة والسرعة، بل هي بحاجة من أجل دخولها الى بذل الجهد والجهاد ومحاربة هوى النفس، واجتناب الخطايا والآثام، ومقاومة الشهوات، وعدم الاستسلام للوساوس الشيطانية.. والعمل على تزكية النفس وتطهيرها، كما أن دخولها متوقف على الصبر والصمود وبذل التضحيات الجسام.

استعادة الوعي حكمة الابتلاء

لا شـك إن وراء المآسي التي تتوالى على الأمم، والصعوبات والمحن التي تنتاب المجتمعات، فلسفة وحكمة. على الرغم من إن البعض يزعم أن الصدفة تلعب دوراً أساسياً فيما يجري عليه، ونحن - كمسلمين - نرفض هذا الراي، ونرى إن كل شيء في هذا الكون بمقدار؛ فما من سكون وحركــة، وضر ونفع، إلاّ في كتاب مبين. فنحن نؤمن - على سبيـل المثـال - بأن السحب لا تجري، وإنما تزجى وتساق من قبل إرادة مدبّرة لها، وإن الأرض لا تنبت وإنما تُزرَع، وإننا لسنا نحن الزارعين، بل ان الله جل وعلا هو الزارع، وإنه لن يصيب الانسان إلاّ ما كتب له.. وبالتالي فان السنن الالهية والتقديرات الحكيمة، هي التي تجري مقادير الكون الذي نعيش نحن فيه، ونعد جزء منه.

ضرورة وعي الأحداث

وبناءً على ذلك، فان علينا أن نتساءل عن أسباب الحوادث التي تجري حولنا وعلينا، لأن الصدفة لا يمكن أن تلعب دوراً في تسبيب تلك الحوادث. فليس من الصدفة بمكان أن يأتي الطغاة الظالمون ليتحكّموا في مصائر بلداننا وشعوبنا. فقديماً أبتلي - على سبيل المثال - العراق بالحجاج، وبزياد ابن أبيه، وقديماً أبتلي الايطاليون في الزمن الغابر بطاغية مثل نيرون، وقديماً نزلت القوارع على الأمم من أمثالنا فأبيدت، واغرقت، واحترقت...

إن تلك الأحداث وغيرها لم تقع صدفة؛ لذا علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البصيرة من وراء ذلك، وما هي العبرة، وكيف نستطيع أن نفهم الحياة الفهم اللائق بها ؟

أقول: إن من الجيد أن يفكر الانسان في هذه الأمور، وأن لا يحبس تفكيره في أطر ضيقة، لأن التفكير في قضايا صغيرة وتافهة ليس من شأن الانسان. فمن المفروض فيه أن يفكر ويعتبر ويخطط لمستقبله، ويتطلع الى الأفضل. فماذا ينفعه أن يصبّ تفكيره على القضايا الهامشية، في حين يعيش حالة التغافل عن إنسان طاغية يتحكم في مصيره ويسلبه إراداته، ويسومه الخسف والهوان ؟ حكمة المآسي

وهنا نعود لنتساءل: ما هي حكمة المآسي التي تتوالى على البشرية ؟

في آيات عديدة من القرآن الكريم يكشف لنا الله تعالى عن هذه الحكمة. ونحن اذا تدبرنا في هذه الآيات، واستوعبنا تلك الحكمة، وطبقناها على أنفسنا، ولم ندع المآسي تتكرر، فاننا سنعيش أحراراً في دنيانا، مستقلين عن أية قوة داخلية أو خارجية تريد أن تستعبدنا.

ومن أبرز الحكم في مآسي الأمم، دعوة الله عز وجل الانسان أن يعود إليه. فالله يحب البشر، ويحب أن يعود عباده إليه، ولذلك فانه ينـزل عليهم المآسي والمحن. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً وثجَّه بالبلاء ثجاً، فإذا دعاه، قال: لبيك عبدي، لئن عجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولكن ادّخرت لك فما ادّخرت لك خير لك". ([6])

وهكذا فان من جملة الحكم أن الخالق جلّ شأنه يريد من عبده أن يدعوه، وأن يتضرع إليه. فالله تبارك وتعالى يتحبب الى العباد، وهناك منهم من يستجيبون الى هذا التحبب، فيتضرعون الى خالقهم. فان كان الانسان يتمتع بكل شيء من طعام وشراب وما الى ذلك، فانه سوف لا يجد في نفسه دافعاً أساسياً حتى الى العبادة ، فيستبدّ به الغرور. أمّا إذا أصابته مصيبة، فان قلبه سينكسر، وسيدعو الله جل جلاله بلسان التوسل والتضرع.

وفي هذا المجال يروى أن جبرائيل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد السلام يقرؤك السلام ويقول لك: إن شئت صيّرت معك جبال تهامة ذهباً وفضّة، وخذ هذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص ذلك من حظّك يوم القيامة. قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك؟ قال: الموت، فقال: إذاً لا حاجة لي في الدنيا، دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، فاليوم الذي أجوع فيه أتضرع إلى ربي وأسأله، واليوم الذي أشبع فيه أشكر ربي وأحمده. فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير يا محمد". ([7])

إن الانسان الذي يجيء شبعه بعد جوعه، فانه يشكر الله تبارك وتعالى. أما الانسان الذي لم يذق في حياته الجوع ولو لمرة واحدة، فانه سوف لا يحس بأن هناك جائعاً على الأرض، وبالتالي فانه سوف يطغى ويستكبر عن عبادة الخالق. ولذلك فان الانسان لايشكر ربه - عادة - على النعم العظيمة التي أنعم بها عليه.

ومن حكمة المآسي على الشعوب، أن سلبياتها تتراكم طبقة على طبقة، وظلاماً فوق ظلام، وإنحرافاً أيديولوجياً، وشذوذاً في العادات والسلوكيات، وإنحرافاً في الاخلاق والآداب والمفاهيم، وتشوّشاً في الرؤية، وفوضى في النظم السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها.. فاذا بهم يعيشون في شرنقة الانحرافات، وزنزانة الفساد. وفي هذه الحالة لا تنفعهم نصيحة الناصحين، ولا عبر ودروس التأريخ، ولا تلاوة القرآن والروايات.. فتراهم يركضون وراء المادة، فان لم يجدوها جروا وراء وهمها.

وفي هذه الحالة فان الله عز وجل، وطبقاً لحكمته يعرّض هذه الشعوب للبلاء. ويشتد هذا البلاء، ويتدرج في العنف والقسوة، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الوقوع في البأساء والضراء، فيجعل الله سبحانه بأسهم بينهم، فيقتلون بعضهم البعض، ويتسلّط عليهم أراذلهم وحقراؤهم. هدف الابتلاء

وفي كل مرحلة من مراحل البلاء يكون الهدف هو اليقظة؛ أي أن يستيقظوا، وينتقدوا أنفسهم، ويعودوا الى رشدهم، ويعترفون بخطأهم وانحرافهم، ليعودوا الى الله جل وعلا، والى القيم الحقة، والصراط المستقيم، وينعموا في الحياة الدنيا والآخرة. فان لم يصلوا الى هذا المستوى، فان الخالق سوف ينـزل عليهم بلاءات أخرى أشدّ، حتى تحين فرصتهم في الاعتبار من هذا البلاء. وحينئذ يفتح الله تعالى عليهم أبواب الرحمة، وإذا بهم بعد ذلك يفرحون، ويعلون في الأرض، ويعيثون فيها الفساد، وعند ذلك يأخذهم الخالق بأشدّ البلاء.

فعلى سبيل المثال ابتلى الله فرعون وقومه بسبع بلايا، فكانوا كلما تأتيهم آية يقرّرون العودة الى بارئهم، وبمجرّد أن تنتهي يعودون الى غيّهم وعدوانهم. وحينها كانوا يذهبون الى موسى ويقولون له: يا موسى؛ أدع الله أن يرفع عنّا هذا البلاء، فاننا عائدون الى دينه. وما كان من هذا النبي الكريم إلاّ أن يتوجه بالدعاء الى الخالق ليرفع عنهم البلاء، فيستجيب الله لدعوته. ولكنهم سرعان ما يعودون الى سابق عهدهم. وفي نهاية المطاف أغدق الله عليهم بالنعم والخيرات، ففرحوا واستبدّ بهم الغرور، وعلوا وطغوا. وحينئذ أخذهم -سبحانه- أخذ عزيز مقتدر ، ونبذهم في اليم فانتهوا وانقرضوا، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر. إستعادة الوعي

والذي يصيبنا الآن - نحن المسلمين - هدفه وحكمته أن نستعيد وعينا، وأن نقف موقف الناقد من أنفسنا، وأن نسأل أنفسنا: لماذا هذه الابتلاءات؟ فان انتبهنا، واستيقظنا، وعدنا الى رشدنا، رفع الله تعالى عنّا البلاء. وإن لم نفعل ذلك، فان هذا البلاء سوف يزداد، وستأتي مراحل شديدة وصعبة إذا لم نتّعظ.

وفي هذا المجال يقول عز من قائل: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الانعام/42-45)

إن الأمم السابقة لم تتضرع، ولم تعد الى الله، ولم تطبق حكمة الابتلاء في حياتها؛ وبدل أن ينقذوا أنفسهم، ويستعيدوا وعيهم، وينتفعوا من المآسي، تكرّست السلبيات في أنفسهم، لأن قلوبهم كانت قاسية. والقلب عندما يقسو، فان المواعظ البالغة، والابتلاءات الشديدة لا يمكن أن تنفع معه.

وعلى الرغم من التذكير والابتلاءات المتواصلة، فانهم نسوا التحذيرات الالهية، فكانت النتيجة أن استدرجهم الله سبحانه وتعالى بالنعم حتى قطع دابرهم، وأهلكوا عن آخرهم. فأين عاد، وأين ثمود، وأين أصحاب الأيكة وقوم لوط... ؟ لقد انقرضوا جميعاً، وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم. فالله أتاح لهم الفرص الواسعة، وفتح أمامهم الطريق للعودة، ولم يبادرهم ويباغتهم بالعذاب.

ويبقى هنا السؤال المهم: بعد هذه المآسي والويلات والابتلاءات التي توالت وتتوالى علينا بين الحين والآخر، هل انتفعنا منها وأخذنا الدروس والعبر؟ وهل أدرك الناس إن التشرذم، والتفكير المصلحي الخاص لا يمكن ان ينفعهم؟ وهل أعادت مؤسساتنا النظر في إستراتيجياتها، وفي اُسلوب عملها وتحرّكها؟ وهل قمنا بما كان ينبغي لنا أن نقوم به؟

إن علينا أن نقف وقفة شجاعة مشرّفة لنعرف ماذا فعلنا. ففي كثير من الأحيان يكون النقد البنّاء، ومراجعة الماضي، وإعادة النظر في المسيرة، من صميم العمل الرسالي، ومن صميم واجبات ومسؤوليات الانسان كانسان، فما بالك بالقيادات، والعلماء والمفكّرين والطلائع الرسالية ؟

الى متى الهزائم؟

إن المهم في كل ذلك أن نتضرع الى الله جل جلاله، وأن نعود إلى أنفسنا، ونتساءل عن الخطأ في سلوكنا وفكرنا وبصيرتنا ووعينا.

ومن العجيب في هذا المجال أننا نرى البعض يفتخرون بالهزائم، في حين أن الناس يبحثون عادة عن إنتصار لكي يربطوا أنفسهم به. ولكن البعض منّا تراه يبحث عن هزيمة ليتقوقع وينطوي على نفسه في داخلها، ويصبّ كل تبريراته في إطارها، ويقول إن مصيرنا أن ننهزم وننهزم دون أن نستطيع تحقيق أي إنتصار. في حين أن المثل المعروف يقول: (الهزيمة يتيمة)، ولكننا نرى أن هزيمتنا لها ألف أب وأب. الأمر الذي يدلّ على شدة فقرنا الفكري، وانعدام الوعي بالبصائر القرآنية.

مما لا ريب فيه إن الله تبارك وتعالى عادل، عندما يصيبنا بذنوبنا، ويوجّه إلينا الصعقات القوية التي لم تصل لحد الآن الى المستوى الذي نصحو فيه على واقعنا. فعلى الرغم من المآسي والمصائب والويلات والمحن التي نزلت علينا، فاننا ما نزال نياماً. ونحن نعوذ بالله تعالى من أن تنطبق علينا الآية الكريمة التي تقول: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا».

فمن الخطأ أن نتصور إن هذه الآية تنطبق على الحكام الظالمين وحدهم. فالانسان الذي يترك العمل في سبيل الاسلام، ويضع مصالحه فوق مصالح الأمة، والذي يثير الخلافات في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى الوحدة، والـذي يعيش في زنزانة ذاته الضيقة، هو أيضاً إنسان ظالم. ولذلك فاننا ندعو الأمة الى أن تتعظ من المصائب والابتلاءات، وأن تكون في مستوى المرحلة التي تعيشها.

الضراعة هدف الابتلاء

الفطرة هي أكبر رأس مال يمتلكه الانسان في الحياة؛ فهذه الفطرة هي التي تكشف للانسان الحقائق، وتجعله ينسجم مع طبيعة الكون والنفس، فيتفاعل بهما ومعهما. ولكن هذه الفطرة التي لابد أن تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله تتعرض للرين، لأن حجب الشهوات والأهواء والتراكمات السلبية تفصل بينها وبين إدراك الحقائق. فقد تتحول هذه الفطرة الى فطرة تحجبها الأهواء والشهوات، فتفتقد القدرة على الكشف، ولا تستطيع ان تقوم بدورها الأساسي في تبصير الانسان بالحقائق.

سبب جميع المآسي

والانسان عندما ينظر بفطرته، وطبيعته الأولية الى الأشياء، فان حياتـه ستكون حياة قائمة على أسس حضارية تحمله خطوة فخطوة الى الأمام وبصورة مستمرة. وإذا ما استبعدت الفطرة فان كل سعي الانسان، وكـل حركة له سيكونان باتجاه معاكس؛ أي إتجاه التخلف والتقهقر بدلاً مـن التقدم.

وإذا أردنا أن نبيّن بكلمة واحدة سبب تخلف الانسان، وسبب المشاكل المتراكمة عليه، لابد أن نقول ان تلك الفطرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في ذات الانسان قد تغيرت وانقلبت واحتجبت بالشهوات. وهذا هو تعبير موجز عن جميع المآسي التي يتعرض لها الانسان.

وعلى سبيل المثال فان الانسان الذي ينظر الى الأمور بفطرته، يستطيع أن يتنبّأ بالمستقبل بصورة طبيعية. صحيح إنه لم يزود بالقدرة على إستشراق الغيب، ولكنـه قد منح البصيرة الكافية لتنسيق حياته، ودرء الأخطار عن نفسـه، ولذلك فان الشعور بالألم وضع للدلالة والاشارة الى وجود المرض في الجسم.

وهكذا الحال بالنسبة الى الحياة الاجتماعية؛ فظهور الفوضى في المجتمع يشير الى قربه من المأساة، والوقوع في مستنقع المشاكل الاجتماعية. فمشكلة الفقر، والعنصرية، والرأسمالية، والمشاكل الأخرى على الصعيد الاجتماعي تترك آثاراً واضحة تبين للانسان أن هذا المجتمع يسير في اتجاه منحرف، وبالتالي فانها تمكنه من اكتشاف الخطأ في الوقت المناسب ومعالجته قبل الاستفحال.

وعلى سبيل المثال فان السياسي الذي لا يستطيع أن يفهم ضمير مجتمعه، لا يمكنه أن ينجح في قيادة هذا المجتمع؛ والرئيس الذي لا يدرك معنى الاضطرابات في بلده، ومعنى أن يعيش شعبه في حالة الغليان والثورة، لا يمكنه أن يستمر في حكمه. فلابد أن يكتشف أن المجتمع يعيش في حالة غير صحية، وأن من الممكن أن ينقلب عليه الأمر. والسيطرة على هذه الاضطرابات، وتهدئة الأوضاع بحاجة الى وجود حالة من الانسجام بين فطرة الحاكم، وبين طبيعة الأوضاع الاجتماعية السائدة في بلده.

وبناءً على ذلك فان الفطرة هي طبيعة الانسجام بين الانسان والطبيعة، واذا كانت الحجب متراكمة على هذه الفطرة فانها سوف لا تنفع الانسان فحسب وإنما تضره، لأن هذه الحجب بإمكانها أن تنفذ الى عمق الفطرة، وتقلب رؤية الانسان.

والتخلف الذي منيت به الأمة الإسلامية اليوم، هو نتيجة الحجب المتراكمة على فطرة أبنائها. ففطرتنا ليست تلك الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها، ولا تمثل تلك المواهب التي أودعها الله عز وجل في الانسان، والمقاييس والمعايير التي وضعها في قلبه والتي لابد ان تقوم بدور المنسق بين الانسان والطبيعة من حوله. فتلك الفطرة والمواهب والمقاييس قد انحرفت، ولم تقم بدورها الطبيعي، ولذلك نرى أن أمتنا تزداد تخلفاً يوماً بعد آخر، ولا تستطيع أن تقوم بأي دور.

عبادة الماضي سبب التخلف

ومن جملة عوامل وأسباب التخلف عبادة الماضي، والافتخار الكاذب به. فالمجتمع الذي يقلد ماضيه، ويفتخر به بكل ما فيه من ايجابيات وسلبيات، هذا المجتمع يكون عاجزاً عن القيام بأي دور، لأنه ينظر الى الحياة من حوله بمنظار الماضي الذي أكل الدهر عليه وشرب. ولذلك فانه لا يستطيع أن ينسق حركته، فتراه يفسر كل شيء وفق المقاييس السابقة، وهذه مشكلة كبيرة يعاني منها الانسان.

وهكذا فان الذي يريد أن يعالج الأوضاع الحالية من خلال العهود السابقة التي كانت لها ظروفها وملابساتها، وقيمها الخاصة بها، لا يفهم مدى التطور الهائل الذي حدث في عالمنا اليوم والذي يحدث بين لحظة وأخرى؛ فكيف بين سنة وأخرى، وبين مرحلة من الزمان ومرحلة أخرى؟ فالذي يريد أن يسير على حرفية الكلمات التي تفوّه بها المفكرون الاسلاميون قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة لا يستطيع أن يقرأ لغة العصر، ويعجز عن أن يكيّف تصرفاته وفق الحاجات المتجددة لهذا المجتمع أو ذاك.

إثارة الفطرة حكمة الابتلاء

وعلى هذا فان مشكلة الانسان منذ أن خلقه الله عز وجل وحتى يومنا هذا هي مشكلة إبتعاده عن فطرته، ومحاولته أن ينظر الى الحياة من زوايا جانبية لا بشكل مباشر. فمشكلة الانسان في عصر نوح عليه السلام وعاد وقوم ثمود هي مشكلة اليوم، وهي مشكلة كبرى. فلقد زوّد هذا الانسان بمقياس واحد لكي يكتشف الحياة من حوله، ألا وهو العقل والفطرة. فاذا ما انسحب العقل من العمل، وتغيرت الفطرة، فماذا يبقى للإنسان ؟ لا يبقى له حلّ سوى أن ينسحب هو بدوره.

وعلاج هذه المشكلة هو علاج إلهي من خلال إبتلاء الانسان بالمصائب والمآسي. فالحكمة منها هي إثارة فطرة الانسان، وإعادته الى حالة نقائه وطهره. وبتعبير آخر؛ الى نقطة البداية التي لابد أن يبدأ منها، من خلال إزالة الحجب التي حالت دونه ودون استيعاب الحقائق.

وفي هذا المجال يقول عز من قائل: «وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلآَّ أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَـوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَاَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالاَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَاَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَاَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَاَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ» ( الاعراف/94-99 )

فهذه الآيات الكريمة تصرح بأن الهدف من أخذ الناس بالسراء والضراء هو أن يضرعوا، والضراعة هي أن يعود الانسان الى حالته الطبيعية والفطرية. وعلى سبيل المثال فان السياسي ينظر الى الحياة من خلال سياسته، والمثقف لا ينظر الى الحياة إلاّ بمنظار ثقافته، ولكن هذا الانسان لابد أن يعود الى الضراعة، والى حالته البشرية واستكانته الى الله سبحانه وتعالى، وازالته لكل العوائق التي تمنعه من الوصول الى القمة.

وهناك الكثير من الأمم التي تنتفع من الضراعة، وهي عادة الأمم التي أصيبت بمشاكل وأزمات سياسية وإجتماعية وحضارية. ولكن البعض من هذه الأمم لا يستفيد حتى من المأساة التي تهز الضمير، وتكشف عن فطرة الانسان؛ ولأنهم وصلوا الى هذه المرحلة من قسوة القلب، فقد جاء الأمر الإلهي بانزال العذاب عليهم، ومحوهم من الوجود.

«ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَاَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ» (الاعراف/95)

وهكذا فقد اكتسبوا السيئات، فرسمت هذه السيئات المقياس الذي كان لابد أن يكشف لهم عن حقيقة الحياة. فالمآسي والمصائب لم تعدهم الى طبيعتهم، فكانت النتيجة أن انتهوا بكارثة طبيعية نتيجة عدم اعتبارهم بالمأساة.

وللأسف فان بعض الناس في مجتمعاتنا ما يزالون غير مدركين لمغزى ما جرى ويجري عليهم، فلم يفسروا الأحداث التي مرت بهم تفسيراً قرآنياً صحيحاً. وأنا عندما أقول: (بعض الناس) فاني لا أقصد أناساً بعيدين عنا، بل نحن أنفسنا؛ بسبب تراكم سلبيات الماضي علينا، واحتجاب فطرتنا عن الحقائق، فلم نكتشف الدرس الذي لابد أن نكتشفه، والعبرة التي لابد أن نأخذها في مجال الحياة الاجتماعية.

لقد مرت أعوام طويلة والعالم الاسلامي ممزق، والمآسي والمشاكل والأزمات السياسية والاجتماعية تتراكم علينا، فلا نتخلص من مأساة إلاّ لنقع في شرك مأساة جديدة، ولا ننجو من حاكم ظالم إلاّ لنقع في حبائل حاكم ظالم آخر.. والمشكلة ليست في وجود المآسي ومعاناتنا منها، بل إن المشكلة هي عدم فهمنا للعبرة منها. فهذه المآسي التي تتكرر علينا لم تعطنا الدرس المناسب، وهو أن نعود الى فطرتنا، والى حالة الضراعة.

حقيقة الضراعة

إن الضراعة تعني في حقيقتها أن نغيّر أنفسنا، وأن نستعد لاعادة النظر في تأريخنا، وبنائنا الفكري والثقافي والسلوكي والاجتماعي والسياسي. ولكن للأسف فان كل تلك المآسي لم تعطنا الدرس المناسب والكافي، فلماذا لا نحتكم الى القرآن الكريم وهو الذي يهدينا سواء السبيل في هذا المـجال، من خـلال الآيـات السابقة التي تقرّر أن الحكمة من المصائب والمآسي التي تنــزل على الانسان هو أن يستشعر حالة الضراعـة الى الله تبارك وتعالـى؟

وعلى هذه الأساس فان مشكلتنا الرئيسية هي أننا لم نستفد من الدروس القاسية التي مرّت بنا، ولم نفهم الحكمة الالهية من الضراعة الناجمة من البأساء والضرّاء. ورغم أننا نؤمن إنّ علينا أن نعيد النظر في تاريخنا وأشخاصنا وفي كل شيء يحيط بنا، إلاّ أننا ما نزال نعيش في قمة المآسي والمشاكل. والمصيبة أننا ننسى كل هذه المآسي لنعيش في أفقنا الضيق، وننظر الى كل هذا العالم الرحب الواسع عبر ثقب ضيق للغاية. في حين أن الله جل وعلا خلق لنا هذه السموات الواسعة والمظاهر الطبيعية التي لا حصر لها.. ومع ذلك ترانا نهرب من الطبيعة، ومن الحقائق، ونحصر أنفسنا في زاوية حادة.

فلنعد الى القرآن الكريم الذي يطلب منا أن نعيد النظر في بنائنا الاجتماعي والفكري والسياسي، فلابد من أن نعود إليه والى حكمه ونكتشف بصائره في الظروف المتأزمة التي يمرّ بها الانسان. ثم لنتضرع الى الله سبحانه وتعالى عبر الادعية التي من شأنها أن تعيدنا الى فطرتنا، والى فهم السبب الحقيقي لمآسينا، وإسقاط الاعتبارات المزيفة، وتحطيم الأصنام التي تحجبنا عن الحقائق. فلنقرأ القرآن بتدبر ولندرس من خلاله واقعنا، ولنقرأ الأدعية بتأمل لندرس أنفسنا من خلالها، وليحاول كل واحد منا أن يعيد بناء نفسه ومن حوله، فالمأساة هي أعظم مدرسة لنا في الحياة، فمن يدخل مدرسة الحياة فانه سيكون في غنىً عن أي أستاذ آخر.

تزكية النفوس مراد الإبتلاء

من الظواهر السلبية في حياتنا إنّ أغلب الناس منصرفون الى هموم الدنيا، وشؤون المعاش من مأكل وملبس ومتع ولهو ولعب، غير ملتفتين الى علة وجودهم وحياتهم على هذه الأرض، ولا آبهين بغاية هذا الوجود؛ فقلّما نجد أولئك الذين يسائلون أنفسهم عن تلك العلّة والغاية، وما ينطوي عليهما من حقائق تنظّم الحياة، وتعبّد طرقها على أساس ذلك الفهم والادراك.

فلابدّ أن يكون هناك هدف وغاية من وجودنا، وتركيبنا بهذه الهيئة التي نحن عليها؛ بل إنّ الغائيّة والهدفيّة تعمّان كلّ صغير وكبير في أبداننا وأحاسيسنا. فأعضاء جسد الإنسان لم تخلق، ولم ينعم بها الإنسان إعتباطـاً وعبثاً، بل لها أهداف تجتمع في بؤرة هدف واحد، هو الهدف الرئيس من الوجود.

هدفيّة الوجود تشمل كل شيء

وهدفيّة الوجود لا تقتصر على الإنسان وحده، بل إنها امتدّت الى كل شيء صغير وكبير في الطبيعة. فليس هناك شيء مخلوق دون هدف، وحاشى لله أن يصدر منه ذلك، وحتى المخلوق الذي فيه الضرر والفتنة للانسان فانّه ضروري لإصلاحه.

ويبقى من حقّ كل إنسان أن يسأل عن هذا الهدف، وسرّ الظواهر التي تحيط به؛ فهذا السؤال هو السؤال المهم الذي له صلة وثيقة بأوضاعنا التي نعيشها اليوم، والتي هي أوضاع خطيرة وحسّاسة يعجب منها الناس لأنهم يجهلون أسبابها وأسرارها والحكمة من ورائها، فلو عرفوها بطل العجب وزالت الحيرة عندئذ.

الفتنة.. هدف أساس

وهكذا فانّ المهمّ أن نعرف ما هو الهدف من وجودنا وحياتنا أوّلاً، وكيف نتحرّك في إطار هذا الهدف ثانياً كي لا يستبدّ بنا العجب. والجواب على السؤال الأوّل يتلخّص في كلمة واحدة صريحة هي: الفتنة التي هي باطارها العام الهدف الأساسيّ من خلق الإنسان فوق هذه البسيطة، وربّما جهلت ملائكة السماء أمر الخلقة الإلهية للانسان، والارادة الربانية من وراء إهباطه على الأرض، ومنحه نعمة الارادة والحريّة والاختيار بعد أن يجد أمامه أسباب الاستقامة، وأسباب الانحراف، ويرى بعينه، ويدرك بعقله سبل التقوى والرفعة والنبل مقابل سبل المعصية والانحطاط، ليختار، ويُعمل إرادته وحريّته. فالملائكة جهلت سرّ أمر الارادة الإلهية في هذا الخلق، فما عرفوه أنّ هذا المخلوق من شأنه الإفساد، وسفك الدماء فحسب كما روى لنا ذلك الخالق تعالى في قوله: «وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (البقرة/30)

الآثار الايجابية لمعرفة الهدف

وبمعرفة الهدف وادراكه والتكيّف معه، نعرف كيف نتعامل مع هذا الهدف، وبالتالي فاننا سنقترب من الحكمة الإلهية التي اقتضت لنا تلك الهدفيّة في الحياة؛ أي الفتنة والتمحيص والابتلاء، وبذلك يكتمل الإيمان فينا، فنعيش الطمأنينة والسكينة وراحة النفس والبال والضمير. وهذه هي سمات المؤمنين بالله حقّـاً، فلأنَّ المؤمنين يعون جيداً هذه الهدفية في الحياة، فانّك تراهم في سكن وطمأنينة وراحة في نفوسهم وضمائرهم؛ فاذا ما محّصوا بالفقر وجدوا الله تعالى عندهم فاطمأنّت قلوبهم، وهدأت نفوسهم بذكره وحمده وتسبيحه وشكره على نعمائه، وإذا ما أصابتهم مصيبة الموت في عزيز أو قريب عندهم لجأوا الى ربهم، فقد كيّفوا أنفسهم مع البلادء والابتلاء، وخبروا الفتن والمصائب بكلّ ألوانها وأنواعها، وارتضوا لانفسهم ما قدّر الله سبحانه وقضى لهم وعليهم. وهذه من قوانين الله في عباده ومخلوقاته في الوجود، فالمؤمن يكيف نفسه، ويجعلها تنسجم مع المقتضيات والسنن الإلهية.

تأثير الابتلاء على النفس المؤمنة

وهناك سؤال آخر يثار في هذا المجال وهو: ما هو تأثير الإمتحان والفتنة على النفس المؤمنة، وكيف نحقّق في أنفسنا وحياتنا فلسفة وحكمة الفتنة والابتلاء؟

إن تأثير الامتحان والتمحيص على الإنسان قد يكون سلبيّاً أو ايجابياً، ولذلك قيل: (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان). فعندما يسأل الإنسان عن مدى خبرته في عمل ما، فانه لا يتردّد في الجواب الايجابي وإن كان جاهلاً، وهذه هي طبيعة الإنسان المتمثلة في عدم إقراره بالجهل، ولكنّ أمره سرعان ما يفتضح عند الاختبار، وحينئذ سيفهم هذا الإنسان حقيقة نفسه فيضطرّ حينئذ الى إصلاحها.

وللأسف فانّ البعض ممن يهرب من عيوب نفسه، ويخشى ظهورها على حقيقتها، نجده يتهرّب من مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة، ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً في وجهه لم يكن قد التفت إليه لولاها. ولكي نبرهن على واقعيّة إيماننا علينا أن نعشق المرآة، ونلجأ إليها دائماً كي نطّلع على عيوب أنفسنا، ونعمد الى إصلاحها؛ ومرآتنا تتمثل في إخواننا المؤمنين ذوي الألباب، فبنصحهم وصلاحهم تصلح مسيرتنا، وتنجلي البقع السوداء من قلوبنا؛ فقد تحسّ أن في قلبك نقاطاً سوداء يجعلها الناس فيك، وربّما يتوفّاك الموت دون أن يعلم أحد بها، ولكن عليك أن لا تنسى أن الإنسان لا يحاكم لوحده يوم القيامة، بل إنّ الملايين قد تُحاكم كمجموعة واحدة في يوم الحشر الرهيب، وهناك تفتضح النفوس، وتنكشف حجب القلوب، ولذلك جاء في الدعاء بشأن هذا الموقف الرهيب: "اللهم إنّي مؤمن بجميع أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم فلا تقفني بعد معرفتهم موقفاً تفضحني فيه على رؤوس الأشهاد، بل قفني معهم وتوفّني على التصديق بهم". ([8])

من هنا كان الأجدر بنا أن نظهر حقيقة ما في قلوبنا وأنفسنا قبل أن يفتضح أمرنا في يوم الخزي الأكبر. فلنعرض حقيقة أنفسنا، ولنبدأ باصلاحها بعد التوكّل على الله سبحانه، ولندعُ لاصلاح أنفسنا في كلّ ساعة وفي كل حال نحن فيه.

واصلاح النفس يكون بالالتزام بركنين من الأخلاق؛ الاجتناب، والتمسك. إجتناب الأخلاق السلبية السيئة، والتمسّك بالأخلاق الايجابية الفاضلة. فالى متى نظلّ نعيش أخلاق السلب، ونتعامل بها مع الآخرين، فتزيدنا ذنوباً الى ذنوبنا؟ والى متى يبقى الحسد، والكبر، والبغض متأصّلاً في قلوبنا، ومتراكماً عليها؟ فمثل هذه الكدورات، والعيوب التي تسوّد قلوبنا وتميتها ينبغي أن ندعو الله لازالتها. فلنحذر الشيطان ومكائـده، والتي منها أنه يصوّر لنا أنفسنا بأحسن صورة، فيجعلنا نرضى عنها، ونقتنع أنها منـزّهة زكية.

الابتلاء غاية الحياة

ومن كلّ ذلك نستنتج إن غاية الحياة والوجود هي الابتلاء، ومعرفة حقيقة الإيمان به، ومدى تحمّله، والصبر عليه، ومن ثمّ الاستقامة والثبات في السير نحو الهدف التكامليّ للحياة. فحين الابتلاء يعرف الإنسان المؤمن نفسه ويعرف قيمة أخيه المؤمن، وقد قيل في الحكم "عند الشدائد تعرف الاخوان". فالبعض قد تجد منه الطيب والنبل في لسانه، فيعدك بالاخلاص، وتشمّ من كلامه معك روح التفاني والتضحية، ولكن حين الشدة والصعاب لا تلقى منه أدنى شيء مما لقيته في لسانه حين الرخاء واليسر، وربما تلمس منه الكذب في ظروف أخرى غير الشدّة وذلك عندما يرتقي منصباً، أو يصبح ذا مال وفير بعد فقر أو غير ذلك مما يظهر معدن المرء على حقيقته.

وهكذا فبالتمحيص والابتلاء والفتنة يعرف المؤمنون الصادقون، والرجال الصالحون المخلصون، والمجاهدون حقّاً في سبيل الله، وإلاّ فإنَّ الدين والايمان في السرّاء ليسا إلاّ لعقاً على الألسن كما قال تعالى: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» (العنكبوت/2-3) فبالتمحيص يتميّز الخبيث من الطيب، والمؤمن حقّاً من المنافق.

هدفية الحياة في القرآن

والآن نتناول موضوع الهدفيّة في الحياة من خلال الآيات القرآنية التالية المقتطفة من سورة الأحزاب. قال الله تعالى: «وَاِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَاِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيمَاً * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ اِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَاَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * اِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَاِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يَآ أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ اِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَاهِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً» (الاحزاب/7-13)

الأنبياء طليعة الخلق

فالسياق القرآني يتعرّض هنا للعهود والمواثيق التي أُخذت على أنبياء الله وخاصّة أهل العزم منهم. فالأنبياء والرسل هم قادة الأمم على مرّ الدهور السابقة؛ فهم طليعة الخلق، ولذلك لم يكن العهد الذي أُخذ منهم عهداً هيّناً وسهلاً، بل كان عهداً غليظاً كما عبّر عنه القرآن يليق بمقامهم كأنبياء ورسل يقودون الأمم نحو التكامل الانساني.

ثم ينتقل السياق لبيان علّة أخذ الميثاق، فيقول تعالى: «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِيـنَ

عَن صِدْقِهِمْ...» (الاحزاب/8). فالانسان الصادق إنما يظهر صدقه عندما يفتن ويمحّص فيتبيّن إذا ما كان صادقاً حقّاً أم لا، وقد جاء التأكيد على هذا التمحيص في هذا الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، حيث قال: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فانّ الرجل ربما نهج بالصلاة والصوم، حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة".([9]) فهويّة الإنسان المؤمن تتجلى بصدق الحديث، ومدى ادائه للأمانة.

ثم يستمر السياق الكريم مذّكراً المؤمنين بما أنعم الله عليهم في أيام الشدائد، وساعات المواجهة الأولى مع الأعداء، إذ يقول تعالى: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ....» (الاحزاب/9)، ولعلّ أعظم نعمة يغاث بها الإنسان المؤمن حين الشدة، وساعة الصراع، هي الامداد الإلهي الغيـبي.

ثم يمضي السياق ليذكّر المؤمنين بشدّة تلك المواقف الصعبة: «اِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ...» (الاحزاب/10). فتلك كانت ساعة التمحيص الكبرى، حيث زاغت العيون من شدّة الخوف، وراح المؤمنون يتحشرجون في أنفاسهم وكأن قلوبهم قد انخلعت، حتى ظنّ بعضهم أنّ ربّهم قد خذلهم، وأوقع بهم في المهلكة. وهناك كانت ساعات التمحيص ولحظاته، حيث استخرج الله عز وجل ما خفي في نفوسهم وقلوبهم، وأزال منها ما كان قد علق بها من الأدران والشوائب فأجلاها ونقّاها في هذا الاختبار الصعب.

والإنسان المؤمن الواعي لا يمكن أن يغفل هذه الحقيقة، فيدع الشيطان يداهم نفسه، ويوهمها بالكمال والصلاح، فيرضى عن نفسه، ويكتفي بما بلغه من السير على طريق الكمال والصلاح؛ بل يبقى لآخر لحظة من حياته يروّض نفسه، ويربّيها على التقوى من أجل أن يضمن لها حسن العاقبة، وهو الأمر الخطير والمهمّ لدى كلّ انسان.

المنافقون شياطين الإنس

ثم ينتقل السياق ليتحدث عن شياطين الإنس المتمثّلين في المنافقين في قوله تعالى: «وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً» (الاحزاب/12) فهؤلاء المنافقون يظـنّون أنّ سرّهم سيظلّ خافياً على الأمة وقيادتها الرساليّة، فيبقون يكيدون للمؤمنين في الخفاء، ولكنّ الله سبحانه شاء أن يكشف أمرهم، ويفضحهم في المواقف الحرجة، ليظهروا على حقيقتهم السوداء المنكرة، وليفضحوا على رؤوس الأشهاد، فيلعنوا على مدى الدهر.

والمنافقون أشدّ خطراً على الأمة من الكفار والمشركين، وقد جاء التأكيد في القرآن الكريم كراراً على خطورة وجودهم، وحركتهم الخبيثة داخل المجتمع الإسلامي. ولقد إبتلي المسلمون بداء النفاق منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية وحتّى يومنا هذا، وقد إنكشف أمر البعض منهم في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، فتصدّى لهم المسلمون، وأوقفوهم عند حدّهم، وربّما نالوا جزاء نفاقهم؛ والبعض الآخر كشف عنهم النبي صل الله عليه وآله، ولكنه لم يستطع القيام بعمل من شأنه أن يردعهم بسبب طبيعة الظروف، فظهر دورهم التخريبي في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

الابتلاء يفضح المنافقين

فالبلاء إذن- له مردودات إيجابية على صياغة روح المؤمنين، وجلي نفوسهم، وإظهار معدنهم الحقيقي، وبالاضافة الى ذلك فانه يعود عليهم بالنفع المتمثل في افتضاح النفاق والمنافقين في المواقف الصعبة. وهذه هي طبيعة المنافقين، والذين في قلوبهم مرض؛ أي الذين تكدّرت قلوبهم، واسودّت بالحسد، فغدت مريضة تعيش الحسد والحق والبغضاء.. فهم يحرصون على الدنيا وملاذّها، ويلهثون وراء سرابها، تاركين الجهاد في سبيل الله، ويثبّطون المؤمنين، وينالون من عزائمهم ولذلك كان حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، وباباً من أبواب النفاق.

ومن هنا نرى أن المؤمنين الصادقين يحذرون الانغماس في ملذّات هذه الدنيا، فلا ينالون منها إلاّ ما قُدّر لهم من حلالها الطيب. ولا بأس في هذا المجال أن نزور الآثار وما فيها من الديار والقصور الفخمة والابراج والقلاع التي تركت في كلّ مكان من هذه الأرض، ففي ذلك عبرة لأولي الألباب. والإنسان المؤمن ينظر الى هذه الآثار والأطلال فيتدبّر مع نفسه، ويحدّثها، ويسائلها: أين أصبح أصحابها، أليسوا قد نُقلوا من قصورهم الى قبورهم، وغدت عظامهم بعد ذلك رميماً؟ فما الذي أصطحبوه الى قبورهم هذه، فَلِمَ إذن- كلّ هذا التخاصم والنـزاع والتكالب على ما هو صائر الى الفناء؟!

كيف نتعامل مع الفتن

والسؤال الأخير الذي نطرحه هنا هو: كيف نتعامل مع الفتن والبلايا، ومع ما نعيشه من مشاكل لا تقلّ معاناة عن البلاء؟

إنّ التعامل هذا يكون بأن نستغلّ مشاكلنا لتربية نفوسنا، وتقوية ذواتنا، وشخصياتنا الإيمانية. وهذه المشاكل والصعاب التي تحلّ على المؤمنين لا تزيدهم إلاّ إيماناً وثباتاً واستقامة على الطريق؛ أمّا المنافقون، فانّ أمرهم سينكشف شيئاً فشيئاً، فيسقطون كما سقط أسلافهم من ذوي القلوب المريضة. والمؤمن الحقيقي يغدو في خضم هذه الفتن والبلايا مؤمناً إستثنائياً على غاية من التفوّق والتميّز.

فلنستثمر هذه المآسي والمعاناة لتربية أنفسنا وتزكيتها، وتخريج جيل من المؤمنين الحقيقيين، ممن لا تغرهم الأموال والمصالح..

فلنخلص النيّة، ولنتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقنا، ولنبدأ باصلاح أنفسنا عسى الله أن يرحمنا، ويكتب أسماءنا في قائمة أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وطهّروا قلوبهم من النفاق، وكانوا في مستوى الابتلاء والتمحيص والفتنة، فخرجوا منها بوجوه بيضاء.

الثبات ثمرة الإبتلاء

من أبرز حكم الله عز وجل في الحياة، حكمة الفتنة والامتحان؛ ولو عرف الانسان هذه الحكمة بوعي كامل، لانكشفت أمامه حقائق كثيرة، وزالت من قائمة إستفساراته تساؤلات كثيرة تتوارد على ذهن الانسان لتتركه حيران يبحث عن فلسفة خلقه، والسبب الكامن وراء مجيئه الى الحياة، والهدف من الصراع الدائر بين البشر والذي يفرز حالات قد تكون متباينة مثل الغنى والفقر، والظلم والأمن..

إن النفس الأمارة بالسوء لا تبقى بعيدة عن مسرح هذه الشكوك، بل تبادر الى طرح عشرات الأمثلة لزرع الوساوس في الانسان، ولتتحول هذه الوساوس بدورها الى حجب وعقد تتركز في ذهن الانسان، متحولة الى موجة عارمة لا تهديه السبيل، بل تفقده الوعي والبصيرة.

إننا إذا عرفنا الفلسفة الحقيقية للمحنة، فان هذه المعرفة سوف تكون مدعاة الى امتصاص البلاء، وإحتواء موجات الفتن والآلام والمآسي، وذلك ضمن معرفة الحقيقة العامة في الحياة والتي تقتضي حالة التغيير والتقلب.

إن سنة الفتنة والامتحان لا تختص بالانسان فحسب، بل تدخل في مجال الطبيعة أيضاً. فالحداد يحيل الحديد الخام الى آلات، وهو يطلق عليه اسم (الصانع) لأنه يصنع شيئاً عبر تعامله مع الطبيعة الأصلية من خلال إخضاعها للاختبار، وتعريضها للضغط، ليصل بهذه المراحل الى صيغة أساسية لحالة الصنع؛ الأمر الذي يؤكد على أن الطبيعة هي الأخرى تتعرض لنوع من الامتحان باشراف الانسان.

إن الانسان الذي يستطيع الثبات أمام حالات التغيير في الحياة، هـو الذي كان قد بنى نفسه كانسان يستطيع مواجهة المتغيرات الحياتية. فالفقيه - مثلاً - لابد أن يحافظ على كرامة شخصيته، ولا ينهار أمام الأغنياء، بل يحترم الغني لانسانيته، وللقيم التي يحملها.. أما إذا احترم الغني لغناه، فانه سيكون قد أشرك مع الله سبحانه وتعالى إلهاً آخر، فيدفعه هذا الانهيار الى البحث عن العزة في قصور السلاطين.

وهكذا الحال بالنسبة الى الانسان الغني، فان من المفترض أن لا يخرجه غناه عن طوره الانساني، ولا يدعوه إلى التكبر والغرور.. أعظم الفتن

إن من أعظم أنواع الفتن؛ الفتنة الاجتماعية التي تصيب المجموع. وإذا ما أراد الله جل وعلا أن يجرب إرادة شعب بأكمله، فانه ينـزل عليهم الفتنة الجماعية. وعلى سبيل المثال فعندما تنشب الحرب ويكون الاشتراك في هذه الحـرب مؤدياً الى الشهادة أو الأسر أو التعويق الدائم، ففي هذه الحالـة تظهــر طبيعة الانسان على حقيقتها. والله سبحانه وتعالى يعـرض البشـر دائماً لهذا النوع من الإمتحانات، وهو القائل: «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ» (الفرقان/20)

والمثال الواضح على ذلك من التأريخ معركة بدر الكبرى، حيث ذهب المسلمون للحصول على المغانم واذا بهم يواجهون ألف فارس من فرسان الجزيرة العربية مدججين بالسلاح، مع أن المسلمين كانوا قليلي العدد لا يملكون سوى أسلحة بسيطة تعد لا شيء بالقياس الى الأسلحة التي يتمتع بها العدو.

ويروي لنا عز وجل هذه الحادثة التأريخيـة، قائلاً: «إِذْ أَنْتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ» (الانفال/42).

فقد كانت مواقع الطرفين في المعركة مختلفة، ولو كانت هذه الحرب مقصودة ومدبرة سلفاً، لكانت إحتمالات وقوعها قليلة، خصوصاً مع عدم تهيؤ أفراد الجيش لهذه المعركة. ولكن الله سبحانه وتعالى يقـول: «لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً» (الانفال/42)

فالأمر الذي أراده الله تعالى من فجائية الحرب، هو معرفة الانسان لحقيقة طاقاته وقدراته، لكي يستطيع أن يدعي حينئذ أنه قادر على فتح البلاد وإدارة العباد، لا أن تفند كل ادعاءاته هذه عندما تأتي ساعة المواجهة.

ويؤكد عز وجل على فلسفة المباغتة والمفاجأة، قائلاً: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» (الانفال/42) وهو سميع عليم، لأنه يراقب مجريات المعركة عن كثب، ويعلم بما في صدور المسلمين.

/ 7