حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید






آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي


الحضارة الإسلامية
آفاق وتطلعات


المقدمة


ما أن يخطر ذكر الحضارة على أذهاننا حتى تهفو قلوبنا، إلى ظلها الوارف، وتحن أرواحنا إلى أجوائها المفعمة بالتقدم والتطور، وتميل نفوسنا إلى ذكرها الطيب لما ترفل به من النعم والخيرات.. غير أن الحضارة بما فيها من روعة وجاذبية،لا تعني شيئاً من دون أن تكون واقعاً ملموساً.


هذا ما دفع البشرية منذ نشأتها إلى تحقيق هذا الطموح السامي، ولأجل ذلك بذلت جهود مضنية، حتى تمكنت من ذلك مرات ومرات.


وما شهدته البشرية على طول تاريخها من حضارات، بقيت آثار كثير منها شامخة إلى يومنا هذا، وهي تحكي لنا قصتهايوم سادت كما تحكي لنا قصتها يوم بادت.


وإليها انشدت العيون ترنو معالمها، وتقرأ قصتها دون أي ملل يذكر.


ومن بين كل تلك الحضارات التي عاصرتها البشرية في حقب تاريخية متباينة، كان للحضارة الإسلامية شأن علا كل شأن، وفضل فاق كل فضل.. حيث فاضت على الناس بالقيم السامية، والأخلاق الفاضلة، والعلوم والفنون الرائعة..واستمرت على هذا المنوال سنينن وسنين حتى جاء أجلها لما ابتعد المسلمون عن مناهج الوحي وهدى الشريعة،وتمادوا في حب الدنيا، والانغماس في شهواتها.. عند ذاك حلت بهم الانتكاسة، فخسروا ما كانوا فيه ينعمون.


فبعد ذاك العز عاشت الأمة الهوان، وبعد ذاك الشموخ عاشت الأمة الانحطاط، وبعد ذاك التقدم عاشت الأمة القهقري..


وراحت السنوات تطوي أيامها، والأمة على هذا الحال لم تستطع أن ترفع رأسها مرة ثانية. وإذا بأصوات رقيقةأخذت تخرج من حلقوم الأمة تنادي بأمجادها، معترضة على ما ألم بها من تخلف. وما برحت هذه الأصوات أن ترتفع وترتفع لتسمعها كل أذن، معلنة أن لا نجاة من المآسي والويلات، والفقر والحرمان، والظلم والاضطهاد.. إلا بالعودة إلى حضارة الإسلام.


وبالرغم من عمق التخلف وشدة الانحطاط اللذين لم يسمحا للأمة بالنهوض من جديد على وجه السرعة، مع ذلك لم ييأس المؤمنون بالعودة إلى الحضارة الإسلامية من أن يستمروا في إثارة العزم والارادة والنشاط في أبناء الأمة،ويدفعون بهم باتجاه الحضارة المنشودة عبر خطاباتهم وكتاباتهم ومشاريعهم.. دون أن يثنيهم شي ء عن هدفهم هذا. إذلابد لليل أن ينقضي، وينبلج الصباح بضياء حضارة الإسلام.


وفي هذا الاتجاه تحدث سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي كثيراً عن معالم الحضارة الإسلامية ونشأتها وظروفها،كما تحدث أيضاً عن أسباب انتكاستها وانحطاطها، بالاضافة إلى أنه قارنها بغيرها من الحضارات والمدنيات.. ولما رأيناجمعها في كتاب يخدم الأمة في مسيرتها الحضارية، بادرنا إلى ذلك، مستمدين العون من اللَّه تعالى، واللَّه هو ولي التوفيق.


القسم الثقافي في مكتب


سماحة آية اللَّه السيد محمد تقي المدرسي


طهران- 20/ ذي الحجة/ 1423ه


الفصل الأول


رؤى قرآنية في الحضارة

العلاقة بين الدين والحضارة


من البحوث المثيرة للجدل والنقاش؛ البحث عن العلاقة بين الدين والحضارة، وفي هذا المجال فجّر (ماكس فيبر) قبل عدة عقود من الزمن قنبلة صوتية متأثراً بالأجواء العلمانية السائدة في فرنسا والتي كانت الدافع له في بحوثه الاجتماعية، فادعى أن الدين عائق دون التقدم البشري، والتطوّر الحضاري. وحاول أن يستدل على صحةفكرته هذه ببيان أن أوروبا لم تستطع التخلص من التخلف إلا بعد أن تحررت من هذا العائق، وأن المسلمين الأكثرالتزاماً بدينهم هم الأكثر تخلفاً وبعداً عن الحضارة.


ولكنّ البحوث التي أسهمت في تطويرها مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع دلّت بما لا يقبل الشك أن الدين ليس معوّقاًللتقدم الحضاري، بل إننا نجد في أكثر الديانات حوافز وبواعث تدعو إلى التطوّر الحضاري.


الدين ليس معوّقاً


وكمقدّمة لبحث معالم الحضارة الربانية، نريد إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع الشائك. فلا ريب أن هناك بعض المعوّقات في بعض الديانات، ولكننا عندما نعود إلى جذور هذه الديانات نجد أنها في الأغلب نقية من تلك المعوقات،وأن الأفكار المنحرفة تحوّلت إلى جزءٍ من تلك الديانات بفعل مرور الزمن، وهذه الظاهرة لا تقتصر على الديانات؛ بل تنسحب أيضاً على المذاهب الفلسفية التي يعتقد بها البعض، الأمر الذي يطرح تساؤلاً؛ وهو: لماذا نجد أن الدين في بدايةانطلاقه وانبعاثه يوصي بالسعي، والتحرك، والحماس، والإيثار، ولكن هذا الدين ذاته يتحوّل شيئاً فشيئاً في ذهن معتنقيه إلى سبب للتخلف، وعامل للجمود والسكون؟


الإسلام فجرّ طاقات التقدم


ومن أجل الإجابة على هذا التساؤل لا بأس أن نضرب مثلاً من واقعنا -نحن المسلمين- فنحن نعلم -كما يشهد بذلك العالم بأسره- أن الإسلام فجرّ في ضمير الإنسانية طاقات التقدم، والتطور، وأعطى البشرية شحنات حضارية قوية ماتزال أمواجها تنير الدرب أمام كل من يريد التقدم، واليوم لم يعد هناك أحد في هذا العالم سواء كان غربياً أم شرقياً،مؤمناً أم ملحداً، مسلماً أم غير مسلم، ينكر هذه الحقيقة، لأنها فرضت نفسها على التاريخ.


صحيح أن الكنيسة من جهة، والمستشرقين والملحدين والعلمانيين من جهة أخرى حاولوا أن يلصقوا بالإسلام تهماًمعينة، وأن يغمطوا حقه؛ بل إن بعضهم حاول أن يسند التقدم الذي حدث لدى المسلمين إلى بعض العوامل الجغرافيةوالتاريخية، كفكرة الدورات الحضارية وما إلى ذلك، ولكننا عندما نقرأ اليوم كتاباً لأحد المستشرقين أو عندما نطالع نصوصاً لعلماء كبار في المسيحية، أو حتى عندما نقرأ توصيات وقرارات المجامع المسيحية الكبرى مثل الفاتيكان نجد أن تلك التهم قد ذابت ولم يعد لها صيت.


مفارقة فهم القرآن


وبناءً على ذلك؛ فإن الدور الذي لعبه الدين الإسلامي في تقدم المسلمين يعدّ حقيقة تاريخية لا يشك فيها اثنان ممّن أوتيا نصيباً من العلم، ولكن البعض هنا وهناك يتخذون من الإسلام وسيلة لتبرير جمودهم وتقاعسهم، وتبريراًلكسلهم وتفرّقهم وبالتالي تخلّفهم، فلماذا هذه المفارقة؟


فالقرآن هو نفسه القرآن الذي كانت الآية منه تفجر وتحرّك طاقات الملايين من البشر في اتجاه العمران والتقدم، ولكن هذه الآية القرآنية نفسها عندما تتلى عليّ فإني استوحي منها حالة الجمود، والركود، والتقاعس، فكيف نستيطع أن نحلّ هذه المفارقة؟


عندما نطرح هذا السؤال على القرآن الكريم نفسه، نجد الإجابة الواضحة والصريحة عليه، ونكتشف أن هذه الإجابةمطابقة لما تحكم به عقولنا؛ ففي بعض الأحيان عندما تطرح على الآخرين لغزاً فإنهم يحتارون في كيفية حلّه، ولكنك عندما تقدم لهم حلّ هذا اللغز فإن الجميع سوف يؤيدونك، لأنهم سيدركون أن هذا الحلّ هو الحل المتناسب مع ماتقتضيه عقولهم، فكيف نستطيع حلّ اللغز المشار إليه؟


إن الجواب نجده في القرآن الكريم، وخصوصاً في الآية التالية التي جاءت بعد بيان التوجه الإيماني عند جيل من الأجيال.


(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)(مريم/59)


ولا بأس أن نذكر في هذا المجال آيات أخرى تحل مشكلة أساسية ليس في حقل العلم والمعرفة فحسب؛ وإنما في الحقل الاجتماعي، والتبريري والشخصي. ففي سورة مريم يقول القرآن الكريم بعد ذكر مجموعة من الأنبياء ابتداءً من إبراهيم،ثم يعقوب، وإسحاق، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس عليهم السلام: (اُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإِِسْرَآئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً)(مريم/58).


وفي آية أخرى نقرؤها في سورة الحديد، يقول تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ )(الحديد/10)، ويقول عز وجل موجّهاً خطابه للمؤمنين: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِ )(الحديد/16).


وهذا هو النصف الأول من الآية، أما النصف الثاني فهو: (وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ).


هبوط روح الحضارة عند اتباع الأديان


وهذه الفكرة نجدها في مجموعة أخرى من الآيات وخصوصاً في قصة بني إسرائيل والتدرّج الحضاري الذي سلكوه،ومن هذه الآيات نستنتج أن الإنسان في بدء نزول القرآن عليه أن يتلقى الوحي من قبل مجموعة إيمانية مخلصة ونزيهة،وهؤلاء يتلقون الوحي بفطرتهم، ويتفاعلون معه بهذه الفطرة النقية، ولكن الروح الحضارة لا تلبث أن تخبو فيهم شيئاًفشيئاً بسبب طول الأمد، وبسبب خشيتهم من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى وركونهم إلى الدنيا.


ومن هذا المنطلق؛ فإن هناك الكثير منا يبدؤون بتفسير الآيات القرآنية تفسيراً مختلفاً، ويغيّرون الكلم عن مواضعه؛فهم لا يغيّرون الآيات نفسها، وإنما يغيّرون تفسيرها، ويؤوّلونها تأويلات متطابقة مع أهوائهم وميولهم، ويحاولون أن يفتشوا عن آيات متشابهة يتبعونها، ويتركون الآيات المحكمة الصريحة.


والأدهى من ذلك أن ظاهرة أخرى أكثر خطورة تنتشر بينهم، وهي أنهم يتوارثون بعض أفكارهم المتخلّفة، ثم يضفون عليها القداسة، كأن يخلطوا الدين بالتراث، في حين أن الدين يمثل برنامجاً واضحاً، فكل ما يوصي به يسمى ديناً، وأماما يطبّقه الإنسان من سيرة السلف والأولين فهو ليس بدين، بل هو تطبيق ديني لفترة معيّنة من التاريخ. وبناءً على هذافإن علينا أن لا نجمد على سلوكهم، ونستنبط من هذا السلوك الأحكام الشرعية، لأن هذا العمل يمثل خلطاً بين الدين والتراث.


وقد جاءت الكثير من الآيات القرآنية لتحارب هذه الرؤية المتحجّرة، كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ )(الاعراف/ 32)، وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاًوَلاَيَهْتَدُونَ )(البقرة/170).. فلماذا -إذن- نتبع آباءنا، ونجمد على سلوكهم وسيرتهم والقرآن يقول:(تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(البقرة/141)؟ فتلك أمة ونحن أمة، وذلك جيل ونحن جيل آخر، (والناس - كما يقول الإمام علي عليه السلام- بزمانهم أشبه منهم بآبائهم )(1).


إننا -للأسف الشديد- لم نأخذ الدين من مصادره الحقيقية المتمثلة في القرآن، والأحاديث الشريفة، بل ورثناه وراثة،في حين أن الإسلام يحرّم علينا التقليد في أصول الدين، ويأمرنا بتحكيم عقولنا في هذه الأصول، وأن نحذر من أن نخلطبين الدين والتراث، ونفسر هذا الدين تفسيراً خاطئاً حسب الهوى لتقسوا قلوبنا بعد ذلك، ويطول عليها الأمد.


وإذا ما عدنا إلى التاريخ؛ سنجد أن الآية القرآنية عندما كانت تنزل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذه الآية كانت تفجّر في نفوس المسلمين ينابيع الحنان، والخوف، والخشية، فتحرّك فيهم كل المشاعر الخيّرة، وتبعث فيهم الحوافز الإيمانية، أمانحن فإننا نسمع أو نقرأ نفس الآية دون أن نبالي بها وكأن اللَّه تعالى عنى بها غيرنا ولم يقصدنا!


قسوة القلب


لقد ابتلينا بحالة قسوة القلب، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(البقرة/74)، موجهاً خطابه إلى بني إسرائيل الذين كانوا قبل ذلك مفضلين على العالمين بشهادة قوله عز من قائل: (يَا بَنِي إِسْرآئِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )(البقرة/47). ولكن نفس هؤلاء القوم قست قلوبهم بعد ذلك فإذا هي (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ)(البقرة/74). نعوذ باللَّه من قسوة القلب.


ونحن إذا أردنا أن نرى ونلمس التخلف والجاهلية والركود بصورة مركّزة، فإن بإمكاننا أن نراه في قسوة القلب؛ فعندمايقسو القلب، يتوقّف الزمن، ويتخلّف الإنسان، ويتوغّل في الجهل والجاهلية.


وعندما ترين القسوة على القلب يصاب الإنسان بحالة سلبية أخرى هي حالة (التأويل )، فيعد إلى تأويل الآيات التي تتنافى مع مصالحه ورغباته وأهوائه، كآيات الجهاد، وآيات وصف العذاب الشديد في الآخرة، أما آيات المغفرة والرحمة فتراه يتشبث بها؛ فهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعضه الآخر كما يقول تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُواالقرآن عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )(الحجر/92-91)، ويقول: (أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَتَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ )(البقرة/87). فالرسول الذي يعجبهم يأخذون بمنهجه، والرسول الذي لا تهواه أنفسهم يستكبرون عليه، بل ويقتلونه.


وهناك ظاهرة أخرى من ظواهر عدم فهم الدين، والجمود على سيرة الأولين، ألا وهي الإضافات والبدع التي يشيرإليها تعالى في قوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ )(الحديد/27)، فهذه الحالة البشرية التي أضيفت إلى الثقافة الإلهية هي المعوق، لأنّ التاريخ في حالة تغيّر مستمر، وإذا ما التزمنا بنفس الثقافة التي كانت سائدةقبل ألف سنة فإنها ستتحول إلى أكبر معوق لحركة التاريخ.


متى يعوّق الدين التقدّم؟


إن النتائج التي توصّل إليها (ماكس فيبر) صحيحة من جهة، وعلى سبيل المثال فإن الديانة المسيحية في القرن السادس عشر كانت كتلة من الأفكار المتخلّفة، ونحن نعلم جميعاً ما فعلته محاكم التفتيش في أسبانيا، وكيف أنهاكانت تعاقب بالقتل والحرق من كان يقول أن الأرض كروية أو أن الشمس هي مركز منظومتنا لا الأرض وما إلى ذلك، وكمثال آخر فإن المنطق الكلاسيكي؛ أي المنطق الأرسطي كان يعدّ جزءاً من الدين المقدس، فإن تجرأ أحد وقال:إن هذا المنطق ليس صحيحاً بادروا إلى قتله وحرقه.


وبالطبع فإن مثل هذا الدين يعتبر عائقاً لحركة التقدم، ولكن هل كان هذا الدين ديناً إلهياً، أم كان عبارة عن مجموعةمن الأفكار المتخلّفة الرجعية سمّيت باسم الدين، وأضفيت عليها القداسة بالباطل؟


الجوانب المشرقة من الدين


أما علماء الاجتماع الآخرون الذين رأوا أن الدين ليس معوّقاً فحسب، وإنما هو محفز وباعث إلى الحضارة فقد نظروا إلى الجوانب المشرقة من الدين، وهنا لا بأس من أن أبيّن فكرتين:


1/ ماذا نعني بقولنا (الجوانب المشرقة من الدين )؟


الجواب: إننا إذا راجعنا آيات الاجتهاد والسعي والتحرّك والحيوية والتعاون والتنظيم والعقلانية.. فإننا سنجد أن هذه الآيات هي كتلة من الحضارة، وأنها ينبوع التقدم.إن علماء الاجتماع الذين نفذوا إلى أعماق الدين وجدوا فيه ذلك الجوهر النقي، فقرروا على ضوء ذلك أن الدين يعد أكبر محفّز للإنسان على العمل، والنشاط والسعي والتحرّك من أجل بناء الحضارة.


2/ الفكرة الثانية تتمثل في كلام أورده المفكر الغربي المعروف (هاملتون جيب ) الذي يعتبر مرجعاً في فهم المجتمعات الإسلامية اليوم، وهو أن علماء الدين في العالم الإسلامي هم الوحيدون القادرون على بعث الحضارةالإسلامية وتجديد المجتمع في البلدان المسلمة. ويستدل على ذلك بدليل يستحق الاهتمام والملاحظة، وهو أن الدين عندما يكون باعثاً فإنه سيكون عاملاً إيجابياً، وإلا فسوف يكون باعثاً سلبياً يقف أمام تقدم المجتمعات.


ولا شك أن علماء الدين قادرون على أن يحركوا البواعث الكامنة في النفوس من جهة، وأن يبينوا للناس ذلك الدين الحقيقي الذي يبعث على التطوير من جهة اخرى.


الثورة في النفوس


وهنا تحضرني كلمة لأحد علماء الحضارة، ذات حدين ويرى بموجبها ضرورة إحداث ثورة في عمق الدين، أي الثورةفي الدين نفسه، أو بتعبير آخر؛ إحداث تغيير في الجانب النظري من الدين. وبالطبع فإني لا أؤيد هذا العالم في أن التغييريجب أن يكون منصباً على الجانب النظري من الدين، لأني أرى أن النظرية الدينية هي نظرية متكاملة لا تحتاج إلى ثورة، بل إننا نحن من يحتاج إلى القيام بثورة في نفوسنا لنفهم الدين من جديد، وهذا هو الفرق، لأن هذا العالم يقرّر ذلك بصفته شخصاً علمانياً، في حين أن الدين لا يحتاج إلى ثورة، فالقرآن يبقى نفس القرآن ولكننا بحاجة إلى أن نرتفع إلى مستوى فهمه.


مسؤولية الدفاع عن الحضارة


البند الآخر من بنود الحضارة يتمثل -كما نستوحي ذلك من سورة المائدة- هو ضرورة أن يتحمل الإنسان مسؤوليةالدفاع عن الحضارة، فإذا دهمك خطر ما فإن أمامك أحد أمرين؛ فإما أن تهرب من هذا الخطر، وإما أن تقف في مواجهته، وتدافع عن نفسك. وننظر في هذا المجال إلى الآيات القرآنية التي تضرب لنا الأمثال، وتبين لنا حقائق غامضةعنا، بلغة فطرية مفهومة من خلال إيراد قصة تاريخية هي قصة بني إسرائيل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم )(المائدة/18).


والآية السابقة تقرر فكرة المسؤولية، فلا يوجد إنسان يقول إنه ليس مسؤولاً عن أعماله، لأنه مسؤول مهما كانت انتماءاته الدينية؛ وفي هذا يقول عز من قائل: (بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(المائدة/18)


ولكن هذه المسؤولية بحاجة إلى أن تتكرّس ضمن أسس للدفاع عن النفس، كما يشير إلى ذلك سبحانه في قوله:(يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْجَآءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَءَاتاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/20-19)


وهذه هي الحضارة التي أنعم اللَّه جل وعلا بها على بني إسرائيل، ولكنها كانت بحاجة إلى الدفاع، ولذلك قال لهم تعالى على لسان النبي موسى عليه السلام: (يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ )(المائدة/21)، ولكنهم تخاذلوا عن الدفاع قائلين: (قَالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيهَا قَوْماًجَبَّارِينَ وإِنَّا لَن نَدْخُلَهُا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَآ أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(المائدة/25-22)


والنتيجة الطبيعية لهذا السلوك المتخاذل هي أن الذي لا يستعد للدفاع عن حضارته، ومواجهة التحديات، لابد أن يعيش في التخلّف (التيه ) كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله: (قَالَ فإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةًيَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )(المائدة/26).


الدين حافز على التطوير


وعلى هذا فالدين حافز على التطوير، وإذا ما رأينا أن الدين يتحوّل عند البعض إلى معوّق؛ فإن فهمه لهذا الدين لابدوأن يكون قد اختلط بالمفردات التالية:


1- التراث


2- تحريف الدين


3- تأويل القرآن بالرأي وقسوة القلب.


ونحن إذا أردنا أن نتطوّر، فلابد أن نقوم بثورة في فهمنا للدين، لا في الدين نفسه، ومن أبرز معالم الدين المسؤولية؛ فكل واحد منا مسؤول عن عمله ومحاسبٌ عليه، صغيراً كان أم كبيراً، مسلماً كان أم غير مسلم.


وعلينا أن لا ننسى في هذا المجال أن نتخذ من مبدأ (الشك ) منهاجاً في التعامل مع نظرتنا إلى الدين، فالواحدمنا ينبغي أن يسأل نفسه دائماً: من يقول إن الأفكار التي أحملها عن الدين صحيحة كلها، فلعلّي اتبع التراث وأقلدالآخرين تقليداً جاهلاً في صياغة هذه الأفكار؟


ولذلك؛ كان لزاماً علينا -إذن- أن نعود إلى القرآن الكريم، والسنة الشريفة وإرشادات الفقهاء عودةً واعيةً، ونحذر من أن نتبع مجموعة من المكررات والمرتكزات التقليدية الموروثة التي قد لا تكون صحيحة، وقد تكون مختلطة بأفكارمتخلفة منحرفة وأفكار رجعية لا تتناسب مع متطلبات ومقتضيات عصرنا التي تختلف بالتأكيد عن تلك التي كانت سائدة في العصور السابقة.


الإيمان والبوعث الحضارية


(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ *أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )(التين/8-1)


ما هي العلاقة المثلى بين الدنيا والآخرة؟ وكيف يجب على الإنسان المؤمن أن يجعل إيمانه بالآخرة متصلاً بحركته بالدنيا ،وحركته بالدنيا مرتبطة بإيمانه بالآخرة ؟


إن الناس حيال هذا الأمر على عدة أقسام؛ ففريق منهم يفصل بين الأمرين؛ بين حياته في الدنيا وحقيقة الآخرة، فتراه-مثلاً- حينما يدخل المسجد يجد نفسه في روضة من رياض الجنة وفي رحاب الآخرة، فهو يتعبد ويذكر اللَّه كثيراًويلجأ الى اللَّه ليخلصه من عذاب نار جهنم، إلا أنه سرعان ما تتغير سلوكياته وتوجهاته القلبية بخروجه من المسجدوهو يذهب إلى خضم الحياة.. إلى السوق.. المعمل.. المدرسة ..، فيتحول -نعوذ باللَّه- إلى إنسان ماكر وكائد، يلهث وراء زخرف الحياة الدنيا، ناسياً حينها أحكام الشريعة وقيم السماء السامية.. إنه يدخل إلى الحياة الدنيا دون أن يلزم نفسه برادع أو كابح .


وفريق آخر من الناس ، تجده يترك الدنيا ويتجه إلى الآخرة، ويزعم أنه لو وجد صومعة في أعلى جبل وترهبن فيهاذاكراً وصائماً، قائماً وقاعداً، متوجهاً إلى البارئ تعالى، فإن هذا العمل سوف يقربه إلى اللَّه سبحانه ويحصل على السعادةالحقيقية.


والفريق الثالث تلحظه تاركاً الآخرة مطلقاً، فهو لا يرى حتى باب المسجد، وقد وضع القيم وآيات الكتاب المجيد وراءظهره، فيهرب من ( قيود) قيم السماء كهروبه من الأسد.


إن هذه الفرق والأقسام الثلاثة من الناس كلهم سوف يكونون إدام النار وحطب نار جهنم؛ فالذي يترك أهله ومجتمعه جائعين ويدع أمته عرضة لصولات وجولات العدو المستكبر، ويلتجئ إلى كهف أو صومعة أو.. مثل هذا الإنسان يكون أقرب إلى عدم التقيد والالتزام بحقائق القيم السماوية وإن تمسك وتنسّك بظاهرها وقشورها.


إن اللَّه سبحانه فرض على الناس واجبات وفرائض، كالجهاد والكد على العيال، كما أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهذه الفرائض هي من صميم القيم الإلهية التي سنّها سبحانه لتحقيق سعادة الناس في الدنيا والآخرة معاً.


وفي هذا المجال يروى أن الإمام الحسين عليه السلام لدى خروجه إلى كربلاء دعا بعض أهل المدينة للحاق به والوقوف أمام ظلم وفساد يزيد وبني أمية، فأجابه قائلاً: إن صلاة ركعتين في مسجد النبي أثوب عندي من أن أخرج معك!؟.. إن هذإ؛ّّالكلام بعيد عن روح الدين وحقائق الواقع، لأن هذه الأماكن المقدسة كمسجد النبي والكعبة المشرفة، لم تسلم أيضاً من جرائم وبطش يزيد وزبانيته حينما اعتدت جيوش يزيد على الكعبة المشرفة ورشقوها بالمنجنيق فأخذ الدم يسيل في داخل المسجد الحرام، وانتهكت أعراض المؤمنين والمؤمنات في مدينة الرسول، حتى لم تسلم بنت في هذه المدينة حينهامن الاعتداء الجنسي!


إن هذا الشخص وأمثاله يتصورون أن مجرد الانصراف لأداء بعض الركعات سوف يضفي قدسيةً على الدين وقيمه، إنه وأمثاله ترك حمل السلاح وجعل فريضة الجهاد وراء ظهره متصوراً أن ذلك سوف ينجيه من نار جهنم.


التدافع سنة إلهية


إن اللَّه سبحانه وتعالى يؤكد في كتابه الكريم على حقيقة (التدافع ) كسنة إلهية، فيقول: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَ اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ)(الحج/40). إن المساجد بحاجة الى رجال يدافعون عن حريمها وحرمتها، فاللجوء الى قمةجبل والانشغال بالعبادة وترك المجتمع يتضور جوعاً ويتعرض الى الجهل والاستعباد، إن هذا العمل ليس له قيمة عنداللَّه سبحانه.


وقد روي أنه لما توفي ابنٌ لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه فقال له: (يا عثمان؛ ان اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنما رهبانة أمتي الجهاد في سبيل اللَّه..)(2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سياحة أمتي الجهاد)(3)، فالدين الذين لا يتدخل في الشؤون الاجتماعية والسياسية للمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه المرجوة، حتى النبي عيسى عليه السلام لم يكن ديدنه - كمايتصور البعض خطأ - الرهبنة وترك الدنيا ، بل إنها (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)(الحديد/27).


إن الرهبانية التي يراها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي التوكل على اللَّه والدفاع المستميت عن قيم السماء، عبر الجهاد في سبيل اللَّه ومقاومة الظلم ومحاربة الأعداء. وهذا هو المعنى الحقيقي للرهبنة التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (رهبانيةأمتي الجهاد).. أي أن قيمة التسامي والتقرب إلى اللَّه تكمن في جوهر التصدي لقيم الزيف والزيغ والباطل؛ بل حتى سياحة الإنسان المؤمن وفرحه واُنسه تكمن في الذود عن حريم الرسالة والدفاع عن حقوق المقهورين والمضطهدين.


ممارسات قشرية


إن هذا الفريق الذي يترك الدنيا ويتعبد بقشور الدين هارباً من لباب الدين وجوهره ومغزاه، هو أبعد ما يكون عن منهجية وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته الأطهار الذين كانت حياتهم كلها تحدٍّ وتصدٍّ لأسباب الظلم والتعسف ،حتى نالوا جميعاً وسام الشهادة، فتقربوا واختصروا الطريق الى اللَّه سبحانه وتعالى.


أما الفريق الثاني الذي يفصل بين الدنيا والآخرة؛ فهو شعاره (ما للَّه للَّه، وما لقيصر لقيصر) و (ماللمسجد للمسجد، وما للسوق للسوق ) هذا التوجه وطريقة التفكير تصنع من المرء رجلاً ازدواجياً ومصلحياًيلهث وراء شهواته ليلتهمها، ثم يلجأ الى المسجد وأداء بعض قشور العبادات ليغطي على سوءاته، إنه يقول لك: انظر في المسجد ماذا يقول لك الخطيب، انظر الى إمام الجماعة كيف يركع ويسجد ويقوم، افعل كما يفعل الإمام، ولكن في السوق انظر ماذا تقول لك (البورصة)، وما الذي ينفعك فادخل فيه، ولا شأن لك بغير ذلك. إنه لا يهمه من صفقته التجارية فيما لو أضرّت باقتصاد البلد والمجتمع، إنه يتصور كأن السوق لا يحكمه قانون اللَّه.


إن اللَّه سبحانه لا يتقبل صلاة هذا الفريق فكيف بسوقه وتجارته، فالذي يصلي في المسجد ونيته الخروج منه لزرع الفساد والظلم في الأرض، هذا من الذين لا تقبل أعمالهم العبادية الظاهرية، لأن اللَّه سبحانه يقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )(الماعون/7-4)فصلاة هذا الفريق لا قيمة لها، لأنها لا تنهى عن الفحشاء والمنكر.


أما الفريق الثالث الذي يخوض في الدنيا مع الخائضين ولا يهتم بالمسجد ولا بالأحكام والقيم الشرعية والإلهية؛ فهوالآخر سوف يؤول مصيره إلى نار جهنم، لأنه لا يهتم في الدنيا إلاّ بما يرضي شهواته وغرائزه الحيوانية الزائلة.


يبقى الفريق الرابع من الناس، وهو الفريق الذي ينجو من نار جهنم ويضمن سعادة الدارين، هو ذلك الذي يجعل الدنيامزرعة لآخرته، وتصبح الآخرة هدف الدنيا بالنسبة له؛ بل يرى الحياة كلها بأبعادها وجوانبها المختلفة والمتعددة في محضر اللَّه سبحانه.. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(الانعام/162).. إنه لايفرق في كل حركة يقدم عليها بين الدنيا والآخرة، فهو يتحرك في الدنيا ببواعث الآخرة، وهذا الفريق من الناس هوالذي يسلك الطريق السليم والقويم الذي يشير إليه سبحانه في سورة (التين )، والتي تصور هذه السورةالمباركة معالم الحضارة الإلهية التي يبعث فيها الإنسان روح التحرك والفاعلية.. (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِسِينِينَ ) إنه سبحانه وتعالى يشير إلى المادة الحيوية والغذائية التي تنفع جسم الإنسان وتغذّيه وتطعمه ليتمكن بسببها من بناء معالم الحضارة الإلهية على الأرض. فالتين فهو من الفواكه الطيبة التي تقضي على كثير من الأمراض،كداء (النقرص ) أو يصطلح عليه ب ( داء الملوك ) والذي أصبح اليوم داء شائع بين الناس، فهوينظم حركة الدم في جسم الإنسان. وكذلك (الزيتون ) والذي يعتبر غذاءً وإداماً مقوياً لجسم الإنسان، وإن زيته مفيد للجسم دون إحداث مضاعفات، فزيت الزيتون لا يضر بكبد الإنسان، كما تضر الدهونات الأخرى، فلذاينصح الأطباء المرضى أو المصابين بارتفاع في نسبة (الكلسترول ) في الدم إلى تناول زيت الزيتون.


معالم الحضارة الالهية


إذاً، فالتين دواء والزيتون غذاء .. (وَطُورِ سِينِينَ ) أي ذلك الجبل المتوسط الذي انتشرت على روابيه أشجارالزيتون، لتشكل هذا المنظر الجميل الذي يوحي إلى اعتدال الهواء فيه ، لأن الزيتون لا ينمو إلاّ في المناخ المعتدل ..(وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) .. هو ذلك التجمع الإنساني الحضاري المتكامل الذي يكتنفه عنصر الأمن.


إن الأمن من العناصر الحياتية الضرورية التي تحتاجه كافة الكائنات الحية وبالذات الحياة البشرية ، فلو كانت لناحضارة متقدمة وراقية ولكن ليس فيها أمن، فما فائدة تلك الحضارة وصرحها الشامخ ؟ فلو قالوا لك مثلاً؛ هناك قصرمنيف جداً ولكن فيه (جن )، فحتى لو باعوه لك مجاناً، فهل على استعداد لتسكن فيه؟!


نتذكر أن أيام القصف الصدامي على عاصمة الجمهورية الإسلامية وبسبب توالي الصواريخ كان الناس يخرجون من المدينة ويتركون وراء ظهورهم البيوت الكبيرة والقصور والشوارع و.. ويلجؤون إلى القرى والفيافي بحثاً عن الأمان!


إذن، فاللَّه سبحانه هيأ للإنسان الفاكهة وهيأ له الإدام المناسب، ووفر له الموقع الحصين والجميل والرابية الخضراء(وَطُورِ سِينِينَ ) ومنحه الأمن والتعاون.. فكل هذه هي آلاء ونعم إلهية يقسم اللَّه تعالى بها بعد أن وفرهاجميعاً لمصلحة الإنسان.. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يحرث الأرض ويستنبتها ويطعم نفسه بالتين والزيتون الذي يحافظ على أمنه وأمانه من أسباب الخوف والرعب كالزلازل والحروب؛ إن هذا الإنسان خلقه سبحانه وتعالى خلقة قويمة ومتكاملة لا يعتريها نقص ولا يشوبها عوز، لقد منح بالعقل الذي هو قوام التطور والانطلاق لتشييد صرح حضارته البشرية، فهو يمتاز عن كافة الكائنات الحية الأخرى بالقدرة على التفكير وتطوير الأساليب والوسائل العملية والتعاون مع الآخرين لبناء مدنيته، وهذا مالم ولن تقدر عليه الحيوانات.


بين قوام الإنسان وتسافله


ولكن نفس هذا الإنسان القويم والمتكامل، بإمكانه - بين عشية وضحاها - أن ينزل إلى مستوى حتى دون مستوى الوحوش الكاسرة، فتراه يختلف مع زميله فيتراشق وإياه بالكلمات والاتهامات، فيتحول إلى نزاع، ثم إلى معركةيستنجد بها كل طرف بقبيلته أو جماعته، فتشتعل الحرب الضارية بين الطرفين، فتحيل الحضارة والمدنية التي شيدها إلى أنقاض ورماد. هذا الإنسان هو الذي يخرب بيته بيده فيتسافل بعد أن خلقه اللَّه سبحانه وتعالى عظيم الشأن والمنزلةإلى مرتبة أدنى من مرتبة ومقام الحيوانات، لأن الحيوانات قد تأكل بعضها بعضاً بحثاً عن رزقها وطعامها الضروري والحياتي، إلا أنها لا تنهش كياناتها وتجمعاتها، غير أن هذا الإنسان يتسافل في حيوانيته لينهش لحم أخيه ويدمروجوده وحضارته .. (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) .. ما هو العمل الصالح؟ فالبعض يفسره بأداء الصلاة أو الصوم أو الحج وباقي الفروع العبادية، إلاّ أنني اعتقد أن هذا إيمان وليس عملاًصالحاً، إنما العمل الصالح هو الذي له منفعة ومصلحة للأمة وللمجتمع. فالكاسب والكادّ على عياله الذي يذهب إلى السوق ويحترف التجارة ويحصل على المال الحلال فإنه يعمل عملاً صالحاً، فكسب المال إذاً كان الهدف منه إشباع العيال وخدمة المجتمع، فهو عمل صالح ويؤجر المرء عليه لما يقدم خدمة للمجتمع وللآخرين.


وقد روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (من سعادة المرء المسلم الزوجة الصالحة، والمسكن الواسع،والمركب البهي، والولد الصالح )(4).


ومن كلام لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي -وهو من أصحابه- يعوده،فلما رأى سعة داره، قال: (ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلع منها الحقوق مطالعها، فإذاأنت قد بلغت بها الآخرة)(5).


وأتذكر في أخريات حياة المرحوم والدي رحمه الله كان يجتهد في بناء بيت لأحد الأقارب، وكان يهتم كثيراً بهذا الأمر وهوكبير السن قد تجاوز الثمانين، فقلت له: سيدنا! كيف تتعب نفسك وأنت في هذا العمر؟ فقال -رحمه اللَّه-: إنه ليس لي أجرفي الدنيا من ورائه، ولكن أريد أن يجلس الأقارب فيه ثم يترحّمون عليَّ بعد وفاتي.


إن الحياة التي ألفها المؤمنون سابقاً كانت مشفوعة بالتعاون والتواصل، فكان الناس ينظفون طرقهم بأيديهم - ولم تكن في السابق مديرية البلدية - وكان يضع كل منزل مشكاةً ومصباحاً فوق داره ليضي ء الدار وطريق المارة، وكانوايتسابقون في إماطة الأذى عن طريق الناس .. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا)(الاعراف/56)


إنك ترى في بعض بلداننا كراسي حافلات نقل الركاب ملوثة وأعقاب السجائر مرمية هنا وهناك، وكأن الناس قدنسوا الحديث الشريف الذي قاله الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (النظافة من الايمان )(6).


الحضارة الالهية ؛ قمة الرقي المعنوي والمادي


إن بلادنا الإسلامية ينبغي أن تكون أرقى بلدان العالم على كافة النواحي والأصعدة كافة، سواء في مجال الصناعةوالزراعة والتكنولوجيا؛ بل يجب أن نحوز على الرقم القياسي في هذا المجال، وذلك لأن المؤمن هو الذي يعمر دنياه ببواعث الآخرة، لأن الدنيا في رؤيته مزرعة الآخرة، ولهذا نحن عندما نراجع مصارف الزكاة في سبيل اللَّه في الكتب الفقهية - ككتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي - نرى أنواع المصارف المتعددة لهذه الفريضة، كبناء القناطر والجسوروالطرقات والمدارس والمساجد. فالمسجد أو الجسر لا يختلف ثواب بنائه عن الآخر.


فإذا كان الإنسان الكافر والمشرك يعمر ويبني دنياه بدوافع مادية بحتة، فالمؤمن يعمر الدنيا بدوافع أخروية إلهية أيضاً.


إن آباءنا وأجدادنا السابقين تمكنوا من أن يشيدوا مدنيتهم المادية بدوافع معنوية كبيرة، حتى ذهلت منها عقول العلماءالمعاصرين، فكانت كلها بدوافع إيمانية نبيلة، فتلحظ فيها كافة صور الإبداع والخلاقية، فتتعجب من دقة العمل وذوق التفنن، فترى الجسور التي بنيت على نهر اصفهان والمعروفة ب (33 جسراً) قد فاقت في إبداعها الجسورالحديثة رغم مرور مئات السنين على بنائها، بل قد ترى بعض الجسور الحديثة سرعان ما تتهدم لمجرد تعرضها لعارض بسيط.


من هنا، يجدر بنا في نهضتنا الحضارية أن لا نألوا جهداً في التزود الإيماني، مضافاً إلى الحصول على علوم الحياة.


وربنا سبحانه وتعالى يقول: (إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) يعني أن أجرهم لاينقطع، لأنه مبارك، وتستمر بركته إلى الأبد.. ( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )، إن عملك الصالح يجزيك اللَّه ازاءه خير الدنيا والآخرة.


أسس الحضارة في القرآن الكريم


(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُواوَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَيَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ )(الحشر/12-9)


في هذه الآيات الكريمة صورتان متقابلتان ومتناقضتان عن الإيمان والنفاق، ففي حين تشعّ صورة الإيمان في حدث تأريخي هام هو إيثار الأنصار للمهاجرين على أنفسهم بكلّ ما يملكون، وخروجهم من شحّ ذواتهم إلى رحاب القيم والمبادئ، تتجلى الصورة الثانية في حالة النفاق، والغلّ، والكذب، والدجل، التي كانت قائمة بين الكفّار من أهل الكتاب والمشركين أو المنافقين الذين وعدوهم بالنصرة ثم خذلوهم، وخانوهم.


إن في هاتين الواقعتين التاريخيتين؛ واقعة إيثار الأنصار وحادثة دجل المنافقين وكذبهم على أهل الكتاب من اليهود،ألفَ عبرة وعبرة لنا.


وفي الواقع؛ فإن الآيات القرآنية تحدثنا عن قضية معينة، ولكن من خلال أفق أوسع بحيث إننا لو استندنا إلى آية قرآنيةواحدة لاستطعنا من خلال منظارها أن نرى العالم كله. فعلى الرغم من أن الآية الواحدة تبين لنا حقيقة خاصة إلا أنهاتضمنت أيماءً وإشارة إلى سائر الحقائق الكونية، وهذا من معاجز القرآن الكريم.


والآيات التي أوردناها في مقدّمة هذا البحث يمكننا أن نستوحي منها القواعد التي لابد أن ننطلق منها لبناء صرح الحضارة الإسلامية الشامخ؛ بمعنى أننا لو استلهمنا من هذه الآيات كل معانيها السامية لاستطعنا أن نحوّلها إلى برامج عملية لقهر التخلّف الحضاري الذي نعاني منه.


ما هي الحضارة الحقيقية؟


والحضارة هي: حضور الإنسان عند الإنسان، وتعاونه، وتفاعله معه، ابتداءً من الحضور المادي وانتهاءً بالتفاعل المعنوي، ومروراً بالتعاون العملي، وهذه البنود هي التي تشكل قواعد الحضارة.


والقرآن الكريم لا يريد لنا أن نكون صوريين قشريين نتحدث فقط عن الإنجازات والمكاسب والبنى الفوقيةللحضارة، أو عن القشور الخارجية للتقدم، بل يريد منا أن نكون موضوعييّن، واقعيين، من ذوي الألباب؛ فإن تحدثناعن شي ء تحدثنا عن خلفيّاته، وعن أول نشأته، وعن طريقة نموّه وتكامله، ولا نكتفي بالحديث عندما انتهى إليه.


والقرآن عندما يحدثنا عن المجتمع الإسلامي الفاضل الذي بناه، وشيّد صرحه رسول الإسلام سيدنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة فإنه لا يحدثنا عن طبيعة البيوت، وطريقة تعبيد الطرق، ولا عن أسلوب بيعهم وشرائهم، بل يحدثنا عن أمر آخر؛ عن قواعد الحضارة، وتلك الروح الكبيرة التي استطاعت أن تستوعب شتات القبائل العربية المتناحرة التي كان شعارها الخوف، ودثارها السيف، والتي كانت تعيش في وضع متأزم، ويهدد الفناء حياتها، وكانت طعمة للغزاة.


ومع كل ذلك فقد حوّلهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام، وبالقرآن الكريم الذي بين أيدينا إلى ذلك المجتمع الفاضل الذي يضرب به المثل في التقدم المعنوي والمادي.


قواعد الحضارة


ترى ما هي أسس وقواعد الحضارة التي يحدثنا عنها الخالق عز وجل في الآيات السابقة؟ أنها كما يلي:


1/ حبّ الآخرين


الأساس الأول هو حبّ الآخرين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )، فعلى الرغم من أن الإنسان مفطور على الحسد، وحبّ الذات، وكره الآخرين، ولكن أولئك الأنصار كانوا يستقبلون المهاجرين بالحبّ قبل كل شي ء، وذلك عندما كانت وفود المهاجرين تتقاطر عليهم تاركة بلدها، وأموالها، وإمكاناتها الاجتماعية، وقادمة صفر اليدين، لايملكون من مال الدنيا شيئاً.


إن بإمكان الإنسان أن يصطنع الحبّ في قلبه، وبإمكانه أن يداهن، ويجامل الآخرين دون أن يكنّ الحبّ الحقيقي لهم. أمّاالحبّ النابع من أعماق القلب فهو شي ء آخر، إنه يدلّ على تحول في أعمق أعماق الإنسان ولذلك قال تعالى عنهم:(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا)؛ أي أنّ حبّ هؤلاء يسمو على كل علاقاتهم؛ فما قيمة الدار، وما قيمة الأثاث والمتاع، وما قيمة العلائق المادية الأخرى؟


2/ السموّ على الأمور المادية


إن الإيمان هو القيمة الأسمى، فنفوسهم كانت تسمو على الأمور المادية، وعندما كانوا يدفعون مقداراً من المال، أويتنازل الواحد منهم للمهاجرين عن الأرض والدار، أو عن زوجته الثانية من خلال تطليقها ليتزوّجها المهاجر، فإنه مع ذلك لا يستعظم ما قدّمه، ولا يرى قيمة له، فلا يلحق بما قدم مَنّاً ولا أدىً.


3/ الإيثار على النفس


الصفة الثالثة تتمثل في قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وهذا هو منتهى العطاءوالجود في سبيل اللَّه تعالى.


4/ إيقاء النفس من الشح


وتلك الصفات الثلاث تجمعها صفة واحدة أساسية يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). وكلمة (من ) جاءت بحيث تحتمل الجمع، وتحتمل الأفراد في نفس الوقت، ولكنّ الكلمةالثانية (يوق ) توحي بالمفرد، لأن الإنسان عندما يوقى شحّ نفسه، ويخرج من زنزانة ذاته، فحينئذ سوف لايكون إنساناً واحداً، بل سيكون في رحاب الجمع، ولا يلبث أن يصبح مجتمعاً، ويتحول إلى حضارة.


إن الإنسان الذي يوقى شحّ نفسه، ويتحرّر من ذاتيته وأنانيته فإنه سيلحق بتجمّع الرساليين عبر التاريخ؛ وينضمّ إلى صفوف شخصيّات عظيمة مثل آدم، وإدريس، ونوح، وإبراهيم الخليل، وموسى بن عمران، وعيسى بن مريم، ونبينامحمدصلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهارعليهم السلام وسيلتحق بركب الحضارة التاريخية، ولذلك قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )، وهذه هي الصفة الأساسية التي تتفرّع منها سائر الصفات.


إننا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا، وهل نحن في عداد هؤلاء الأشخاص الرساليين، فإن مقياسنا في ذلك هو الصفات الفرعية، فإن كان الواحد منا محباً للمهاجرين، ولايجد في صدره حاجة مما أوتي، وكان مؤثراً على نفسه ولو كان به خصاصة، فحينئذ سيكون ممّن قال عنهم عز وجل: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).


الوحدة منطلق تأسيس الحضارة


إننا قد لا نعيش أزمة حضارية، وقد لا نمر بالغليان الثوري الذي يهزّ المجتمع من الأعماق فنحتاج إلى الإيثار، ولكننانعيش -لا ريب- في حالة نحتاج فيها إلى الوحدة، ولذلك يقول اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا). فبداية تأسيس الحضارة، ومنطلق الوحدة اعتراف الإنسان بالذنب، واعترافه باحتمال أن يصدرالخطأ منه برحابة صدر، وإلا فإن أرضية الوحدة لا يمكن أن تتهيأ أبداً.


إن هذه الأرضية تتطلّب مني أن اعترف بخطأي، واستغفر اللَّه، قبل أن أشير إلى أخطاء الآخرين، واستغفر لهم. وإلى هذاالمعنى يشير قوله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ). والغل يعني أن تضمر في نفسك السوء للآخرين، فإن كان هذا السوء يعني أن تحبّ لنفسك ما لا تحب لهم، وتكره لها ما لا تكرهه لهم، فإن هذامعناه أنك تحب أن يرتكبوا خطأ، وينزلقوا، ويتوقفوا عن التحرك إلى الإمام. فالغل هو أي سوء تضمره في نفسك للآخرين، ولذلك يقول عز وجل محذّراً من هذه الصفة: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ).




/ 12