آية الله السيد محمد تقي المدرسي الإسـلام حيـاة أفضـل - إسلام، حیاة أفضل نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إسلام، حیاة أفضل - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

آية الله السيد محمد تقي المدرسي
الإسـلام
حيـاة أفضـل

المقدمـة

ما إن يلقي الإنسان نظرة عامة على تعاليم الإسلام، ويتعرف على مبادئه، ويعي بصائره.. تجده ينجذب إليه أشد الانجذاب. لماذا؟

لأن الإسلام يتعالى عن قيم الأرض إلى قيم السماء، ويترفع على حواجز المصلحة واللغة والعنصرية والقومية.. ويتشبّع بقوة الانطلاق والتقدم، والتطور والازدهار.. ولا يدنو منه التخلف والتردي.

أضف إلى ذلك، انه ليس نظرية بحتة، بل هو منهاج عمل، ودين حيـاة.

ويخطأ من يتصور أن الإسلام نظرية غير قابلة للتطبيق، وإلاّ لما خاطب رب العالمين الناس بصورة عامة والمؤمنين بصورة خاصة، بما يدعوهم إلى صدق الحديث وأداء الأمانة ورفض الظلم والتسابق بالخيرات.. وإذا كان الإسلام لا يتجاوز حدود النظرية، لما تمكن من كسب زهاء ربع سكان الكرة الأرضية، حتى يكونوا مسلمين.

فمن يراجع تاريخ الإسلام، يجده قد ولد قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، في منطقة صحراوية، تعاني من الفقر والحرمان، وتأن من التخلف والانحطاط، وتتألم من المرض والجهل.. وإذا بالإسلام اليوم يملأ ذكره اسماع العالم، وقد ترك أثره الايجابي على الأجيال تلو الأجيال، وليس على المسلمين فحسب، بل حتى على الأمم الأخرى، مما مكنه أن يبسط نفوذه على كثير من بقاع العالم.

وهنا قد يتسائل البعض: اذا كان الإسلام هو هذا، فلماذا نحن المسلمين اليوم نعيش كل ألوان التراجع والتردي، فتجدنا موزعون على دول، ومقسمون إلى قوميات، ومنتمون إلى طوائف.. والاضطهاد نازل على رؤوسنا، والتشريد والقتل كأنه من نصيبنا فقط، وكلنا نعيش التيه؟

الجواب؛ إننا بصراحة ما وصلنا إلى هذا الحال، إلاّ بتراجعنا عن واقع الإسلام وحقيقته، حتى أصبح الإسلام بتعاليمه وارشاداته في واد، ونحن في واد.

فإننا اليوم لا نحمل من الإسلام إلاّ اسمه؛ إذ تجد الإسلام يدعو إلى العلم والمسلمون متشبثون بالجهل، والإسلام يأمر بالعدل والمسلمون منبطحون للجور، والإسلام يشجع على الانطلاق والمسلمون منكفئون منـزوون..

صحيح نحن منتمون إلى الإسلام، ولكننا لم نأخذ بتعاليمه، ولم نلتزم بأحكامه، ولم نطبق منهاجه..

فلا يكفي أن يدعي أحدنا أنه مسلم، يؤدي الفرائض الواجبة من الصلوات والصيام والحج والزكاة.. فحسب، بل لابد أن نعيش الإسلام في واقعنا، ونحياه بحياتنا بكل تفاصيله.

وفي ذات الوقت يجدر بنا أن ننـزع عن أنفسنا كل العادات الجاهلية، والممارسات السيئة.. عند ذلك نجد الإسلام بلسماً لكل جراحاتنا، حيث يرشدنا إلى حلول ناجعة لكل معضلة نعيشها، ويفتح لنا أبواب الفرج عن كل أزمة تحيط بنا..

وتبقى هذه الفرصة تنتظر من يغتنمها، لكي يفوز بحياة طيبة في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة.

وهذا الكتاب انما هو إشارة على هذا الطريق، وهو عبارة عن مجموعة منتخبة من أحاديث سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي، ألقاها في مناسبات عديدة، وقد تم إعدادها في هذا الإطار، بغية الاستفادة منها، والله من وراء القصد.

القسم الثقافي

في مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي

8/جمادي الأول/ 1422 هـ

الإسلام في القرآن والسنة ([1])

ما هو الإسلام؟

1/ الإسلام هو التسليم لله وحده (ونفي الشركاء، واتباع نهج الذين أمر الله باتباعهم). قال الله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً» (النساء/12).

عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن بعض اصحابه، عن ابي عبد الله عليه السلام قال: قلت له ما الإسلام؟

فقال: دين الله اسمه الإسلام، وهو دين الله قبل ان تكونوا حيث كنتم، وبعد ان تكونوا، فمن اقر بدين الله فهو مسلم، ومن عمل بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن. ([2])

2/ وكان إبراهيم هو المثل الأول للاسلام (حيث رفض الشرك وتوجه إلى الله وحده)، حين قال الله تعالى عنه: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الانعام/79).

3/ وهذا التوجه إلى الله، والتسليم التام له جعل إبراهيم فوق العصبيات الدينية، وجعل أولى الناس به التابعين لنهجه (في توحيد الله واخلاص العبودية لله). قال الله تعالى: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَالله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران/67-68).

4/ وقد سمى إبراهيم عليه السلام هذه الأمة المرحومة بالمسلمين (لأن توحيدهم واخلاصهم لله قد تجلى في اتباعهم لكل الانبياء)، لأن صفات الموحدين تجلت فيهم من الجهاد في الله حق الجهاد، وأن دينهم يسر لا حرج فيه، وأنهم شهداء على الناس (كما الرسول شهيد عليهم في تطبيق الدين) وأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويعتصمون بالله (فيتّحدون بالاعتصام بكتاب الله ورسوله ثم خلفاء الرسول). قال الله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللـه هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الحج/78).

الأنبياء أول من أسلم

1/ وإنما اصطفى الله تعالى أنبياءه. وأتاهم علما وحكما، وأمر الناس بطاعتهم وجعل إتباعهم شرط حب الله، لأنهم أسلموا. (وحين يبين تطبيق الأنبياء للتوراة وحكومتهم بها يصفهم بالإسلام)، فقال الله تعالى: «إِنَّآ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ» (المائدة/44) .

2/ وحين سأل الله تعالى رسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً: ءأنت قلت للناس إتخذوني وأمي الهين من دون الله؟ تبرء عيسى من ذلك وأعلن دعوته إلى الله وحده، وقال الله تعالى: «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ» (المائدة/117).

3/ وقد هدى الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله إلى الحنفية الابراهيمية (وكان أول من أسلـم). قال الله تعالى: ] قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الانعام/161).

لماذا الإسلام

1/ لقد خلق الله الخلق بالحق، والحق هو ما فطر عليه البشر، والتسليم له تسليم للحق وفطرته، (وأما الاسماء التي تدعى من دون الله فهي ضلالة باطلة ) قال الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (الروم/30) .

إنه فطرة الناس، بالرغم من إنهم لا يعلمون، أن فيه قوة الفطرة، وجمال الفطرة، وحب الفطرة، واستراحة كل قلب إلى الفطرة. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فلا يؤمنون (اتباعاً لهوى أو حمية أو بسبب الجهل والغفلة). وهكذا العودة إلى الحق والفطرة هي التي تدعو الإنسان إلى التسليم للدين القيم وللحنفية الخالصة، وبالتالي للاسلام.

2/ ويضرب القرآن الكريم مثلا على تلك الحنفية البيضاء، بعدة الشهور عند الله، التي تتفق مع خلق الله، أليس الله قد خلق السماوات والأرض بالحق؟ قال الله تعالى: ]إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» (التوبة/36).

فالدين القيم هو دين الله الذي كان على خلق السماوات والأرض، فإذا كان حساب الخلق على أساس اثني عشر شهرا كيف يمكن تبديله؟ وهل يمكن تبديل خلق الله؟ وإنما يظلم نفسه من يخالف الخلق الأول.

3/ والذين يعبدون من دون الله شركاء (ويخالفون الدين القيم وهو الإسلام الخالص لله) إنهم يعبدون أسماء لاحقيقة فيها، لأن الحاكمية التامة لله وحده، (لا للأسماء التي يشركون بها). قال الله تعالى: « مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلآَّ أَسْمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (يوسف/40).

4/ والدين القيم (المتمثل في التسليم لله ورفض الشركاء) ضمان خلاص البشر من عذاب الاخرة، قال الله تعالى: «فَاَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» (الروم/43).

بصائر الآيات

1/ الإسلام هو التسليم لله وحده، وهو دين الله من قبل ومن بعـد،

وهو الحنفية البيضاء التي لا شرك فيها، وهو فوق العصبيات الدينية والعرقية وكل الحميات الجاهلية، وهو الشهادة على الناس (والتي ذروتها الجهاد في سبيل الله).

2/ والانبياء أسلموا لله (فنالوا درجة الشهادة على سائر الناس). والإسلام دين الفطرة البشرية التي لا تبديل لخلق الله فيها، وهو الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره.

فقه الآيات

1/ على الإنسان ان يجاهد نفسه حتى يحقق أسمى درجة من التسليم لله، وإتباع نهج النبي ابراهيم عليه السلام في الحنفية الطاهرة من الشرك الظاهر والخفي (كعبادة الطاغوت أو الرياء للناس).

2/ حركة المسلم، والمجتمع الإسلامي دائبة في تحقيق مرضاة الخالق، وضمن حدود دين الله، كما هي حركة الكائنات جميعا. فما من عمل ولا قول ولا موقف إلاّ ويستمد شرعيته من مدى استقامته على خط التوحيد. أما الاهداف الاخرى فلابد أن تقاس بمدى توافقها مع الوجهة الالهية، ولا شرعية لأي اسم من الأسماء.

3/ ولا شعار ولا شعيرة، إلا بمعيار تلك الوجهة، وعلى الإنسان أن يحطم دائما الاصنام التي تختلق عنده، والتي كسبت شرعيتها في البدء من توحيد الله تعالى، ثم اصبحت معبودة من دون الله، حيث اعتقد البشر شرعية خاصة بها كاليهودية والنصرانية، وكالقومية والعنصرية، وكالأسماء الأخرى التي يخترعها كل حزب، وكل جماعة ثم تصبح أصناماً تعبد من دون الله تعالى.

4/ على المسلمين - كأمة - ألاّ يجعلوا تجمعهم ذات شرعية مستقلة عن أهدافهم ( كما فعلت اليهود في التاريخ وحتى اليوم، فضلوا عن الهدى وأجرموا بحق غيرهم)، بل شرعية الامة الإسلامية مستمدة من رسالتها التوحيدية وشهادتها على الامم في تطبيق دين الله القويم، وفي اقامتها للصلاة وإيتاءها للزكاة، واعتصامها بالله سبحانه وحده. فإذا لم تتحمل هذه الرسالة، فهي غير مشروعة.

5/ وعلى القيادات التي تحكم باسم الدين ألا تجعل أنفسها ومصالحها فوق شرعية الدين، ولا تدعو الناس إلى ذواتها، بل تدعو إلى الله وحده، وتكون هي أول من تسلم لقيم الحق، وتخضع لمعايير الدين.

في رحاب الأحاديث

1/ قال أمير المؤمنين عليه السلام: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي؛ الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل. إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه. أيها الناس دينكم دينكم، تمسكوا به لا يزيلكم أحد عنه، لأن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، لأن السيئة فيه تغفر، والحسنة في غيره لا تقبل. ([3])

2/ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة، والزكاة، والولاية، لا تصح واحدة منهن إلاّ بصاحبتيها. ([4])

3/ عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقـر) عليـه

السلام قال: ألا أخبرك بأصل الإسلام وفرعه، وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال: أما أصله، فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: الصوم جنة من النار، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يذكر الله، ثم قرأ " تتجافى جنوبهم عن المضاجع ". ([5])

4/ قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله خلق الإسلام فجعل له عرصة، وجعل له نورا، وجعل له حصنا، وجعل له ناصرا؛ فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة، وأما حصنه فالمعروف، وأما انصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا. فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم فإنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل عليه السلام لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة. ثم هبط بي إلى أهل الأرض، فنسبني إلى أهل الأرض فاستودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي. فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أن الرجل من أمتي عبد الله عز وجل عمره أيام الدنيا، ثم لقي الله عز وجل مبغضاً لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلاّ عن نفاق. ([6])

5/ عن ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله مناسكه من حجة الوداع ركب راحلته وأنشأ يقول: لا يدخل الجنة إلاّ من كان مسلماً. فقام إليه أبو ذر الغفاري رحمه الله، فقال: يا رسول الله وما الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وآله: الإسلام عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وملاكه الورع، وكماله الدين، وثمرته العمل، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت. ([7])

الفصل الأول

الإسلام دين الحياة

الإسلام؛ دين الحياة والمستقبل، دون أدنى شك. فحينما تفشل الأنظمة والمبادئ وجميع الفلسفات البشرية في منح الإنسان مُثلاً عليا، وحينما تعجز عن رسم سياسات مثلى لحياة البشر فوق الأرض، وتفشل أيضاً في ضمان تحقق التطلعات الإنسانية.. في ذلك اليوم يأتي البشير النذير والمنقذ الأخير، سيدنا ومولانا الحجّة بن الحسن المهدي الموعود عجّل الله فرجه الشريف ليحمل راية جدّه رسول الله صلى عليه وآله وسلم، فينشر العدل في كلّ مكان، فيعرّف الناس المصداقية الكبرى للحياة وجوهرها.

رسالة الحياة

لم يُبعث الرسول الأكرم ليبشر الناس بالموت والعجز والفقر والظلم والدكتاتورية والطبقية والعنصرية وسائر الظلمات التي كانت شعاراً مرموقاً في زمن الجاهلية الأولى، بل كانت رسالة النبي المصطفى رسالة الحياة بكل معانيها الإيجابية والصالحة؛ الحياة فوق البسيطة، والحياة غداً في جنان الخلد لدى الرفيق الأعلى.

وقد أمر القرآن الكريم أتباعه بالقول: «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُـجْرِمُونَ» وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: "من لا معاش له لا معاد له". فالحسنات في الحياة الأولى وسيلة الوصول إلى المقام الأحسن في الحياة الآخرة، وقد دعا الله تعالى المؤمنين إلى التطلع إلى هذه الحقيقة، وإلى هذا الجوهر بالقول الكريم: «وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار»، وأن «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأَبٍ».

بين الجاهلية والإسلام

إنّ الفرق الرئيسي بين رسالات الله وبين المبادئ الوضعية المصاغة من قبل التصورات البشرية ووساوس الشيطان؛ إنّ رسالات الله صادرة عن خالق الكون، وإنها تمتاز بالشمولية. في حين أنّ القوانين والنظريات الوضعية تحاول وتسعى إلى تبرير الأهواء والشهوات، وتغليفها بأغلفة أول صفاتها الكيد والخداع..

فإنّك إذا طالعت الفلسفة اليونانية عموماً، ستجدها قائمة على أساس العنصرية ومصبوغة بصبغتها. فهي -دون ريب- متأثرة أوّلاً وآخراً بطبيعة الأرض والمجتمع الصادرة عنهما. ولعل المجتمعات والشعوب والحضارات الأخرى التي حاولت اقتباس الفلسفة اليونانية والتشبث بها، قد عانت ما عانت، ودفعت الثمن غالياً، إذ هي لم تأخذ بالحسبان نقاط التفاوت والافتراق بين طبيعتها وثقافتها وتقاليدها، وبين ما تمتاز الأرض والمجتمع والتاريخ في اليونان، هذا بغضّ النظر عن مدى صلاحية ومصداقية أو عقم هذه الفلسفة.

ولنأخذ مثالاً آخر من تأريخنا الحديث؛ وهو الثورة الفرنسية، إذ لم تكن سوى تجسيد مباشر لتطلعات الشعب نحو الحرية والديمقراطية. ففعل المنتصرون ما فعلوا، وسقطت الملكية الفرنسية فحسب. ولا يمكن بحال من الأحوال أن نسمي هذه الثورة بالثورة العالمية، فما هي إلاّ ثورة فرنسية اقتصرت على بقعة جغرافية محدودة في زمن محدود، انتهت إلى الإحساس بضرورة خضوع الشعوب الأخرى للسلطة الفرنسية الجديدة. فكانت الصراعات الاستعمارية وإبادة الشعوب وانتهاك الحرمات والمقدّسات. وقد أثبتت لنا التطورات، واثبت لنا التاريخ كيف عجزت المجتمعات المبهورة بهذه الثورة عن اقتباس مبادئ الثورة الفرنسية وتطبيقها لها، وكيف أنّها -تلكم المجتمعات- عجزت حتى عن التمسك بأصالتها، ففقدت الفرصتين، فحلّت فيها الفوضى واستلاب العقل.

ولكنّ مبادئ الرسالة وبصائر الحق التي جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، لا تتأثر بالأرض أو الحتميات التأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقومية والعنصرية، بل إنّها تهدف إلى خلق إنسان وواقع جديدين، مع احترام كل ما هو إيجابي لدى العقل الإنساني والفطرة البشرية المجردة، التي هي من نعم الله العظيمة.

ذلكم دين الله

فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يخاطب أحد المسلمين الأوائل ويقصد جذبه إلى الدين، كان يعني بالخطاب الإنسان أينما كان، ومتى كان. وإن رسالة الله التي أوحيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء الصغير المساحة، لم يكن من طبيعتها أن تكون محدودة بمساحة الغار، ولا بجبل النور، ولا بمكّة المكرمة،ولا بالجزيرة العربية، ولا بزمن دون زمن، بل كانت رسالة عالمية تاريخية مطلقة. وهذا -لعمري- من أوّل الأدلّة على كونها رسالة إلهية؛ ولو كانت من صنع مخلوق، لتأثّرت بصفاته، كالمحدودية بنطاق الزمن والمكان والعنصر، ولكنها كانت رسالة الله إلى الناس جميعاً.

ومن البديهي والضروري الاعتقاد بأنّ الآيات الأولى التي جاء بها الأمين جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تعبيراً متكاملاً لطبيعة الرسالة الإلهية بصفاتها وتكوينها المشار إليهما آنفاً.

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ»

فالبدء يجب أن يكون باسم الربّ؛ الربّ الذي خلق الجميع. الرب الذي هو مصدر الكرم، فينهل الجميع منه دون استثناء. الرب الذي علم الجميع؛ الذين لا يعلمون شيئاً لولا أن يعلّمهم الله. الله الذي يعلمهم العلم، فبه يؤمنون، وإذ ذاك سيمزج العلم بالايمان، فيكون الإنسان خليفة لربه بهما بجدارة.

فرسول الله بُعث في مكّة التي كانت مركزاً تجارياً للجزيرة العربية المعروفة بجاهليتها وحروب عشائرها وقبائلها الطاحنة والوحشية، حتى أنّ حرباً من حروبها دامت حوالي ثلاثمائة سنة! كما كانت فيها التقاليد الغبية للغاية؛ كوأد البنات بداعي العار، وقتل البنين بداعي الفقر.. كما كان العرب إذ ذاك يعتقدون بأنّ من تكلّم بغير اللغة العربية فهو أعجمي، تماماً كما يطلقون على الحيوان لفظة الأعجمي.

نهج الانبياء

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث في ظلّ هذه الأجواء الجاهلية

المقيتة، لتغيير هذه الأجواء، وليس للاستفادة منها. فأكد على عدم الفرق بين الناس، وأنّهم سواسية كأسنان المشط، وأنّ عدالة الرب وقوانينه هي الفيصل بين أولاد آدم.

وهكذا الأنبياء الآخرون، ولا سيما أولو العزم منهم، حيث كانت رسالاتهم تخاطب الإنسان لإنقاذه من كلّ دنس، والأخذ بيده نحو كلّ فضيلة..

لقد كانت مهمّتهم هداية البشرية إلى الاعتراف بالخالق وتوحيده، ومن ثم القيام ضد كلّ ما من شأنه الوقوف بوجه الإنسان، ومنعه عن التكامل وصياغة الحياة الصالحة والاستفادة منها.

ولذلك ما كان الأنبياء والرسل يولون الرأي العام الجاهلي أهمية تذكر، ولو كان من المقرر أن يتأثّروا بما يؤلّبه عليهم أصحاب القدرة والنفوذ، لما أصبحوا رسلاً أو أنبياء، بل لنقل إنّ ثبات أصحاب الرسالات السماوية كان أقوى من الضغوط مهما تصاعدت حدتها عليهم.

ولو كان نبي من الانبياء يأخذ برأي الأكثرية، لساوم وداهن وخنع لعروض الآخرين، ولرضي -مثلاً- أن يعبد الأصنام يوماً، وأن يعبد الكفار ربّه يوماً آخر. فحينما حاصر النبي الأكرم مدينة الطائف ثلاثة أشهر، حتى ضاق أهلها ذرعاً بالحصار، عرضوا عليه أن يعبدوا الله يوماً ويعبد هو أصنامهم يوماً، فيستسلموا له. ولكنّه رفض هذا العرض رفضاً مطلقاً، ممّا اضطرهم إلى التنازل والاعتراف بالله وبنبوته. فإذا كان الباطل يأخذ أشكالاً متعددة ومتفاوتة، فإن الحق يبقى حقاًّ وبصورة واحدة مطلقة.

هنا تكمن صعوبة حركة الأنبياء، حيث كانوا يقاومون أنواع التيارات الجاهلية الباطلة، التي تأخذ صور الحياة المتعددة، في حين إنها صور ميتة في الحقيقة.

فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سكان الجزيرة العربية بادئ بدء، وهم الذين اعتادوا القتل والفقر وشظف العيش، داعياً إيّاهم إلى الإيمان بالله ورسم سياسة الحياة ضمن أصول حيّة.. فهو دعاهم إلى السلم في وقت كانت الحروب تقتل حياتهم، ودعاهم إلى الأخوة والمساواة والعدالة.. بينما كان قانونهم الأوّل هو البقاء للأقوى كما قانون الغاب.

وبفضل الإسلام تحول مجتمع الجزيرة العربية إلى واقع رائع من القيم والاخلاق الفاضلة والسلوك الحسن.. قد لا يكاد يصدقه البعض. فمثلاً؛ بعيد انتهاء معركة من المعارك، أنبأ الرسول الأكرم بوجود بعض الجرحى من المسلمين في ساحة المعركة، فأمر بإيصال الماء إليهم، فحمل أحد المسلمين الماء إليهم، ولكنّه عندما أراد سقي الجريح الأول، قال له: إن هناك جريحاً أشد حاجة مني إلى الماء. ولما همّ الساقي باعطاء الماء إلى الجريح الثاني، قال له: إنّ مسلماً جريحاً على مبعدة مني أشدّ ما يكون إلى جرعة ماء. فنهض حامل الماء فلقي الإجابة نفسها من الجريح الثالث فالرابع، حتى وصل إلى تاسع الجرحى الذي قيل له إنّه يلفض أنفاسه الأخيرة، فوجده ميتاً. فرجع إلى الجريح الثامن الذي كان منذ قليل حيّاً فرآه قد استشهد.. وهكذا كان كلما يعود إلى من سبقه، يراه قد فاضت روحه، فاصبحوا -بذلك- مصداقاً لقول الله عزّ وجلّ: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ».

الإسلام سبيل الخلاص

فأيّ نجاح عظيم هذا الذي حققه الرسول المصطفى بفضل خصوصيات الرسالة الإلهية، في ظل أجواء كانت حتى الأمس القريب نموذجاً لأبشـع

أشكال القتل والفرقة والاضطهاد؟

إنّ قيم الرسالة التي حولت ذلك المجتمع، هي ذاتها قادرة على انقاذ البشرية اليوم. و-أنا- أؤكد على أن الإسلام هو دين المستقبل والحياة، لأن الجاهلية الحديثة ليست بأهون شراً من الجاهلية القديمة. إذ أنّ أكثر من مائتين وخمسين مليون طفل في العالم يستغلون أبشع استغلال في العالم، ويتعرضون لألوان العذاب والاضطهاد، حيث- لا تزال تجارة الجنس والرقيق قائمة. أما العنصرية والحصار الاقتصادي فهي على أوجها في عالم اليوم. أمّا سياسة منع العلم ونشر التقنيات الحديثة عن هذا البلد أو ذاك، فحدّث ولا حرج، حيث يتساقط الملايين من الضحايا جرّاء الجهل والتخلف. والدول الغنية تطلب الدول الفقيرة ما يزيد على مائتين وخمسين مليار دولار، وهذا المبلغ تشكل الأرباح النسبة الكبرى منه.

وهذه المآسي العالمية لا تزال في تصاعد متواصل، مادامت البشرية لا تسعى إلى التمسك بكتاب الله الخالد وسنّة النبي وأهل البيت عليه وعليهم الصلاة والسلام.

فالبشرية اليوم مدعوّة إلى العودة إلى الحياة، التي بشر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله الأكرم بها، حيث قال: «يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إلى اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً».

الإسلام هدى الحياة

«يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا اَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَاَنَّهَُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَاَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (الانفال/24-26)

لكي يصل الإنسان إلى ذروة المعارف الإلهية السامية، عليه أن يتدرّج عبر معرفة حقائق الدنيا؛ فهو لم يخلق فيها إلاّ ليعرف ربه سبحانه وتعالى.

ولكن كيف يعرف هذا المخلوق الضعيف والمحدود ربه؟ وكيف يصل إلى معرفة الأسماء الحسنى لرب السماوات والأرض؟..

إنما يعرف المخلوق ربّه بواسطة ما يتجلى به في الطبيعة. فحينما يرى الجمال والنظام الدقيق والتدبير الفائق.. يهتدي إلى ذلك الجمال الأبديّ الخالد لرب العزة تبارك وتعالى. فهو حينما يرى القوة والهيبة في الجبال الشامخات، والامتداد في المحيطات الواسعات، والعظمة في عالم الفضاء والكواكب، فسيصل إلى شيء من أسماء الله الحسنى، وبالذات إلى اسم القدرة والعظمة.

فالإنسان يستطيع معرفة ربه وعظمته بواسطة النظر إلى آياته؛ ففي البحار عجائبه، وفي الجبال خزائنه.. وبهذه المعالم الفذّة يصل المرء إلى عالم الأنوار القدسية والأسماء الحسنى.

إذن؛ فوجودنا في هذه الدنيا ذو هدفٍ عظيم، ولا يمكن بلوغ الهدف إلاّ بالتدرّج، عبر اجتياز الماديات التي نعايشها حتى الوصول إلى المعنويات العالية.

فمثلاً؛ أنت قد تسأل: لماذا العطش والجوع؟ ولماذا الألم والمرض؟ ولماذا الفقر والفاقة؟ ولماذا الوحدة والغربة؟ ولماذا المآسي والمصائب؟

والجواب على كل ذلك؛ هو لأن الإنسان من دون هذه الحالات الطارئة التي تتناوب عليه يصاب بمرض الطغيان وجهل ربّه. فإذا عطش، قال: ربِّ اسقني. وإذا جاع، قال: ربِّ أشبعني. وإذا افتقر، قال: ربّ اغنني. وإذا توالت عليه المصائب، جأر إلى الله جلّ وعلا كي يخفف عنه. وعلى ذلك؛ فإن الحكمة من وراء إصابة الإنسان بتلك الحالات الطارئة والمتطورة هي الارتفاع بهذا المخلوق إلى مستوى معرفة خالقه جلّ شأنه.

ولقد قال الصادق عليه السلام: إن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فخيّره، وأشار عليه بالتواضع، وكان له ناصحاً، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد تواضعاً لله تبارك وتعالى، ثم أتاه -جبرئيل- عند الموت بمفاتيح خزائن الدنيا فقال: هذه مفاتيح خزائن الدنيا بعث بها إليك ربّك ليكون لك ما أقلّت الأرض، من غير أن ينقصك شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: في الرفيق الأعلى. ([8])

وعن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أتاني ملك فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهباً قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا رب أشبع يوماً فأحمدك وأجوع يوماً فأسألك. ([9])

إن الحكمة من إرادة نبي الإسلام ما أراد، لأنه يعرف بأن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. أما الإنسان الذي يشبع ويجوع ويفتقر ويغتني ويمرض ويبلى، فهو في حالة دائمة من التواصل مع ربّ العزة سبحانه وتعالى. فإذا شبع حمد الله، وإذا جاع طلب الرزق من الله سبحانه أيضاً.

إن ربّنا تبارك وتعالى هو الذي أوجد هذه الطبيعة في نفوسنا نحن بني البشر، وهو الذي يبتلينا لنستحق بموقفنا من هذا الابتلاء العقاب أو الثواب، حتى لقد جاء في المأثور من الدعاء بهذا الصدد: "يا مَن دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته وجلَّ عن ملائمة كيفياته"([10])؛ أي إنه الغني دائماً، بل هو مصدر الغنى، ونحن البشر فقراء في كل شيء، فحصل التفاوت بذلك بين الخالق والمخلوق.

ويقـول أمير المؤمنين علي بن أبيطالب عليه السلام في خطبة بليغـة جمعت تعاليم الرسل والأنبياء: إن الله خلق الجنة دار ضيافة وكرامة، وخلق النار دار عذاب، وجعل الدنيا بين الجنة والنار. يعني إن الدنيا شيء من هذه وشيء من تلك؛ صحة وسقم، وغناً وفقر، وشبع وجوع.

إن الهدف من الدين وعمل الأنبياء، هو أن يستمر الإنسان بالقـول: «رَبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ

لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّاَتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ». (آل عمران/193)

فالنبي صلى الله عليه وآله جاء إلى مكة المكرمة ورأى ما عليه جموع الجاهلية من فقر ومرض وجوع وتخلف، فأراد أن ينقذهم من هذا الجحيم الذي هو صورة مصغرة لواقع النار في الآخرة، ويوفّر لهم حياةً طيبة فيها العز والصحة والشبع والعلم عبر إقامة دولته الإسلامية النموذجية، التي هي في واقع الأمر مثال لطبيعة الجنة التي وعد الله المتّقين.

إن الله تبارك وتعالى يدعو الناس إلى الايمان ويجابههم بالدليل المباشـر والطبيعي على ذلك، فيقول عزّ من قائل: « لإِيلاَفِ قُرَيشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِنْ خَوْفٍ». (قريش)

والحديث الشريف يؤكد بأن "من لا معاش له لا معاد له" بمعنى أن من لا حظّ له في الحياة من حركة وحيوية صادقة، لايحقّ له أن يحلم بالنجاح في معاد الآخرة.

إن الآيات الآنفة الذكر من سورة الأنفال المباركة جاء فيها:

« يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» أي إن دعوة الرسالة الإلهية ليست دعوة ميتةً، وإنما هي دعوة حياة؛ الحياة بشطريها؛ الدنيوي والأخروي. وبكلمة؛ إن الله تبارك إسمه يريد من الناس أن يطهروا الأرض من دنس الذنوب والشياطين ليقيموا جنة في الأرض، تشوقهم وتدفعهم إلى جنة الخلد لديه سبحانه.

إن الإنسان من دون الإسلام يعتبر موجوداً ميتاً؛ ميتاً بقلبه وضميره وعلاقاته، إذ الإسلام هو الذي يمنح الحياة.

ولكن السؤال الكبير هو: كيف يمنح الإسلام الحياة للانسان؟

وقبل الاجابة على ذلك لابدّ من الاشارة إلى إن أصحاب الرسالة سواء في التأريخ القديم أو الحديث كانوا يدعون الناس - كل الناس - بصورة شاملة إلى اعتناق العناصر التي تكوّن الحياة الحقيقية. فهم يدعوهم إلى العزة والقوة والتقدم والنهضة والحرية والاتحاد، وهذه العناصر - كما لا يخفى - مجموعة ما يطلبه الناس ويرغبون فيه بفطرتهم ووجدانهم وواقعهم.

ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك هو نموذج المصلح الإسلامي الكبير جمال الدين الأفغاني، هذا الرجل الذي كان ينطق باسم الإسلام المتجرد عن القوميات والجغرافيا وبقية الأمور الجزئية. فهو لم يتحدد بلقب يدل على قوميته، ولم يؤطر نشاطه بدولة معينة، حيث أظهر دعوته في أفغانستان وإيران ومصر والهند والسودان وفرنسا وتركيا، حتى أنه من الملاحظ أن مختلف الحركات الإسلامية في هذه الدول وغيرها لها علاقة صميمية بهذا المصلح الإسلامي. وهو أيضاً لم يقل للناس صلّوا فحسب، بل دعاهم بالاضافة إلى إقامة الصلاة إلى بناء حياتهم وقدراتهم وحضارتهم عبر التقدم العلمي والعزة الذاتية والوحدة الدينية والاجتماعية.

إن العديد من الحركات الاجتماعية حينما تحولت إلى حركة دينية ذات رسالة حياتية - رسالة في الحياة وما بعد الحياة - هذه الحركات تحولت إلى حركات تاريخية خالدة، وذلك لان المجتمع أو المجتمعات أدركت أن حياتها ومماتها متعلقان بهذه الحركة وهذا الوجود، لأن الإنسان يبحث عن المنقذ..

ولذلك؛ نرى أن الآية القرآنية من سورة الأنفال تؤكد على المؤمنين وتذكرهم في هذا الإطار، بنعمة الانقاذ التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليهم: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَاَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» إن القرآن يذكّرهم بنعمة رأوها بأم أعينهم، حيث كانوا قلّة قليلة بين الناس؛ بين الروم والفرس، كانوا بمثابة ثلة من اللاجئين إلى الصحراء القاحلة، فأنجاهم الله بفضله ورزقهم فتح البلدان؛ الواحد تلو الآخر، وأعطاهم القوة السياسية والعسكرية والحضارية.

الحياة والاستقرار

إن من أول مفاهيم ومصاديق الحياة؛ حياة القلوب، والقلوب لا تحيى مالم تكن متزنة ومستقرة. أما القلوب الخائفة والمترددة والمرتابة والمنهزمة، فهي ليست قلوباً حية أبداً. وتصور أن الإنسان يرى الكوابيس طيلة نومه؛ إنه لن يهنأ بهذا النوم، بل هو يحسد الميت على موتته..

الديـن الإسلامي أول ما يعطي الإنسان يعطيه الطمأنينة والسكينـة والشجاعة، بمعنى أنه يجعل قلب المؤمن مثل الفولاذ وأقوى من الفـولاذ "كزبر الحديد" و لذلك، فالمسلم لا يهاب الموت.

إن أصحاب الحسين عليه السلام هؤلاء الثلّة المؤمنة كانوا بالرغم من إخبار الامام الحسين عليه السلام لهم بأنهم سيقتلون جميعاً من قبل الجيش الأموي المقابل لهم، إلاّ أنهم كانوا يتحدون عدوهم على الرغم من ضخامة جيشه - بالقرآن والدعاء ليلاً، وبالشجاعة والسيف نهاراً... وكان الواحد منهم يقول بكل سرور: إن هي إلاّ سويعات نقاتل هؤلاء ويقاتلوننـا حتى نلحق بالرفيق الأعلى. فقلوبهم كانت مليئة بالسعادة والأمل والراحة والعطاء، لأنها كانت قلوباً مطمئنة.

ثم إن مثل هذه القلوب تستطيع مقاومة التحديات بصورة دائمة ومستمرة.

ومن هنا فإن الرعب والخوف كان يأخذ المشركين حينما يقابلـون المؤمنين حال القتال، بل وقبل القتال، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: " نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر". ([11])

إن الإسلام يعلّم الناس بأنّ الحياة ليست كلها تقدم وراحة ورفاه، بل فيها الكثير من المشاكل والكثير من المآسي، ويعلمهم أيضاً بأن من كان ذا قلب ضعيف فهو في تراجع وانهزام وانهيار. أما من كان ذا قلب مطمئن لحكمة الله تبارك وتعالى، ومطمئن إلى ضرورة تأدية الواجبات المتعلقة به، فهو بإمكانه أن يتجاوز بمجرد نطقه الواعي والعارف بعقيـدة «إنا لله وإنا إليه راجعون»..

إن الفرق بين النموذجين هو فرق الوجود والعدم، وباستطاعة المرء أن يختار ما يميته إلى الأبد، أو ما يحييه إلى الأبد.

الدين.. وحدة متكاملة

في نظرة استقرائية إلى تعاليم الدين نكتشف بأن هذه التعاليم هي عبارة عن وحدة متكاملة، الغرض منها تكميل شخصية الإنسان؛ بمعنى إن الله سبحانه وتعالى يعرف تمام المعرفة بأن الإنسان لو لم يتمسك مادياً وروحياً بكافة التعاليم فإنه سيصاب نفسياً وبدنياً بشتى أنواع الأمراض، وبالتالي يصبح غير مكتمل الحياة. ولذلك فإننا نرى في التعاليم في القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة وسنّة أهل البيت عليهم السلام وحدة متكاملة تعالج كل هموم الإنسان ونقائصه وعيوبه، حتى ليقول الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام فيه -في القرآن -: "حتى الأرش في الخدش"، ([12]) والقرآن الكريم قال قبل ذلـك: «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِـبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة/222). والنصوص الدينية الخاصة بتنظيف البدن والمظهر أكثر من أن تحصى، لأنها علامة على الصحة والسلامة. ثم إن الإسلام كثيراً ما كان يحرّض المؤمنين على أن يكونوا أقوياء حتى قال القرآن: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ» وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف". فالجسم السقيم لا يمكن أن يهنأ بالبيت وبالأكل وبالزوجة وبالأولاد و..

والتأريخ يؤكد بكل صراحة على إنه بمجرد انتشار راية "لا إله إلا الله" في الجزيرة العربية تفشت علائم الصحة والسلامة على كافة ربوعها، وهؤلاء الناس الذين كانوا قليلاً ما يغتسلون أضحى لديهم أكثر من خمسين غسلاً، بين غسل واجب وغسل مستحب، بالإضافة إلى السلامة في المأكل والمشرب، بعد أن كان ساكنو هذه المناطق لا يهتمون بما يأكلون أو يشربون من دماء ومياه غير صحية. والمدينة المنورة التي كانت معروفة بين المدن المحيطة بها بكثرة تفشي الملاريا، أصبحت واحة خضراء أبرز سماتها النظافة ومكافحة الأمراض.

وقد بدأ الناس يأكلون ويشربون بهناء بما كرّسوه من جهود وتخطيط في الحقل الزراعي، فتضاعفت المساحات الخضراء عشرات المرات. ولو طبقت نفس الطريقة فيما يخص الأمن الغذائي التي طبقها المسلمون الاوائل برعاية الرسول الأكرم لما أصبح اليوم أكثر من مليارد انسان يعيشون تحت مستوى الفقر والجوع.

الإنسان ضمن المجتمع الإسلامي يستطيع العيش بكل رفاهية تحت مظلة الأمن القضائي العادل من دون أن يقلق على مصيره. فالمؤمن على المؤمن حرام، دمه وعرضه وماله.

في حين إن الأمن والحريات في المجتمع الغربي اليوم لا يعدو أن يكون أكثر من شعارات ومظاهر. الأمر الذي يدعونا أكثر من أي وقت مضى إلى التبشير بتعاليم الإسلام، وذلك عبر تجسيدنا لتعاليم الإسلام عملياً وشرحها تفصيلياً، دون الاكتفاء بالمواعظ الجامدة. فلا بد أن ندعو الناس إلى الحضارة الإسلامية بكل أبعادها.

والسبيل إلى ذلك هو تبشير الناس في مختلف بقاع الأرض إلى الحياة الحقيقية وتخليصهم من العادات السيئة، من قبيل ترك معاقرة الخمرة والمخدرات وتكريس التكافل الاجتماعي والاحساس بالمسؤولية.

إن الأمر الملفت للنظر هو أن المجتمعات الغربية هي نفسها بدأت تحس بتعاسة وضعها وفراغ فكرها، وذلك بعد أن جربت مختلف الأنظمة السياسية والفكرية، الأمر الذي يعتبر فرصة ذهبية لنشر تعاليم الدين الالهي الذي هو بحق النموذج المنقذ للبشرية جمعاء من المتاهة والموت...

إننـا لا بـد أن ندعو الشعوب الغربية إلى المحبة والعاطفة والحيـاة الطبيعيـة والحقيقية، ففي تعاليم ديننا الحنيف الكثير جداً من النصوص الخاصة بمثل هذه المواضيع، في حين أنهم - الغربيين - نسوا حتى تعاليم دينهم المحرف.

يجب أن نطبق تعاليم الدين الإسلامي على أنفسنا ثم نقول للآخرين بأننا نبشركم بحضارة العواطف النبيلة، وحضارة الايمان، وحضارة الجسد السليم والروح السليمة والعقل السليم والقوة والصلابة..

فالعاطفة النبيلة تحذف من الإنسان همومه، وتزيح عنه مشاكله اليومية نهائياً. أما معاقرة الخمرة -مثلا- فهي بالاضافة إلى كونها أمراً محرّماً شرعيّاً، فانها إضرار بالصحة، وإسراف في المال، وتكريس لعوامل القلق والاضطراب في القلب والروح، وهي ليست إلاّ مسكّناً مؤقّتاً - إن صح قول ذلك - يعود بالفاجعة على الإنسان.

ولعل المسلمين المتواجدين في الدول الغربية مدعوون أكثر من غيرهم إلى تكوين الحضارة الإسلامية الأمثل في محالّ إقامتهم، وذلك بخلق وصياغة أجواء المحبة والعلاقات الحسنة والبنّاءة مع الغربيين. فالإسلام يأمرنا قبل غيرنا بالطموح والتطور باتجاه التأثير في الآخرين، فنحن مأمورون بأن نخلق جنة الأرض ونبشر بجنة السماء.. وذلك ضمن المحافظة على مصداقيات ومضامين الدعوة الالهية، فلا بد من إصلاح الدنيا للوصول إلى الآخرة.

الإسلام رسالة الحياة

من ميزات رسالة الإسلام الإلهية، أنّها رسالة الحياة؛ أي أنّها تحيي الإنسان في الدنيا، وتؤهّله لحياة الآخرة، كما يؤكّد على ذلك الله عز وجل في قوله: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الانفال/24)

وفي تعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام حشد هائل من التعاليم الحياتية التي تقوم عليها أسس حياة الإنسان كفرد، وكمجتمع، وكأمّة، وحضارة.

النظرة الاحادية إلى القرآن

وممّا يؤسف له انّ النظرة الاحاديّة إلى القرآن، وإلى الرسالة الإسلامية عموماً جعلتنا نحدّد القرآن والإسلام ضمن أطر ضيّقة، ولا نلتفت إلى تلك الآفاق الواسعة التي ينظر إليها الإسلام، ويوضح سبلها القرآن الكريم. فنحن نتصوّر -خطأً- انّ الآيات القرآنيّة هي إمّا من المواعظ التقليدية الجامدة التي نعمل ببعضها ونترك أكثرها، وإما أنها تمثّل أحكاماً شرعيّة، ولاننتبه إلى ذلك الأفق الواسع؛ لأنّ نظرتنا ضيّقة، وافكارنا محدودة، ولانّنا لا نكلّف أنفسنا عناء التفسير الحقيقي للقرآن.

ولذلك فإنّ القرآن الذي نقرؤه الآن هو غير ذلك القرآن الذي كان يقرؤه الجيل الأول من المسلمين، فذاك الجيل كان يقرأ القرآن وتدفعه هذه القراءة الواعية إلى ان يفتح العالم، أما نحن فإننا نقرأ القرآن قراءة سطحية غير واعية فتكون النتيجة أن يغزونا العالم، ويدخل في أعماقنا، ويستغلّنا دون أن نكون قادرين على أن نفعل شيئاً.

ترى ما هو سبب هذه الظاهرة؟

انّ القرآن هو نفسه القرآن، وذلك الجيل لم يكن يختلف عنّا من ناحية كونهم بشراً. فلو كان اولئك الرجال قد هبطوا من السماء، ولو كان القرآن مختلفاً من ناحية مضامينه عمّا هو عليه الآن، لزال التعجّب، ولاستطعنا أن نجيب على ذلك التساؤل. ولكنّ القرآن قد بقي على ما كان عليه، وطبيعة الإنسان وسنن الله فيه لم تتغيّر، فلماذا -إذن- كان القرآن ملهماً لذلك الجيل العروج الروحي والتقدم الحضاري، في حين أنّنا لا نستطيع أن نستلهم من القرآن ذلك العروج والتقدم!

إنّ الفرق يكمن في نظرتنا إلى القرآن الكريم، والانطباع الذي نحمله عن آياته الكريمة التي تحتوي على التعاليم الاساسية التي تبعث روح الحضارة في الإنسان المسلم، وتقدس العمل إما بصورة عامّة -وهي قليلة- كقوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة/105)، وقوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» (لقمان/8). علماً انّ مثل هذه العبارة قد تكرّرت في القرآن حوالي مائة وعشرين مرّة.

أمّا القسم الأكبر من توجيهات القرآن الكريم فيتركّز على أعمال معيّنة، مثل إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الحج، والجهاد، والاحسان وما إلى ذلك مـن أعمال خاصة تجعل العمل شريفاً، عظيماً، ومقدساً فـي الإسـلام.

النظرة الحقيقية إلى القرآن

والإنسان المسلم الذي ينظر إلى القرآن نظرة حقيقية دون حجاب، ولا يجعل بينه وبين هذا الكتاب العظيم حجاباً من نفسه ونظراته، ولا يريد أن يفرض على القرآن أفكاره وآراءه ونظرياته، فإنّه يتلّقى تلك التوجيهات، وتكتمل في نفسه رؤية جديدة إلى العمل فيقدّسه ويكرّمه، ولا يرى في نفسه غضاضة وحرجاً منه. فتراه يبادر إلى أداء العمل الصالح سواء كان صغيراً أم كبيراً.

أغلال الإنسان

إنّ الإنسان بنظرته النقيّة، وبالطاقات التي أودعها الله تعالى فيه مؤهّل لانجاز الاعمال العظيمة، ولكنّ الأغلال التي قيّد بها نفسه هي التي تجعل العمل الصالح ثقيلاً عليه. ولو ترك هذا الإنسان نفسه على سجيّتها، ولم يلوّث فطرته بالأوهام والظنون والتمنيات والنفاق، لكان أنشط عملاً، وأشدّ رغبة في العطاء والتحرّك.

فمن الممكن أن ترى إنساناً يجلس في حلقات الذكر من الصباح حتى المساء، ويردّد كلمات لا يفهمها، ويجمّد كلّ طاقاته، وطاقات المجتمع.. في الحقيقة إن هذا الإنسان ذو فطرة ممسوخة، والقيود هي التي منعته من التحرّك كالخوف من الطبيعة، والتهيّب من المستقبل والمجهول، فترى الأماني الباطلة معشعشة في ذهنه، وترى تفكيره منصبّاً على أن يصل إلى أهدافه عبر أقرب الطرق وهذه كلّها قيود تحول دون حركة الإنسان.

ولو أنّ هذا الإنسان تحرّر من هذه القيود لغمر النشاط والتحرّك كيانه، ولرأيت أنّ من الصعب عليه أن يجلس في مكان واحد، ولرأيته يصاب بالملل والضجر عندما يكلّف بالبقاء في مكان واحد. ولذلك فإنّ السجن إنما جعل عقوبة وتأديباً للانسان، لأن طبيعته ترفض السكون والجمود. ولكنّ الذين يسجنون أنفسهم في زنزانات القيود والأغلال النفسية، فانّما يرحّبون بهذا السجن الاختياري بسبب الأغلال المحيطة بأنفسهم، وبسبب فطرتهم الممسوخة.

وبناء على ذلك فإذا ما أحسسنا في أنفسنا بحب الراحة، والميل إلى الكسل، فلابد أن نتهم أنفسنا هذه، ونعلم أن فطرتنا قد تلوّثت.

معرفة قيمة العمل

ولو أنّ المسلمين عرفوا قيمة العمل كما كان أسلافهم يعرفونها يوم إنبعث الجيل الأول منهم، لاستطاعوا أن يحرّروا العالم، وينشروا عليه ألوية العدل والرفاه، ولحققوا أهدافهم منذ زمن بعيد.


/ 5