<p/> الأخــلاق <p/> عنوان الإيمان ومنطلق التقدم - أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم - نسخه متنی

السید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید









آية الله السيد محمد تقي المدرسي



الأخــلاق



عنوان الإيمان ومنطلق التقدم

المقدمـة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الهداة الميامين.



وبعد:



كما تنظر لوجهك في المرآة كل يوم، لترى حسن خلق الله، وجمال صنعه.. تأمل ولو لدقائق معدودة معالم شخصيتك، لتعرف هل أنها مصاغة وفق مكارم الأخلاق ومحاسنها، أم وفق مذام الأخلاق ومساوئها.



هذه الخطوة تبين لك أين أنت على خارطة الأخلاق، كما تعرفك على ما أنت عليه من مستوى ومنـزلة..



غير إن الكثير من الناس يتحاشون ذلك، لأنهم لا يريدون أن يواجهوا حقيقتهم، فيصطدموا بواقعهم الذي يحمل في طياته الكثير من الشوائب والأدران.. لذا تجدهم يتغاضون عما هم عليه، مبررين ذلك بما لا يرضونه هم لأنفسهم.



ولكن هذا لا يدعونا أن نستسلم لهذه الحالة، وأن ننخرط معهم في هذا النفق المظلم؛ بل يجدر بكل واحد منا أن يوفر في نفسه الشجاعة الكافية ليكتشف مساوئه، ويقف على عيوبه.. حتى يرى - بتوفيق الله تعالى - موقع قدميه على خارطة الأخلاق، من أجل أن يبدأ مسيرة التغيير والاصلاح.



ومما لا شك فيه، أنه لا يقوم على هذا التغيير إلاّ من عرف ما للأخلاق الحسنة من معطيات وفيرة، وخيرات عظام. لذا نلفت الانتباه الى شيء من ذلك..



قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من سعادة المرء حسن الخلق، ومن شقاوته سوء الخلق". ([1])



وقال صلى الله عليه وآله: "إن الخلق الحسن يذيب الذنوب، كما تذيب الشمس الجمد؛ وإن الخلق السيء يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل". ([2])



وقال صلى الله عليه وآله: "خياركم أحسنكم أخلاقاً، الذين يألفون ويؤلفون". ([3])



وقال صلى الله عليه وآله: "أفضلكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً". ([4])



وقال صلى الله عليه وآله: "حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم. فقيل لـه: ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال: حسن الخلق". ([5])



وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن". ([6])



وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "حسن الخلق خير قرين، وعنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه". ([7])



وقال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: "إن أحسن الحسن، الخلق الحسن". ([8])



وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أقربكم مني مجلساً في الجنة، أحسنكم أخلاقاً في الدنيا، الموطئون أكنافهم، الذين يألفون ويؤلفون". ([9])



بعد هذا البيان الموجز بخصوص الأخلاق، هل يمكن للانسان أن يتساهل في أخلاقه السيئة، أم يزداد عزماً وإصراراً على تغييرها بالذي هو أحسن؟



وهنا؛ لابد من الإشارة الى أن أهم شاخص لبيان شخصية الإنسان، هو الأخلاق. وبما أن الانسان بطبعه مركب من العقل والشهوة؛ من الروح والبدن.. فالعقل يدعوه الى العلم والحكمة والرشاد، بينما الشهوة تدعوه الى اللعب واللهو والفساد؛ والروح تسمو بالانسان الى معارج السماء حيث الطهر والنقاء، بينما البدن ينجذب نحو الأرض حيث طغيان المادة وهيمنة الأنانيات. وبين هذا وذاك يتماوج الانسان دون أن يستقر، حتى يثقل ميزان أحدهما على الآخر. فمن رجحت كفة الأخلاق الحسنة عنده، كان في أعماله موفقاً، وبين الناس محبوباً، وعند الله مرضياً. بينما الذي رجحت كفة الأخلاق السيئة عنده، كان في أعماله فاشلاً، وبين الناس مكروهاً، وعند الله مغضوباً عليه.



وفي كل ذلك، يبقى الأمر بيدك. وليعلم الجميع أنه لا عيب أن يبحث الانسان عن عيوبه حتى يصلحها؛ بل العيب كل العيب أن يبقى عليها.



ومن هنا؛ يجدر بنا جميعاً- أن لا نتوانى عن البحث عن أية خصلة معابة فينا لنصلحها، وخير من نجعله نموذجاً نحتذي به هو النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، الذي قال عنه الله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم/4)، وأيضاً آل بيت رسول الله عليه وعليهم السلام، الذين قال الله تعالى عنهم: «اِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الأحزاب/33).



وخير هدية نقدمها لقرائنا الأعزاء في هذا المجال، كتابنا هذا الذي هو عبارة عن جملة أحاديث شيقة ألقاها سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي في مناسبات عديدة، ساعياً الى أن يأخذ بيد الفرد والأمة نحو القمم السامقة من الأخلاق الحسنة. سائلين الله عز وجل أن يجعل فيه الفائدة المرجوة، وأن يتقبله منا بأحسن قبوله، إنه ولي التوفيق.



القسم الثقافي



في مكتب آية الله السيد محمد تقي المدرسي



10/ جُمادى الاول/ 1423هـ



روائع الكـلام



ها نحن نقدم على الدخول في بحث مسائل الأخلاق وقضاياه، عمدنا الى ذكر شيء من روائع الكلم الصادرة عن النبي محمد وأهل بيته الأطهار عليه وعليهم الصلاة والسلام، لكي ننور بها أبصارنا، ونضيء بها قلوبنا، وذلك لأنها منار الهدى وغور البصائر. وما نقدمه لكم في هذا الخصوص، هو غيض من فيض. ([10])



1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطَّؤن أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون وتوطَّأ رحالهم.



2- قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً.



3- عن بحرٍ السّقّا قال: قال لي أبو عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام: يا بَحْرُ حُسن الخلق يُسرٌ.



4- قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: البرُّ وحسنُ الخُلق يعمران الدّيار ويزيدان في الأعمار.



5- قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنَّ الخُلقَ الحسن يميثُ الخطيئة كما تميثُ الشمسُ الجليد.



6- عن عنبسة العابد قال: قال لي أبو عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام: ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبُّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخُلقه.



7- قال رسول الله صلى الله عليه وآله إنَّ صاحب الخُلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم.



8- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أكثر ما تلجُ به اُمّتي الجنّة تقوى الله وحُسن الخلق.



9- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما يُوضع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضل من حُسن الخلق.



10- قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنَّ الله تبارك وتعالى ليُعطي العبدَ من الثواب على حُسن الخلق كما يُعطي المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويَروح.



11- عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قال: إنَّ الخُلق منيحة يمنحها الله عز وجل خلقه؛ فمنه سجيّة ومنه نيّة؛ فقلت: فأيّتهما أفضل؟ فقال: صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبّراً؛ فهو أفضلهما.



12- قيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما حَدُّ حُسن الخلق؟ قال: تُليّنُ جناحك، وتُطيِّبُ كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسنٍ.



الفصل الأول:



الأخـلاق أولاً..



لماذا الأخلاق



«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ اَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (الفرقان/63-70)



إذا مات أحدنا بعد انقضاء أجله وتصرم أيامه، فانه يحمل الى مثواه الأخير في موكب مهيب. في هذا الموكب الذي يُرى فقط بعض جوانبه، ولا يرى أكثر ما فيه؛ تجد المشيعين لجثمان الميت على اختلاف نظراتهم وتباين مستوياتهم، يرافقون الجنازة الى المقبرة فقط. بينما في هذا الموكب روح الميت تشيع، وعمله يرافق جنازته، سواء كان على هيئة جميلة جذابة أو قبيحة ذميمة. كما تهيمن على موكب التشييع الملائكة، فمن جهة ملائكة الرحمة يتباشرون به ويحاولون أن يأخذوه معهم الى الجنة، ومن جهة أخرى ملائكة العذاب يحاولون أن يلقوا بصاحبهم الى النار.



ولا ننسى أننا لسنا مستثنون من هذا المصير، وأنه لابد من أن نموت يوماً مهما بعد. الى هذا أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في بيت شعر نسب إليه:



كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة الحدباء محمول



والى ذات المعنى أشار أحد الشعراء بالقول:



و إذا رأيـت جنـــازة محمــولــة فاعلم بأنك بعدهـا محمــول



غير إن هذه الحقيقة الساطعة يتجاهلها البعض، ويعيش في غفلة عنها. فكثيراً ما يلاحظ في تشييع الجنائز من يقف محزوناً مفجوعاً بفقدان عزيز له، وآخر منافقاً شامتاً يمشي في موكب التشييع ولسانه يلهج بذم الميت ولعنه، وثالثاً غافلاً عن حقيقة هذا الحدث بأحاديث الدنيا وما يلهي..



في هذا الخصوص يذكر أن رجلاً مرَّ على جماعة يريدون دفن ميت لهم، فاطلع عليهم، فأخذته العبرة فبكى، ثم أنشد مجموعة أبيات، قال في أحدها:



يبكي عليه الغـريب لا يعرفــه وقرابتــه فــي الحـي مســرورون



فقال له أحد الحاضرين: أو تعرف هذا الميت؟ فأجاب لا. ثم سارعه بسؤال آخر: وهل تعرف قائل هذه الأبيات الشعرية؟ قال: لا أيضاً. قال له: إنه هو هذا الميت الذي بكيته أنت الغريب، ولكن انظر ابن عمه ذاك، فهو مسرور بوفاة هذا الميت، لأنه الوحيد الذي سيرثه.



هكذا تلحظ من يبكي على الميت حزناً على فراقه، وآخر يفرح لذلك، وكل منهما يتناول الميت بكلامه من منطلقه، غير أن كلامهم ليس حجة مهما مدحوه أو ذموه، وإنما هنالك ملائكة موكلون بذلك لا يخطؤون أبداً، وهم بأمر ربهم يعملون. وعند الحساب تقف ملائكة الرحمة لتأخذ الانسان الصالح الى الجنة، بينما تقف ملائكة العذاب لتأخذ الانسان الطالح الى النار.



وإذا علم الانسان أن أعماله سوف تتجسد له عند موته، وفي المغتسل، وهو محمول على النعش يشيعه الناس، وعند إدخاله القبر.. فان كانت حسنة تجلت لـه في صورة رجل جميل لا يرى منه إلاّ الاُنس والمتعة، وإن كانت سيئة تجلت لـه في صورة رجل قبيح لا يرى منه إلاّ الانزعاج والنفرة.



أليس من العقل أن يسأل نفسه: أيهما أفضل له، أن يمهد لما بعد موته بالأعمال الصالحة والأفعال الخيرة، أم يتبع الشهوات ويرتكب القبائح والمنكرات؟



ومن المؤسف أن نرى كثيراً من الناس يسعون أبداً في تزيين حياتهم الظاهرية، فيصرفون المليارات من الدولارات على تجميل بيوتهم وسياراتهم وملابسهم.. بينما كان الأولى بهم أن يهتموا بتزيين أنفسهم بالعمل الصالح والصفات الحميدة.. فكم من الأوقات الثمينة تصرف في مسائل ثانوية في الحياة، كاختيار ألوان صبغ الشعر، أو اختيار أحدث الموضات لخياطة الملابس، وما الى ذلك؛ في حين يغفلون عمّا يصلح حالهم في الدنيا والآخـرة. فما قيمة رجل مريض بالجذام -مثلاً- يلبس أفخر الملابس وأجملها؟



فعجب كل العجب ممن يصرف جلّ وقته وطاقاته وإمكاناته على المظاهر الخارجية من ملبس ومسكن ومركب، دون أن يهذب أخلاقه ويزكي نفسه ويصلح عمله !!



من هنا؛ ينبغي على الانسان أن يسعى جهده لصياغة شخصيته وفق معايير الهدى وقيم الحق، وليس وفق زخارف الدنيا وزبارجها. فالقرآن الكريم حينما يصف المؤمنين لا يقول عنهم إن ملابسهم جذابة، وبيوتهم واسعة، وسياراتهم جميلة.. لأنها ليست هي الأصل في حياة المؤمن مهما توفرت له، بل الأصل ما ذكره القرآن في قوله: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً».



هذه الصفة حينما تتجلى في شخصية المؤمن، تجده كله إيجابية، حتى أنه لا يتردد أن يقول للجاهل إذا خاطبه سلاماً.



وجميل ما روي في هذا الخصوص عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، إذ جاءه شخص أراد أن يستفزه، فقال لـه: أنت بقر. فقال له الإمام: أنا باقر. فكرر الرجل ما قاله عدة مرات، وفي كل مرة يجيبه الإمام بذات الجواب السابق بكل هدوء وبلا أي انزعاج. عند ذاك قال للإمام عليه السلام: لقد كانت أمك طباخة. فقال لـه الإمام عليه السلام: تلك كانت مهنتها. وهكذا حاول الرجل أن يثير الإمام بكلمات غير مؤدبة، إلا أن الإمام عليه السلام لم يجبه إلاّ بأدب رفيع وأخلاق فاضلة، فاضطر الرجل إلى الاعتذار من الإمام مصرحاً: " الله أعلم حيث يضع رسالته".



فليسأل كـل منـا نفسه: هل أتمكن من مواجهة من يؤذيني بكلمـة فأسامحـه وأتحدث معه بسعة صدر كما فعل الإمام محمد الباقـر عليـه السلام؟



هذه صفة واحدة من الصفات الحسنة التي يجب أن يتحلى بها الانسان المؤمن. وقد يصرف الانسان من عمره سنوات وسنوات حتى يحلي نفسه بمثل هذه الصفات الحسنة، ويزينها بصفة العفو والاحسان، والانصاف والرفق، والصدق والوفاء..



بالتأكيد هذه الصفات لا يمكن للانسان أن يحصل عليها بسهولة، لذا تجد الناس لا يهتمون بها كثيراً، لأنها صعبة المنال. بينما يتوجهون الى المظاهر والزبارج، لأنها أسهل منالاً. ولكن ما فائدة البيت الرائع في الجمال، وقلب صاحبه قد أكله الصدأ!



ولهذا؛ يأتي التأكيد القرآني على أن يتصف الانسان الصالح بصفات عباد الرحمن مهما كلفته من جهد ووقت، لأنها تضمن لـه حياة سعيدة في الدنيا، وعقبى فاضلة في الآخرة.



قال الله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرضِ هَوْناً» أي مشية الاقتصاد، التي لا إفراط ولا تفريط فيها.



«وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً». فالجاهل يريد أن يغير من حركة الانسان المستقيمة، ولكن عباد الرحمن عندهم موازين معتدلة يمشون عليها، فيواجهونه بالسلام.



«وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً». لقد جسد هذه الآية رجال أمثال حبيب بن مظاهر الذي كان يختم القرآن في ليلة، وكذلك ابن أم هاني وهو ابن أخت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كان لسنين طويلة يصلي صلاة الصبح بوضوء صلاة المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن بينهما. وأنا وأنت أيضاً يمكننا أن نتبع هذه الآية لو أردنا ذلك، فلماذا لا نصمم على أن نوجد هذه الصفة فينا؟ والبدء بإحياء ولو ساعة من كل ليلة بالعبادة، حتى نكون من أهل هذه الآية.



«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً» حقاً إن جهنم أخطر عاقبة، لذا يجدر بالمؤمن أن يدعو الله تعالى أن يفك رقبته من النار.



وخلاصة القول؛ إذا كان الموت يأتينا لا محالة، فلماذا لا نستعد لـه بالعمل الصالح والأخلاق الحسنة والمبادرة الى ذلك سراعاً قبل فوات الأوان.

الأخلاق مبعث الإيمان



ترى هل تأتي الأخلاق في الدرجة الأولى من الرسالة الإلهية، أم هي من الدرجة الثانية؟ وإذا حازت الأخلاق المرتبة الأولى، فما هو تفسير الاهتمام الأكثر في الدين بالشعائر الإسلامية كالصلاة والصيام...



المفهوم الواسع للأخلاق



للاجابة على هذه التساؤلات نحتاج الى بيان أمرين هما:



1- إنّ كلمة الأخلاق لها مفهوم واسع، وآخر ضيّق؛ فهي في مفهومها الضيق تعني الصدق، والوفاء، والاصلاح بين الناس، وعدم الغيبة والتهمة والنميمة، وتجنّب سائر الصفات الرذيلة، بينما تعني في مفهومها الواسع الخلفيات الروحية للأخلاق الفاضلة؛ فالصدق مثلاً نابع من الاستقامة في النفس، والإصلاح ناتج عن رؤية صافية الى الحياة، والوفاء منبثق من شجاعة نفسية لدى الإنسان.. أما الكذب والنميمة والتهمة والغيبة، فانّ هذه الصفات السلبية نابعة من انحرافات نفسية، وتشوّش واضطراب في الرؤية، وفقدان البصيرة في الحياة.



وعلى هذا؛ وطبقاً للمفهوم الضيق تأتي مرتبة الأخلاق بعد كثير من الواجبات، على عكس المفهوم الواسع الذي يعتبر الأخلاق قاعدة لسائر الفضائل، بل منطلقاً حتى للايمان بالله سبحانه وتعالى.



سلوك الإنسان نتاج تربيته



2- إن ما يفعله الإنسان، وما يتعوّد عليه من سلوك يأتي على أثر بنيانه التربوي، وصياغته النفسية، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقولـه: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» (الاسراء/84) أي إن شاكلـة الإنسان، وصيغة شخصيّته تقفان وراء سلوكه وأعماله، وإلاّ فلماذا يؤمن البعض بوجود الله تبارك وتعالى، ويكفر البعض به رغم وحدة الأدلة والحجج والبراهين، وطبيعة الخلقة الواحدة؟



يجيبنا القرآن الكريم على هذا التساؤل عبر آيات عديدة كقوله: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً» (البقرة/10) أي إنّ القلب المريض يتنافى مع الإيمان، في حين يستوعبه القلب السليم، وفي آية أخرى يقول عز من قائل: «صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (البقرة/171) فبسبب طبيعة العمى والصمم والبكم تحدث حالة عدم تحكيم العقل، يقول سبحانه في موضع آخـر: «فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور» (الحج/46) أي إن الحواس الظاهرة لدى الإنسان لا تصاب بالعمى، لأن القلب هو المصاب الأساسيّ. ويقول تعالى كذلك: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (غافر/56) فسبب عدم إيمانهم هو الاستكبار المعشّش في قلوبهم. وفي آية أخرى يقول عز وجل: «وَاللّهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (التوبة/80) أي إن الفسق الذي يتصف به الإنسان الضال هو سبب عدم هدايته.



فبالاستناد الى هذه الآيات وسائر الآيات القرآنية الأخرى المرتبطة بهذا الموضوع، يمكننا تفسير عدم إيمان البعض بحالة تعتريه، لا لنقص في الأدلة والبراهين والآيات.



قوّة الإرادة توجّه العقل



وقوّة الإرادة هي التي تدفع الإنسان الى استيعاب الأدلة والبراهين، وهي التي تدفعه الى التقدم. فالإرادة هي التي توجّه العقل، وعندما تكون إرادة الإنسان قويّة فانّها توجّه العقل الى جانب الصلاح؛ أمّا إذا كانت ضعيفة فانّ العقل سوف يتخبّط، ويضلّ الطريق، ولذلك نرى المصابين بالأرق يسرح بهم الفكر قبل النوم، وتهجم عليهم الأفكار السلبية والهواجس، فلا يستطيعون التركيز، وبالتالي فانّهم يعجزون عن النوم خلافاً للإنسان الذي يتمتّع بقوة التركيز، فهذه القوة تعينه على فعل الكثير من الأعمال.



الأخلاق منطلق العلم



وهنا لابدّ من أن نذكّر بمناسبة الحديث عن الأخلاق، أن الأخلاق تمثل أصل وقاعدة ومنطلق العلم، فقد روي أنه جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "ما رأس العلم؟ قال: معرفة الله حق معرفته. قال: وما حقُّ معرفته؟ قال: أن تعرفه بلا مثال ولا شبه، وتعرفه إلهاً واحداً خالقاً قادراً أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، لا كفو له ولا مثل له، فذاك معرفة الله حق معرفته".([11]) وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده".([12]) ويؤكد هذا المعنـى الحديث الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث قال: "نعم وزير الإيمان العلم، ونعم وزير العلم الحلم، ونعم وزير الحلم الرفق، ونعم وزير الرفق اللين"،([13]) وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "من طلب العلم لله لم يصب منه باباً إلاّ ازداد في نفسه ذلاًّ، وفي الناس تواضعاً، ولله خوفاً، وفي الدين اجتهاداً، وذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلّمه".([14]) وهكذا يربط الإسلام بين العلم والأخلاق ربطاً وثيقاً.



الأخلاق مفتاح تزكية النفس



والأخلاق هي بداية الزاد، كما أكّد ذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في قولته الشهيرة الخالدة: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".([15]) وبتعبير آخر؛ فانّ الأخلاق مفتاح تزكية النفس كما يشير الى ذلك الإمام عليّ عليه السلام بقوله: "أيّها الناس تولّوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها".([16]) وفي قوله: "معلّم نفسه ومؤدّبها أحق بالاجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم".([17])



كما أنّ القرآن الكريم يشير الى أهميّة تربية النفس، وتزكيتها بقوله: «هُـوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُـوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِيـنٍ» (الجمعة/2) وهذا هو دأب الآيات القرآنية التي تتطرّق الى موضوع التربية، حيث تقدّم تهذيب النفس على التعلّم، لأنّ التزكية هي الهدف والوسيلة والقاعدة.



وفي البدء يجب الاهتمام بتغيير النفس وإصلاحها، من أجل الدخول في المرحلة العملية للحياة، خصوصاً ونحن معرضون لسيل من المفاسد أثّرت فينا بطريقة أو بأخرى؛ فهناك مجتمع فاسد، وتضليل إعلاميّ مركز، وأحقاد، وطائفيات، وأنانيات.. ونحن ينبغي علينا أن نتجاوز هذه المفاسد بكل قوة، لكي نربي أنفسنا على أساس الفضيلة والتقوى.



أهميّة الجانب الروحي من الأخلاق



والمرحلة الأولى لسلوك هذا الخط، هي الابتداء والمبادرة الى التوبة لله عز وجل، وذكره بشكل دائم، والخشوع له، كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (الانفال/2) والملاحظ استعمال صيغة الحصر في هذه الآية بكلمة (إنّما) دلالة على عظمة المؤمنين الذين تخشع قلوبهم بمجرّد سماع آيات القرآن، فيؤنّبون أنفسهم.



وفي موضع آخر يقول عز وجل: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ» (المؤمنون/1-2) فهم يراجعون صلاتهم، ويحافظون عليها، وهم يسمعون قوله تعالى: «كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالاَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (الذاريات/17-18) فيؤنّبون أنفسهم علــى عدم قيامها بصلاة الليل، ومناجاة الخالق جلّت قدرته في جوف الظلام الحالك، ليوجّهوا أنفسهم الى الصالحات، ويتراجعوا عن الذنوب والمعاصي.



ومن أولويات القضايا التي يجب على الإنسان أن يطرحها على نفسه هي: هل أن شخصيّته الداخلية إيمانية طاهرة، أم ملوّثة بآثار التربية الفاسدة والشهوات الآنية؟ ثم عليه أن يسعى بعد ذلك لإصلاحها إن كانت مشوبة بخلل ما.



الأخلاق قاعدة الانطلاق



«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ اُوْلَئِكَ الَّذِين َصَدَقُوْا وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ». (البقرة/ 177)



بعدما استطاع العالم اكتشاف الذرة، أمكن معرفة أن الفرق بين المواد القوية الصلبة التي تتحدى كل العوامل المضادة والقاهرة وبين المواد الرخوة اللطيفة يكمن في تركيبة ذراتها. فبينما تكون ذرات المواد الخفيفة متباعدة، نجد أن المواد الصلبة تكون ذراتها متقاربة ومكثفة؛ لذا نقول إن هذا ذهب وهذا خشب، وندرك سر تهشم بعضها مع أول ضغط، ومقاومة وصلابة البعض الآخر.



كذلك بعض الأمم تراها هشة ضعيفة تتحطم مع أول ضغط، بينما تجد بعض الأمم الأخرى صلبة مستقيمة متحدية لا تحركها العواصف والضغوط.



عوامل القوة والثبات في الأمة



إن الفرق بين الأمة القوية والأمة الضعيفة لا يكمن في المظهر، بل في العمق والجوهر، فالصفات المثلى التي تتحلى بها الأمة المتحدية القوية تختلف عن تلك التي تتميز بها الأمة الضعيفة.



ومن هذا المنطلق نرى كيف أن ثلاثمائة وثلاثة عشر انسان مسلم، لا يملكون إلا بضعة سيوف وكان أكثر أسلحتهم الحجارة وجريد النخل، يواجهون ألف شخص مسلح بأفضل سلاح، وفيهم ما فيهم من الصناديد ومغاوير الجيوش العربية الذين تمركزوا في بدر ضمن صفوف المشركين آنذاك، ولكن ومع أول مواجهة ينهار جيش المشركين وينتصر المسلمون على قلتهم. فيا ترى لماذا ينتصر أهل المدينة في المعركة مع ضعف عدتهم وقلة عددهم، بالمقارنة مع كثرة أهل مكة وتجهيزاتهم العسكرية؟ ولماذا تنهار مقاومة المشركين مع أول صدمة، مع ما يملكون من عوامل القوة عدداً وعدة ؟



إن السبب يكمن بالفرق في الصفات الجوهرية لكلا الطائفتين؛ فالمسلمون كان بعضهم يشد أزر بعض، فاذا رأى أحدهم صاحبه يقاتل مشركاً ذهب لإعانته على عدوه، بينما كان المشرك يقول في مثل هذه الحالة، دعه إما أن يُقتل أو يَقتل وبالتالي أرجع أنا لأكسب الفخر في قتاله.



فبينما كان أهل مكة يحاربون رياءً وبطراً واشراً، كان أهل المدينة يحاربون في سبيل المبدأ والعقيدة في سبيل الله. لذلك انتصر المسلمون في بدر بثباتهم وترابطهم ووحدتهم، بينما انهار المشركون لأن جوهرهم على النقيض من ذلك.



إذن؛ فالصفات الجوهرية كالذرات في المواد، فكما أن اندماج الذرات الى بعضها تجعل الذهب ذهباً، وابتعادها عن بعضها يجعل الخشب خشباً؛ فكذلك الأمة التي تكون متراصة، منسجمة، متلاحمة، قوية.. لا تنهار ولا تغلب، بل تنتصر من موقع الى موقع، ومن معركة الى معركة. أما تلك الأمة المتهاوية، المتباعدة، التي لا تملك الصفات المثلى.. فهي تنهار مع أول صدمة.



وإن هذه الصفات - الشجاعة والاستقامة والتلاحم والاستماتة والإيثار و..- هي التي تغير مجرى التاريخ، فبها كان الواحد من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يعادل العشرات من الرجال، وبها كان الواحد منهم يبحث عن الشهادة دون الإمام الحسين عليه السلام قبل أخيه الآخر، وبها خلد الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره الميامين، وبهذه الصفات المثلى كانت هذه الأمة أمة صابرة خالدة قادرة على تحدي الضغوط.



الدين ليس ظنون وتمنيات



إن الدين ليس لقلقة لسان وظنون وتمنيات حلوة، بل هو جوهرة، لابد أن تستقر في القلب ثم تتفتح على الأعضاء.



وهذا ما يدعونا إلى أخذ الحذر والحيطة من كل غفلة وخديعة.. فالشيطان لا يخدع الإنسان بأن يقول لـه: هذا طريق الضلال فاسلكه، وإنما يزين له ذاك الطريق ويجعله في صورة أفضل من طريق الحق. فابن زياد مثلاً استطاع أن يخدع أهل الكوفة في قتال الإمام الحسين عليه السلام باستخراج فتوى من شريح القاضي. فالشيطان هنا استطاع - عبر جبة القاضي وعمامته وطول لحيته ومدة قضائه معاً - أن يخدع الناس.



ونحن يمكن أن نخدع أيضاً، فمن الواجب أن لا نغمض أعيننا حتى نرى طريقنا بشكل صحيح ونتجنب المزالق، ونستثير وعينا وعقولنا حتى ندرك سبيلنا ولا ننحرف عنه.



إن الإيمان والبر ليس في أن نقف في هذا الجانب أو ذاك فحسب، فان الصلاة مثلاً لا يسميها القرآن صلاة إذا لم تتحول في حياة الانسان الى سلوك، وفي لسانه الى صدق، وفي يده الى أمانة، وفي عينه الى خشوع، وفي أذنه الى استماع الحق، وفي قلبه الى شجاعة، وفي عزمه الى توكل، وفي حركته الى استقامة. فإذا خلت الصلاة من مثل هذه المعاني فلا تعتبر صلاة «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، أي إننا نقف متوجهين الى جانب ما، غير إننا غير متوجهين الى الله، فهذا لا يؤدي الى حقيقة الصلاة، وقد قال ربنا عز وجل: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي» (طه/14) وقال جل وعلا: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ» (الماعون/4-5). لأنهم ساهون ليس عن ظاهر الصلاة فقط وإنما عن واقعها، وهذا الواقع والمعنى الذي سها عنه المصلي واستحق به الويل هو أنه يبالغ في ركوعه وسجوده ولكنه لا يساعد الناس «وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ» (الماعون/7) أي إنه يسهـو عن روح الصلاة وانهـا «تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت/45).



وهكذا يمضي القرآن ليقـول: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ» فعندما نقول بلساننا: إننا مؤمنون بالله، ونتوقف عند هذا الحد، فان هذا لا يكفي، بل لابد من الإيمان بالله وباليوم الآخر ظاهراً وجوهراً. فالإيمان الحقيقي باليوم الآخر يعني أن تضع الموت نصب عينيك دائماً، فتفكر في أية لحظة ستموت، وفي أية لحظة تدفن، وكيف ستواجه منكر ونكير، وعذاب القبر، وفي أية لحظة ستقوم القيامة، وما موقفك فيها. فهكذا يكون معنى الإيمان.



النهج الايماني للانفاق



«وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ».



إيتاء المال إما على حب المال نفسه، وإما على حب الله سبحانه وتعالى. فإذا قلنا على حبه للمال، فهذا يعني أن هذا الإنسان المنفق ممن قال الله فيهـم: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» (الحشر/9) أي ان هذا الإنسان مع احتياجه الى هذا المال، وهذا الدرهم وهذا الدينار، إلا أنه يؤثر به الفقير ويعطيه المال رغم حبه واحتياجه اليه. وإما على حب الله تعالى، فيعني أن لا يكون عن رياء وأن لا يكون به منّ وأذى، بحيث لا تعرف شماله ما أعطت يمينه.



«ذَوي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقابِ».



يجب علينا أن نتدبر قليلاً في الآيات عند تلاوتها، فلا نقرأ القرآن هذراً ولا نبتلع الآيات ابتلاعاً. يجب أن نتوقف قليلاً عند كل كلمة ونتدبر فيها، فلننظر كيف يخاطبنا القرآن الكريم.



إنه يقول: «وَالسَّآئِلِينَ» أي الذي يأتي ويسألك أن تعطيه، فما هو التعامل مع الأصناف الأخرى التي سبقت (السائلين)؟



من هذا التعبير يجب أن تفهم أنه يعني أن لا تنتظر اليتيم فاقد الأب وليس له كفيل لكي يقف على بابك للسؤال، ولا تنتظر أقاربك ليأتي أحدهم إلى بيتك فيريق ماء وجهه بين يديك، وكذلك المسكين الذي يحمل عنوانه معه. فالمسكين يعني من أسكنه الفقر فهو يجلس على التراب. وابن السبيل أيضاً لا يسأل، فهو شخص عزيز في بلده يخرج ويأتي إلى بلدك فينقطع به السبيل فيصبح لا يملك شيئاً. فإذا جاءك أحد يسأل فلا يجب عليك أن تسأله هل أنت يتيم حقاً، هل أنت مسكين أو ابن سبيل، لأن السائل الذي أراق ماء وجهه لك يجب أن تعطيه. فإذا جاءك شخص راكباً على فرس وتوقف عند باب دارك وسألك أن تعطيه فلا تمنعه، ولا تقل أنه يركب فرساً، فلعله يركب فرساً ولكن لا يملك علفاً للفرس مثلاً. وهكذا إذا سألك أحد فأعطه، فهذه هي صفات المؤمن الحقيقي.



«وَفِي الرِّقابِ» أي العبيد، وفي زماننا الكثير من هؤلاء (في الرقاب) فهناك المسجونون في مناطق وأماكن معينة مسلوبو الحرية والحركة، ورقابهم في الواقع تحت سيطرة الآخرين، فانهم يعتبرون في الرقاب.



الوفاء بالعهد قيمة حضارية



«وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا».



إن الأمة التي لا تعرف العهد، ولا تعرف اليمين والميثاق، ولا تجهل كلمة الشرف، هذه الأمة تنهار بسهولة.



يجب أن تكون لدى الأمة ورجالها كلمة وثبات ووفاء بالكلمة والعهد، وهذا هو الذي يجعل الأمة متماسكة ثابتة.



وفي تأريخنا الكثير من مواقف الشرف والوفاء بالعهد والثبات عند الكلمة، منها أن الحجاج - لعنة الله عليه وعلى من يقتدي به حكم يوماً على شخص بالاعدام. فقال هذا الشخص للحجاج: أمهلني سواد هذه الليلة لأذهب لعائلتي فاودعهم ومن ثم أعود. فقال له: أو يعقل أن تعود الى الموت برجليك؟! قال: نعم أعود. فطلب منه الحجاج أن يأتيه بمن يكفله حتى يعود. فلما نظر الرجل الى المجلس، قال: أنا لا أعرف أحداً، وهنا قام رجل وقال: يا أمير أنا أكفله. فقال له: إن لم يأت قتلتك مكانه. فقال الرجل: لا بأس. ووافق الحجاج على كفالته، فذهب المحكوم على أن يأتي في اليوم التالي وفي وقت محدد كالظهر مثلاً. ذهب الحجاج في اليوم التالي مع الكافل وجماعة من الناس والسياف الى باب مدينة الكوفة بانتظار عودة ذلك الرجل، ومع مرور الساعات الثقيلة اقترب الوقت من الظهر، واحمرت عينا الحجاج وأخذ ينظر الى الكافل وهو يقول: إن ساعتك قد اقتربت وسيقطع رأسك الآن. فقال له الرجل: إنني مستعد ولكن أتعلم يا أمير أن ذلك الرجــل المحكوم هو رجل شريف ولديه كلمة شرف، وبأنه آت حتماً قبيل أذان الظهر. وما هي إلاّ لحظات وإذا بغبرة من بعيد لم تنجل إلاّ وبالرجل المحكوم واقف بكل اطئمنان أمام الحجاج قائلاً: ها آنذا جئتك فأنفـذ فـيَّ أمرك. فقال لـه: أوجئت الى الموت بقدميك يا هذا ؟! فقال لـه: أنـا أعطيت كلمة شرف أثبت عندها وأفي بعهدي لكي لا ينقطع الوفاء بيـن الناس.



أما الكافل فقال: كفلته لشرف كلمته، ولكي لا يقال بأن الثقة فقدت بين الناس. فعفا الحجاج عنهما معاً رغم طغيانه وظلمه.



إن كلمة الشرف هي قيمة الأمة، فلا ينبغي أن تكون كلماتنا رخيصة زائفة نطلقها بلا دراية والتزام، فمن يعطي كلمة يكون في ربقتها.



الصبر رأس الإيمان



دائماً ترى الانسان يدعي بحمل صفة الصبر مادام في رخاء ونعمة؛ فهو صابر مع وجود الطعام والبيت الواسع والفراش الوفير والأمن والصحة.. ولكنه مع أول مشكلة تراه ينقلب، أفيسمى هذا صابراً ؟



إن الصابريـن هـم «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ» ففي الادعاء ترى الكثير من الناس معك، ولكن عندما تحدث المشكلة تراهم قد انهزموا، ويفر كل شخص الى ناحية ويعطي تبريره، بل وحتى لا يكلف نفسه ليقول لك الوداع، أو يسلم عليك بعد ذلك.



إن الرجل -كل الرجل- إذا امتحنته عند الشدائد؛ عند التقوى. وليس التقوى هنا أن تغمض عينيك وتمشي متماوتاً منخفض الرأس. فليس هذا بتقوى، بل إن جوهر التقوى ورأس الايمان أن يكون لدى الانسان الصفات المثلى، كالصبر والعهد و كلمة الشرف.. ومجتمعنا الحاضر بحاجة ماسة لهذه الصفات.



إننا يجب أن لا نخدع أنفسنا بكلمات الايمان، لأن كلمات الإيمان مفيدة في مظهر من مظاهر الايمان، ليس إلا، إننا بحاجة الى جوهر الايمان لتقوية ودعم مسيرة الأمة ومقاومة التحديات. فإذا رأينا أمتنا تتعرض في هذا البلد أو ذاك لمشاكل وصعوبات ولم نكن قادرين على أن نتحداها، فلأن هذه الصفات الأساسية مفقودة لدينا. فنحن بالنسبة للوفاء بالعهد مثلاً مستعدون أن نعمل وننتج لسنة كاملة الى أن نوقّع ميثاقاً وعهداً أو منشوراً فيما بيننا، لكننا - وللأسف- مع أول مشكلة وإذا بنا ننقض ذلك العهد الذي استغرق انشاؤه سنة كاملة. «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ اُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ اُمَّةٍ» (النحل/92)



فلماذا نقض الميثاق ؟ ذلك أن كل منا يتصوّر أنه أحسن من الآخر، وأنه الأفضل.. فقد نقض الميثاق.



روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إن في جهنم رحى تطحن، أفلا تسألوني ما طحنها؟ فقيل له: وما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفجرة، والقرّاء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة. وإنّ في النار لمدينة يقال لها الحصينة، أفلا تسألوني ما فيها؟ فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيها أيدي الناكثين".([18])



فالناكث ذاك الذي يضع يده في يدك للمبايعة والعهد، ويقول: أنا معك حتى آخر يوم وآخر نفس، ولكنه مع أول زحزحة ينهزم. فمثل هذه الأيدي ستطحنها الرحى في النار.



إن من الصفات المفقودة عندنا هي كلمة الشرف، فلذلك نحن ممزقون حيث الواحد يصبح إثنين، والثلاثة أربعة، وهكذا.. حتى ترى أن هذا الواحد هو عدو نفسه. فيكون هنا شكلاً ووجهاً وموقفاً، وهناك شكلاً ووجهاً وموقفاً آخر، فيصبحوا بذلك منافقين، إذ المنافق ظاهره شكل وباطنه شكل آخر والعياذ بالله.



فالانقسامات تأتي من باطننا في الأصل، لذلك فلا فائدة من كلمات ومظاهر وتمنيات وخداع و...، بل يجب أن تتركز فينا الصفات المثلى من صبر ووفاء بالعهد وكلمة الشرف والبذل وغيرها. فنحن بحاجة الى الجوهر في الايمان والتقوى، دون المظهر.



النظرة السلبية وقلة الشكر



ولأنك تضع نظارة سوداء على عينيك، فانك لا ترى في هذا العالم سوى السواد، ولا ترى في الناس خيراً بل كلهم في شرّ.



فهل رأيت نفسك في المرآة يوماً ما؟ وهل تعرف نفسك لتزكيها؟ وهل حاسبت نفسك أولاً قبل أن تحاسب الآخرين؟ فأنت مثلهم أيضاً، نصفك شيطان ونصفك ملائكة، ففي ساعة تصبح في حالة من الذكر والبكاء والخشوع و... في ساعة أخرى تنجرف مع الشهوات و... فأنت وجميع البشر هكذا، فلماذا تخادع نفسك.



إننا بحاجة لأن نراجع أنفسنا في هذا الجانب، فلا يجدر بنا حين نرى أحداً غيرنا يخطئ أن نقول بأنه قد أصبح شيطاناً. كلاّ؛ فانه بشر يخطئ ويصيب خلال عمره، ونحن مثله أيضاً.



فعندما نقوم مثلاً مع أول الصبح ترانا وقبل كل شيء نسب الدنيا ونشتم الزمان ونعتب على الدهر و...، إننا عندما نقوم بذلك يجب أن نعرف بأننا في الحقيقة نعترض على حكم الله سبحانه وتعالى، لأن الدهر هو الله وأننا نعترض على التقدير الالهي والعياذ بالله. فترى أحدنا عندما يصاب بمصيبة ما، يعتب على الله فيقول: أي ربي ألم تجد غيري، لماذا تركت الناس جميعاً واخترتني لهذه المصيبة؟!



فلماذا كل هذا التضجر والرفض والاعتراض؟ إن جميع الناس تواجههم المشاكل وتداهمهم المصائب، وما أنا وأنت إلاّ جزء من هؤلاء الناس.



فإذا ما نظرت الى العالم الذي يحيط بك، تجده غارقاً في الأزمات والمشاكل. إذن لست وحدك تعيش المحن والصعوبات في الحياة، فما الداعي الى التذمر والتعب؟ فلينظر الانسان الى نعم الله سبحانه التي أنعم بها عليه والى رحمته الواسعة. فعندما تقوم في الصباح انظر الى أعضاء جسدك وسلامتها وقدرتك على الحركة والنشاط، وتذكر هذا الشخص أو ذاك الذي يرقد في المستشفى وهو يشكو هذا المرض وتلك العلة و...



يجب أن تشكر نعم الله عليك، فالآن وأنت تمشي بصورة طبيعية لا تدري كم من نعمة عظيمة وهبها الله لك حتى تكون لديك القدرة على المشي. فلو ذهبت الى الطبيب وسألته عن عدد النعم في مشيك هذا لعرفت قدرها، فأعصابك يجب أن تكون سالمة، وقلبك ومعدتك وكليتك وغيرها كلها يجب أن تكون سالمة حتى تستطيع أن تمشي بضع خطوات. فلماذا تتجاهل هذه النعم الكبيرة وتشكو وتتذمر؟ فقل الحمد لله واشكره على نعمه. ولا تغفل أو تنتظر الى أن تمرض وتذهب الى الطبيب ليقول لك: إن الغدة الفلانية من الجهاز الفلاني قد تعطلت ويجب معالجتها، وعلى أثر ذلك فقد اختل نظام بدنك، أفعندما تصل الى ذلك تقول الحمد لله؟!



إنك يجب أن تنظر الى الحياة بعين الرضا، فكلما كان الانسان شاكراً فضل ربه، زاده الله نعماً، «لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ» (ابراهيم/7).



فبالشكر ينشرح قلبك، وتتفتح نفسك، ويتبصر عقلك، وتكون روحك فعّالة وحركتك جدية.. وبالتالي تصبح سعيداً في الدنيا والآخرة.



الأخلاق في مواعظ القرآن



«وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لإِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير» (لقمان/12-19)



في سورة لقمان وصايا وتوجيهات أخلاقية سامية موجّهة بالدرجة الأولى الى الأجيال الشابّة من المجتمع المسلم، ومن المهمّ في هذا المجال أن نستعرض هذه الوصايا، ونسلّط الأضواء عليها، ونلفت أنظار الشباب المسلم إليها، إسهاماً منّا في نشر وإشاعة الثقافة والتربية القرآنية في أوساط الأمة.



الشكــر للـه



الملاحظ أنّ القرآن الكريم في الآيات السابقة يبتدئ هذه الوصايا على لسان لقمان الحكيم بالشكر الذي هو باب الحكمة ومفتاحها، فيقول عز من قائل: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» فالحكمة هي النظرة الايجابية المتفتّحة الى الحياة، وفي هذا المجال روي أنّ النبي عيسى عليه السلام مرّ مع الحوّاريين على جيفة، فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسى عليه السلام: "ما أشدّ بياض أسنانه"!.([19]) فعيسى عليه السلام قد بحث هنا عن الجانب الإيجابي في هذا الحيوان، لا على نجاسته، وعلى كونه جثّة هامدة، معلّماً إيّانا درساً في محاولة التركيز على الجوانب الإيجابية من الحياة.



إننا ما دمنا على هذه الأرض نتنفّس ونأكل ونشرب ونمشي في سهولها وجبالها، فلابدّ أن نحمد الله تعالى ونشكره، لأننا مازلنا أحياءً، ولم ننقل بعد الى تحت الثرى. ومما جاء في هذا المجال؛ كان الإمام زين العابدين عليه السلام إذا رأى جنازة يقول: "الحمد لله الذي لم يجعلني من السواد المخترم".([20]) أي السواد الميّت الهالك. فالذي يستقرّ تحت التراب يودّ لو يعطى الدنيا بما فيها، لكي يعود الى الحياة ولو لساعة واحدة، حتى يبادر الى إصلاح ما كان فيه، ولكن هيهات له ذلك.



وهكذا؛ كان علينا أن نقدّم فروض الحمد والشكر لله عز وجل ما دام فينا رمق وأنفاس تصعد وتهبط.



وفي تتمة الآية السابقة يقول ربنا عز وجل: «وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ». فأنت إن شكرت فانّ مردود هذا الشكر سوف يعـود إليـك، لأنّ الله غنيّ عن شكرنا وحمدنا، ولا يضرّه كفرنا وجحودنا، كما يقول تبارك وتعالى: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ حَمِيدٌ». فبالشكر تزداد النعم، وتهطل البركات، وتنمو الخيرات، وبالكفران تزول وتضمحلّ.



إن البعض منّا يتمتّع بنعمة الأولاد، ولكنه لا يعرف قيمـة هذه النعمـة، فتراه عندما يعـود الى بيته يفرغ عقده ومعاناة عمله على رأس زوجتـه وأولاده، فيشتـم هذا، ويزجـر ذاك، وينهـال بالضـرب على الآخـر. وبهذا الوضع الذي يخلقه لنفسه تراه يعيش الجانب السلبيّ من الحياة مـع أهله وأولاده وأقربائه وأصدقائه، فلا يدرك قيمة هذه النعمة ولذّة هـذه الحياة.



عدم الشرك بالله



ثم ينتقل السياق القرآني ليقدّم لنا مواعظ ووصايا لقمان الحكيم لابنه قائلاً: «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لإِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» فالمصدر الوحيد لكلّ هذه النعم، والرحمة، والقوّة، هو الله سبحانه وتعالى؛ فلا خشية ولا خوف إلاّ منه. فلا تتلفّت يميناً وشمالاً، بـل سر في طريقك، فلا أحد يستطيع أن يؤذيك إلاّ بإذن الله، ولا مصيبة يمكن أن تتعرّض لها إلاّ ما كتبها الله عليك. فليكن اتكالك واعتمادك كلّه عليه جلّت قدرته.



ونشير إلى حقيقة مهمّة، وهي أنّه كما للتوحيد درجات فانّ الشرك لـه أيضاً درجات وأنواع؛ فهناك البعض من الناس لا يظهر الشرك بالمعنى اللفظيّ، ولا يعبد الأصنام الحجريّة أو الخشبية، ولكنّه يعبد أصناماً من نوع آخر، ويتوجّه بعقله وفكره إليها، فينسى الله تعالى ويسقط في هاوية الشرك دون أن يشعر.



الإحسان الى الوالدين



ثم ينتقـل السياق الكريـم الى الوصيّـة بالوالديــن، فيقـول سبحانــه: «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» فالله عز وجل يقرن شكره بشكـر الوالديـن، حيث يكون الشكـر للأم أوّلاً، ثم للأب. وهنـا أنصح أولئـك الذين لا يصبرون على رعاية والديهم، أو ربّما يؤذونهما، فأقول لهم بكلّ ثقة واطمئنان؛ إنّكم إذا تصرّفتم التصرّف الذي لا يرضيهما، وبالتالي لا يرضي الله عز وجل، فانّكم ستمرّون بنفس هذا الموقف، وسيكون هناك من لا يرعاكم من أبنائكم في المستقبل، كما تصّرح بذلك الحكمة القائلة: "كما تدين تُدان"، وكما يقرّر ذلك الله تبارك وتعالى هذه الحقيقة في قوله: «ومَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (الصافات/39).



فعليك إذن- إيّها الشاب المسلم أن ترعى والديك، وتعتني بهما، وتبرّهما، ولا تسمعهما إلاّ ما يرضيهما عنك، ويبعث على ارتياحهما، وخاصة أولئك الآباء والأمّهات الذين لم يبق لهم نصيب من العيش سوى سنوات قلائل أو ربما أشهر وأيـّام معدودات. وعلينا أن لا ننسى هنا أنّ مردود الإحسان الى الوالدين هو مردود إيجابيّ على الإنسان المؤمن آنياً ومستقبلاً؛ فدعاء الوالدين مستجاب، وهما إن دعوا لك بالخير فسوف تجد كل الخير في حياتك، وإن دعوا لا سمح الله عليك باللّعنة والشرّ فانّ سخط الله سوف ينـزل عليك في الدنيا والآخرة، وهذا هو المردود الآني.



وأمّا في المستقبل؛ فانّ أولادك سيعاملونك بمثل ما عاملت به والديك، وربّما أفضل أو أسوأ، حسب تعاملك معهما.



والعمل بما يرضي الوالدين له بالطبع حدّ معيّن يبيّنه الله سبحانه في سياق الآيات الكريمة السابقة، وقد أشار إليه تعالى في قوله: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً» فالأب لـه حدوده، وهو لا يستطيع أن يفرض على ابنه ما هو مخالف لمصلحة الدين والعقيدة، ومع ذلك يبقى التعامل معهما بالمعروف واللطف والحنان الى حين ورحيلهما عن هذه الدنيا مفروضاً على الابن، لأن هذا هو حقّهما الطبيعيّ عليك.



اتّباع القدوات



ثم تنتقل الوصيّة القرآنية من نطاق الوالدين الى نطاق المجتمع، فيقول عـزّ مـن قائـل: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» فاذا أردت سلوك طريق النور وجادّة الحق، فعليك أن تبحث عمّن يسلك بك هذا السبيل الذي هو طاعة الله تعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله، وإذا ما وجدته فعليك اتّباعه وطاعته، لأن طاعته هي طاعة الله ورسوله، وامتداد للخطّ الإيماني القويم.



الحذر من الاسترسال






/ 8