ابن تیمیة، حیاته و عقائده نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ابن تیمیة، حیاته و عقائده - نسخه متنی

صائب عبد الحمید

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



«ابن
تيمية »
«حياته عقائده »
صائب عبدالحميد
اهداء
ابا الزهراء .


السلام عليك
اذ اهدى ثواب جهدى اليك ، ،
والى آلك الذين جمعتهم الصلاه عليك .


والى والدى الحبيبين
راجيا لهما الشفاعه منك ، ،
والورد من حوض الكوثر بيديك .


هذا الكتاب
انك لتعشق الحق مثلما تعشق الجمال.


وانه ليولمك ان ترى الحق مذ كان قديما ولم يزل صعب
المنال.


ان الاحرار يئنون معك وهم يرون هذا جاريا حواليهم
فى شتى
الاحداث والاشياء.


لقد عز عليك قديما ان ترى حقل اقحوان لم تنبث فيه
ابر
الشوك اليابسه والخضراء.


ويحز فى قلبك ان هذا المعنى الاليم هو من اول ما
يدركه
اخوك الانسان ! .


وكذا هى حالك مع الكاتبين.


فكم تشوقت لان ياخذوك الى بطون الحقيقه، فتقضى مع
بعضهم الشوط الطويل وهو يدحرج بين يديك كره سوداء
صماء
على مسار ملتو، وانت تتبعها لا تدرى الى اين، ولا
متى سيشق
لك عن تلك القشره الصم-اء فيريك ما تخفيه ! .


وتمضى جاهدا تنتظر نهايه المطاف فلا تشعر الا وقد
ارتطمت
تلك الكره السوداء بجدار صلب سميك، فارتطمت انت
معها، او
رجعت القهقرى منهك القوى متعب الاعصاب، تتقطر
وجنتاك
بالسخط والياس والقنوط ! .


سطحيون ما زلنا نتلهى بالقشور ! .


فكم تمنيت مثلك ان اجنى ثمار وقت ثمين انفقته مع هذا
وذاك فيذهب سدى على دوائر مفرغه وحافات ضياع، فاعود
ارقا متعب العينين، فاعزى نفسى بامواج تدافع
السواحل مذ
خلق اللّه ارضنا، وهذا ديدنها حتى تبدل الارض غير
الارض، لا
تكل ولا تمل ! ثم احلق بخيالى الى عظماء بنوا لبنى
الانسان
مجدا وحضاره وتراثا لا ينضب معينه، فيتسع الامل فى
عينى
من جديد.


قرات التاريخ فوجدته منكوسا على راسه فى اكثر
فصوله،
ولسبب بسيط، هو ان ما كتب انما كتب تحت رايات
السلطان
على مر الزمان، فما ازعج منه السلطان ضاع واندرس
فلا تجد
له اثرا الا فى فهارس المولفات، وان نجا منه شى ء
تصدى له
الاقوياء بالسلطان على الدوام بسهام الطعن
والتكذيب، فمن هنا
تفجرت بين جنبى عزمه ثائر على ان اساهم فى اخراج
الصوره
الحقه لاول اس فى هذا البناء التاريخى الشامخ، ذاك
امل
سافرغ له باذن اللّه.


اما هنا فى هذا الكتاب فقد قرات رجلا فى عقيده،
وعقيده فى
رجل.


هو ابن تيميه.


قرات شيئا مما كتبوه فيه وفى عقيدته فلم اجد غير تلك
الكره
السوداء يدحرجونها امامى هنا وهناك.


فالقيتها
جانبا وتناولت
ما بلغته يدى مما كتبه الرجل عن نفسه وعن عقيدته،
فوقفت
على البون الشاسع والزيف المريع.


سطحيون او بسطاء غلبتهم سلامه الصدور فدهش ناظرهم
للمنطاد المنفوخ الطائر، يحسب سرا عجيبا فى جوفه
رفعه الى
قبه السماء.


لكنه هواء !! .


هكذا تعاملوا مع الرجل.


طفقوا يكتبون عنه، وله،
وفيه، فوضعوا
اكفهم على فيه، فالجموه ونطقوا، باى شى ء نطقوا ؟
بتلك
الكره الحائره ! .


ارفعوا ايديكم عن فيه.


دعوه ينطق، دعوه يفصح عما
يريد،
دعوه يكشف عن لباب قلبه، دعوه يقل ما يريد كما يريد
لا كما
تريدون.


فحملت على تلك الاكف فكففتها عن فيه، فنطق بلسانه
لا
بالسنتهم.


ورفعت الاغلال عن يديه فرسم جوهر عقيدته
بريشته هو، لا بريشه عشاقه، ولا بريشه حساده.


ولكن ما اصعب الحديث فى بطون الحقيقه، وما اقسى
ردود
الفعل التى سيحدثها.


وعجبا له كيف سيشق طريقه بعكس
اتجاه ذاك التيار الهادر، ومن سيرتضيه الا المتعطش
للب ! .


لقد دعونا ابن تيميه، فعرفناه لمن لم يعرفه، وعرفنا
باجوائه
كلها من حيث الزمان والمكان، ثم تكلم هو عن نفسه
شيئا
ليعرف القارى صوته ونبراته، ثم انتقلنا معه الى
لباب عقائده
ولم نقف عند القشور، ذهبنا الى الصوره الكامله ولم
نقف عند
الاطار نعظمه ونمجده، او نعيبه ونبخسه نضارته،
واعرضنا عن
كثير من التفصيل الذى يتشابه فى معناه ويتفق فى
مغزاه،
حرصا على لم اطراف تلك الصوره الممتده الواسعه بما
لا
يضيع شيئا من معالمها.


واهم ما فى الكتاب ان الرجل هو الذى تكلم عن نفسه
وعن
لباب عقائده، لا عشاقه ولا حساده.


فجاء هذا الكتاب ليمثل الفصل الاخير فى ما كتب فى
موضوعه.


انه الحلقه المفقوده فى تاريخ عقيده، وفى حقيقه
رجل.


صائب عبدالحميد
الباب الاول
العلم وبيئته
وعصره وحياته

الفصل الاول - ابن تيميه.


اسرته
وبيئته
العلم واسرته
بيئته
العلم واسرته
هو احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبداللّه بن
الخضر.


تقى الدين، ابو العباس، ابن تيميه.


الحرانى، ثم الدمشقى، الحنبلى.


المولود بحران سنه 661 ه ، والمتوفى بدمشق سنه 728 ه .


من بيت حمل لواء المذهب الحنبلى اكثر من قرن من
الزمن،
تعاقب فيه رجاله على زعامه المذهب، وتوارثوا
البيان والبنان،
فتصدروا الخطابه واكثروا التاليف.


كان اولهم: محمد بن الخضر بن تيميه (542 - 622 ه )، رئيس
المذهب، شيخ حران وخطيبها مده حياته، رآه سبط ابن
الجوزى الحنبلى فقال فيه: كان ضنينا بحران، متى نبغ
فيها
احد لا يزال وراءه حتى يخرجه منها ويبعده عنها.


ومضت
المشيخه والخطابه لاهله من بعده.


خلفه ابنه عبد الغنى (581 - 639 ه )، المعروف بالسيف، ورث
مراتب ابيه، واورثها ابن عمه عبدالسلام بن
عبداللّه بن الخضر،
ابا البركات (590 - 652 ه ) وهو جد تقى الدين بن تيميه،
وشهرته فى الفقه فاقت شهره اسلافه.


تلاه عبدالقاهر بن عبدالغنى السيف (ت 671 ه ) ليخلفه
عبدالحليم بن عبدالسلام (627 - 682 ه )، وهو والد تقى
الدين، بقى فى حران الشيخ والخطيب حتى هجرها فى سنه
667 ه اثر الاجتياح التترى، قاصدا دمشق، فختم بذلك
تاريخ
الاسره الحرانى، وافتتح تاريخها الدمشقى الذى كانت
نهايته
بوفاه ولده تقى الدين سنه 728 ه .


واما والدته: فهى ست النعم بنت عبدوس الحرانيه،
توفيت
بدمشق سنه 716ه ، ولها بنون تسعه ليس فيهم بنت، عرف
منهم غير تقى الدين:
بدر الدين ابو القاسم، فقيها ساكنا قليل الشر كما
وصفه ابن
الوردى، توفى سنه 717ه .


وشرف الدين عبداللّه، كان فقيها عابدا توفى سنه 727 ه
وهو
اصغر سنا من اخيه تقى الدين.


ثم زين الدين عبدالرحمن الذى تولى الصلاه على اخيه
تقى
الدين عند وفاته.


قبيلته :
بقى مرجعه القبلى محل استفهام.


فان احدا ممن ترجم له لم يذكر قبيلته ولا منحدره
القومى،
وحتى معاصريه وتلامذته، كالذهبى، والصفدى، وابن
الوردى،
وابن عبدالهادى، وابن كثير، لم ينسبوه الى قبيله من
قبائل
العرب ولا من غيرهم.


ولم يذكر شى ء من ذلك فى تراجم آبائه ايضا.


فبقيت
نسبته
عرضه للتكهنات التى لا يويدها دليل شاف، ولا ينفيها
برهان
قاطع بعد سكوت معاصريه، بل ومعاصرى آبائه عن ذلك.


تيميه من هى ؟
حكى قصه هذا الاسم كبيرهم محمد بن الخضر المذكور
آنفا،
فقال: حج ابى او جدى، انا اشك ايهما، وكانت امراته
حاملا، فلما
كان بتيماء راى جويريه قد خرجت من خباء، فلما رجع
الى
حران وجد امراته قد وضعت جاريه، فلما رفعوها اليه
قال:
ياتيميه ! يا تيميه ! يعنى انها تشبه التى رآها
بتيماء، فسمى بها.


بيئته
بين حران ودمشق تقسمت حياه ابن تيميه ، خلا سنين
قلائل
قضاها بمصر بعد ان جاوز الخامسه والاربعين، ثم عاد
الى
دمشق.


ففى دمشق نشاته، وترعرعه، ونبوغه، وشهرته، ثم
وفاته.


وحران مسقط راسه، ومناخ طفولته، وموطن آبائه
القديم.


ففيها ولد وامضى سنيه الست الاولى، حيث يكون الطفل
مستعدا للتاثر بمحيطه تاثرا تثبت معالمه فى مقومات
شخصيته.


من هنا عنيت التربيه الحديثه بهذه المرحله
من
العمر واوصت بتهيئه الجو الامثل للطفل خلالها،
فالتاثير
المعنى به هنا انما هو تاثير البيئه، واما الوراثه
فليست مرتبطه
بسن معينه.


ولقد ركز الاسلام ايضا عنايته بهذه المرحله من
العمر، كما
عرف ذلك العرب قبل الاسلام حيث كانوا يودعون
المولود
الجديد مرضعات الباديه، ثم لا يعيدونه حتى يبلغ
السادسه من
العمر او قريبا منها، ادراكا منهم بانه سيعود حاملا
مقومات
شخصيته المستقبليه من تلك البيئه.


لذا راينا قبل الدخول فى دراسه معالم المفكر
المجتهد ان نقرا
اهم ملامح موطنه الاول.


حران :
اول ارض وضع فيها حائط بعد الطوفان، غير بابل.


بلده فى ارض الجزيره المستويه بين دجله والفرات، هى
موطن
المضريين، بناها هاران اخو ابراهيم الخليل (ع)،
فسميت
باسمه، ثم عربت فقيل: حران.


واليها كانت هجره ابراهيم الخليل باهله اولا، نزل
على عين ماء
فيها، فاقام هناك ساكنوها من بعد مشهدا سمى مشهد
ابراهيم
الخليل.


وفى ما حكاه القرآن الكريم من قول ابراهيم (ع): ( انى
ذاهب
الى ربى سيهدين) قيل: هاجر الى حران.


وفى قول اللّه تعالى: ( ونجينه ولوطا الى الارض التى
ب-ركنا
فيها للع-لمين) قيل: تلك الارض كانت حران.


هذا ما
ذكره
ياقوت وابن الفقيه، وهو عند اصحاب التفسير نادر
جدا.


وحران موطن الصابئه ! فيها سدنتهم السبعه عشر، وبها
تل
عليه مصلاهم الكبير، يعظمونه وينسبونه الى ابراهيم
الخليل
(ع).


ويزعم الصابئون ان مانى الثنوى من اهل حران، قال
بالاثنين
فضارع قول المجوس، ووضع اناجيل وتسمى مسيحا فضارع
قول النصارى، وافسد الشريعه، وقتله سابور احد ملوك
الفرس
على الزندقه.


ويزعمون ايضا ان ديصان الزنديق هو من اهل تلك
الديار، وكان
ولد زنا، وجد منبوذا على نهر ديصان، فسمى به.


ويجوز ان يكون اسقف حران ثيودور ابو قره هو
الجاثليق
المجهول الذى كان يناظر الامام الرضا (ع) فى عده
مجالس
ذكرها ابن بابويه فى كتابه (عيون اخبار الرضا).


ودخلت حران ظل الاسلام ايام
عمربن الخطاب(رضى اللّه) على
يد عياض بن غنم، الصحابى القائد الذى صارت اليه
ولايه الشام
كلها، استخلفه عليها ابو عبيده ابن الجراح عند
احتضاره، وهما
قريبان، واقره عليها عمر حتى توفى سنه 20ه .


افتتحها مع جارتها الرها صلحا، نزل عليها قبل
الرها، فخرج اليه
مقدموها فقالوا له: ليس بنا امتناع عليكم، ولكنا
نسالكم ان
تمضوا الى الرها، فمهما دخل فيه اهل الرها فعلينا
مثله.


واهل الرها كلهم نصارى، ولهم ثلاثمئه وستون ديرا،
وكنيستهم الكبرى الملبسه بالفسيفساء معدوده فى
عجائب
الدنيا، وفيها ولد هرقل امبراطور الروم الذى هزمه
المسلمون
فى فتوح الشام.


وفتحت المدينتان ابوابهما للمسلمين، وبقيتا
حليفتين يجرى
على الواحده ما يجرى على الاخرى، لاسيما ايام
السلاجقه ثم
ايام التتار، اما ايام الغزو الصليبى فسلمت حران،
فى حين كانت
الرها محطتهم الاولى فى بلاد الشام.


وقبل هذا التاريخ كان اهل الرها يقدسون منديلا
يزعمون انه
منديل المسيح(ع)، من اجل ذلك بقيت المدينه عرضه لغزو
الرومان حتى اعطاهم المسلمون ذلك المنديل فى
سنه 332ه
(944 م).


وحين كانت الدوله للسلاجقه فى العراق واجزاء من
الشام كانت
حران فى ملكهم، تبادلها امراوهم وربما تنازعوا
عليها، حتى
دخلها عماد الدين زنكى سنه 540 ه لينقذها من غزو
صليبى
كان على الابواب.


ثم تعاقب عليها الامراء الايوبيون (567 - 658 ه ): اعطاها
صلاح الدين لولده الافضل على، وبعد وفاه صلاح الدين
واستيلاء اخيه العادل انتزعها من الافضل واعطاها
لابنه
الاشرف، ثم صارت للناصر اخى الاشرف، ثم انتزعها منه
اخوه
الكامل لنفسه، وفى مده ولايه الاشرف غزاها كيقباذ
السلجوقى
ملك بلاد الروم سنه 631 ه وبقيت تحت الاحتلال حتى
استعادها الكامل سنه 633 ه .


وجاء عهد الاجتياح المغولى وسقطت دار السلام
(بغداد) فى
سنه 656 ه ، وتبعتها نواحى العراق لا سيما الموصل.


وحران بوابه الشام من جانب الموصل، فكانت على
الدوام عرضه
لاجتياح التتار الذين كانوا يدخلونها فيقتلون من
صادفهم من
اهلها ويخربون ما وقعت عليه ايديهم، وينهبون ما
عطفت عليه
اعينهم،ثم يتركونها قاصدين المدن الداخليه الكبرى
كحلب
وحماه وحمص ودمشق.


وفى كل مره غزا المغول مدن الشام كانت حران ضحيتهم
الاولى، فذاقت اشد البلاء فى سنين عجاف شهدت الى
جانب
استفحال التتار تدهور الدوله الايوبيه وانقراضها،
ثم نشوء دوله
المماليك فى مصر (648 ه ) ثم فى الشام (658ه ) لتعود حران
حره بيد المماليك مره، ومغلوبه بيد التتار اخرى،
مما اضطر
غالب سكانها الى هجرها والفرار الى مدن اكثر امانا،
ومن بين
الفارين كان شيخ حران عبدالحليم بن تيميه، فر
بعياله فى
سنه 667 ه قاصدا دمشق.


هذا هو حال حران، مدينه لم تعرف طعم الامان الا سنين
متقطعه، تكون بعدها عرضه لاجتياح جديد ! .


وكانت هذه المدينه احدى محطات ابن جبير الرحاله سنه
580
ه ، فوصف اجواءها وطبيعتها بعبارته المسجوعه، فقال:
بلد لا
حسن لديه، ولا ظل يتوسط برديه ، فلا يالف البرد
ماوه، ولا
تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وارجاوه، ولا تجد
فيها مقيلا، ولا
تتنفس فيها الا نفسا ثقيلا، قد نبذ بالعراء، ووضع
فى وسط
الصحراء، فعدم رونق الحضاره، وتعرت اعطافه من
ملابس
النضاره ! .


ذاك مناخها، اما عقائد اهلها بعد الاسلام ، فقد غلب
عليهم
الهوى الاموى، فكانوا اشد الناس تعصبا لبنى اميه،
وكانوا يرون
ان صلاه الجمعه لا تتم الا بلعن الامام على (ع) ! وحين
جاءهم
الامر من عمر بن عبدالعزيز بازاله لعن امير
المومنين عن
المنابر امتنعوا وضجوا، وقالوا: لا صلاه الا بلعن
ابى تراب ! .


ثم كانت حران ماوى مروان الحمار آخر الملوك
الامويين حين
فر من العباسيين، وله فيها قصر كبير انفق على بنائه
عشره
آلاف الف درهم.


واما مذاهب اهلها ، فمنذ ان تقسم الناس على المذاهب
كانت
حران موطن الحنابله لا ينازعهم فيها احد، وتخرج
منها علماء
كثيرون فقهاء ومحدثون لا تجد بينهم غير الحنبلى،
الا ان
يكون مولده ونشاته بعيدا عنها.


وحين وصف ابن عساكر
احد
اعلامها - ابا عروبه الحرانى المتوفى سنه 318 ه بانه
غال فى
التشيع شديد الميل على بنى اميه ! استنكر عليه
الذهبى ذلك،
فقال: ابو عروبه من اين يجيئه الغلو وهو صاحب حديث
وحرانى؟! بل لعله ينال من المروانيه، فيعذر.


دمشق :
وقف هرقل على هضبات انطاكيه يكفكف دموعه، وتبدد
الريح
صوته المحشرج المبحوح: السلام عليك يا سوريه.


سلام مودع لا يرجو ان يرجع اليك ابدا ! .


ونشرت جيوش الفاتحين اجنحتها، واصطفت بخشوع تصغى
لنداء (اللّه اكبر) لاول مره فى فضاء دمشق فى السنه
الثالثه
عشره بعد الهجره.


واستبدل عرش هرقل بحصير ابى عبيده
بن
الجراح الفاتح حتى توفى سنه سبع عشره، ليخلفه عياض
ابن
غنم الفهرى الصحابى حتى وفاته سنه عشرين، ولم تشتهر
لهما
سياسه ذات اثر، حتى انطوى الحصير وعاد العرش
وحجابه،
ولكن لهرقل العرب، معاويه بن ابى سفيان، الذى ساس
البلاد
بدهاء ذى فنون بعيدا عن مركز الخلافه، ولم يكن
معاويه ممن
صقله الاسلام ليحسن قياد دهائه، ولم يدفعه حماسه
لهذا
الدين نحو احداث نقله نوعيه فى المجتمع باتجاه
منهاج
الشريعه الاسلاميه الجديده رغم استقراره فى
الولايه عشرين
عاما قبل ان يكون بمحل الخلافه.


واذا كان من حوله عدد ليس بالقليل من الصحابه
الاسبق
اسلاما، والاعمق ايمانا، والاكثر وعيا لهذا الدين،
واشد حماسا
له، فان ثمه قيود تحد من نشاطهم التربوى والتعليمى
والتوعوى هناك، منها ما يعود الى الوالى نفسه الذى
لا يسمح
بنشر ما يخالف سياسته ولو كان ذلك نصوصا من القرآن
الكريم
والسنه النبويه المطهره ! وليس ادل على ذلك من قصته
مع
الصحابى الجليل خامس الاسلام صادق اللهجه ابى ذر
الغفارى،
وتسييره من الشام الى المدينه، ثم ينفى الى الربذه
حتى يموت
هناك وحيدا فى ارض لا يسكنها بشر غيره ! .


ومن تلك القيود ما كان مصدره عاصمه الخلافه، فحين
كانت
العاصمه توجه الصحابه الى الامصار، كان يوخذ عليهم
العهود
والمواثيق الا يحدثوا بشى ء من حديث النبى (ص) ! .


فلم تذق دمشق آنذاك حلاوه الايمان، ولا كان لها حظ
مما
تعلمه جيل المدينه المنوره من مكارم الاخلاق
ومعالى القيم
الاسلاميه الشامله، حتى اذا بلغت الجراه بالوالى
معاويه ان
يترك تجاره الخمر حره لم يجد بين اهلها من ينكر
عليه، ولا
حتى من بعض الصحابه الذين كانوا معه، من هنا عد صنيع
الصحابى البدرى العقبى النقيب عباده بن الصامت
شاذا، لينال
جزاءه من عاصمه الخلافه، ذلك انه (رضى اللّه) كان
فى الشام
فمرت عليه قطاره من الابل تحمل خمرا.


فقال: ما هذه !
ازيت
؟ قيل: لا، بل خمر يباع لمعاويه ! فاخذ شفره من السوق
فقام
اليها واراق ما فيها.


فارسل معاويه الى ابى هريره، وكان هناك، فقال له:
الا تمسك
عنا اخاك عباده ! فاتاه ابو هريره فقال: يا عباده، ما
لك ولمعاويه
! ذره وما حمل.


فقال عباده: لم تكن معنا اذ بايعنا على السمع
والطاعه، والامر
بالمعروف والنهى عن المنكر، والا ياخذنا فى اللّه
لومه لائم.


فسكت ابو هريره.


فكتب معاويه الى الخليفه آنذاك عثمان بن عفان
(رضى اللّه):
ان عباده بن الصامت قد افسد على الشام ! .


فكان قرار العاصمه على الاثر باجلاء عباده من دمشق
الى
المدينه، حفاظا على (صلاح الشام) ! .


فكان صلاح الشام اذن على تلك الصوره، حتى اذا راى
الوالى ان
(صلاح الشام) على تلك الحاله يستدعى الخروج على
الامام
الحق الذى عقدت له البيعه، فلا مانع من ذلك، وليسلك
اليه
اى سبيل يفى له بالغرض، فليس فى من حوله من يعرف
احاديث النبى (ص) التى عدت الخروج على الامام العادل
كفرا
باللّه تعالى وخروجا عن الاسلام، وليس فيهم من يعرف
من هو
على بن ابى طالب كى يتردد فى الخروج عليه.


فمن كلام معاويه حين قدم من الشام الى المدينه
وكانت
مضطربه على عثمان، مخاطبا عمار بن ياسر فى مجلس ضم
جمعا من الصحابه، قوله: يا عمار، ان بالشام مئه الف
فارس كل
ياخذ العطاء، مع مثلهم من ابنائهم وعبدانهم،
لايعرفون عليا
ولا قرابته، ولا عمارا ولا سابقته، ولا الزبير ولا
صحبته، ولا
طلحه ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، ولا
يتقون
سعدا ولا دعوته.


فكانت وقعه صفين، التى سبقها ورافقها وتبعها حملات
من
الاعلام وقلب المفاهيم زادت فى بعد مسلمى الشام
آنذاك عن
هدى القرآن والسنه (فنشاوا على النصب) لا يعرفون الا
معاويه
رمزا وعنوانا للاسلام، وان الباطل والضلال فى
خلافه ! .


وعاشوا على (سنه) الفوها فى سب على (ع) والحسن
والحسين
ريحانتى رسول اللّه وسيدى شباب اهل الجنه ! .


وازداد الامر ظلمه بعد معاويه، فيزيد، الخليفه
الجديد، اشد
بعدا عن روح الدين واهدافه، بل عن ضروراته واحكامه،
فبعد
كونه ابن معاويه، المولود فى الشام، كان قد نشا
وتربى وترعرع
بين النصارى مع امه النصرانيه ميسون، حيث كان
معاويه قد
طلقها بعدما اسمعته ابياتا تفضل فيها عيش الباديه
وزوجا
من بنى عمها على عيش القصور معه، تقول فى اولها:
للبس عباءه وتقر عينى
احب الى من لبس الشفوف
وآخرها:
وخرق من بنى عمى ثقيف
احب الى من علج عنيف
من هناك جاء يزيد الى قصر الخلافه، ورغم انه عرف
جهارا
بيزيد الخمور، حليف الكاس واللهو والطيور، غير انه
لم يجد من
اهل دمشق الا التبريك والاجلال حين اصطفوا ينظرون
الى
موكب السبايا من آل الرسول، ورووس رجالهم مرفوعه
على
رووس الرماح، يتقدمها راس الحسين العزيز على اللّه
ورسوله! .


ولم يجد منهم الا جنودا اوفياء، يقتحمون مدينه
الرسول،
فيقتلون رجالها من الصحابه وابنائهم، ويستبيحون
الاعراض،
فى وقعه الحره المنكره ! .


وآل الحكم الى مروان بن الحكم وبنيه، فلم يكن احدهم
اقل
نصبا من سلفه، خلا عمر بن عبدالعزيز الذى اظهر عدلا
واجتهد فى تصحيح المسار، وحقق الكثير، غير ان مده
حكمه
القصيره، وعوده السياسه الامويه بعده الى نهجها
الاول، قد
اجهز على تلك الاصلاحات وبدد آثارها.


فعاشت دمشق امويه اكثر من قرن من الزمن، فبين سنتى 20
ه
حيث تولى معاويه، و132 ه سنه مقتل مروان الحمار على
ايدى
العباسيين، تعاقب عليها الخلفاء الامويون الذين
يصفهم عماد
الدين ابن كثير فى ارجوزته فى التاريخ، فيقول:
وكلهم قد كان ناصبيا
الا الامام عمر التقيا
فنشا على ايديهم جيل يصفه ابو سلمه الانصارى على
لسان
صاحب له، قال: كنت بالشام، فجعلت لا اسمع احدا يسمى
عليا
ولا حسنا ولا حسينا، وانما اسمع: معاويه ويزيد
والوليد.


فمررت
برجل جالس على باب داره، فاستسقيته، فقال: يا حسن!
اسقه.


فقلت له: اسميت حسنا ؟ .


فقال: اى واللّه، ان لى اولادا اسماوهم: حسن وحسين
وجعفر،
فان اهل الشام يسمون اولادهم باسماء خلفاء اللّه،
ولا يزال احدنا
يلعن ولده ويشتمه، وانما سميت اولادى باسماء اعداء
اللّه، فان
لعنت فانما العن اعداء اللّه ! .


ودخل دمشق الحافظ النسائى فى سنه 302 ه فوجد اهلها
مغالين فى بنى اميه، مفرطين فى النصب، فاثاره ذلك
فكتب
كتابا فى فضائل امير المومنين على(ع) واذاعه بينهم،
فثاروا
عليه يطالبونه ان يكتب نظيره فى معاويه، فاجابهم
بقوله: لا
اجد له فضيله الا (لا اشبع اللّه بطنك) ! فضربوه
وسحقوه
باقدامهم سحقا عنيفا كان سببا فى وفاته.


وقع هذا مع الحافظ الكبير النسائى بعد 170 سنه من
سقوط
الدوله الامويه ! .


فدمشق لم تستقم للقياده العباسيه، بل ظلت مضطربه
عليهم
طوال عهدهم، وقامت بها حركات فصلتها عن بغداد
العاصمه
العباسيه فجاء احمد بن طولون من مصر ليخمدها فوجد
الفرصه مواتيه له لان يستقل بها هو الاخر وينشى
المملكه
الطولونيه فى الشام ومصر سنه 266 ه حتى
ازاحه القرامطه من
دمشق سنه 290ه ، ثم هزموا بعد عام واحد على يد طغج
التركى، ثم انفصلت دمشق مره اخرى على يد كافور
الاخشيدى العبد الذى حكم مصر وسوريا حكم الجبارين،
وخلفه ابنه احمد ابو الفوارس الغلام ابن الحاديه
عشره الذى
هزم سنه 296 ه على يد جوهر القائد
الفاطمى القادم من المغرب
لتدخل دمشق تحت الحكم الفاطمى حتى سقوطه
سنه 567ه .


غير ان ذلك كله لم يغير من ولاء دمشق الاموى، حتى
تجد
حافظها ومورخها الكبير ابن عساكر -المتوفى سنه 571 ه
يعد
النيل من مروان او بنيه غلوا فى التشيع ! .


تلك كانت صوره دمشق، واما تفصيل حالها فى العهود
اللاحقه
فياتى خلال الحديث عن سمات عصر ابن تيميه.


الفصل الثانى- سمات عصره
عصره السياسى
عصره الاجتماعى والثقافى
عصره العلمى والادبى
عصره الدينى
عصره السياسى
امتدت حياه ابن تيميه فى العصر المماليكى الاول،
عصر
المماليك البحريه، الذى ابتدا بسيطرتهم على مصر
سنه 648
ه ، ثم بلاد الشام سنه 658 ه ، حتى كانت نهايتهم فى سنه
784 ه ليبتدى عهد المماليك البرجيه، وحتى عام 923 ه
حيث نهايه دولتهم على ايدى العثمانيين.


قام العصر المماليكى الاول على انقاض الدوله
الايوبيه التى
حكمت مصر والشام منذ عام 567 ه ، حيث كانت نهايه العهد
الفاطمى الذى امتد قرابه ثلاثه قرون (296 - 567 ه ) حتى
انهكته الحروب المتواليه، فبعد السلاجقه الذين
بسطوا نفوذهم
على بغداد سنه 451 ه ، ثم اندفعوا نحو الشام ينازعون
الدوله
الفاطميه على مدنه الكبرى، بعد ذلك كانت الحروب
الصليبيه
التى ابتدات فى سنه 488 ه بمهاجمه الثغور الشماليه
فى آسيا
الوسط ى، ثم انحدر الافرنج الصليبيون نحو الرها
ليقيموا فيها
اولى ولاياتهم فى ارض الاسلام سنه 491 ه ، ثم انطاكيه
التى
اصبحت مركز ولايتهم الثانى، كل ذلك انتزعوه من
السلاجقه،
ثم انحدروا جنوبا فانتزعوا مدن الساحل ووادى نهر
العاصى من
الفاطميين، وتوغلوا نحو الجنوب قاصدين هدفهم،
القدس،
حتى اجتاحوها فى شهر رجب من سنه 492 ه بعد حصار دام
نحو اربعين يوما، فاشاعوا فيها الذبح الذريع دون
تمييز فى سن
او جنس، فكانت مذبحه وصفها مصدر لاتينى قائلا: ان
النظر
كان يقع على اكوام من الرووس والايدى والاقدام فى
الطرق
والساحات العامه.


والظاهر ان تسميه الحروب الصليبيه ليست تسميه
عربيه،
فالذى دونه مورخو العرب هو اسم الافرنج.


وهولاء
الافرنج هم
الذين اطلقوا عليها اسم الحروب الصليبيه، فاستساغه
المتاخرون لسببين:
الاول: ان تسميه الافرنج تسميه قديمه رهينه عصرها.


والثانى، وهو الاهم: ان فى هذه التسميه تعبير صادق
عن هويه
تلك الحروب، التى انطلقت شرارتها الاولى بدعوه
البابا
اوربانوس الثانى فى خطبته العنيفه التى القاها فى
جنوب
فرنسا داعيا الى الزحف نحو (كنيسه القيامه)، فهتف له
الجمهور على الفور: هكذا يريد اللّه ! .


ولما كان الثار الاسلامى من الصليبيين قد ابتدا على
يد عماد
الدين زنكى صاحب الموصل الذى هزمهم اول مره على
ابواب
حران، ثم اقتحم عليهم الرها منتزعا اولى ولاياتهم
الكبرى فى
سنه 539 ه ، ثم واصل قائده نور الدين محمود انتصاراته
فى
سوريه، فى حين كانت الدوله الفاطميه فى اضعف
ادوارها وقد
اقتحم عليهم الافرنج الصليبيون مدن مصر حتى حصروا
القاهره، استنجد الخليفه الفاطمى العاضد بنور
الدين محمود
فانجده بجيش يقوده شيركوه ويصحبه ابن اخيه صلاح
الدين
الايوبى، ليصبح شيركوه الشافعى وزيرا للعاضد
الفاطمى
الاسماعيلى، غير انه توفى بعد شهرين فقط، ليقع
اختيار
العاضد على صلاح الدين فيتخذه وزيرا وقائدا للجيوش
على انه
فى الوقت ذاته كان نائبا لقائده نور الدين المستقر
فى دمشق .


فكانت نهايه العهدالفاطمى على يد الوزيرالجديد
سنه 567ه .


ومن الطريف ان صلاح الدين الذى خطط مبكرا لانهاء
الحكم
الفاطمى تردد كثيرا فى قطع الخطبه الفاطميه، حتى
انبرى
لها خطيب اعجمى يدعى نجم الدين الخبشانى، فخطب
للمستضى ء العباسى الذى لا يعدو كونه رمزا مقيدا
فى بغداد
بعيدا عن كل ما يجرى ! .


فانفرد صلاح الدين بملك مصر موجها انظاره نحو الشام
حتى
ضمها الى ملكه بموت نور الدين سنه 569 ه ليوسس الدوله
الايوبيه الفتيه فى مصر والشام.


ثم توجه لمطارده الصليبيين، فافلح فى طردهم من معظم
المدن التى احتلوها، فلم يبق فى ايديهم من المدن
الكبيره
سوى صور وطرابلس وانطاكيه.


ولكن بعد مضى صلاح الدين
ابتدا النزاع بين بنيه واخيه العادل وابناء اخيه،
واشتد النزاع بين
خلفهم، وكلما احس احدهم بالضعف استعان بالصليبيين
على
اخيه او ابن عمه ومنحهم مالا يملكون من المدن، حتى
استعادوا اغلب ما انتزعه منهم صلاح الدين، وحتى
القدس،
تخلى لهم عنها الملك الكامل ابن العادل على ان
ينصروه على
الد خصومه، اخيه ! صاحب دمشق.


فلما اشتد النزاع بين بنى ايوب عمد ملوكهم الى شراء
مماليك
من الاتراك يقومون على حراستهم، واستكثر منهم
الملك
الصالح سنه 637 ه واقطعهم الاراضى ومنحهم جزيره بحر
النيل (روضه نهر النيل)، فمن اجل ذلك سموا بالمماليك
البحريه.


وازداد نفوذهم حتى تمكنوا بعد موت الملك الصالح فى
سنه
647 ه باشهر فقط من قتل ابنه طوران شاه سنه 648 ه ليوول
ملك الايوبيين الى الامراه شجره الدر زوجه الملك
الصالح،
فكانت آخر رموز الايوبيين اول ملكه فى تاريخ
الاسلام! .


ولاجل ان تحظ ى بتاييد الخليفه الرمز فى بغداد
اتخذت عز
الدين ايبك المملوكى وجها صوريا للحكم، ثم زوجا،
حتى
دست اليه من قتله فى الحمام، فهاج عليها المماليك
فقتلوها
ونصبوا سيف الدين قطز المظفر المملوكى، وخطبوا له
بالسلطنه كاول سلطان فعلى للمماليك فى سنه 657 ه ،
بعد
عام واحد على سقوط العاصمه العباسيه بغداد بايدى
التتار
المغول واجتياحهم مدن الشام والاجهاز على بقايا
الدوله
الايوبيه هناك.


وفى اقل من سنه مرت على سلطنته استطاع قطز ان يهزم
التتار فى معركه عين جالوت الشهيره.


ولم يمض على
ملكه
غير احد عشر شهرا حتى قتله الظاهر بيبرس ليجلس على
كرسى السلطنه سنه 658 ه ، وكان بيبرس اقوى سلاطين
المماليك على الاطلاق واحسنهم سيره، وقد حاول ان
يعيد
الرمز العباسى حين عثر على رجل جاء به بعض الاعراب
فزعموا
انه من ابناء البيت العباسى نجا بنفسه فارا من
بغداد اثر الغزو
التترى، فبايعه بالخلافه وارسله على راس جيش الى
بغداد
ليجدد عهد آبائه، غير ان التتار قتلوه غربى بغداد
وافنوا جنده.


وواصل الظاهر بيبرس مطارده التتار فى بلاد الشام،
كما افلح
فى دحر الصليبيين واسترجاع معظم ما احتلوه، حتى
استعاد
منهم انطاكيه التى عجز عنها صلاح الدين، واجتاح
قلاع
الاسماعيليه فى سلميه التى عجز عنها صلاح الدين
ايضا،
وكادت تستوى له جميع بلاد الشام، حتى كانت وفاته
سنه 676
ه ، ليبتدى بعده عهد جديد من الفتن وتعدد الملوك
وشيوع
القتل بينهم، وكانوا على الترتيب:
السعيد بركه ابن الظاهر بيبرس : خلعه امراء العسكر
سنه 678 ه
.


سلامش بن بيبرس : كان عمره سبع سنين، وخلع بعد اربعه
اشهر فقط.


قلاوون المنصور : كان سلطانا قويا انتظم فى عهده امر
البلاد
حتى وفاته سنه 689 ه ، وهو ثانى من مات على السلطنه
بعد
الظاهر بيبرس، فى حين توزع الاخرون بين مخلوع
ومقتول.


الملك الاشرف ابن قلاوون : انتزع عكا من الافرنج
واستعاد
كامل البلاد الساحليه، وقتل فى سنه 693 ه على ايدى
مماليك
ابيه.


بيدرا القاهر : ملك اقل من اسبوعين فقتله مماليك
ابيه.


الملك الناصر ابن المنصور قلاوون : وفى عهده هذا غزا
التتار
البلاد سنه 699ه واحتلوا حلب وحماه ودمشق وغزه
والقدس
والكرك وهزموا الملك الناصر الى مصر، فاعاد عليهم
الكره فى
العام التالى فى جيش قاده سلار وزميله بيبرس فهزموا
التتار
واستعادوا البلاد.


بيبرس : القائد، وزميله سلار اتفقا على خلع الناصر
سنه 708 ه
واستقلا فى الحكم عاما واحدا.


الملك الناصر : عاد الى السلطنه سنه 709 ه واقصى
بيبرس،
وصحبه سلار من جديد، واستوت له البلاد، وعدم
المنافسين،
فكان آخر سلطان يعاصره ابن تيميه.


وتعاقب على دمشق فى هذه الفتره نحو خمسه عشر واليا،
كان
اولهم علم الدين سنجر الحلبى (658 - 659 ه )، وآخرهم سيف
الدين تنكز (712 -740ه ) وقد امتاز عهده بالاستقرار.


والى
جانب الوالى كان السلطان يعين (دوادارا)وامراء
عساكر
يشاركون الوالى فى الاداره لضمان عدم تمرده، وهذه
المناصب
كلها حكر على المماليك الذين دخلوا الاسلام بعد
اقامتهم فى
مصر، وهناك ايضا ابتداوا يتعلمون العربيه.


تميز هذا العهد بغلبه السيف على الوراثه فى الحكم،
وتجسد
التجزئه السياسيه بغياب الرمز العباسى الى الابد،
تلك التجزئه
التى كانت قد ابتدات فى الواقع قديما منذ فقد البيت
العباسى
هيمنته، حيث كان احمد الراضى -المتوفى سنه 329 ه آخر
خليفه عباسى ينفرد بتدبير الجيوش والاموال
والسياسه، وآخر
من خطب على المنبر يوم الجمعه من بنى العباس.


عصره الاجتماعى والثقافى
ماذا ينتظر امه عشعشت فيها الاضطرابات والفتن،
وتعاقبت
عليها عصور وهى لا ترى من الاستقرار الا كذنب
السرحان !
وتعاقب عليها ملوك وامراء لا يعرفون لها حقا، ولا
يفهمون
للامان معنى الا ما حاط قصورهم ! .


امراء وسلاطين يتنازعون على الملك تنازع الصبيان
على
لعبهم، ولا فرق فى ضمائرهم بين ان تراق الخمره على
موائدهم، او تسفك الدماء تحت حوافر خيولهم !.


ماذا ينتظر المجتمع اذن غير الفقر والعناء والجهل
والتفكك
والضياع ؟ .


وهكذا كانت الحاله الاجتماعيه فى هذا العصر نتيجه
طبيعيه لا
غرابه فيها، تفشى الفقر قاسيا، وليس ثم اصلاحات تحد
من
صولته.


وكثرت الكوارث الطبيعيه، كالسيول
والفيضانات
والجفاف والزلازل، كثره ملحوظه فى هذه الفتره، ولا
يعقب
ذلك شى ء من اعمال الاصلاح والترميم وتعويض
المتضررين،
الا ما يعود ضرره مباشره على سلطان او امير ! .


ففى سنه 656 ه اشتد وباء بالشام وخصوصا بدمشق حتى عز
مغسلو الموتى.


وفى سنه 680 ه غرقت دمشق.


وفى سنه 694 ه جفت مصر جفافا هائلا تبعه غلاء فاحش حتى
اكلت الميته.


وفى سنه 718 ه وقعت مجاعه فى شمال بلاد الشام والموصل
كانت سببا فى جلاء الناس وموت الكثير منهم ، وغلاء
فاحش
حتى باعت الامهات اولادها للنصارى، فاذا امتنع
احدهم من
شراء الاولاد تجعل المراه نفسها نصرانيه ليرغب فى
الشراء ! .


وفى سنه 720 ه زلزلت مصر والشام.


وفى سنه 724 ه غرقت مصر.


واستطال الجهل، الوليد الطبيعى للفقر والعوز،
وشاعت اساليب
جديده من التكسب، فتكسبوا بالشعر، وبالخرافات
والاباطيل،
كما تكسبوا بالمنكرات كالخمره والحشيشه.


فاذا كانت
الخمره
قد عرفت قديما فى قصور الملوك والامراء لتاخذ
طريقها بيسر
الى اسواق المدن الكبيره والصغيره وتنتشر الحانات
فى كل
مكان، فان الحشيشه المخدره التى انتشرت هنا فى
العهد
الايوبى، ازدهر سوقها كثيرا فى هذا العصر حتى اصبحت
من
موارد بيت المال المهمه اذ يصل الديوان من عائداتها
كل يوم
الف دينار، وهو مورد مهم فى وقته، ودخلت الحشيشه فى
ثقافه المجتمع ففتحت على الشعراء بابا جديدا،
فتغنوا بها،
وفاضلوا بينها وبين الخمره، واكثروا من ذلك حتى صار
سمه
بارزه فى سمات العصر، وحتى سقط فى شراكها كبار ذوو
وجاهه، كعلم الدين احمد بن يوسف (688 ه ) الذى عرف فيما
بعد بالشيخ الماجن، ومن قوله فيها:
يانفس ميلى الى التصابى
فاللهو منه الفتى يعيش
ولا تملى من سكر يوم
ان اعوز الخمر فالحشيش
ومع ذلك فان السواد الاعظم من المسلمين كان يستنكر
تلك
المظاهر، ويتاذى منها، ويتعلل بما امكن من دواعى
محاربتها.


ففى سنه 691 ه رفع اهل معره النعمان قصصا ودعاوى الى
الملك الاشرف مطالبين بابطال الخماره، فابطلت
وخربت من
ساعتها.


وفى سنه 720 ه اريقت الخمور فى خندق قلعه المدينه
السلطانيه ! واحرقت الظروف، وذلك انه وقع برد كبار
اهلك
المواشى، واعقبه سيل مخوف، فسال السلطان الفقهاء
عن
سببه، فقالوا: من الظلم والفواحش.


فابطل الحانات فى
مملكته، وابطل مكس الغله الذى كان يثقل كاهل الناس.


وبين الفقر والجهل تخيم الاجواء الخصبه للخرافات
والاباطيل،
فالناس عندئذ اشد تعلقا بها من تعلقهم بحقائق الدين
المسنده، ففتح بذلك باب جديد للتكسب كان ضحيته
السذج
على الدوام.


وتواترت اخبار العوام برويه المنامات، وكثره
الظواهر، وتحدثوا
بقيام الزمنى والمرضى وفتح اعين الاضراء عند قبور
اكتشفوها
فى المنامات، ونقل قوم عن قوم اشياء لا اصل لها غير
اهويه
العوام، وبطل الناس من معايشهم واشغالهم بسبب ذلك،
وزعم
احدهم انه راى فى منامه ما يدل على ظهور قبر احد
الصالحين
فهرع الناس اليه وكشفوا التراب عنه فوجدوه صبيا
مقتولا وفى
جيبه كعاب كان يلعب بها فعرفه ابوه وقال: هذا ولدى
فقدته
منذ ايام ! .


وترقى الخيال ببعض المتكسبين، فادعوا علم النجوم،
ورسموا
تقاويم كتبوا عليها احكاما بحسب الابراج، فمنعتهم
السلطه من
ذلك سنه 718 ه .


وشاء اللّه ان يبير تجارتهم فاشاعوا
ان الشمس
ستكسف فى دمشق فى الساعه السابعه بعد الظهر من يوم
الخميس الثامن والعشرين من ربيع الاخر سنه 726 ه ،
وذكروا
ان ذلك ثابت فى جميع التقاويم وانه حساب لا يخرم.


فتهيا
الناس للصلاه فلم تنكسف الشمس، بل انكسف المنجمون !
.


وفى اجواء الفقر والبلبله يكثر اللصوص وقطاع
الطرق، وفى
تلك السنين قطع طريق الحاج مرات عديده.


والى جانب ذلك كانت طبقات منعمه فى ظل وارف لا تمسهم
سموم الفقر ولا يجدون ريحه، اولهم السلطان
والمقربون اليه،
ثم الولاه والامراء ونوابهم، ولكل واحد منهم حاشيه
تحرس بابه
وتاكل على سماطه، وكان هولاء يمثلون قمه نظام
اقطاعى
سنوه لانفسهم.


ثم طبقه القضاه وكثير من الفقهاء الذين كانوا يحظون
بعنايه
السلطان والولاه، وعدد آخر من رجال الدين كان
يصطفيهم
السلطان فيكونون حوله ويصحبونه فى اسفاره اطلق
عليهم
طبقه (المعممين).


عصره العلمى والادبى
نشط التاليف فى هذا العصر نشاطا ملموسا، ولعل
الوازع اليه هو
تعويض ما ضاع من التراث اثر الاجتياحين الصليبى
والمغولى.


ومن ابرز ماظهر فيه التاليف الموسوعى الذى كان
رائده نصير
الدين الطوسى (672 ه ) الذى الف فى الفقه وفى الفلسفه
وفى
الرياضيات والفيزياء والفلك والطب وعلم المعادن
وحتى فى
الموسيقى، كما كان صاحب اكبر مرصد فلكى انشاه بنفسه
فى
ذلك العصر.


وظهر علماء آخرون كتبوا فى علوم متعدده، منهم:
زكريا بن
محمدالقزوينى(682 ه )، وجمال الدين الوطواط (718 ه )،
وابو حيان الاندلسى(754ه ).


وبرع فى الطب: ابن النفيس (687 ه ) مكتشف الدوره
الدمويه
الصغرى.


وفى الفيزياء: العالمان الكبيران: قطب الدين
الشيرازى (710 ه
)، وتلميذه كمال الدين الفارسى (720 ه ).


وفى الرياضيات: سعيد بن محمد الصفدى (712 ه ).


وفى علم الاجتماع وفلسفه التاريخ: ابن الطقطقى (709 ه
)
فى كتابه (الفخرى فى الاداب السلطانيه والدول
الاسلاميه)
وكان سابقا لابن خلدون.


وفى اللغه: بعد ابى حيان الاندلسى كان ابن منظور (711
ه )،
ثم ابن هشام الانصارى (761 ه ).


وبرز من المورخين عدد كبير: كابى شامه (665 ه )، وابن
العديم (666ه )، وابن خلكان (681 ه )، وابن الفوط ى (723 ه
)، والمزى (742 ه )، والذهبى (748ه )، وآخرون.


واما اوسع الناس تصنيفا فى العلوم الدينيه خاصه
كالفقه
والاصول والتفسير والحديث فكان: العلامه ابن
المطهر الحلى
(726 ه ) وله تاليف فى علوم اخرى كالهيئه والرياضيات
والفلسفه، شرح فيها كثيرا من كتب شيخه نصير الدين
الطوسى حتى قيل: لولا شروح ابن المطهر لم يفهم احد
كلام
نصير الدين.


وامام الزيديه يحيى بن حمزه المويد باللّه (669 - 749 ه )
والشيخ على بن عبدالكافى السبكى (686 - 756 ه ) امام
الشافعيه، وله نحو مئه وخمسين مصنفا فى العلوم
الدينيه.


كانت هذه النهضه العلميه صحوه عقبها دور الضعف
والانحطاط الذى كان اسرع سريانا فى النتاج الادبى،
اذ شهد
هذا العصر انحطاطا كبيرا فى الشعر والادب، فضعفت
اغراض
الشعر وشاع فيها التقليد وداخلته المعانى الركيكه
والالفاظ
العاميه، وابتعد عن معالجه هموم المجتمع، وكثر
النظم فى
الالغاز والاحاجى والحشيشه، وكثر شعر الموشحات غير
انه
غلب عليه التقليد والضعف ودخلته العاميه ايضا.


ولم
ينج من
تلك الادواء سوى صفى الدين الحلى (750677 ه )، يليه ابن
نباته المصرى (686 - 768 ه ).


عصره الدينى
الحاله الدينيه فى هذا العصر مليئه بكل ما هو مثير.


فالعصر الذى شهد سقوط عاصمه الخلافه على ايدى
التتار
المغول وما تبعه من دمار وخراب، شهد ايضا تدفق
هولاء التتار
سلاطين وجنودا الى اعتناق الاسلام وتطبيق شى ء من
احكامه
احيانا.


والعلاقه بين الديانات السماويه الثلاث كانت على
اسوئها، لما
شهده اليهود والنصارى من دعم وحمايه من قبل
الصليبيين
ثم التتار، استطالوا على اثره، فخلف ذلك فتنا
كثيره، ومذاهب
اسلاميه منحرفه نشطت كثيرا، اهمها:
1 - الاسماعيليه : وهى فرقه شيعيه شذت بعد الامام
جعفر
الصادق (ع)، وكان لها شوكه ونفوذ، ومركزها فى سلميه
من
نواحى حماه، والمذهب الاسماعيلى هو مذهب الدوله
الفاطميه
التى حكمت قرابه ثلاثه قرون، وعرفوا بالباطنيه
لاغراقهم فى
الباطن.


2 - الكراميه : فرقه من اهل السنه تقول بالتجسيم
والتشبيه،
تسربت عقائدهم حتى الى بعض خصومهم، ومن ذلك قولهم
باستقرار اللّه تعالى على العرش مماسا له من جهته
العليا، وانه
قد امتلا به العرش، او هو على بعض اجزاء العرش،
وجوزوا عليه
الانتقال والتحول والنزول.


تعالى اللّه عما يصفون.


3 - النصيريه : فرقه من غلاه الشيعه، زعمت ان الروح
الالهيه
حلت فى الامام على (ع)، ثم اعتقدوا ان ابن ملجم هو
افضل
اهل الارض لانه خلص روح اللاهوت من ظلمه الجسد،
وكان
لهم فى هذا العصر قوه ازعجت السلطه فوجهت اليهم
جيشين
لمقاتلتهم، مره فى سنه 705 ه ، والاخرى سنه 717 ه .


4 - اليزيديه : او العدويه، نسبه الى الشيخ عدى بن
مسافر
المروانى الاموى المتوفى سنه 557 ه .


وكان صوفيا
استوطن
ارض الاكراد فى الجزيره الشاميه (الحدود العراقيه
السوريه)،
وكان يعتقد فى يزيد بن معاويه انه امام حق وابن
امام، فغلا فيه
اتباعه من بعده، وكان لهم انتشار وفتن فى تلك
الديار وفى
ديار بكر وبلاد الارمن من آسيا الوسط ى.


وانتشر التصوف انتشارا هائلا، ساعده على ذلك الجهل
العام
بفحوى الدين واهدافه الكبرى، فى اجواء من الياس
والقنوط
والخمول، وتاييد السلاطين المستمر وحمايتهم.


فقد
عنى
متاخرو العباسيين بامر مشايخ الصوفيه، وازدادت
عنايه
الايوبيين بهم، فانشاوا لهم الرباطات والتكايا،
وكان صلاح
الدين يحضر مجالسهم، فاذا رقصوا وطربوا استوى
قائما فلا
يجلس حتى ينتهون.


ومضى على ذلك خلفه، وزاد عليهم
المماليك انهم كانوا يفتتحون اعمالهم بعد التنصيب
بمجلس
يقيمه لهم الصوفيه، فيتناول الامير بحضرتهم (كاس
الفتوه)
الذى ابتدعه هولاء ونسبوه الى الامام على (ع) زورا.


وهذا لا يعنى ان امر الصوفيه كان منسجما على الدوام
مع
السلطه، فمن شيوخهم من اوذى وسجن، كالشيخ
السهروردى
(587 ه ) والشيخ محيى الدين بن عربى (638 ه ) والشيخ
خضر العدوى الذى اعتقله السلطان بيبرس سنه 671ه وبقى
حتى توفى فى معتقله بقلعه الجبل، وفيه انشد بعض
انصاره:
لم يحبس الشيخ خضر بعد منقصه
منه، وليس له ذنب الى احد
لكنه كان كالسلطان منزله
وهل راى الناس سلطانين فى بلد ؟!
ومهما يكن فان انتشار التصوف يعد من ابرز الظواهر
الدينيه فى
ذلك العصر.


المذاهب الكبرى :
شهد هذا العصر حدثا جديدا لم تعهده دمشق من قبل، فقد
انشا
الظاهر بيبرس نظاما جديدا يقضى بتعيين اربعه قضاه
موزعين
على المذاهب الاربعه، وطبق هذا النظام فى القاهره
سنه 663
ه ، ثم فى دمشق سنه 664 ه ، بعد ان كان القضاء فيها
حكرا
على الشافعيه.


يقول السبكى الشافعى: لم يكن يلى قضاء الشام،
والخطابه
والامامه بجامع بنى اميه الا من يكون على مذهب
الاوزاعى،
الى ان انتشر مذهب الشافعى فصار لا يلى ذلك الا
الشافعيه.


وارخ السبكى لذلك بسنه 302 ه منذ عهد القاضى ابى زرعه
محمد بن عثمان الدمشقى.


واذا كان قرار بيبرس هذا يعد انتصارا للمذاهب
الثلاثه حيث
منحهم فرصه تاريخيه لنوع جديد من النشاط، فانه كان
قرارا
قاسيا على الشافعيه الذين لم يعتادوا رويه مشارك
لهم فى
القرار، ورغم ان بيبرس قد احتفظ للقاضى الشافعى
ببعض
المزايا على غيره، كاختصاصه بالاوقاف وتقديمه فى
الايام
الرسميه، الا ان ذلك لم يحد من سخطهم الذى بلغ الى
حد
اعتقادهم ان هذا النظام قد اوجب على فاعله الظاهر
بيبرس
دخول النار والعذاب الشديد، كما اوجب ضياع ملكه ! .


يقول السبكى: حكى ان الظاهر بيبرس راى الشافعى فى
النوم
لما ضم الى مذهبه بقيه المذاهب، فقال له الشافعى:
تهين
مذهبى ! البلاد لى، او لك ؟! انا قد عزلتك وعزلت
ذريتك الى
يوم الدين.


قال: فلم يمكث الا يسيرا ومات، ولم يمكث ولده السعيد
الا
يسيرا وزالت دولته، وذريته الى الان فقراء ! .


وهكذا تنطلى اضغاث احلام البسطاء على السبكى
العلامه
فيقول بعكس ما ترى عيناه، فهو يعلم ان بيبرس قد بقى
فى
السلطنه ثلاث عشره سنه بعد قراره بضم القضاه، وانه
احسن
السلاطين سيره، فعطل الخمره والحشيشه فى كل البلاد
ولم
يفعل ذلك احد غيره، وهزم المغول والصليبيين وحقق ما
عجز
عنه صلاح الدين حتى توفى سنه 676 ه ! ولكن شيئا من ذلك
لم يكن شافعا له، فالسبكى يقول: حكى انه رئى فى
النوم بعد
موته، فقيل له: ما فعل اللّه بك ؟ قال: عذبنى عذابا
شديدا بجعل
القضاه اربعه !.


ولم يكن ذلك شان الشافعيه وحدهم، فمما تناقله
الحنابله من
اخبارهم ما ارتقى الى مثل ذلك المرتقى، حتى رواه
الذهبى
واثبته العماد الحنبلى فى (شذرات الذهب) فقال فى
احداث
سنه 725 ه : كان غرق بغداد المهول، وساوى الماء
الاسوار،
وغرق امم لا تحصى، ودام خمس ليال، قال الذهبى: ومن
الايات ان مقبره الامام احمد بن حنبل غرقت سوى
البيت الذى
ضريحه فيه، فان الماء دخل فى الدهليز علو ذراع ووقف
باذن
اللّه وبقيت البوارى عليها غبار حول القبر ! .


ذكر ذلك عن قبر احمد، ولم يخبر بمصير قبر ابى حنيفه
او
الشيخ عبد القادر الجيلانى وكلاهما فى بغداد،
ولعله راى ان
ذلك من مسووليه الاحناف والصوفيه ! .


وثم احداث كبيره كان سببها التعصب المذهبى، فحجر
الملك
الاشرف الايوبى على العز بن عبدالسلام شيخ
الشافعيه، انما
كان جراء خلاف بينه وبين الحنابله الذين استمالوا
الملك
الاشرف واقنعوه ان قولهم قول السلف وان العز بن
عبدالسلام
زائغ عن الصراط.


وفى قضيه احمد بن اسماعيل التبريزى الشافعى الذى
قضى
عليه القاضى الحنفى بالجلد ثمانين ضربه، ثم بنفيه
واخراجه
من التدريس بسبب شتمه احد ذريه الامام ابى حنيفه،
يقول
الشوكانى: قد لطف اللّه به بمرافعته الى حاكم حنفى،
فلو روفع
الى مالكى لحكم بضرب عنقه ! وقبح اللّه هذه
المجازفات
والاستحلال للدماء والاعراض بمجرد اشياء لم يوجب
فيها اللّه
اراقه دم ولا هتك عرض.


هذا كله لا يعنى ان هناك تجافيا تاما بين اصحاب
المذاهب، بل
على العكس كانت افاده بعضهم من البعض مالوفه جدا فى
التعليم والتاليف والحوار، وربما كان الحوار ينتهى
بانتقال فقيه
من مذهبه الى مذهب آخر، وقد حصل كثيرا.


كما كان جو من التفاهم بين اتباع المذاهب الاربعه
والصوفيه،
فالمدرسه التى تنشا لتدريس المذاهب الاربعه يخصص
فيها
رباط للصوفيه.


وفى سنه 716 ه وقع اختيار الصوفيه على قاضى القضاه
الشافعى نجم الدين ابن صصرى ليتولى مشيخه الشيوخ
عند
الصوفيه بدمشق.


وربما جاء على السنه الشعراء ما
يومى الى
ذلك الوفاق، فابن النقيب المتوفى بالقاهره سنه 687 ه
يتغنى
ببيتين من الشعر يعتمد فيهما التوريه باسماء ائمه
المذاهب
وشيخ الصوفيه ابى حامد الغزالى، فيقول:
يا (مالكى) ولديك ذلى (شافعى)
ما لى سالت فما اجبت سوالى !
فوخدك (النعمان) ان بليتى
وشكيتى من طرفك (الغزالى)
ولم يكن للشيعه الاماميه نصيب فى ذلك الوفاق، وعلى
الرغم
مما تركه الوزير الامامى احمد بن بدر الجمالى من
اثر شكره
الجميع، ثم ما ابداه طلائع بن رزيك الامامى من سيره
اثنى
عليها الموالف والمخالف حتى جمعت مدائحه فى كتاب
سمى غ (الدر النظيم) ! .


ورغم ان هذين الحاكمين الاماميين قد قتلا على
ايدى
الاسماعيليه، فيما كانت المذاهب السنيه تكن لهما
التقدير
والثناء.


وبالرغم من ان موقف الاماميه من غلاه الشيعه -
كالاسماعيليه
والنصيريه - لا يختلف عن موقف اهل السنه.


الا ان كل
ذلك لم
يترك اثره فى التقريب بين الاماميه والمذاهب
الاربعه، وبقى
الحديث عنهم كالحديث عن اى فرقه من الغلاه بدون
تمييز،
فحصلت اخطاء كبيره تعمدها الكبار، وتلقاها
التابعون تلقى
المقلد الذى سلم لشيخه بكل ما يقول.


هذا هو زمان ابن تيميه باهم ملامحه، وذاك مكانه
الذى اشرفنا
عليه، وتلك اسرته التى عرفناها من قبل.


الفصل الثالث -حياته
الوليد الناشى
على شواط ى ايامه
الشيخ المجتهد
الوليد الناشى
فى يوم الاثنين، العاشر من ربيع الاول سنه 661 ه ولد
احمد بن
عبدالحليم، فى بيت المشيخه الحنبليه، وفى واحد من
اهم
معاقل الحنبليه، مدينه حران.


/ 12