أحلام للبیع نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أحلام للبیع - نسخه متنی

ظافر النجار

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ظافــــر الـنجــــــار
أحــلام للبيع
- مجموعة قصصية -
الإهـــــــداء :
إلى أمّي الأميّة، التي علّمتنا العطاء،
وعلمّناها الخوف بدل القراءة!
من مال الله
-من مال الله...
الحسابات اليوميّة ذاتها تتخاطر سوداء
سوداء كأقدام الماعز.
- من مال الله يا محسنين..
أسترخي، وأبتسم كعادتي كلما ضاقت بي
الدنيا، نفس الابتسامة البلهاء التي تنزّ
وجعاً، وتتوالد كالفطر على الطرقات.
-من مال الله يا أستاذ..
-الله يبعت لك.
-من مال الله.. الله يخليّك..
-الله لا يخليّك.. رُحْ... رُحْ من قدّامي.
-شو رح.. رح.؟!
نهضتُ تستفزّني تلك الحركة العدائيّة
البذيئة، التي أرسلها لي وللّه.
عادة أتهرّب من الدفاع عن الأقوياء، لا بل
أختلق معارك وهميّة معهم. وطبعاً أنتصر
دائماً، وأستمتع بتعويض هزائمي.
إثر حذف كل معركة، يبقى مايشبه الجرح.
وكالعادة تنبثق إحدى عذراوات الله، تشقّ
قلبي، تعالجني بلمسات سحريّة خارقة،
تلملمني، تهدهدني، فأغفو وأنا أتشبّث
بروحها الدافئة التي لا أعرف كيف تفرّ من
يدي.
.. متى ركبتُ درّاجتي ومضيت أدافع عن الله؟
الله نفسه سامح الغلام، والله تعالى لم
يوكّلني للدفاع عن جلالته.
مع ذلك.. ركبت رأسي، ومضيت.
أين صادفتُ الغلام ثانية؟
كنت ألهث من المطاردة. ابن الكلب لم يأخذ
مطاردتي له على محمل الجدّ. استخفّ بي،
ودخل بكل اهترائه إلى أحد المتاجر الفخمة.
لبس وجهه المألوف، وجهاً غاية في الذل
والمسكنة و...
-من مال الله...
كدت أشيح بوجهي وأنصرف. لكن يدي التي أكره
خذلانها لي من قبل، سبقتني الآن إلى رأسه
الوسخ.
قبضتُ على ناصيته، جررتُه بلؤم وصمت حتى
الرصيف، ودفعته بقسوة ليموت.
لم يمت، ولم يسقط. كشّر بألم كخروف يُذبح.
تعثّر، استعاد توازنه ومضى بعد أن رماني
بنظرة بلهاء حاقدة.
-أعطاك الله العافية.. العمى ما أكثرهم!
قالها ذو الوجه المتورّد، الذي أراحته
العافيةُ التي ينعم بها، وهو يتحرّك
بتكاسل على كرسيّه الدوّار.
كدتُ أزعق بوجهه: من مال الله.
لكنني انسحبت بصمت وهدوء عكرين، لأرى
درّاجتي ساقطة على الأرض.
هل رفسها الغلام بحركة انتقاميّة؟
أم تعثّر بها؟
أم سقطت من تلقاء ذاتها، لتزيد غيظي
وخيبتي؟؟
-من مال الله..
قالها غلام آخر أكثر اهتراء ووساخة.
".. أين مالك يا الله لأبعثره على الطرقات..
ولأريحك من وساخة السؤال؟".
حملق الغلام بي هنيهة، ارتبك، ابتعد
عنّي، ثم ولّى باحثاً عن مال الله، في حين
بقيتُ وحدي مع الله، أتوسّله أن تكون
درّاجتي بخير، وأن يمضي هذا اليوم على خير.
نيســـــان 1998
من دفاتر الموت
منذ عامين ونحن محشورون هنا بمواجهة حرب
لا نعرف عنها الكثير، والموت يتربّص بنا
طوال الوقت.
قال لنا الرقيب: أنتم صانعوا المستقبل،
والوطن ينتظركم. ومضى. يومئذ غرغر الأصلع
بالضحك وهو يحشر أنفه في ظهري، خشية
افتضاح أمره.
وما أن أصبحنا وحدنا حتى أشار إلى صلعته
وقال:
-أنتف شعري إن كان يعرف عن أي مستقبل أو
وطن يتحدّث.. أم أنه يبشّر بمستقبل على
شاكلته؟ ها.. قل لي؟ بعد يومين فقط قُتل ذلك
الأصلع.
خرج يتصيّد إحداهن، فاقتنصوه.
مراراً قلنا له ساخرين: ستموت بين رجلي
امرأة.
فيردّ ببرود: سيكون ذلك أفضل بكثير من
الموت بين هذه الجيف "مشيراً إلينا".
بقيت جثّته ماثلة أمامنا على بعد عشرات
الخطى.
لم نجرؤ على الاقتراب منه. تحوّل إلى فخ.
وعيناه الجاحظتان تبدوان عبر المنظار
فارغتين وحياديتّين لدرجة كبيرة.
عندما كنّا نتحدّث عن حركة الموت
المجنونة، في المدن والشوارع. كان يردّد
كمن يحدّث نفسه: فقط أتمنى أن أموت ميتة
سهلة وسريعة، وبدون تشويه.
أحياناً يخيّل إلي أنه لا يزال يتحدّث
إلينا من هناك ساخراً. وببروده المعتاد:
ستموتون حذراً، وفي أوكاركم أيها السادة

القنافذ، دون أن تعرفوا لماذا!" وعيناه
اللتان شبعتا موتاً تحدّقان صوبنا بفتور،
بانتظار مساعدة. تعرفان أنها لن تصل أبداً.
-ماذا قال الرقيب بشأن الجثّة؟
-قال: الوطن يحتاج لأكثر من ذلك.
-ندري.. ندري... ولكن هل يحتاج الوطن إلى
الطاعون؟!
فالجثّة بدأت تتفسّخ!
-سنحاول الاتّصال ثانية.
.. كانت محاولاتنا لإخلاء الجثّة دون
ضحايا، محكومة بالفشل، فالرصاص يكمن لنا،
ومن حيث لانعلم.
مرّة تساءل الأحول وهو يفرك جبهته:
-هل الرصاص رخيص إلى هذه الدرجة؟!
قلنا له: عن أية درجة تتحدث؟
فقال محتدّاً: أمّد إصبعي الوسطى من
النافذة ممازحاً، فيرشقونني بعشرات
الطلقات!
.. كنّا بدورنا نرشقهم، مع ذلك أنّبنا
الرقيب قائلاً:
ما بالكم كالجرذان.. ارموهم كما يرمونكم..
يجب أن تخرسوهم." وننظر، فلا نرى أحداً. مع
ذلك، وفي أحيان كثيرة نطلق الرصاص، لا
لشيء، فقط لئلا يُقال بأننا لا نفعل شيئاً.
ودائماً نبقى بانتظار إطلالة الرؤوس
الآدميّة، والتي لا نعرف حتى أسماء
أصحابها. لن ندعها تسقط، فقد تتدلّى من فوق
أسطح الأبنية، أو من الشرفات، أو النوافذ،
إلى أن تنتن، أو يُتاح لذويها أن ينتزعوها
حين تسمح الظروف.
تأمّلتُ رأس بائع السجاير بينما كان
يساوم الأحول. صبيّ في الثانية عشرة يتسلل
إلينا كالشبح، تسبقه رايته البيضاء
الصغيرة.
".. ياللرأس الآدمي كم يبدو مختلفاً عندما
يكون في مواجهتك! ولكن.. أيّة ظروف هذه التي
لا تسمح لنا بالتمييز ما بين الرأس الآدمي
والخشبة؟!".
مرة ضبطتُ الأحول يقايض السجائر بالرصاص.
خافني وأراد رشوتي. رفضت، وتجاهلت الأمر.
لكنني بدأت أَحْذرُ الصبيّ، وأخاف
سجائره. أحسّ الصبيّ بذلك، وراح يقسم
بمذلّة علي أنه لايخون أحداً. كانت عيناه
محشوّتان بالصدق والبراءة وبأشياء أخرى
قاسية. ودّدت لو أصدّقه، ولكن.. من يستطيع
الالتزام بكل ما يعد؟؟
سألته ساخراً إن كانت أسرته ترمينا بنفس
الرصاصات التي يأخذها منّا، أجاب وقد
تحجّرت عيناه: لا أسرة لديّ.
-كيف؟
-دُفنوا تحت أنقاض البيت.. قصفونا.
-من؟
هزّ الصبيّ رأسه وصمت.
لا أدري إلى أيّ حدّ بدا سؤالي سخيفاً،
فنحن نُرمى ونرمي باستمرار. ويجب أن نرمي.
فالأوامر صريحة.
كما أن لا أحد يرغب في أن يُثقبَ صدغُه.
إننا نستهدف كل شيء، وكل الأهداف بما في
ذلك البشر تبدو أحجاماً وأرقاماً مجرّدة،
ودون معنى تقريباً.
تطلعت إلى الصبيّ وكأنني أراه للمرة
الأولى وهو يخرج من تحت الأنقاض. ابتلعت
ريقي بصعوبة، ورحت أسأل من جديد.
-وكيف نجوت؟
-كنت وأختي نجلب الماء من عند الجيران.. من
البئر، تحت.
-أين أختك؟
-تبيع الرصاص.
-لمن؟
-لمن يشتري.
-اسكت.. لا تقل ذلك لأحد.. وأين تقيمان؟
حرّك يده حركة واسعة بإشارة مبهمة إلى
الأبنية الخالية وشبه المهدّمة، وهي
كثيرة.
-ما اسمك؟
-مافائدة اسمي؟ قطعت أنفاسي بأسئلتك...
لقد تأخّرت.. علي أن أعود إلى أختي.
-هل ترى تلك الجثة؟
-أراها.
-كم تريد مقابل ربطها بالحبل؟
-مائة طلقة.
-خذ مئتين.
-لعلك تغشّني؟
-بل سأعطيك بقدر ماتستطيع حمله من
الطلقات.
-أقسم على ذلك.
رحت أفتش رأسي بصدق عن شيء أقسم به،
فتعثرت بأشياء أخرى.
لاحظ ارتباكي، فتساءل: هل تراجعت؟
قلت: لا والله.. لكنني بدأت أخاف عليك.
قال وقد اطمئن لي: لا تخف.
أخذ رأس الحبل ومضى يزحف ويتلوّى بسرعة
كثعبان. وما أن أحكم ربط الجثة حتى انهال
الرصاص عليه.
كانت يده تمتدّ بتشنّج تجاهنا، وعيناه
المذعورتان تنظران إلى الخلف، وقد
اصطبغتا بالدم.
ضغطتُ على الزناد بحقد. كان الصبيّ
يتحشرج. وكنت أطلق، أرسم بالرصاص درباً
للصبيّ. أُرسل كل ما يمكنني إرساله من

الطلقات، وإلى حيث لا أدري.
أشار لي الأحول أن: لا هدف. لكنني بقيت
أُطلق بعصبيّة إلى أن شعرت بالوهن وأمسكوا
بي.
قالوا: أنت لست على مايرام.
قلت: وعينا الصبيّ تثقبان جمجمتي: ومتى
كنا على مايرام؟
في اليوم التالي. وكالعادة. رشقوني
بالرصاص. كنت أمدّ إصبع يدي الوسطى،
لاممازحاً كما يفعل الأحول، بل بجدّية
تامة، لكنني لم أقصد إنساناً بعينه، أو
جهة بعينها، ربما قصدت العالم، كل هكذا
عالم.
وشُلّت يدي.
وهناك في المستشفى، تمدّدت كالآخرين،
لأدرك كم أنا محظوظ بالقياس معهم. فأهملت
يدي المشلولة، ورحت أحاول مغازلة الممرضة
باليد الأخرى.
(الخطوات)
من كان يعتقد أن هرّة أليفة مسالمة هي من
سيتكفّل بتقويض صبري، ودفعي لأتحسّس من
جديد كل جزئيّات جهنّم، التي سبق أن
تعاميت عنها عمداً.بقصد امتصاص ماأمكن من
هول صدماتها؟!.
ذلك ما حدث يوم الجمعة الفائت. وكانت
الهرّة قد أصبحت نزيلاً دائماً عندي.
-آه منك يا حيوانة.. تتركين كل ذلك
الفضاء..وكل تلك الزرقة، وتتسللين بمحض
إرادتك إلى جهنم؟! قلت لها ذلك لحظة تعرّفي
عليها وأنا أقدّم لها أفضل ما لديّ من
فُتات.
كانت حاجتي لأنيس ما، أكبر حتى من حاجتها
للخبز، فأصبحنا صديقين.
ورحت أحادثها، أشكو لها عزلتي، وجعي
الروحي، حنيني، حكايات حبّي التي تزداد
يوماً إثر يوم روعة وبهاءً، دون أن
يراودني أبدأ الشكّ بإضافاتي المستمّرة،
والتي بتّ أتوهم أنها واقعيّة، وأنه لم
يُتح لي فرصة البوح بها من قبل.
صديقتي الهرّة تصدّقني تماماً، وتواسيني
بطريقة حيوانيّة فذّة، حيث تخرج عن
هدوئها، وتموء بطريقة مختلفة. تخرمش ثيابي
بطريقة استفزازيّة مرحة، إلى أن ابتسم
وأداعبها.
فتتمدّد قربي، وعيناها اللامعتان تمتصان
نظراتي الشاكرة بإلفه ومودّة.
في الليالي الباردة أغطّيها ببعض ثيابي،
لكنني في الصباح أستيقظ لأجدها مندسّة في
فراشيِ، مع هرير هادئ ومنتظم.
لا أدري كيف تناهى إليّ ذات مرّة أنينها
المكبوت.
".. كانت تناديني وتستغيث كطفل يسملون
عينيه، فانتفضتُ، وقفزت حاملاً معي كل
إحساسي الجارح بالقهر، مقرّراً أنّ
المعركة معركتي أيضاً، وسأخوضها حتى
الاستشهاد.
كان ثمّة خصوم غامضون يحاولون أكلها
نيّئة وحيّة! فتصدّيت لهم، قاتلت وإيّاها
بشراسة لا أعهدها بي، وانتصرنا، مع جراح
بدت مقبولة كثمن للانتصار."
فور استيقاظي التفتّ بكل لهفتي وجزعي
باحثاً عنها. كانت قربي تلعق صغارها بلسان
متعب. سألتها بفرح وأنا أرها بخير: كم يا
صديقتي؟
كانوا أربعة مواليد يحملون الكثير من
وسامة ودماثة أمهم. وعيونهم المغمضة لا
تعرف لماذا اختارت لهم أمهم جهنّم مكاناً
للإقامة!
وقع الخطوات وحده كان يقلق صديقتي،
يستفزّها. فأربت على ظهرها، أهدّئ روعها.
أفهمها أننا لسنا معنيّين دائماً بالأمر.
لكنها ترفض أن تصدّق ذلك.
وتحافظ على توتّرها ونزقها، إلى أن يعود
الصمت خالياً من أيّة شائبة، آنذاك تقفز
بارتياح إلى حضني، وتتمدّد كأيّ طفل
مدلّل.
عندما رفسوها أنّت بصخب حادّ، رأيت
عينيها الواسعتين تنكفئان عنّي لتستسلما
لوجع الرفسة التالية، ثم هرّت بما يشبه
العواء وهي تنقذف إلى الخارج وترتطم بأحد
الجدران. لملمت أشلاء قلبي، وانطويت لأسمع
كما في حلم كابوسيّ، بقايا صوتها
المتشنّج، وهو يبتعد وينحفر في ذاكرتي،
ولأرى صغارها يتطايرون مع مواء خافت
ومختلج.
لم تمت الهرّة!
عادت الحيوانة تتسلّل ليلاً، بحذر
وانكسار شديدين وسط هدوء عميقٍ وصمتٍ
شامل.
فغرتُ فمي دهشةُ وفرحاً، ومددتُ لها يداً
حانية، فأجفلتْ. تردّدت في الاقتراب منّي.
فتّشتْ عيناها المكان برهبة، ثم أغمضتها
واستسلمت لندائي الهامس ويدي.
صديقتي لم تعد تجيد المداعبة، انتباهها
كله بات مشدوداً إلى الخارج. ومن حين لآخر
ترتعد دون سبب واضح، وتهرب.
في لحظة سكون كليّ غابت لتعود بعد برهة،
حاملة بفمها أحد صغارها. رمته بلطف أمامي
لكأنني أبوه!
لم أسالها عن البقية، كانت الفاجعة واضحة

في عينها.
احتضنتها واحتضنت الصغير. فتمدّدتْ
بوداعة ولعقت يدي، ونظراتها الراضية
تتمسّح بي، إلى أن وخزها الإيقاع القادم
للخطوات.
فقفزت هاربة، ثم عادت كالموتورة، فاتحةً
شدقيها لالتقاط صغيرها والفرار به.
وقع الخطوات كان قد أصبح أكثر وضوحاً
وقسوة، فأغمضت عينيّ طارداً آثار الرعب
الذي بات يلازم الهرّة، ومن ثمن يتسلل إلي.
لم أستسلم لمخاوفنا المشتركة، وفكّرت
بالتحكّم بردود فعل صديقتي المرعوبة، حيث
أن وقع الخطوات لن ينقطع، وأعصابنا لا
تحتمل الاستنفار إلى مالانهاية. فأجهدت
نفسي لتهدئتها وردعها عن الهرب، وإذ
رأيتها تستنفر وتتحفّز لالتقاط صغيرها
والفرار، أمسكت بها، واحتفظت بالصغير عل
مبعدة منها، فنهرني بتكشيرة حانقة لم أرها
من قبل، وأفلتت مندفعة نحو الصغير حاولت
إفهامها بالقوّة أن الخطوات عابرة،
ففوجئت بها تنشب أظفارها وتدمي يدي
بشراسة، قبل أن تطبق فمها على صغيرها
وتهمّ بالفرار، وعيناها المرعوبتان
تصرخان بي: دعني يا غبيّ. وتحثّانني بشكل
غامض على الهرب ومحاولة النجاة بما تبقى
من جلدي.
31/3/1995
(صباح الخير)
لم أكن أحلم، ولا أتذكّر، ولا أفكّر،
ولا..، ولا.. مجرّد وجه عائم في زحمة الباص
الداخليّ، تخلّى إلى حين، عن كل شجونه،
تحمله عينان مفتوحتان على آماد لينّة
وسلسة وغير محدّدة، وتلفحه غيمة بيضاء
بوجه امرأة.
"...تعال.."
كنت أسوح بعينيّ طفل لا يريده أحد،
فالتقطتني عيناها. ونظرتها العسليّة تفيض
وتحطّ على وجهي.
وعيناي تتشربانها بإحساس حلو بدأ ينسرب
إلى روحي قطرة قطرة.
".. تعال!."
وجئتُ. لم أرَ أيّة فسحة حولها، فالباص
يغصّ بالركّاب. وثمة ثلاثة مقاعد تفصلني
عن مقعدها العرضيّ المقابل.
".. ألا ترى كم المكان واسع؟!"
أعفتني العينان العسليّتان من أيّ شعور
بالحاجة لما يسمّى بحسن التصرّف أو سوئه،
أو ... أو.. احتضنتاني بحنّو الأم، هدهدتاني
وقالتا: نام، لم أنتبه إلى أنني اتكأت على
جاري العجوز.
نمتُ بعينين مفتوحتين، ممتلئاً برضى
طفليّ، أعاد لي وجه أمّي، وكل الوجوه التي
تستطيع أن تمنح روحي السلام.
وعدت ذات الطفل الذي استجاب يوماً لنداء
طفولته وراح يكتبُ أول رسالة حب.
يومئذ، كل رهافة الأحاسيس التي خلقها
الله، وكل صدقها، كانت تصوخ مشاعري.
لكن قلمي البائس، ومفرداتي المدرسيّة
الضحلة، التي زوّدتني بها إعداديّة
القرية، جعلاني أرتبك، وأعجز عن صياغة ولو
بعض ما أشعر به.
وضبطتني أمّي. كان وجهي الفاضح قد أثار
ريبتها.
-شو عم تكتب؟
-والله لا شيء.
-هات لشوف.
يا ربّي كم خفت أن تقرأها: ناسياً أن أمّي
أميّة.
-شيء خاص. قلت ذلك بنبرة اختلط فيها العناد
بالرجاء. فكررتْ غير فاهمة ما أعني: خاص؟!
والواقع أن أمي من تلك الأمهات اللواتي لم
يسمح لهن بأن يعشن الخاص. حتى أحاسيسهن
تحوّلت إلى أشياء عامّة، وما لم يستطع
التحوّل مات. في أعماقهن توجد جثث، وأنا لا
أريد ذلك..
لا أريد. طبعاً لم أرسل الرسالة.
"... إنها بحاجة إلى تعديل".
ذلك ما أقوله لنفسي إثر كل محاولة، دون
الاعتراف صراحة بخوفي.
... كل الحق على هيام.
أكان من الضروري أن تنتظر لأكتب وأمزّق
نفس الرسالة عشرات المرات؟!.
هيام الذكيّة والجميلة، والتي حصلت مثلي
آنذاك على الإعدادية، ألا تستطيع قراءتها
دون أن أكتبها؟؟
إنها واضحة جدّاً يا هيام!!
.. هيام.. أين أنت اليوم؟ وكيف حالك؟
تعالي لنبوح، ماالذي سنخسره بعد؟
ياربّي كم أرهقتُ نفسي حتى استطعت أن أقول
لك:
صباح الخير:
-صباح الخير. أجبتِ بخفر، وهربتِ مخفيةً
وجهاً ملتهباً من الحمرة، وابتسامةً
ظننتِ أنّي لم أرها.
تلك الابتسامة التي حفرتِها في ذاكرتي
كوشم بدويَّ لا يمحى.
ألا تذكرين؟
ومرّة كدت أعهد لأختي بتسليمك الرسالة،
لكنني تذكّرت أن ذلك عيب.
يقولون: يدرّب أخته على الحبّ.

فتراجعت مذعوراً. مع ذلك ضطبتُ عينيّ أختي
وهما تغزلان حكايات رذيلة. كانت وحدها،
وكانت عيناها تشبهان عينيّ وأنا أكتب
رسالة الحبّ.
شهقتْ وهي تراني. فقالت لها عيناي:
".. لن أذبحك.. لاتخافي... لا تخافي."
مع ذلك خافت. عيناها ذكّرتاني بعينيّ خروف
العيد، وارتعشتُ، رأيت الدم يفور، يأكل
عينيّ، ويضيّع وجه الخروف الذي لم يعد
يراني.
.. أية لعنة ساقتني إلى مشهد الدم؟ وإلى
الكوابيس التي لاتزال تحاصرني وترعبني؟؟
رغم أنني بتّ في الأربعينات من عمري، ولي
أطفال، وزوجة اسمها ياسمين. لا أدري من
ولماذا سمّوها ياسمين.
مثلكِ عيناها عسليتان، ومثل عينيك تفيضان
بالنظرات الحلوة التي تغسل قهري، وتسكر
روحي، وتقولان لي: نـ...ام.
أنت الآن أم، وإلى جانبك طفلان جميلان، لا
يهمّني من يكون أبوهما، أنت أمّهما، وهذا
يكفي. لايضيرني أن تكوني متزوّجة، أو
عازبة، عمرك ثمانية عشر ربيعاً أو أربعين،
فأنتِ أنتِ وهذا يكفي... ويتململ جاري
العجوز، دافعاً إيّاي بحركة خرقاء
متأفّفة، عكرّتْ ترتيب الأشياء والعالم.
لايهم، فثلاثة مقاعد فاصلة ليست بشيء.
لا.. لا تعكرّي صفو عينيك، ولا تأبهي
لحركات الباص الخرقاء.ليقف إن شاء، أو
ليتحرك.. أو.. أو..ليذهب إلى الشيطان، ما
علاقتنا به؟!
"- ستزلين؟.. وأنا أيضاً."
لم يكن ثمة زمان ولا مكان، ثمة عينان
عسليّتان، ووجه نبويّ رائق، وطفلان،
وأنا، مع فيض من مشاعر عذبة ودافئة تغصّ
بها روحي.
واحتوانا الشارع.
شارع ككل الشوارع، بناسه وهمومه، و....
لا يهمّني اسمه، ولا إلى أين سيؤدي،
وخطواتي الواثقة تعرف طريقها في هذا المدى
العسليّ، جنباً إلى جنب مع.. ؟؟ لا أعرف
اسمها بعد، ثم ماقيمة التوقّف عند
الأسماء؟ حتى زوجتي لا تعرف من ولماذا
سمّوها ياسمين، ولا هيام، ولا أمّي، ولا
أنا.
حتى الطفلان لم يهتمّا بالأسماء، وهاهما
يتطلعان إليّ آه كم أتمنى لو ألعب معهما
لعبة الاستغماية.
بالتأكيد كان أحدنا سيختبئ ملتصقاً بإحدى
جهات أمّهما. وبسرعة سنكتشف بعضنا ونضحك،
وستضحك منّا ومعنا.
لِمَ لا؟ كلّنا جائعون للضحك، ولدينا
متّسع من الوقت.قد أكون مخطئاً. فالوقت
خبيث، وقد لايتحمّل مسؤولياته تجاه
مشاعرنا كبشر، هذا ما تقوله العينان
العسليّتان وهما تصعدان إلى باص الكرنك،
الذي كُتب فوق مقدمّته، وبالخط العريض.
دمشق -عمان
عمان؟! تساءلت عيناي بقلق وبدهشة قاتلة لم
ترها، لكنّها أحسّت بها. إنني أجزم بذلك.
فحجم دهشتي لا يمكن أن يحجبها ذاك الرجل
الأصلع الذي كان كالسكين بانتظار عينيّ!
والذي صعد إلى ذات الباص بصحبتها وصحبة
الطفلين.
كنت على وشك الصعود عندما تذكّرت أنني لا
أستطيع. اللعنة على "تذكرت" وعلى "لا
أستطيع" اللتين أحبطتا قدرتي ولو على
الصعود إلى باص "دمشق- عمان" تاركين مجرد
رجل أصلع يصادر كل هذا الفضاء العسليّ!!
".. ولماذا عمان فقط؟!"
طبعاً لم يعد ثمة وقت للأسئلة. لا وقت لأي
شيء أبداً:
بسرعة ووقاحة تحرّك الباص، وحتى قبل أن
أقول لها: صباح الخير: تاركاً لي تلويحة يد
قطعة يد فقط، ومختلسة، ورائحة عينين
عسليّتين لازالت عالقة بكل باصات "دمشق-
عمان"
4/9/1994
(توقيع وليّ الأمر)
تذاكرنا الغياب حتى الاختناق، واستسلمنا
لصمت أصم، إلى أن قالت زوجتي: لديك مادّة
جيّدة للكتابة أليس كذلك؟
من نبرة صوتها أدركت أنها ليست جادّة
تماماً ربمّا كانت تحرّضني على الكتابة،
فقط لاستهلاك وتجاوز آثار تلك الحادثة
التي علقت كالشوك في حلقي وذاكرتي، مكثّفة
الكثير من معاني ذلك الغياب الطويل،
ومضيفة إليه طعماً دراميّاً خاصّاً.
مع ذلك عزمت على المحاولة كمن ينبش جثّة
حبيب ليشرّحها.
قالت زوجتي وهي تحاول استعادتي من حالة
الشرود التي باتت تلازمني: أنا أمزح... ليست
ضرورية.
-لا بابا.. ضروريّة ونص.. اكتبها بابا..
اكتبها.
فكّرت بالمحاولة كتفكيري بتقديم لعبة
لابنتني، هذه التي لم يُتح لي فرصة تقديم
اللُعب لها عندما كانت بحاجة لذلك.
وتطلّعت إليها مليّاً.
لم تعد تلك الطفلة، كبرت أكثر من قدرتي
على أرجحتها وقذفها نحو الأعلى لتسقط

ثانية في حضني مع كل غبطتها وخوفها. ولتلثغ
بكلمات لايفهمها إلا الله وقلوب الآباء
والأمهات.
أجهدت نفسي لاستعادتها كما كانت، ومن ثم
استعادة أطراف الحادثة كما رُويت لي.
مع ذلك بقيت أوراق الكتابة بيضاء كذاكرة
متعبة وممحيّة.
لماذا لا أدع شخصيّات القصة نفسها
ترويها؟
راقت لي الخاطرة. لكن زوجتي رفضت
الاستجابة.ابتسمتْ وقالت: مالك وللماضي؟!
.. مع ذلك أستطيع تذكّر ما قالته لي وهي
تناولني الجلاء المدرسيّ عبر القضبان.
آنذاك قرأت بشغف وحب اسم ابنتنا، وقد كتب
بخط عريض وجميل، مع اسم الصف: الأول
الابتدائي، وكانت الدرجات ممتازة.
قلت لزوجتي وأنا أشدّ على يدها: مبروك.
ولمحت سحابة عابرة في عينيها.
-مالك؟
-لاشيء.
-الزيارة قصيرة.. قولي كل ماعندك.. أرجوك.
بتردّد روت لي الحكاية، وغلّفتها
بابتسامات مشجعّة وحميمة.
".. كنت أنتظر عودتها من المدرسة في الموعد
المحدّد.. وأقبلت ترافقها معلمتها. كانت
تنشج بصوت عال والمعلمة تحاول تهدئتها.
ركضتُ كالمجنونة وأنا أصرخ: شوفي؟؟
أحدثنا مايشبه الفضيحة قبل أن نلج البيت،
وتحكي لنا المعلمة الحكاية..."
المعلمة الصديقة بدورها أعادت رواية
ماحدث. قالت، وقد غامت عيناها لتمتلئا
بأقسى موقف واجهته على حد قولها: وزّعت
الجلاءات المدرسية على التلميذات وقلت
لهن: لتطلب كل واحدة من أبيها أن يوقّع
هنا، وأشرت إلى الفراغ المخصّص لوليّ
الأمر في الصحيفة المدرسية.
برهة قصيرة مرّت، وأنا أستعدّ للمغادرة،
فسمعت نشيجاً واخزاً راح يتعالى.. وكانت
ابنتك!
-مالك يا حبيبتي؟!
فإذا بها تقذف صحيفتها، وتقول بصوت ناحب
وجارح: ما بتعرفي أنا ماعندي أب؟!
كان صوت المعلمة قد بدأ يتحشرج، فابتسمت
لها مشجعاً وأومأتُ أن: وماذا بعد؟
-لا أعرف.. اتركونا من هالحكاية.
أخيراً سألت ابنتي وبصوت مرهق: حدثيني أنت
عن ذلك يا روحي.
أخفتْ نصف وجهها، وقالت بلهجة اعتذارية:
أنا كنت "زغيرة" يا بابا
(المحكمة المؤجّلة)
ربما للمرة الثالثة أقف اليوم أمام هذه
الإشارات الصغيرة، التي كنت ولا أزال
أحفرها على الجدار.
بوسائلي السريّة والهشّة، لتكون دليلي
الوحيد على زمني الخاص.
.. هل رسمتُ لليوم أكثر من إشارة؟
أم أنني لم أرسم بعد؟ لا أدري.
وانتابني قلق غامض، خشية انقطاع صلتي
الواقعيّة بالزمن، حدّقت بالجدار هذا
الذي لايزال مصلوباً أمامي. أتأمّل بقايا
الأصباغ القديمة المتراكبة والمتآكلة.
إضافة لآثار الرطوبة والعفونة التي
تتبدّى واضحة، عبر أشكال باهتة وغير
محدّدة. كإشارات غامضة لزمن من نوع ما،
ولبشر من نوع ما.
"- ما هذا؟
-لاشيء.
-أين وسيلة الحفر؟!"
وتتلجلج الكلمات الخائفة، وعيناي
تخبّئان حتى أظفاري.
".. لا تخف.. لا تخف.. مجرد وهم.. ثم إن ذيول
الأضواء الخافتة المتسرّبة من البعيد،
لازالت متواطئة معي، بحيث أن القادم أيّاً
كان لن يرى ماأراه."
دائماً عليّ أن ألجم مخاوفي، وأن أستعيد
هدوئي ووحدتي لأبدأ من جديد، مستعيناً
بالذاكرة، هذه التي باتت تخونني.
لست متأكداً من أنني رسمت إشارة أو أكثر
لهذا اليوم. أم لم أرسم شيئاً. فاليوم نفسه
هنا مراوغ ومخاتل.
يطول أحياناً لدرجة غير معقولة. أرسم له
إشارته ثم أحفر أخرى، مع الجزم بأنها ليوم
جديد. ويختلط عليّ الأمر. فأحزن وأنكفئ على
ذاتي، إلى أن يومئ لي الجدار، فأعود إليه
بشيء من المصالحة.
عموماً.. اليوم يجب أن يكون -الأحد- الموعد
الذي قررته بنفسي للمحكمة. لا أستطيع
الجزم تماماً...
"هسْ.. لا شيء.."
لابد من التكيّف مع وقع الأحذية
الثقيلة.أحياناً أتمترس خلف صمت داكن،
وأحياناً تواتيني الجرأة على عقد محكمة
ميدانية سريعة وعلنية، حيث يحتشد أناس لا
وجوه لهم، وبدون ملل، بانتظار النظر في
ادعاءاتهم.
بعضهم يحمل علامات بارزة، وبعضهم يعمد
دون طلب لإبراز ما خفي من العلامات في هذا
الجزء أو ذاك، من أجساد متآكلة إلى حدّ
كبير، لدرجة تدفعني للاعتقاد بأن كثرة من
الأموات نهضت من قبورها مؤقّتاً، لتحضر

المحاكمة فقط، ولتعود إثرها إلى وضعها
الطبيعي كموتى.
غالباً لا أستطيع التمييز بين الشّاهد
والمدعّي، حيث تتقدم منيّ ودفعة واحدة كتل
بشريّة كبيرة متغضنّة، تتقدّم كشاهد،
وتتقدّم كمدعّي.
ولئلا يلتبس عليّ الأمر، أرفض الموافقة
على الجميع بين الصفتين، رغم إصرار الجميع
على ذلك.
وأجادلهم باسم العدالة الصّافية،
مقرّراً أنّ لاحقّ لأحد بالشّهادة لنفسه
أو عليها.
ثم أتذكّر، ويذكّرونني بأنّني أغمط حقّهم
بشكل فظيع، حيث أن أفظع الأشياء لا تحدث في
السيرك، ولا في الساحات العامة.
عادة تتمّ المحاكمة بصمت، تُعرض اللوحات
والأدلّة في مهرجان من الغضب الصامت، مع
استبعاد ردود الفعل العنيفة، لكأن هناك
اتفاقاً ضمنيّاً على إلغاء زمن العنف،
حقيقة لا أستطيع الجزم بأن اليوم هوالأحد
فعلاً، فأعود للجدار متحقّقاً. أتتبّع
الإشارات، أحصي. أتذكّر. وفجأة أكتشف
كثافة الخطوط والإشارات، فيخالجني شعور
بالإثم، حيث يمكن للجدار أن يعجز ذات يوم
عن استقبال أيّة إشارات جديدة، خاصة وأنني
لست النزيل الوحيد لهذا النزل. نعم قد
ألازمه طويلاً. كما لازمه غيري من قبل،
ولكن ثمة من سيلازمه بعدي. وخطرت لي فكرة
الكتابة للقادمين الجدد.
قد يكون من السخف أن أكتب لهم عن حفلات
التعذيب والتي سيعرفونها بالتأكيد مع شيء
من الغنى والجدّة، إذاً فلأكتب شيئاً ما
كالرسالة لتشّكل تواصلاً ما.
ثم أعدل عن هذه الفكرة، مقرّراً بأن أفضل
ما أفعله من أجلهم هو أن أترك لهم حيزاً من
الجدار ليتركوا عليه هم أيضاً بصماتهم،
وبالشكل الذي يرونه.
سيكونون بأمس الحاجة لذلك. أعرف هذا
جيداً. وبالتالي علي أن أبحث عن وسيلة أخرى
لتوثيق علاقتي بالزمن، والذي كنت أعتبره
شيئاً زائداً، حيث أغفلت فيما مضى كل ماله
علاقة به حتى تاريخ ميلادي، ذاك الذي بدأت
أتساءل الآن بشكل جدّي، عن صحّته. كوني
أحمل تاريخ ميلاد افتراضيّ، اقترحته
إدارة المدرسة فوافق عليه أبي.
أمي أكدّت بأني ولدت في خريف ما، بعد
انتهاء موسم العنب. لست أدري لماذا أعتقد
الآن جازماً بأنني ولدت فعلاً في خريف ما،
متصوّر أن الخريف هو الفصل الأنسب للولادة
والكتابة والموت.
من قبل كنت أتطلّع إلى الساعة الجداريّة
بشكل وظيفي وبحدود الضرورة، بل ويضجرني
رتابة دقّاتها.
مرة واحدة حدّقت فيها بشكل جديد، لتنغرس
في مخيلتي، وإلى الأبد، العقارب،
والأرقام الناتئة، وحتى الهيكل العام
للساعة.
كانت تشير إلى الحادية عشرة ليلاً، عندما
قرع الباب بعنف وصخب، ومع أول خفقة قلب
سريعة ويائسة، قفزت عيناي إلى الساعة،
التهمتاها، ثم انكسرتا لتريا وجوه
الأطفال الوادعة والمستسلمة للنوم
وللأحلام الصغيرة، ثم انقطع الزمن دفعة
واحدة، واندغم الليل بالنهار، والساعة
باليوم، والأسبوع بالشهر والسنة. كلها
أصبحت مسميّات لا معنى لها، وراحت تفقد
هويّتها وتتسرب من بين أصابعي، وتنفلت
متجاوزة البوابة الحديدية المتقنة الصنع
والمحكمة الإغلاق.
"- محكمة...
أصوات كثيفة متداخلة جاءت تقرع رأسي.
-محكمة...
زعيق حاد ينفجر في دماغي.
-محكمة...
وأستسلم لإرادة الصخب القادم مع آلاف
الوجوه.
أقول لهم: لست متأكداً من أن اليوم هو
الأحد.
فتنفجر الأصوات في وجهي: مراراً مرّ
الأحد...
فصول وسنوات مرّت، ونحن مرميّون قدّام
عينيّ محكمتك.
أقسم لهم بأنني أحترم المواعيد، وأرهق
نفسي للتدقيق في الزمن. الجدار يشهد.
ولكن عبثاً.
قد لاتكون هذه الوجوه جديدة فعلاً، ولكن
أنّى لي أن أحفظها جميعاً، وأرتّبها حسب
مواعيد مسبقة ودقيقة؟ فهي متشابهة إلى حد
كبير. صورها تنفذ إلى الدماغ تثقب
الجمجمة، مع ذلك لا أستطيع حفظها، لأنني
ببساطة لا أجرؤ على النظر إليها طويلاً.
وكلها تتسابق، تريد أن تقول شيئاً قبل
فوات الأوان.
واحتجاجاتهم تسبقهم، تصفعني بقسوة،
تتّهمني.... فأهرب من المواجهة.. أتسلل من
حيث لا يدرون لأندسّ بينهم، وأشاركهم
الصراخ الصامت والانتظار الطويل، لمحكمة
مؤجلة مؤجلة.
(على هامش الموت)
-الاحتضار-

لم يعترض حين مدّدوه بوضعيّة الاحتضار.
فقط رمش بجفنين منهكين.
ابنته الأرملة الشابّة راقبت حركاتهم
بقليل من الانتباه، وقد توقفّت يداها عن
العمل بإبرة الصوف، ثم دمدمت بصوت مسموع:
ليس تجاه القِبلة تماماً‍‍!
غير أن أحداً لم يعرها انتباهه. فهزّت
كتفيها لا مبالية وعادت عيناها تزوغان مع
الحركة الرتيبة والنشطة ليديها وإبرتها.
-قد لايموت اليوم. قالها الإبن الأكبر
بتبرّم، ومضى قاصداً السقيفة التي حوّلها
إلى محل متواضع للنجارة.
-مع ذلك إحسب حساب الموت. قالت الأم بصوت
متعجّل لئلا يفوت الابن سماعُه.
اسبوع كامل مرّ على بداية الاحتضار.
والجثة ترفض أن تموت تماماً. مع ذلك لم
تستأ الأم. فإجراءات الموت والدفن لم
تكتمل بعد. وهي لا تفتأ تحثّ ابنها على
إعادة النظر بصناعة التابوت، والذي
لايشبه بخشبه التالف وعدم استقامته، إلاّ
صندوقاً للقمامة.
-هل أنت متأكد من أنه سيحمل أباك؟
-قطعاً لن يستطيع أن يعربد فيه.. مع ذلك
سيحمله إلى هناك.
-لا يشبه التابوت في شيء!
-يمكن حشر أية جثّة فيه. قال الإبن الأكبر
ذلك وأدار ظهره لأمّه، قاطعاً الطريق على
أية ثرثرة أخرى. فتحت الجثّة عينيها
للحظات. كانت الزوجة قد غفت وهي جالسة،
وبيدها ترقد المذبّة بلا حراك. وإلى
جانبها تموء القطّة بهدوء وحذر، وتتلفّت
بعينين مسالمتين. بينما تواظب الابنة
الأرملة على نسج الصوف بنفس الرتابة
والسرعة المألوفتين، وعيناها الدّاكنتان
مسمّرتان على حضنها، حيث تتقلقل كبّة
الصوف بحركة دائبة، وحزمت أشعة الشمس
المتوازية والشفّافية والمليئة بذرّات
لاحصر لها، ترسم على الساقين العاريتين
مقطعاً من جسد مهمل لأنثى مهملة. بينما
يرقد الصبيّ بشعره الأشعث وفمه المنفرج
قليلاً، وهو يحملق بالجثة، مسنداً ظهره
إلى الجدار باستسلام رخو، كاشفاً دون أن
يدري عن جزء من عورته.
-أتريد شيئاً؟ قال الصبيّ ذلك وهو يتوثّب
لفعل ما يمكن فعله.
كان يعلم أن الجثة لن تتكلم، مع ذلك لا
يستطيع أن يتمالك نفسه عن التوثّب وتكرار
السؤال ذاته:
"أتريد شيئاً" كلّما أوجس حركة من الجثّة.
كان مستعداً لفعل أيّ شيء، وثمة إحساس
عارم لديه بقدرة سحريّة كامنة تستطيع أن
تنفّذ كل ما يُقال لها.
".. فقط لو يقول."
لكن الجثة لم تقل شيئاً، وعادت لتقفل
عينيها من جديد. وعاد الصبيّ لاسترخائه
على الجدار وانتظار مالا يدريه.
-الموت-
قال الابن الأكبر متأففاً: لكأنه انتظر
عمداً سقوط المطر!
-الموت بيد الله. عقّبت الأم بلهجة عاتبة،
وهي تمسح أنفها بمنديل قماشي، وترمق الابن
الأكبر وهو يوزّع نظراته بين الجثة
والتابوت.
-يبدو أنّه لن يتّسع له. قالت الابنة
الأرملة.
فقال الابن الأكبر: وماذا لو طوى رجليه
قليلاً؟!
ابتلعت الأم ماكان يمكن أن تقوله، وراحت
تفرش التابوت بثوب عرسها الذي انتزعته من
صرّة مغبّرة وقديمة. كان من الموسلين
الأصفر، والمليء برسوم لشتّى الأزهار.
وسبق أن أقسمت أنها لم تلبسه، إلا ليلة
زفافها.
كانت قد بدأت تنشج بصوت واضح، ووجهها
يزداد شحوباً.
-لا داعي لذلك. قالت الأرملة وهي تشيح
بوجهها، وتضع أدواتها جانباً، وتتحرّك
بتكاسل إلى الجهة المقابلة لأمّها.
-انهض يا حبيبي، ألا تريد توديع أبيك؟!
قالت الأم.
كان الصبيّ غافياً، رأسه مائل قليلاً إلى
الخلف.
وشفته السفلى متدلية بعض الشيء، ودمعتان
شبه جافتين تلمعان تحت جفنين وادعين.
هزّته الأم برفق. فتوثّب محدّقاً بملء
عينيه بالجثّة وهو يقول بصوت عجول: أتريد
شيئاً؟
-مات. قالت الأم، وتابعت نشيجها بهدوء.
اتّسعت عينا الصبيّ، وتهدّلت كتفاه، ثم
انفجر بنحيب حاد.
-لماذا كل هذا العواء؟! قال الأخ الأكبر،
وهو ينحني ليساهم بنقل الجثة إلى التابوت.
-ارفعوه باحترام، فهو ليس كيس شعير، قالت
الأم وهي تخرز ولديها بنظرة شرسة.
-ستموتون كلكم.. والله ستموتون. صرخ الصبيّ
كمن يشتم.
-اسكت أيها الجرو. قال الأخ الأكبر، وهو
يسدّد نظرة قاسية إلى الأم التي احتقن
وجهها، وبدأ يمتقع وهي تحشر رأس الجثة
بشكل مائل.

كانت السماء قد مالت إلى الشحوب منذ فترة،
وكانت خيوط المطر تتكاثف وتتسارع عبر فضاء
من الدّكنة والصمت والترقّب، وكانت
تكتكات الساعة تتعاقب بفتور وسط عالمها
الخاص.
احتارت الأم كيف يمكن أن تلفت انتباه
الجيران، أَعَبْرَ النشيج المرتفع، أم
تدعوهم بواسطة الصبيّ؟
ثم استقرّ رأيها على أن تتريّث في الأمر
بانتظار ما يجب فعله.
كانت الابنة الأرملة قد صالبت ذراعيها
على صدرها.
وثبّتت نظراتها الباردة على فقاعات المطر
وهي تولد وتنطفئ فوق البرك الصغيرة، التي
بدأت تتشكّل منذ حين في الخارج.
-على الأقل أزيلي هذه اللعنة عن شفتيك!
قالت الأم ذلك وهي تشير إلى شفتي الأرملة
المصبوغتين بأحمر الشفاه، وبلون فاقع.
-لا عليك.. لن يراهما أحد. قالت الأرملة
ببرود وهي تلوي شفتيها، وتمسحهما بظاهر
يدها، ملطّخة بذلك بعض وجهها دون أن تدري.
-الدفن-
-مات؟ تساءل الجار وهو يدلف من الباب
المفتوح على مصراعيه، وينفض المطر عن
قبعته التي رفعها لتوّه.
ويتلفّت حوله كمن يبحث عن ضائع.
-مات. أجابت الأرملة وهي تثبّت نظرتها على
عينيه الجريئتين، وتلوّح بحركة غامضة من
يدها.
حدّق الجار بشفتيها الرديئتي الصباغة، ثم
جاس ببصره على أنحاء جسدها وهو يتمتم: إنا
للّه وإنّا إليه راجعون.
وخزته عينا الأم النديّتين والمشربتين
بغضب بارد وحمرة قانية. وقالت بتبّرم:
يلزمنا بعض الرجال. ثم استدركت بشيء من
الضراعة: المقبرة ليست بعيدة.
أخذ الجار المهمّة على عاتقه. ارتدى
قبّعته ومضى، عهد للحفّار بالعمل، وعاد
بعد بحث يسيرٍ، برفقة أربعة من الفتية
العاطلين عن العمل، بوجوههم الخالية من
أية رزانة، وثيابهم المهلهلة، وبعيونهم
النهمة التي راحت تفتّش جسدي الأم
والأرملة دون أن ترمش جفونهم.
تنهّدت الأرملة بارتياح، ونفضت يديها من
قصّة الموت. في حين تحرّكت الأم بصرامة
وحذر. وهي توزّع تعليمات لا أحد ينصت لها
أو يعيرها اهتمامه.
-لننتهِ من المسألة بسرعة. قال الابن
الأكبر ذلك، وهو يشدّ أحد الفتية من كمّه.
حيث كان يعابث الأرملة. كان المطر قد تحوّل
إلى رذاذ ناعم، يتلاشى في الوشاح الضبابيّ
الكبير، الذي بدأ يلفّ الطريق والموكب
الصغير والتابوت الرديء الصناعة.
حفّار القبور كان قد أنجز عمله، ووضع
سيجارته المبلولة في زاوية فمه، واستعد
لدفن الجثة.
-الله كريم. قال ذلك، ونقل السيجارة إلى
الزاوية الأخرى من فمه. وتهيّأ لتناول
التابوت المثلوم، الذي بدأ يتخلّع، لتبرز
منه بعض أطراف الجثّة، وهي تلوح كمعالم
حيّة لموت طريّ.
-الله واسع الرحمة. قال الحفار، وهو
يتلقّى ويحتضن قسماً من التابوت، مشيحاً
بوجهه عن اليد التي اندلقت منه، وراح
يوسّده بمساعدة بعض الفتية. وبدأ التراب
ينهال، حتى قبيل أن ينجح الحفّار بالخروج
تماماً من الحفرة. مع ذلك لم يُبْدِ
انزعاجاً، ولم يعقّب بشيء.
نفض ما أمكن نفضه من التراب العالق برأسه
وثيابه.
وتساءل: أليس من شاهد؟
-أنا أشهد. قال الصبيّ باندفاع وحرارة.
ابتسم الحفّار بتحفّظ، في حين قهقه الأخ
الأكبر، وراح يجرجر حجراً كبيراً، وهو
يقول: لا بأس بهذه كشاهد. زمّت الأم
شفتيها، وارتجفت ذقنها، وهي تتذكر أنّ
حساباتها ليست مضبوطة. ثم تراجعت إلى
الخلف بحنق منتزعة من عبّها بعض الليرات
التي احتفظت بها لهذا الغرض. ودفعت بها إلى
يد الحفّار، الذي بدأ يتأمّلها بشيء من
الإحباط. في حين كان ابنها الأكبر قد عاد
مع الفتية والجار، وهو يلغط معهم حول
تحديد أجورهم. وخلفهم تسير الأرملة وحيدة،
لكأنّ الجميع نسيها.
-وهذه لك أيضاً. قالها الصبيّ بصوت مشروخ
وهو يضع قطعة نقود صغيرة من تلك التي تُعطى
عادة للأطفال، في يد الحفّار، التي بقيت
مفتوحة على الليرات القليلة، ويمضى
عائداً في إثر أمه، مطأطأ الرأس، قبل أن
يضبط الحفّار شفته التي تدلّت وغمغمت
بكلمات مبهمة.
12/5/1991
(زيارة خاطفة)
بالرغم من مساعدتنا المخلصة، لم يستطع
أبي مقاومة الموت فمات.
قال له أخي الصغير: إذا أردت أن تموت.. اترك
لي "جزدان المصاري"
ضحك أبي حتى دمعت عيناه، وتساءل وهو
يتعثّر ببقايا ضحكته: ومن يملؤه لك
بالمصاري؟

بدا أخي دهشاً وممتعضاً من سؤال أبي، الذي
رآه غامضاً جدّاً. لكنّه تفاءل بضحكته
المشفوعة بقطعة نقديّة صغيرة.
... قالت أمّي وهي تجفّف أنفها وعينها: اسأل
عمّك أن يتدبّر أمر شراء الكفن.
ابتلع عمّي بقايا دموعه. وقال منرفزاً: لا
أصدّق أن أخي مات ولم يترك خلفه كومة من
المال.
خلعت أمّي بصمت قرطها الذهبيّ من عيار /12/
وعهدت لي ببيعه وشراء الكفن.
في اليوم التالي قالت أختي الصغيرة: أنا
صرت يتيمة. وعيناها تسألاني عن معنى كلمة
"يتيمة".
قلت لها، وأنا أرسم ابتسامة ما: تعالي
لأحكي لك حكاية الثعلب والعصفور. وتساءلت
في سرّي:
تُرى.. من هذا المتذاكي الذي أراد أن يفلسف
لها قصّة اليتم؟!
وتذكّرت أنها البارحة، لم تنتبه لقصة
الموت كلّها، وبقيت تلعب مع الأولاد طيلة
فترة الجنازة.
وعند المساء سألتْ: متى يعود أبي؟
في أمسيات عدّة تكرّر السؤال، ودائماً
نراوغها حتى تنسى. أخيراً سلّمت بموته،
لكنّها لم تسلّم بعدم عودته. بل تناديه
أحياناً بثقة، وتشكونا له، وتبكي، إلى أن
نسترضيها.
... قلت لزوجتي: أريد أن أزور أبي.
تأمّلتني بهدوء، وأومأتْ برأسها موافقة.
سافرنا مع الأولاد. الطريق عرفني مباشرة.
كنّا صديقين، وها هو يفتح لي صدره ويبتسم
مرحباً، فابتسمتُ له بودّ، وتذاكرتُ معه
المشاوير.. الرحلات القصيرة.. والمغامرات
السريعة. ".. هل تذكر خيباتنا؟"
لم أعر انتباهاً لزوجتي التي اتّسعت
عيناها وهي تتأمّلني بريبة.
ولاحت القرية من بعيد، بدت كعجوز تثرثر مع
نفسها، وتعدّ الصباحات على أصابعها،
مؤرّخة لغياب أبنائها الذي طال، رغم
وعودهم بأن يرجعوا، ومع اقترابنا شعرت
بجدرانها الطينيّة القديمة، بأزقّتها
الترابيّة، بشمسها وهوائها، وهي تتحوّل
إلى صدور حانية، تضمنّي وتقول: يامرحبا.
فرح غامض وحادّ وخزني، وسرق لغتي وأنا
ألتقي بالناس الطيبين.
أخيراً حللنا في بيت أحد الأقرباء، حيث
لاوجود إلاّ لعجوز وحيدة.
سنديانة قديمة وأصيلة عجوزتنا هذه، تعرف
كل ألوان الحزن والفرح، تشمّ رائحة الماضي
والأقرباء، وتبكي.
"أحمد مات.. ويوسف بالحبس.. وخالد بالجيش..
وفاطمة رحلت مع زوجها إلى الخليج.. وأنا
ماعم اقدر موت."
ثم لا أدري كيف لملمت حزنها، واعتذرت عن
دموعها، وراحت تحدّثنا دفعة واحدة عن كل
شيء، وتعدّ الشاي، وفار الماضي، تربّع في
عينيها المكرمشتين، كصبيّة ريفيّة تبهرك
بدائيّتها وإلفتها.
لم أستطع متابعة أحاديثها إلا بإيماءات
مخاتلة. حيث كنت أشرد مع ذاكرتي إلى أيام
زمان.. أيام كانت عيون الريف مجبولة
بالإلفة العميقة والعشق المحروق، تراهما
يرشحان من خلال نظرات سريعة وحيّية،
يخطفانك إلى عالم مسحور، ويغريانك
بمغامرات قاتلة. تاريخ كامل ينفتح على
مداه. بلغة طفليّة مدهشة، تحمل من الرسوم
والحركات أكثر بكثير مما تحمله من الحروف
والأصوات، فأجري مأخوذاً بين أطلاله،
أتتبّع الطفل الذي كنته، المراهقَ
المشاكس وهو يحنّ للهرب بعيداً بعيداً،
بحثاً عن عالم يتّسع لأحلامه الغامضة
وعواطفه المبكّرة.
ويعود "الأستاز" -كما يدعوني أبي ساخراً..
والذي يسهّل الحروف اللثويّة دائماً-
يعود منكسراً، ليشكو للطريق، وينتظر أن
تسرقه جنيّةٌ ما، إلى عوالم زاهية كالحلم.
إلى أن تخزني نظرات الصبايا العائدات من
الحقول، فيطفر الحب من العيون. أراه،
وأشمّه وأتحسسه بكل وجودي.
ثم أقطف تلك النظرات، أخبّئها وأهرب بها.
وفقط عندما أصبح وحيداً معها، نتحلّل من
حكمة الآباء والأمهات، نخلع القرية عن
جلدينا، ونتشيطن بلا حدود.
.. نظرات زوجتي لا تكفّ عن وخزي. أنتبه لها،
فأراها مرتبكة ومُوزَّعة بين إلفة المكان
ووحشته، بين فرحي الغامض وضجرها. فأخبّئ
عينيّ لئلا ترى البقيّة وتغار.
".. لن أزوّجك بفتاة من المدينة.. ابنة
المدينة تسرق زوجها." ذلك ماقاله أبي لأخي
الأكبر.
غافلتُه، ورحت أحلم بفتاة من المدينة،
تسرقني إلى الأبد. أخي الأكبر تزوّج من
القرية. لكن المدينة سرقته مع زوجته
وأولاده:
وتزوّجتُ من المدينة، فاحتفظت بي، ثم
نسيتني. وحتى الآن لا أدري لمن أنتمي!!
ثمة أرض لي لم أجرؤ على بيعها رغم قفرها
وجفافها.
".. من يبع الأرض يسهل عليه بيع أمّه." هذا
ما قاله أبي حانقاً بوجه عمّي عندما فكّر

بالبيع والهجرة.
كانت السماء أقلّ عطاء من قبل، لكنّ ثقة
أبي بها غير محدودة!
أحياناً يحاورها، يعاتبها، وأحياناً
يوبّخها:
وأتطلّع بدهشة إلى السماء التي لم أسمعها
تجيب على أبي ولو لمرّة واحدة، مع قناعتي
بأن علاقة خاصّة وحميميّة تربط الاثنين
ولاشك.
-هذه شاي أمّك وجدّتك.. هذه شاي بالزّوفا."
تقول العجوز.
-يا ربّي ما أطيبها!" أقول وأنا أتلمّظ.
زوجتي ترشف من كأسها، تتذوّق الشاي بحذر،
ثم تنقل نظراتها بحياد كاذب بين وجهي ووجه
العجوز، وبين إبريق الشاي المطليّ
بالشحّار والسقف الخشبيّ الواطئ، وضحكة
مكبوتة في عينيها.
زوجتي الغريبة عن القرية، لن تستطيع فهم
ما نفهمه في هذه اللحظات القرويّة الصرف.
ليكن.. إنها تحترم مشاعرنا وهذا يكفي.
طفلتنا ريم مبهورة باتّساع هذه الدار
العربيّة، ومعجبة بالأرضيّة الترابيّة،
وهي لا تنفك تنكش هنا أو هناك وتتنقّل
كالنحلة من مكان لآخر، تلعب وتدافع
الأشياء، السطل، الطست، وابور الكاز،
وتطارد الدجاجات.
- ريم.. اهدأي أيتها الشيطانة‍ ! صاحت
زوجتي
- بسم الله الرحمن الرحيم.. بالله عليك
اتركيها "هذه البنت حبّة بركة.. اتركوها
تبارك داري.. من زمان لم أر أطفالاً من لحمي
ودمي." ومسحت العجوز عينيها.
... ابنتنا الأكبر مها تململتْ، وتطلّعتْ
إليّ.
عيناي منحتاها صلاحيات مطلقة، فتسللّت
بتحفّظ، وراحت تجبل التراب بالماء، وتصنع
عروساً، وتكلّم الدّجاجات كما تكلم
أترابها.
- ستلوّث ثيابها! قالت زوجتي باستياء.
- ملعون أبو الثياب. قالت العجوز تضمّ
زوجتي إلى صدرها المهدّم.
... في الطريق إلى المقبرة. وقف أبي يعاتبني
"هجرتم الأرض؟!"
"ضاقت الأرض يا أبي"
"وتركتموني وحيداً!"
"لن ننساك. "
هزّ برأسه أسى وغاب دون أن يصدّقنا.
تتبّعته بإصرار حاملاً له باقة أزهار
صغيرة وحنيناً كبيراً.
كانت البيوت المهجورة، والتي أعرفها
بيتاً بيتاً، تطلّ عليّ من خلف موت فظيع
وتبتسم!
"عشرون سنة فعلت كل هذا؟! من يصدّق؟!"
نظراتي المجنونة قبّلت كل حبّة تراب،
وهربت مُبللة إلى المقبرة. قلت لزوجتي:
- أترين ذلك الشاهد.؟ لقد تآكل.. لكنني
أعرفه.
نظرت زوجتي إلى حيث أشرت، وثابرت على
صمتها. وهناك توقّفت أتأمّل الآية
القرآنيّة وقد أكلت الأيام بعضها،
وقبّلتُ الشاهد. ووضعت باقة الزهر. وقفت
زوجتي إلى جانبي، وتمتمت بخشوع: ليرحمه
الله. ثم تطلّعت عيناها إليّ بتضرّع وقالت:
لنرحل.. بالله عليك. في حين مدّت ريم يدها
الصغيرة إلى إحدى الزهرات، وعيناها
تستميحانني وتبتسمان.
- لا يا بابا.. سأشتري لك غيرها.
"... دعها." قال أبي بامتعاض. وأردف:
"خذيها ياريم.. إنها من جدّك."
وبقيت ريم تتطلّع إليّ بإصرار وشيطنة.
وشدّتني زوجتي من يدي.
الوداع يا أبي.
".. ليحفظكم الله."
بعد بضع خطوات.. انتبهت إلى أن الشيطانة
ريم، جاءت بكل باقة الأزهار، وأختُها إلى
جانبها تساومها على زهرة!!
تطلّعتُ باستياء شديد، وفكرت بصغعها.
".. اتركها يا (أستاز) إنّها مني." قال أبي
ذلك بعتاب حنون.
لم تفهم زوجتي سرّ تبدّل موقفي، وانطفاء
غضبي مع ذلك قالت مهدّئة: أطفال!
وأسرعتْ خطوها، ضاغطة أكثر على يدي،
ونظراتها القلقة تحثّنا على الإسراع،
وتتلمّسنا واحداً واحداً، لكأنها تنفض
عنّا غبار الموت!
1/11/ 1990
من سفر التكوين
- هو-
صديقتي تدير ظهرها في محاولة للنوم، لن
تستطيع، أعرف ذلك.
منذ لحظات كانت تصغي إليَّ، وأنا أسرد لها
ما اتفقنا على تسميته "اعترافات".
ترقد أمامي كرجل دين. وأجلس قبالتها كمذنب
يحتاج للبوح حاجته لارتكاب المزيد من
الذنوب.
مراراً اعترفت لها، ودائماً تغفر لي.
ربّما لم تغفر تماماً، ربما تعاني من ظلال
الاعتراف، وربّما لا زالت تفكّر مثلي
بعوالم الكلمات التي لا تُقال عادة.
أو لعلها تستحضر بدورها، وعلى طريقتها،

صورة للمرأة -موضوع الاعتراف- تلك التي تقف
الآن ملء ذاكرتي حتى لأكاد أراها تماماً
كما كانت منذ عشرين سنة!
يومَ تسللّتْ إلى عالمي بهدوء.
جرّتني بحذر إلى عوالم لا أعرف عنها
شيئاً، أحاسيسي كانت تسبقني بتوق ورهبة
وكثيراً ما تنفصل عني وتشتعل. كان وهجها
يصدمني، يشلّ حركة وعيّ، ثم أستفيق
كالأبله لأستعيد بشكل ضبابيّ الكلمات
والحركات المراوغة، والنظرات الملتبسة
التي تتسلّل وتوغل في التفاصيل، فتضبطها
النظرات الأخرى، تصطدم هذه بتلك،
تتكسّران.
أسمع بكل مسامات جلدي صوت ارتطامهما.
ونغرق في بحبوحة من انعدام الوزن. والصمت
المكثّف اللّزج يروغ في حلقينا وعيوننا.
وينساب ناسجاً حولنا غلالة عنكبوتيّة غير
مرئيّة، فتستشعر أحاسيسنا موجات ناعمة من
الخدر اللذيذ، تتسلل مع الدم إلى كل
خلايانا.
لم أستطع إلا أن أتركها تضبط نظراتي
التَّعبة وهي تستريح على تفاصيل جسدها،
وكنت واثقاً أنها تريد ذلك.
ويأتي صوتها المبحوح متعباً يتوكأ على
شفتيها الكسولتين:
عيناك تعريانني.
- أنا؟! جاء استنكاري واهناً كستارة
ممزّقة لا تستطيع حجب وجه فائر.
وذهلتُ حين امتدّت يدها تتناولني كقطعة
حلوى! كان العالم هشّاً ورخواً ومختلطاً،
وكنّا نجهد لإعادة صياغته على المستوى
الشخصيّ.
"أكانت تجربتك الأولى؟
-بلى
- أكانت متزوّجة؟
- أجل.
- كم بقيت تراودها؟
- بل هي التي راودتني.
- ألم تفكّر بها من قبل؟
- جعلتني أفكّر بها.
- ألست آسفاً؟
- لا."
لا أذكر تماماً، متى وكيف انتهت علاقتنا،
بقينا نهرب إلى الأمام، والشعور بالحصار
يطاردنا، وبقي جسدانا ينفلتان إلى عوالم
مسكونة بالأحاسيس الهاربة.
أكثر من مرّة، وعلى تخوم اللحظات
المسروقة، اعتقدتُ أن عينيّ تخونانني،
تحدّثان الناس، كل الناس، بدقائق ما يجري.
وتتّسع الأحداق.. تصبح الدهشة بحجم
الفضيحة:
- أنتَ يا سعدان؟؟! وأنتِ أيتّها السيدة
الفاضلة؟؟!
وتنهال الحجارة.
رأيت لحمها المهروس بأمّ عينيّ، ثم لم أعد
أرى شيئاً كان دمي يركض كجرو حول جسدي
المثقوب بالرصاص وبالنظرات الحادّة.
وإثر كل مرة. نلملم جسدينا ونلتقي من جديد.
"- طريقنا مسدود أليس كذلك؟
- نعم مسدود.
- لماذا لم نفكّر بذلك من قبل؟!
- بل لماذا نفكّر بذلك؟"
... وحده الطريق المسدود اتّسع لنا، فحشرنا
جسدينا فيه، واسترحنا إلى حين.
"..- وبعد؟
- لا أدري."
.. دائماً كنّا نهرب من هذه الـ "وبعد؟" لكن
الأرض لم تكن واسعة، كان لا بد من التوقّف،
فتوقفنا.
"هل أحببتها؟
- لاأدري.
- ألا تزال تحبّها؟
- ليس حبّاً.. لا أدري ماذا أسميّه..
- وماذا عنها الآن؟
- الآن تكرهني بعمق، لاتريد أن تصدّق أن ما
حدث قد حدث. تريدني أن أموت وتموت معي
الحكاية."
...أكاد أراها الآن مليئة بشعور الذّئبة
الجريحة، وجسدها المنفصل عنها يوغل في
الاغتراب واللعنة، تكاد لا تعرفه، بل ولا
تريد أن تعرفه، من زمن بعيد وهي تحمله بكل
أثقاله وضناه، أخيراً وضمن طقوس كالدّبق
أصبحت ملك أحدهم. دائماً كانت تقول كلمات
لاتريدها، وتوافق على مواقف ترفضها.
وبقيت رائحة جثت كلماتها ورغباتها
المدفونة في أعماقها تزكم أنفها، وبقيت
الأسئلة التي تُدفن حيّة باستمرار، تترك
فراغاً كبيراً فيها وحولها.
- هـــــي -
يارب.. الخلخلة في كل مكان. وهذا الجسد
الملعون يطفو في الفراغ حتى وهو في فراش
زوجي:
مراراً أحسّ بالاختناق. أشياء ما تضغط على
عنقي حتى في الحلم!
وأهرب إلى الكنيسة. ألتفّ بشرنقة من صلاة
حفظتها عن ظهر قلب.
هناك من داخل الشرنقة لمحت صبيّ الكنيسة.
ربما لم يكن يتجاوز السادسة عشرة. كان
غارقاً في صلاة مختلفة، وبوجه مختلف. مع
ذلك لم يكن مع الله. كان متوحّداً مع ذاته.

ووجهه الرائق ينضح بالسؤال. دائماً كان
هناك. المكان نفسه والصلاة نفسها. والوجه
نفسه.
مراراً قدّرتُ أنه مجرّد لوحة زيتيّة
لفنان رائع، وهبها للكنيسة تكفيراً عن
ذنوبه.
منذئذ، وهذه اللوحة جزء من كنيستي، وجزء
من طقوسي، وواظبتُ على الصلاة.
هل كانت صلاتي نوعاً من الهروب؟
لا أدري... كل ما أدريه أن الصلاة كانت
ضرورية بالنسبة لي.. كانت تردم بعض الفجوات
في ذاتي التي لم أستطع الإحاطة بها يوماً.
مرّة انتابتني قشعريرة وأنا أكتشف أنني
بدأت أتعمّد العبث بكلمات الصلاة. مثلما
أتعمّد مخالفة الطقوس. أصبحت استمرئ تزييف
الواقع وتزييف الأحداث، أرسمها بشكل
مختلف، وكما أريد.
لم تكن الرسوم منضبطة ولا واضحة، كانت
ضبابيّة وغير منسجمة. مع ذلك أحتفظ بها
أراكمها في ذاكرتي، وأخفيها عن الجميع.
ويراودني القلق.
أحياناً أقول: لا عليك يا امرأة.
وأحياناً أصرّ على تكثيف نفسي في كذبة ما.
قد يضبطونني وأنا أكذب فأتألم.. لماذا
يصرّون على ضبطنا؟!.
آه كم أنا متعبة.. متعبة.. يارب كيف
ابتليتني بذلك الشيطان؟!
في غمرة صلاتي بحثت عنه، اكتشفت أن
الكنيسة ناقصة بدونه، كان ثمة فراغ،
وأمعنتُ في الصلاة.
شعرت بخوف غامض، لم أستطع الإمساك بيد
الله، ولم يقترب الله أكثر ليمكنّني من
يده.
كان ثمة مسافة تفصلنا، مسافة ما، بحجم
الصبيّ، نعم بحجم صبيّ الكنيسة.
وبحثتُ عنه بالطبع. ولكن كشيء يخصّ
الصّلاة، ويخصّ الكنيسة.
لكنه كان شيئاً مختلفاً.
أجل... كان مجرّد آدمي هجر الكنيسة وإلى
الأبد. ذلك ما اكتشفته متأخراً.
في البدء، وكالممسوسة توجّهت بكليّتي إلى
وجهه الرائق، فتململ واختلج.
اعترفت له بذنوب لم أرتكبها، وغفر لي.
لم أشعر بالحرج، كنت كمن يتعامل مع حلم.
وبالتالي لم أجد ضيراً في الاسترسال حتى
النهاية.
مراراً وددت لو أسرقه، لو أهرب به، حاولتُ
لم أستطع.
فيما بعد اكتشفتُ جنون المحاولة، مثلما
اكتشفت كم كان الحلم خادعاً.
من عاش خيانة الحلم ولو لمرة واحدة؟؟
-هــــــــو-
كمهرة جموح لا زالت تندفع نحو آفاق
مسدودة. ثم ترتدّ، تجترّ خيبتها، تنكفئ
كفرس عجوز مطأطأة الرأس، وعيناها
المثقلتان بالحلم المكسور تتعريّان
وتفضحانها ضمن شبكة العلاقات
العنكبوتيّة.
وعواؤها المكبوح ينزّ من جلدها، ينسلّ من
فراش زوجها، ويختلط بهلاميّة الحلم،
كرقعة سوداء في ثوب أبيض.
... لم يعد الرجوع ممكناً.. المجنونة.. لماذا
لا تريد أن تفهم ذلك؟!
حتى صديقتي لا تريد أن تفهم، ولا تزال
تدير ظهرها في محاولة للنوم.
منذ حين كنت أعترف لها، كانت تقاطعني
حيناً لتعبّر عن دهشتها، وحيناً لتستوضح،
وأحياناً تهزّ رأسها موافقة. قد تشرد
عيناها، تنفلتان باتجاه ما، وتتحدّثان
على طريقتيهما.
ربما لم تصدّقني تماماً، وربما لم تسمعني
تماماً، ولها الحقّ بذلك. فجميعنا نرفض
التصديق أحياناً، بل وحتى السّماع، ذلك
أننا نتدخّل دون وعي منّا، لنلوي عنق
الحدث أو الحكاية إلى الاتجاه الذي نريده
نحن.
لعلّها الآن تصوغ الأحداث بشكل آخر،
لعلّها تفكر بطريقة خاصّة، بشيء ما، بحدث
ما، أو بنهايات أقلّ دراميّة، أو أكثر... من
يدري؟؟
- أحلام للبيع -
- يانصيب..
صوت تفوح منه رائحة الجائزة الكبرى.
- ملايين.. ملايين.
من يقاوم إغراء الملايين؟! تعال يا ولد.
ويأتي الولد.
"أنت؟! يا بابا حلّ عنّي الله يرضى عليك..
تريد؟ أعرف.. أعرف أنك دائماً تريد.. وأمّك
تريد.. وأختك، و.. كلكم تريدون.. أنا وحدي لا
أريد.. اللهم إلا وجعَ الرأس."
- يانصيب.. بكره السحب.
نصيبي وأعرفه. وُلدتُ منحوساً، والطفل
الذي مات فيّ لم يُكمل موته. حتى زوجتي
تكرهه. تلعن الساعة التي تزوّجتني بها.
تريد رجلاً يأكل الدنيا قبل أن تأكله.
"..- عيب يا امرأة.. نحن بشر.
- مثالياتُك الفارغة لا تطعم خبزاً. و.. و.."
ونتشاجر.
" -أنتِ طالق.. ما فائدة أن أعيش رقماً
خسيساً؟!

على كل حال لا فائدة من الحوار مع قيم
السوق التي شوّهتك.. مع السلامة."
".. أنت طالق؟!
أطلّقها وأحمل الأولاد على ظهري؟!
ثمّ من ستتزوّجني بمهر قدره أطنان من
العملة الأخلاقية والثقافية الباطلة؟!
- أنا.. أنا يا روحي..
- أنتِ؟ ربما.. قد تكونين أنت الأخرى طيبّة
وغبيّة مثلي، كما يقولون. لكن... عندما
تقرصك الحاجة ستضطرين لشتم أجدادي وأجداد
من عرّفك عليّ.
- أبداً.. بل سنتعاون يا روحي.
- لا أمانع إن كنتِ جادّة.. فالتعاون
ضروري.. وسيجعل منكِ نداً لي.. يحررّك من
بقايا عقلي الذكوري. لكن.. والله لن تكون
بعيدة تلك اللحظة التي تتّهمينني فيها
بأنني لست رجلاً، وبالمعنى الذكوري ذاته...
- كل رفيقاتي ستّات.. مرفّهات.. و....
- من أين لي يا امرأة؟!
- لا أعرف.. أنت رجل ومسؤول.. وإلاّ والله
سأشرشحك.
- مع السلامة عمّو.. سأرجع إلى زوجتي
القديمة.. على الأقل أعرف قاموس شتائمها..."
- يا نصيب.. قرّب على الملايين.
.. لا أعرف كم رقم بائع اليانصيب هذا. مرّ
الكثيرون. وكلّهم يدسّون أوراقهم بأنفي،
لأتحسس الرائحة نفسها، التي تخدّرني كلما
حدث شجار منزليّ.
".. - أترين هذه الأكداس المكدّسة؟
- من لا يراها ياحبيبي؟! لكنك أكبر منها
والله.
- أخيراً؟!
- أولاً وأخيراً.. أم أنّك تحملّني مسؤولية
الظروف التي قد تجعل البشر كالجرذان التي
يطيب لها أن تهشم بعضها في المختبر؟
- ما شي الحال.. عموماً.. غيمة ومرّت. صحيح
أنها أكلت ثلاثة أرباع عمرنا.. لكن الربع
الأخير سيكون ربيعاً كاملاً.. أليس كذلك؟
- طبعاً كذلك يا عمري.. و...."
- يانصيب... يا نصيب.
مائة ليرة تنخسني.. أشعر بثقلها، برائحة
ملايينها، ويدي تضغط عليها وتتعرّق،
تحثّها على ألاّ تخذلني. لن أفرط بها لأيّ
سبب كان، إذ لا يُعقل أن أهدر ثروة كرمى
لعيون مئة ليرة مهترئة.
"..- ثم ما الذي تستطيعه مئة ليرة يا امرأة؟!
- ياربيّ.. إلى متى هذا الهوس بالناصيب؟!
- هوس؟! يعني مجنون؟! يا فهيمة.. كل العالم
يراهنون على النصيب.
تسبّني، وتسبّ العالم.
أحملق بها وأصرخ: يا ابنة الـ.. ما الذي
تبقّى لي غير هذا الرهان؟!
تقول دون أن يرفّ لها جفن: لأنك نذل.
يطير عقلي، وأقتلها.
يرعبني منظر الدم. فأطرد الكابوس، وألعن
الشيطان."
ماذا أفعل يا رب؟ الأبواب تنغلق واحداً
بعد الآخر. باعة اليانصيب وحدهم يفتحون لي
باب الأحلام المؤقتّة، فأغرف، أغرف حتى
التعب.
كل يوم نلعب هذه اللعبة. وسويّة نشتكي من
الحظ. نتأمّل أرقام الأرباح. ونطقّ من
الحسد.
وعندما يدرك الباعة أنني لا أملك ثمن
التورّط في اللعبة، يمضون وهم يهزّون
أكتافهم، لكأنهم يحملّونني مسؤولية ضياع
فرصة العمر المحقّقة هذه المرّة تحديداً.
فيأكلني الندم.
أستحضر وجه زوجتي، أجرّها من شعرها وأنا
أصرخ:
لولاك لفعلتها وأصبحت مليونيراً.
فتضحك، تضحك وتنسحب دون أن تجفّف دموعها،
ودون أن نكمل شجارنا.
.. لماذا تنفتح عليّ أبواب الشّجار حتى
عندما أخلو بنفسي؟!
... عموماً، اليوم لن نتشاجر. حتى باعة
اليانصيب يعرفون أنني لا أملك مئة ليرة،
وإلاّ لناديت أحدهم ليضع الملايين في
جيبي.
وحتى لو ملكتها، لن أجرؤ بعد على التفريط
بها.
حيث أن كرباج الحياة اليومية، لم بعد يترك
لي مجالاً ولو لبيع أو شراء الأحلام
الرخيصة.
سلمية- ايار/ 1998
- إفرازات الحصار-
- يستحيل.. لن نسمح.. لا..
كان ذلك آخر ما قاله حازم، وقد نفذت الـ
-لا- من بين أسنانه حادة وخّازة. وخرج
مخلّفاً غيمة صمت داكنة، تشرّبتها الأعين
الواجمة بقلق.
فكّر أحدهم مستنكراً: "التعب المتبادل،
والخوف المتبادل، ليس خيارنا الوحيد."
ورمق الآخرين.
كانوا ساهمي الوجوه، مغبّري النظرات،
فالزمن الحرج يفقد العيون بريقها.
همهمة شابّة طفت كفقاعة صابون وأنطفأت.
وسقطت ابتسامة صفراء من فم أحد الشباب،
التقطها كهلٌ بعينيه، فاحتقن وجهه.
كان الإجتماع مرهقاً للجميع، وكان الوقت

حاداً كسكيّن.
غمغم أحدهم باضطراب: إلى متى يمكن احتمال
ذلك؟!
عقّب آخر وبحزم: إلى أن نستطيع التمخّط
براحة بال وحريّة على الأقل.
.. فضّ الاجتماع هو الشيء الوحيد الممكن.
الكل أدرك ذلك. ولهذا معنى واحد فقط. إنه
تخويل حازم بالاستمرار. وتخويل الزمن بأن
يبقى موضع رهان وحيد ودائم.
"مالِك" آخر من خرج. كانت رائحة الحصار
تزكم أنفه وأنوف الجميع، لكن إفرازات
الحصار كانت أقرب إلى عنقه، يكاد يحسّها
وهي تضغط بأصابع حازم، مهدّدة أكثر فأكثر
بالإختناق.
( مالِكْ) لم يعلّق أملاً كبيراً على
الاجتماع. كان يعرف ثقل الحصار، وثقل حازم.
وفكر: "الحصار وحده خلّفك يا حازم.. وإلا
لكنت مجرّد تيس صراع تمتعنا في
المناسبات... تطلّع إلى الرجال وهم يجرّون
أجسادهم وهواجسهم فرادى وجماعات، وحدّق
في البعيد. وغمغم سنوات طويلة وثقيلة
تمرّ، والكل متوتّرون، مستنفرون حتى
العظم.. وبعد يا حازم؟! هل نحن منذورون
للصراع؟! تعبت قروننا أيّها التيّس.. إنّنا
بشر.. ويجب أن نعيش."
ومضى (مالك) الشاب يخفق بقلب فتيّ، ويهجس
بغدٍ غامض على نحو ما. صعد إلى المكتب
برفقة شدّاد.
تصفّح بعض التقارير بسرعة، أجرى أكثر من
مكالمة هاتفية، ثم نهض كمن يبحث عن شيء،
راح يخطو بنزق ما بين الجدار والجدار، ومن
ثم التصق بزجاج إحدى النوافذ، وغمغم بصوت
مسموع: تحوّل الحصار إلى كابوس.. إلى
فزّاعة.. وهاهي إفرازاته تنمو بشكل
سرطانيّ.. تهدّد كل شيء.. لابد من عمليّة
جراحيّة.. نعم لابد."
زفر شدّاد، والتفت إلى حيث كان يجلس جنباً
إلى جنب مع حازم، وامتقع وجهه. كان حازم
يتفقّد الخيل، وهي تحمحم له بوّد وصداقة،
عندما بلغ حصانه الأشهب، حمحم هذا بنشاط،
ودفع بخطمه صدر فارسه، بحميميّة وإلفة.
ابتسم حازم ومسح الوجه الأصبح بأصابع
حانية، وتطلّع إلى العينين الواسعتين
بحبّ. ودمدم: وأنت.. ألم تتعب بعد ياميمون؟!
القوم يتململون" يريدونك راقصاً في
السيرك.. ويريدونني مهرّجاً؟
لو كان العالم مجرّد سيرك، لرقصنا
جميعاً، كلّ على هواه، لكن العالم.. آه..
ماذا أقول لك يا ميمون؟
فقط لو تعرف كم ثمن الفرح.. كم ضريبة
الحياة.. ألا تريد أن تدفع؟ لاتقل: دفعت.
الحياة هي التي تقدّر كم يجب أن ندفع، وهي
التي تقول: كفى، وها أنذا يافارسي، أما
السّمسرة في هذه الأمور فلن تزيد عن كونها
مسخرة.. أليس كذلك يا ميمون؟
.. كان ميمون قد انصرف منذ هنيهة لإتمام
وجبته، مغفلاً مداعبات فارسه التي لا
نهاية لها.
".. معك حق يا ميمون... رائحة التبن والشعير
أكثر جاذبيّة من الحديث غير الملموس عن
جنّة غير ملموسة..
لكن... ما بالك لو فكّرنا جميعاً على
طريقتك.. ألا ينهار العالم؟
.. شعر حازم بوخزة غامضة، فخرج، شاعراً
أكثر من أيّ وقت مضى بثقل كهولته. لكن
صوتاً مجرَّبا زنخر في أعماقه: "لن أسمح
بالإرتخاء قبل الأوان.. لا يحق لأحد أن
يقامر بالدم والجهد المدفوعين.." وتجهّم
الوجه الخمسيني، تحسّس مسدّسه البارد،
وارتعش.
".. وإلا فليقتلوني.. إنني على استعداد
لارتكاب ألف حماقة وحماقة للحيلولة دون..
آخ.. ماذا أقول؟
الأرض أصبحت ضيّقة.. لكن.. متى كانت واسعةً
ابنةُ الكلب؟
يا رب.. أحلامنا لم تعد مقدّسة، ولا مهيبة،
داخلها الشّك، باتت ثقيلة.
يقولون: إذا رفضت أرضك زراعة الورد فازرع
البرسيم.. كن واقعياً يا حازم."
لا. لا أستطيع أن أكون واقعياً كل الوقت.
الأرض كالفرس إذا لقِّحها الحمار أنجبتْ
بغلاً بالضرورة..
أوف.. كانت الأرض مقدّسة.. والورود مقدّسة..
والأرحام.. وعيون الأطفال.. ولغة المستقبل..
... كانت ذقن حازم ترتجف، ووجهه الشجيّ
يختلج، وظهره يميل للإنحناء أكثر فأكثر.
بينما كان شدّاد مغروزاً هناك كشجرة صبّار
مثلوجة.
"- لتطلق الطّلقة الأخيرة يا شدّاد
- أين؟
- في الرأس.
- من الخلف؟
- لافرق.
- من الخلف لن تكون الطّلقة أخلاقيّة.
- الطلّقات كلّها لا أخلاقية.. ألم تفهم
ذلك بعد؟!"
أجفل شدّاد، وراح يتذكّر كم أطلقوا، وكم
زغردت له الصبّايا. وفكرّ: ".. لعبة الموت
لها طقوسها أيضاً، ولها فرحها التعويضيّ
المر."

كانت عيناه تثقبان الأشياء بنظرات غائمة
قلقة، وهجس: الأمر مختلف اليوم، فبالأمس
فقط كنّا سويّة مع حازم، نرسم آفاق
المستقبل بحميميّة وثقة" ووخزة صوت مالك:
لا تتردّد يا شدّاد.. إنها الطلقة الأخيرة
والضرورية."
".. قد لا تكون الأخيرة." هجس شدّاد بذلك وهو
يتحسّس مسدّسه بأصابع ميتّة. وارتجف. ضغط
فكيّه بقسوة، ودار على عقبيه بنزق،
مدارياً صفرة باهتة غشيت وجهه، واحتقاناً
ثقيلاً في عينيه. ".. كلْ من لحمك يا شدّاد..
إنها ضريبة تعرّجات الحياة يا بن الكلب..
وأنت أيتها المرابية السافلة، لماذا كل
هذه الضرائب؟! تفه.."
.. قدما شدّاد المتشنّجتان راحتا تدفعانه
أكثر فأكثر إلى.. كان يعرف أين سيجد حازم.
الكل يعرف فحازم عنيد كبغل. وهو دائماً
هناك، يمسك قرني الثّور بشراسة، خشية أن
تسقط الأرض.
".. دع الثور.. الأرض لا تحتمل ثورين.. دعها
قلت لك."
كان وجه شدّاد يتفصّد عرقاً، وكان حازم
يدير ظهره ويعضّ بعينيه على كل الأيام
الماضية، وعلى كل الأيام التي لم تأت بعد،
ويغمغم: كل مدّعي النبوّة صادقون بمعنى
ما، يؤمنون بشيء ما، يعيشون له، يموتون من
أجله، وعندما يسقطون تسقط نبوّتهم،
ويتخلى عنهم الله."
- حازم...
في البعيد، كان ثمّة عواء ذئبيّ ممطوط،
يطفو ويختلط بزنخرة الأفراس.
التفت حازم بعينين متوثبتين مريعتين.
- هنا... هنا ياحازم...
"... الذئاب ليست بعيدة.. ألف مرة قلت ذلك..
لا وقت لـ اللعب."
- حازم... لاتدعني أطلق من الخلف.
اختلطت النبرات القلقة المتوترة بصدى
عواء الذئاب. وغامت عينا حازم، وشفتاه
المزرقتّان مرارة، راحتا تصدران الأوامر
تباعاً، تستحثّ الخيل والرجال، وتستدعيان
الميمون، فرهان العمر موضع اختبار نهائي.
- حازم... يا بن القحبة. ألن تتيح لي فرصة أن
أكون شهماً معك؟‍
تسمّر حازم كنصب تذكاريّ، وجبهته العالية
استدارت بكل كبريائها وآثامها، والأذنان
المرهفتان التقطتا صهيل ميمون المتوتّر،
وحمحمة الأفراس المرتبكة... ومن ثم حملت
الريح إلى البعيد صدى واهناً لطلقة جافّة،
كانت فاتحة لطلقات كثيرة ومهووسة، وكلها
من الخلف.
بوخارست 1991
الأخرق
لايدري لماذا يرتبك كل هذا الارتباك
عندما يدخل إلى مكتب معلمه لشأن أو لآخر.
جسده الفتيّ، والذي هو موضع زهوه، يتحوّل
هناك إلى كتلة رخوة غير منضبطة، وحركات
خرقاء.
حتى أن المعلّم وصفه ذات يوم بالأخرق.
يومئذ، وعلى الفور، تضاحك مساعدوه بضحكات
رسميّة مناسبة للموقف.
وانتشر اللقب الجديد بسرعة كبيرة، حتى
السابقون بنيل ألقاب مشابهة أو أسوأ،
استقبلوه بمرح متكلّف، معتبرينه ضربة
معلم حقّاً، وراحوا يتأمّلون زميلهم
الأخرق بفضول، لكأنهم يرونه للمرة الأولى.
ويستغربون كيف أنهم لم يكتشفوا خرقه رغم
مثوله أمام أنوفهم، بل إن أحدهم، وكان
يلّقب بالصعلوك، تجرأ على غير عادته وقال
له بعد فترة من التأمّل الغبيّ الذي يحاول
أن يتذاكى:
حقّاً إنك أخرق!
وراح يغرغر بضحكة بليدة، مما استجرّ
سلسلة من القهقهات المجّانيّة، التي لا
يُعرف لها باعثاً على وجه التحقيق.
... ودوّت الصّفعة، حادّة شرسة، وبسرعة
فاجأت حتى صاحبها، وجرى خيط متقطّع من
الدم من فم الصعلوك، مع همهمات غامضة
وذاهلة، وسط دهشة الجميع.
استيقظ الأخرق إثرها على أسف داهم وحارّ
يأكل عينيه، وراحت نظراته تتعثّر وترتطم
بالعيون المحدّقة به، إلى أن استقرّتا
بعتاب وجل على وجه الصعلوك المتشنّج،
والذي كان بدوره يتأمّل وجوه الآخرين
لكأنه يسألهم: ماذا أفعل؟
لكنه ما إن رأى الدم حتى بدأ يغمغم: دم؟! دم
أيّها السافل؟! وراح يعربد ويتحرّك في
مكانه كنابض مكسور، يستعدّ لوثبة فات
أوانها.
تمنى من كلّ قلبه أن يمسكوه قبل أن يضطر
لإستجرارالمزيد من الإذلال، في معركة
خاسرة مع الأخرق. لكن عينيّ الأخرق
الواجمتين شجّعتاه على المغامرة.
- تعال إذاً.. على أحدنا أن يدّق عنق الآخر.
قال ذلك، ووثب وثبة متردّدة، أمكن لجمها
من قبل الآخرين بسهولة. فانطلق لسانه يقذف
الشتائمْ اللاذعة والسّباب من فوق أكتاف
زملائه، ويتوعّد ويتهدّد الأخرق، الذي
كان قد وضع يديه في جيبي بنطاله، وخرج.
كان ثمّة شعور ممضّ بالخزي، يكوي الأخرق،
وهو يتذكر كيف يبتلع الإهانة هناك،

ليتقيأها هنا على وجه زميله.
وفكّر: سيغفر لي الصعلوك.. أعرف ذلك...
وابتسم، وهو يتصوّر وثبة الصعلوك
المتردّدة، التي كانت تهيب بالآخرين أن
يلجموها قبل أن تضطر للجم نفسها.
".. لا أحد يولد صعلوكاً أو أخرق." غمغم
بذلك، وراح يسترجع صورة الصعلوك، التي لم
تستطع أن تضيف لبراءة الطفولة المطموسة
سوى الخوف المتراكم، الخوف من كل شيء،
وبالتالي الإنقياد السهل لأيّ كان، ولو
ضدّ نفسه، كطريقة وحيدة للدفاع عن تخوم
غير معروفة لذات منتهكة باستمرار.
وتذكّر بمرارة كيف أنه هو نفسه على طريق
الصعلكة.
وفكّر بأسى: اليوم أخرق... وغداً الله وحده
يعلم ماذا يمكن أن يصبح.. قد تكون ثمة
خراقة، لا أردي كيف أصف هذه اللّعينة..
دائماً تنتظرني هناك... في المكتب الفخم..
في عينيّ المعلم الباردتين.. في وجهه
المترف السمين.. في كل ما يمت إليه بصلة...
مراراً فكّرت بالإبتعاد.. ولكن إلى أين؟
أمام عيني فاطمة أزهو كالطاووس.. أثور
لأتفه إهانة يمكن أن توجّه لي. "الكرامة
تعادل الوجود يا فاطمة." وتومئ عيناها بحب
أن: نعم.
"لكنه الخبز يا فاطمة"
- قهوة يا أخرق.
"الصوت اللعين يتسلّل من الغرفة الأفعى..
سأجهد لئلاّ أبدو أخرق... أيّ عمل تافه
هذا؟!
قالوا: أنت محظوظ، وصدّقتهم، بل إن أحدهم
قال موبّخاً إياي على تضجّري، ومشيراً إلى
خطورة شأن عملي: حاجب الأمير أمير" حاولت أن
أقتنع بذلك، متجاهلاً أن التعبير الصحيح
هو"كلب الأمير أمير." لأكتشف فيما بعد،
وبوضوح، أن كلب الأمير هو مجرد كلب لا
أكثر.
- القهوة يا حمار...
صوت المعلم جاء ثانية ليثقب رأسه. أحس
بطنين حادّ ينخر صدغيه، وبدأ وجهه يلتهب.
كانت القهوة قد بدأت تفور وتندلق، وكانت
يداه المرتجفتان تتحركان بخراقة.
أخيراً نجح فقط بإطفاء النار. ومضى
بأصابعه الملّوثة إلى مكتب السيد المعلم.
لم يكن يعرف على وجه التحديد ما الذي
يريده.
وعلى الأرجح كان ينوي طلب إعفائه من عمله
هذا بأيّ ثمن، ولو بشيء من الرجاء المكسور.
لكن دواراً عاصفاً أطلّ من فرجة الباب،
ومن وراء الطاولة، ومن عينيّ المعلم،
واختلطت الكلمات والصور. لا أحد يدري
بالضبط ما حدث، لكن الصراخ المسعور
للمعلم، وهرولة مساعديه، أوحيا بأن كل شيء
محتمل وسرت رعدة بين الجميع، واستنفرت كل
أعصاب الزملاء الذين احتشدوا من بعيد،
وراحوا يصيغون السمع، ويسترقون النظر،
ويهمهمون، في حين كان الصعلوك يفرك أصابعه
بعصبيّة واضحة، ويجرجر جسده المضطرب من
زاوية لأخرى ويدمدم: المعلم ليس صعلوكاً
عادّياً.. ليتني قلت ذلك للأخرق.
1988
الخيبة
- إمشِ على الرصيف ياحمار..
قالها الديّوث، وطار بسيارته.
آخ لو كان لي جناحان قويّان لأطير خلفه
كقذيفة، وأركله بكل قواي، وأرسله مع
سيارته إلى جهنم.
كنت أمشي على الرصيف، ولا أذكر كيف ومتى
جذبني زفت الشارع هذا، الحقّ على تلك
الكلبة. أخذت ما تبقى من عقلي واختفت. مع
الإعتراف بأن عادة الشرود هذه ليست جديدة
عليّ، مع ما تسببه لي من إرباكات وشتائم.
أذكر جيّداً كيف كان المعلم يشدّني من
أذني ويقول:
انتبه يا....
حتى أبي -رحمه الله- لم يتوان لحظة عن
تأنيبي كلما شردت، بدايةً كنت أستاء،
أحزن، ثم أَلِفت الأمر، بل بتّ أمدّ لساني
خلسة لأبي وللمعلم ولشتائمهما، لأعود
بعدها إلى شرودي، وإلى أحلامي التي سرعان
ما أجد من يتسلّط عليها ويفسدها، لتتحول
إلى ما يشبه الكوابيس... ويوقظني صوت أبي أو
المعلم أو السائق وهو يزعق في وجهي: انتبه
يا...
لست بصدد الشكوى، بل لست واثقاً من أن
أحداً سيسمعني حتى النهاية، إضافة لكون
ذلك غير مفيد البتّة، تجربتي علمتني...
- انتبه يا...
أعوذ بالله، دائماً تصفعني هذه الـ "انتبه
يا..."
اللعنة على تلك الكلبة التي لخبطت أمري،
واللعنة على هذه الشوارع التي لا نهاية
لها.
شارعان فقط كنت قد حافظت عليهما،
وحفظتهما غيباً، فمن المعمل إلى بيتي، ومن
بيتي إلى الفرن، كل الشوارع الأخرى شطبتها
من خارطة عمري.
في الشارعين المذكورين قدماي تجرّانني
بسهولة، سواء أحضر عقلي أم لم يحضر...
"... كيف اختفت تلك الكلبة؟!"

كنت أقف باطمئنان مع الكتلة اليومية
للواقفين أمام الفرن، يحشرونني، أحشرهم،
ونتقاسم ضجر الانتظار وقسوته، حيث لا أحد
يستطيع مقاطعة انتظار الخبز.
أَلفنا ذلك، بل وأَلِفنا أن يتبادل
البعض، ومن فوق رؤوسنا، الشتائم والكلمات
القذرة والإشارات الساقطة، وقد يتشاجرون،
فينفرط عقد نظامنا الهشّ، في محاولة
لتفادي الضربات الطائشة.
هناك تعرّفتُ عليها.
في الواقع لم أتعرّف عليها، لكنه
التكرار، المهمّة اليوميّة التي جعلتنا
نعرف بعضنا دون حاجة لمعرفة الأسماء أو
الألقاب...
طويلاً نقف، وطويلاً أشرد. "... أهدم حيّنا
القديم بأكمله، أبنيه من جديد، وكأجمل ما
يكون، أعيد صلاتي بالعالم، أستبدل نظام
بيع الخبز، أستبدل أنظمة كثيرة أخرى بأجمل
وأيسر..." إلى أن يدفشني هذا، أو ذاك فأنهدم،
وينهدم كل ما بنيت، لأبقى فقط مع هذه
الكتلة البشريّة الرخوة، ومع انتظاري،
إلى أن وقفت تلك المخلوقة أمامي.
إحساس ما راودني بأنها مارست خلسة هروباً
أنثويّاً ما. وشعرت بأنها تحتمي بي، تسلم
ظهرها لي، وتقف شبة متوجّسة، فهجست: أرجو
ألا تكون حمايتها مكلفة." مع تذكّر أنني من
زمان حجرت على نبلي وشجاعتي. حيث أنني
تورطت أكثر من مرّة، ودفعت أكثر من ثمن، ثم
تعوّدت أن أحجم، أن أهرب من المشاكل، ومن
إلحاح وجداني في عالم بلا وجدان.
أغمض عينيّ وأقول: ليتحمّل الله
مسؤولياته!
ثم استغفر الله، وأمضي مع شيء من الشعور
بالخيبة والإنكسار... المخلوقة استقرّت
أمامي باطمئنان، في حين انهمكت عيناي
بدراسة تفاصيل ظهرها..
".. شابّة بشعر كستنائيّ مرسل حتى الكتفين،
وروب بسيط نظيف وطويل، مقلّم بالأبيض على
أرضيّة سماويّة، و...."
حاولت أن ألجم المزيد من نظراتي التي بدأت
تتخابث، مذكّراً نفسي بأننّي تنطّحت
لحماية هذه الأنثى، مما يُلزمني بشيء من
الشهامة، وبكثير من العفّة.
ثم فكّرت بأن ذلك يمكن أن يكون مجردّ
ادّعاء فارغ لا أصل له، ومن ثم لا حاجة لأن
أجعل من نفسي حارساً دون كيشوتيّاً
بليداً.... أفكار وتصوّرات وتساؤلات
وأحاسيس عدّة، اصطرعت في دماغي، ثم سقطت
جميعها عندما احتكّ جسدانا.
اضطربت، وتسمّرت في وقفتي.
"مجرّد صدفة لا أكثر." حاولت تأكيد ذلك
لنفسي، لكنني، ودون أن أدري رحت أتصيّد
الصدف، أو على الأصح أصنعها.
تململتْ في البدء بما يشبه الإحتجاج، ثم
لفحتني عيناها بشيء من العتاب، فأفهمتها
عيناي بأنني مثلها ضحيّة ملابسات لا ذنب
لي فيها، وهدأت الأنثى.
لا أدري بالضبط كيف عبرنا جسر الصدفة، كيف
تركنا أحاسيسنا تحرق شيئاً فشيئاً كل
تحفّظاتنا، فاللّعبة راقت لنا أخيراً. بدت
أكثر من مسليّة وسط كل هذا الضجر.
إذ صار انتظارنا أقلّ وطأة.
قد تسبقني أو أسبقها بقليل إلى محطة
انتظارنا اليوميّة تلك، تشدّنا رائحة
الخبز والشهوة الحرام.
ودائماً تتلكأ، أتلكأ، نضبط خطواتنا إلى
أن تيسّر لنا أن تقفَ وأقفَ خلفها مباشرة،
أشمّ رائحة الشعر الكستنائي، وأتأمّل
الروب السماوي البسيط المقلّم بالأبيض،
وأختلس الإلتصاق بها، وأغمض عينيّ "... أطير
بها ومعها نحلّق كسنونوتّين في سماء
ربيعيّة صافية، ومن الأعالي ننزلق بأجنحة
رهيفة، إلى أكمة ما، إلى خضرة تعبق برائحة
المطر الثمل والأرض الشبعى، في عالم رحب
وجميل وشفّاف..." إلى أن تكسر الأرغفة
الساخنة ذاك العالم.
اليوم عطل فنّي طارئ أغلق الفرن ليوم
واحد.
أشرت لها أن تعالي نبحث عن آخر. ومشيت
شادّاً إياها بعيني المحرورتين.
تبعتني بخطى مرتبكة بادئ الأمر، ثم
بخطوات أكثر ثقة. لا نستطيع السير سويّة،
فهذه البلدة تستطيع تحمّل كل شيء، حتى أن
تصفعها على قفاها، لكنها لا تستطيع أبداً
أن تتحمّل رؤية رجل وامرأة يسيران سويّة
كعاشقين.
لا يهم.. فها نحن نسير، وها هي الطرقات
تتعرّج.
وهاهم الناس يطأطئون رؤوسهم ويسيرون بلا
عيون، والسيارات تشفط وتوزّع الشتائم.
ما لنا ولهذا؟ علينا فقط أن نجد عشّاً ما،
وليكن جداراً مهدّماً، مقبرة، مأوى ما،
بضعة أشبار من أرض الله الواسعة تكفينا.
... حتى الآن هذه الشوارع والأزقّة اللعينة
لم تفضِ إلاّ لشوارع وأزقّة أخرى.
".. إلى أين؟" قالت عيناي وأنا أتطلّع خلسة
إلى الخلف. وخزتني عيناها بذات السؤال
الملحف: إلى أين؟
فهربتُ بعينيّ إلى الأمام. إلى البعيد
المزروع بالبيوت المتراكبة والأزقّة

المليئة بحياة رتيبة وباردة. وخطر كلب
أمامي. كان وحيداً مطمئنّ الخطوات. رمقني
بعينين كسولتين، وتابع سيره.
رماديّ اللون ببقع بيضاء تميل للدكنة
المغبّشة بسبب اتّساخها الواضح، ربما كان
يتمرّغ منذ قليل مع كلبة ما فوق مزبلة ما،
من يدري؟
رمقني ثانية، فها أنذا أسير خلفه تماماً،
وخلفي تماماً تسير المرأة.
نبح الكلب بهدوء وراحة بال. وتابع طريقه.
تفقّدتُ المرأة ثانية وثالثة، وعيناي
تقولان لها: ".. طوّلي بالك.. سيفرجها الله."
كانت ثمّة علاقة ما تنسج خيوطها ما بيننا
مع كل خطوة، وكان التعب قد أخذ ينال منّا.
مع ذلك قررّتُ أن ألحق هذا الكلب إلى آخر
الدنيا.
كان الكلب يحرّك ذيله بلا مبالاة فجّة،
وما أن اقتربتُ منه أكثر حتى هرّ ورمقني
بنظرة شك.
أردت أن أطمئنه، أن أتودّد إليه. عجّلت
خطوي قليلاً، فنبح مغتاظاً ونفر. راح
يهرول بتثاقل، وعيناي تشدّانه دون جدوى
إلى أن توارى عن الأنظار، وتطلّعت إلى
الخلف. عيناها لم تعودا تفوران بالشهوة
أصبحتا كابيتين وضجرتين.
".. لا عليكِ... يلزمنا قليل من الصبر."
ومشيت على غير هدى.. في حين بدأ اليأس
البارد يتسلّل إلى عظامي، بل بدأ الشكّ
يتسّرب إلى دماغي فيما إذا كنّا آدم
وحوّاء فعلاً، أم مجرد حيوانين ضالّين لم
يتكيفّا بعد مع كونهما حيوانين، ومع
قدرهما بكل هذا الضياع.
وتحرّكت عيناي إلى الوراء باعتذار كسير.
فانطفأ وجهي، وتدلّى فكّي الأسفل دهشة.
"اختفت كلبتك أيها السيد"
وقفت هنيهة أتأمّل بحنق، الأشياء،
الأزقّة الضيّقة، الأطفال المتّسخين،
الشمس اللاهبة، الجدران الملطّخة،
الكتابات السريّة المكشوطة، والحفر
الصغيرة الشائهة في خاصرة الإسفلت، وهذا
الأفق الفارغ الفارغ.
ثم ابتلعت ريقي بصعوبة، ومضيت من جديد،
أبحث عن خبز اليوم، مع كتلة ما، في فرن ما.
نيسان/ 1990
من أمارات الظهور
لم يصدّق ما قيل له.
قال لمحدّثيه: لا يستطيع الإنسان أن يثق
بكل ما يسمع، بل ولا بكل ما يرى!
فابتسموا باستخفاف، هزّوا أكتافهم،
ومضوا.
".. إشاعة... مجرّد إشاعة.. كذبة كبيرة." ذلك
ما قرره ببساطة واثقة.
لكن الحكاية تعود، لتقرع رأسه ثانية
وثالثة و.. وتمضي، تفرّخ في الطرقات
والساحات العامّة.
كانت الإشاعة تكبر وتكبر متجاوزة كل
اعتراضاته، بل راحت تفرض نفسها على أحلامه
بالذات. فبالأمس استيقظ مندهشاً من وضوح
الحلم ودقّة تفصيلاته. حتى المكان يكاد
يتبينّه بوضوح تام مع كافة دقائقه، لدرجة
تغري بالتجربة إن لم يكن بالتصديق. ورغم كل
علمانيّته، قرر أن يذهب ويعاين الأمر
بنفسه. ومضى.
كانت الدروب الوعرة واضحة كما في الحلم
تماماً.
وكذلك التلال المتناثرة هنا وهناك،
والأعشاب البريّة المتوحّشة. كل شيء بدا
معروفاً ومألوفاً.
وهناك فوق الصخرة نفسها. رآها متكوّمة
وثابتة، لكأنها مزروعة هناك منذ الخلق
الأول!
عاين بنفسه الفجوتين الصغيرتين، ورأى
القطرات الراشحة المنسابة، خيطان من
القطرات، أحدهما صاف ونقيّ، وله طعم
الملح، والآخر له لون الدم وطعمه ولزوجته.
كانت أشبه بكتلة معدنيّة مضغوطة ومشوّهة،
والفجوتان إيّاهما تستقران في النصف
العلويّ، والأسنان المحطّمة ذاتها وهي
تقبع في تجويف الفم الفاغر، تماماً كما
سبق ورأى في الحلم!
استيقظ الرعب ثانية في أعماقه وهو يتلمّس
آثار السكيّن الواضحة في الصدغ الأيسر.
حاول أن يتذكّر كيف حدث ذلك في ليلة عرسه،
لم يستسلم آنذاك، قاوم طوال الوقت.
عندما دفنوه، كان لا يزال يسمع نشيج عروسه
وصراخها، إنه يتذكّر ذلك جيّداً، لكنه
لايتذكّر أنه دُفن دون جمجمة.
مدّ يديه المرتجفتين، أمسك بالجمجمة،
أغلق الفجوتين النازفتين بأصابع مرتعشة،
وركض بكل قواه، وهناك في المقبرة
البلديّة، وبليلة شديدة السواد أقسم
أحدهم أنه رأى بأمّ عينيه شبحاً أو
أشباحاً،
- لم يستطع التحديد بدّقة- نبشوا قبراً أو
قبوراً وانتشلوا جثة دون رأس، أضافوا لها
شيئاً لامعاً ونازفاً، ثم ابتلعتهم
جميعاً الأرض أو السماء.
- لم يستطع التمييز بسبب كثافة الظلام.
وبالفعل لاحظ من يهمهم الملاحظة، أن تراب
المقبرة ظهر وكأنه أكثر طراوة من قبل، كما

لاحظوا خيطاً باهتاً له رائحة الملح
والدم، مرتسماً على طريق المقبرة.
لم يعيروا الأمر كبير أهميّة في البدء،
خشية أن يكونوا واهمين، لكن شائعات جديدة
راحت تفرض نفسها وتفيد بأن أرض المقبرة
بدأت تتشقق، وثمة أعشاب بريّة متوحّشة
تنبت كالإبر وبروائح نافذة. كثيرون لم
يصدّقوا ما سمعوا ولا ما رأوا، والبعض راح
يسلّم بذلك كأمارة واضحة من أمارات
الظهور، بل أضاف البعض الآخر بأن السيّد
الذي ظهر بالفعل هو أعور.
لا أحد يستطيع الجزم، بل لا أحد يستطيع أن
ينفي أو يؤكّد شيئاً على الإطلاق.
والجميع بدأوا يتلمسون رؤوسهم في حين
كانت أشعّة الشمس تزداد نفاذاً وحدّة،
وكانت الثعابين لا تزال تنتصب كعيدان
يابسة بانتظار العصافير المتعبة.
1985
الذاكرة الخضراء
تحسّس عينيه المريضتين وغمغم: لن
أحتاجكما كثيراً، أعرف الدنيا شبراً
شبراً.
وخزته ضحكة خافتة لم تنجح بإخفاء لونها
الساخر، "الجرو.. لم أنتبه لوجوده.. ولدته
فقط ليشاكسني: حسن.. ليفعل ما يحلو له..."
- إلى أين؟
".. أبهذه اللهجة الجافّة والباردة
يخاطبني؟!
عموماً لا داعي للمناكدة... لأدعه يهرف..
سيندم.."
- إلى أين يا أبي؟
- ولم هذه النبرة؟! إنني خارج.. خارج إلى
العالم.. هل تريدني أن أبقى متمدّداً
كجيفة؟ أن أختنق بين هذه الجدران
اللعينة؟!
- عيناك لا تساعدانك... وكذلك الروماتيزم...
ثم إنك تعرّضت للضياع أكثر من مرة.
- لا عليك... لا عليك... المشي يريحني... ولن
أبتعد كثيراً ثم إنني حفظت العالم غيباً.
- عالمك لم يعد موجوداً يا أبي.. وذاكرتك لا
تفيدك بشيء... ألف مرة قلت لك ذلك.
"... هذا الغرّ... لأدعه يهذي.. لن يجرؤ على
توقيفي كشرطي."
ومدّ خطواته المتئّدة مغمغماً بحنق:
عالمي لم يعد موجوداً!
عالمي المجبول بالعرق والدم لم يعد
موجوداً!! يشطبه ويشطبني لكأننا زوائد!!
... عندما اقتلعوا شجرة الصنوبر ودالية
العنب، أحسّ بالقهر.. لم يستطع الدفاع
عنهما.
"- أين تريدنا أن نبني؟! أننام في العراء
تحت صنوبرتك وداليتك؟!"
"كل هذا العالم الواسع لا يتّسع للبناء...
فقط مكان الصنوبرة والدّالية!!"
تخطى عتبة المنزل، ورعشت عيناه، كانت
أشعة شمس نيسان الناعمة تداعب وجهه، ونفحة
ربيعيّة رطبة تهبّ بلطف باعثة في جسده
ارتعاشة لذيذة.
"... أيتها الجراء، يلزمكم الكثير لتتعلموا
تذوّق الحياة... حبّها.. احترامها.. نحن لم
نتعرف عليها ككلمات مكرورة باهتة
ومستهلكة، عشناها، عشناها لحظة بلحظة،
كبرنا فيها ومعها، والآن لا تنتظرون منا
إلا أن نموت بضربة شمس، أو تحت عجلة في
الشارع... أو.. أو ...
أولادنا يرثوننا قبل أن نموت.. آه، لماذا
باتت الحياة أكثر قسوة وأقل عدالة؟؟"
مسح جبينه المعروق بأصابع مرتجفة، وحاول
أن يتأمّل الأفق البعيد. ثمة غشاوة تلفّ
العالم، تخلط القريب بالبعيد.
فرك عينيه وهجس: لا تخذلاني كثيراً.
كانت الأشياء تهرب بألوانها، بأحجامها،
بتفاصيلها.
وفكّر: لن تستطيعوا الهرب بعيداً، أمسكت
بكم من زمان، صوركم محفورة في رأسي. كثيرة
هي الأشياء التي بت أنساها اليوم أما
أنتم... لايمكن.. فعند كل منكم ذكرى، حلم،
فرح مسروق، غصّة، هناك تحت شجرة الكينا
التي لم أعد أراها، هناك بالضبط على مبعدة
مئة متر إلى اليمين. جاءت إليّ... هكذا..
ارتمت عليّ وهمستْ بصوت متوترّ لزج: هسْ.
لم يكن ثمة فاصل بين حمّى الدهشة وحمّى
الحرمان.
وضجّت حمّى الحب، أزّت في جسدينا، برقت
للحظات، ثم همدت، ثم.... بعد أشهر قليلة
ماتت، واروها بحفرة جاهزة غير مناسبة.
مررت بها، بكيت وهمست لها: شممت بك ما يشبه
رائحة موت أخّاذ...
يا رب ما أنفذ رائحتك! أكنت تعرفين أنك
ستموتين؟!"
.. يارب، لكأننا جزء من تاريخ مشكوك فيه!
من سيسجّله بأمانة؟ من سيحترمه؟ وكيف
سيصبح معناه؟ مذاقه؟
أيام زمان، عندما كانت تضيق بي الدنيا،
كنت أتمدد قرب أشجار الزيزفون، أغمض
عينيّ، وأفتح رئتيّ وقلبي، وأستريح. الآن،
لازيزفون ولا سواه، اقتلعوهم، مع ذلك بقيت
روائحهم تنفذ حتى الأعماق.
مجانين... يقولون: أنت تشمّ رائحة ذاكرتك
فحسب!

.... وتسمّر في مكانه.
لفحه زعيق مفاجئ لسيارة مجنونة، مع شتائم
لا ذعة، وضحكات مختلطة وماجنة.
كادوا يهرسونه.
مسح يديه المعروقتين بجنبيه كمن يتحسّس
وجوده، وغمغم:
يا أبناء آوى!!
ولوى عنقه بانكسار، فلمحني.
عرفني على الفور..
حدّق بي منشباً نظراته المغبّشة، وغمغم
بصوت جارح:
لماذا تريد قتلي؟!
ألم تجد لي نهاية أفضل من هذه؟!
.. ارتبكتُ كمن ضُبط بفضيحة أخلاقيّة
قذرة، ورحتُ أتعثّر بمأمأة لا معنى لها.
حقيقة خطر لي ذلك، إذ ما الذي يمكن لأيّ
كاتب أن يفعله مع شخصيّة تتمرّد على قلمه
وتفلت من يده؟
لم أعد أعرف ما أفعل به، لم أقصد قتله
بمعنى القتل، بل أردت أن أجعل منه شهيداً
بمعنى ما.
حدّق بي بدهشة واستنكار، ووجهه المتغضّن
يذكّرني بعد فوات الأوان بأن دخيلتينا
عاريتان كلٌ قبالة الأخرى. فخجلت،
واستسلمت لحالة من العطّالة الجسدية
والذهنية، خشية ارتكاب خطأ آخر. فضيحة
أخرى... بينما كان أكبر من أن يحتمي
بالعطالة، فتركته يجرّ أحاسيسه المختلطة،
وجسده المنهك، ويمضي على غير هدى، حاملاً
عالمه الخاص على ظهره، في حين اكتفيت
بتلويحة حب معتذرة لم يرها، ومضيت تاركاً
إياه وشأنه، يفتّش كعادته عن دروب لم تعد
موجودة، وذاكرته الخضراء تنوس تحت ثقل
عقود عدة من السنين المليئة بكل ما يذكّر
بحياة آفلة.
1989
ماشي الحال
كلّهم يقولون: ماشي الحال. ويشتكون وأنا
بدوري أقول: ماشي الحال. وأحاول الشكوى
فيسبقونني.
لكأنه كُتب عليّ أن أستمع حتى الضّجر، مع
إيماءات رأس موافقة رتيبة، وابتسامات أو
تكشيرات بلهاء، أمس تلكّأ أحدهم فسبقته.
لم أنتبه للتعبير الغامض في عينيه
ورغم ضجره وتثاؤبه، قلت كل ما يخطر وما لا
يخطر على البال دفعة واحدة.
أزحتُ شيئاً من الثقل عن صدري.
لكنّه لم يشفِ غليلي، حيث انصرف دون أن
يقول شيئاً، أو يعقّب ولو بكلمة أو إشارة.
- ألم تلاحظ أنه غير طبيعي؟!
- أما زلت تحكي بالطبيعي يا محترم؟!
- أنا لا أمزح. أمس أخذوه إلى الطبيب
النفسي.
قال: غيِّروا ظروفه.
أهله لم يفهموا كيف سيغيّرون ظروفه،
ففلتوه، ليتغيّر هو وعلى هواه.
اليوم جاء كعادته، كان يتكلم مع نفسه بصوت
مسموع. ويداه تساعدانه في التعبير عن أشياء
وأشياء، وبحدّة متفاوتة. عادة، عندما نضبط
بعضنا في حالة مشابهة، نخجل، نسارع
لابتلاع بقية أقوالنا أو أفكارنا أو
هواجسنا المسموعة، ونختبئ خلف أصواتنا
المرتبكة وهي تردّد: يا أهلاً ومرحباً...
كيف الحال.؟
- ماشي الحال.
لكن صاحبي لم يعر أحداً اهتمامه، استمرّ
في فضح معاركه السريّة الخاصة، إلى أن
أوشك على الإصطدام بي، وعيناه الزائغتان
تفتّشان عن شيء ما.
رحّبتُ به، وسألته السؤال المكرور: كيف
الحال؟
لم يقل شيئاً، حتى ولا ماشي الحال.
جلس على ذات الكرسي التي تعوّد أن يجلس
عليها.
تناول علبة سجائري، أشعل واحدة، عبّ منها
بنهم ، ثم فتّش جيوبه بعصبيّة إلى أن عثر
على ورقة تالفة. خربش عليها خطوطاً مبهمة،
ورماها في وجهي.
- ماهذه؟ قلتها وأنا أتحفّز بحذر للدفاع
عن نفسي، أو للهرب إن لزم الأمر.
- هذه قسيمة اشتراك.
لم أجرؤ على التساؤل، ولا على الإعتراض.
فقط بقيت أتأمّله بهدوء واحتراس.
- قل لهم: هذه من "أبو" العز
- ماشي الحال.. سأقول يا صاحبي.
- لا سيدي.. مو ماشي الحال.. أنا أعرَفْ
وأفْهَم منك، وإذا احتجتني.. القسيمة معك...
ستلاقيني ولو في آخر الدنيا.
حزيران 1998
اللحظات الهاربة
ببساطة يقولون: آن لك أن تستريح يا رجل!
أستريح؟! أتقاعد وأركن في المنزل كجزء من
أثاث عتيق، بانتظار الموت؟!
حتى ابني لم يستوعب الأمر. قال لي ذات مرة:
حقّاً لا أجد مبررّاً لاستمرارك في
الوظيفة.
قلت له وبنبرة تشي بالغضب: عندما تصبح في
مثل عمري ستجد المبررّ.
فسكت وتركني وشأني.
وهكذا، لا أزال جزءاً مألوفاً من

المديريّة العامة للشؤون الإجتماعية
والعمل، ومنذ ثلاثة وثلاثين عاماً. بنيت
خلالها العديد العديد من العلاقات
الطيبّة مع الناس.
مرّة واحدة فكرت بالتقاعد فعلاً. كان ذلك
منذ سنتين.
يومئذ استدعاني المدير. والذي لا أعتقد
أنّه يكبر إبني أمجد. قال لي: أنت أكثر من
يعرف بالقانون.. مع ذلك أنت أكثر من يخالفه!
حاولت إفهامه أنّ الأمر لا يتعدّى الخروج
على الروتين. مع التقيّد بجوهر القانون،
تسهيلاً لأمور الناس لا أكثر. فقال،
وبخشونة واضحة: لست من يقررّ ذلك.
وانكبّ على أوراقه، متعمّداً إهمالي
وإهانتي!
آنذاك صعد الدم إلى وجهي، تقدّمت من
طاولته. تناولت دون إذنه ورقة بيضاء
وقلماً. وكتبت طلب إحالة على التقاعد.
ومضيت مخلّفاً كتابي بين يديّ المدير.
في اليوم الثاني استدعاني ثانية. ذهبت
وكليّ استعداد للشجار إن لزم الأمر. وليكن
ما يكون.
لكنني فوجئت به يبتسم، ويعتذر، ويمزّق
كتابي.
كنت على استعداد لقبول الإعتذار. ففي
البارحة فقط كبرتُ سنتين. اعتقدت أنني
سأنضمّ فوراً إلى طابور العجائز
المستقيلين من الحياة.
قلت للمدير ونحن نرتشف القهوة سويّة: يا
ابني- واسمح لي أن أخاطبك كذلك -القانون من
ورق.. ونحن ناس.. والناس أكبر من الورق.
منذئذ أصبحنا صديقين، وبقيتُ كما كنت
مرجعاً إداريّاً وصديقاً للجميع ضمن
الدائرة.
فكّرت أخيراً أن أفعل شيئاً ما، أن أكسر
حالة الركود والرتابة، لكننّي لم أوفّق
إلى أيّة بادرة معقولة وممكنة. فبقيت كما
كنت دائماً صديقاً لكل من يرفع يده
احتجاجاً، وأقرأ الجرائد وبعض الكتب،
وأعّلق على الأخبار، وألعب الشطرنج،
وأتأفّف من وضع العالم، إلى أن تخاصمت
ابنتي مع زوجها.
قالت: أكاد أجنّ... وظيفة وبيت وأطفال...
وفقر ونقار؟!
وقال زوجها: ماذا تريد أكثر من أن أشتغل
كالحمار، داخل الوظيفة وخارجها؟! لا تريد
أن تفهم أنّني لست المسؤول عن ضيق الحياة
ولعنة السوق.
قلت لهما: يكفيكما ولدنة.. الإنسان مسؤول
بحدود امكانياته فقط، ثم رحت أعبث بمسار
الحديث، وأضفي عليه شيئاً من الدّعابة،
مستنجداً بالأطفال الذين تكفّلوا،
وبعفويّة تامة، بكسر عالم الكآبة الذي
غرقنا به.
كنت أدرك أن الضائقة الماديّة هي وراء
المشكلة، وأن الحلول الفرديّة السحريّة
غير ممكنة.
مع ذلك كان الإحساس بالمسؤولية يثقلني،
فأنا أب قبل كل شيء.
فقررت بيع منزلي المهجور في القرية،
والذي ورثته عن أبي. وفي الطريق المألوف
للذاكرة، برزت من جديد الصورة ذاتها
لحبّات العرق المجبولة بالتراب، وهي
ترتسم على وجوه الفلاحين المتعبة، الطريق
لم تعد ترابيّة، لكن وسائل المواصلات بقيت
تترواح بين السيارة والحمار!
حتى القباب لا زال بعضها موجوداً كإشارات
باهتة لماضي يبتعد بسرعة، جنباً إلى جنب
مع البيوت الحديثة لأمثال /أبي ياسين/
الغنيّ بالوراثة، والذي يقال أن جدّه كان
رجل تركيا، وأباه رجل فرنسا، مثلما يقال
أنه هو رجل كل المراحل!
مضيت إلى منزلي القديم. يسبقني حنين من
نوع خاص. شعرت بوخزة حزن حادّة، وأنا أرى
التلف الكبير الذي أحدثه الزمن وعبث
الأولاد بكل أجزاء المنزل، كان واسعاً
وغاصّاً بالذكريات والخراب.
مضيت من ركن لآخر، أبحث عن رائحة طفولتي
البعيدة، وعن شبابي الذي لا أعرف كيف مضى.
لمحتني إحدى العجائز، فجاءت تدبّ على
عكّازها. عرفت فيها قريبتي أم ياسر. أصرّت
على تقبيلي، وأسعدتُ بلقائها.
قالت وهي تشير إلى منزلي: حرام عليكم...
أصلحوه وارجعوا إليه.
فرحت أغمغم وأداري شجوني.
كانت أم ياسر تقترب من السبعين، وكانت
مهدّمة إلى حدّ كبير.
وفكّرت بأسى: وماذا بعد يا أمّ ياسر؟!
قابلت الكثيرين. والجميع أشعرني بالحرج
إزاء قضية المنزل، لدرجة أنني لم أعد أجرؤ
على طرح بيعه بشكل علني، أبو ياسين كان
مختلفاً، قال لي: دارك مجرّد خربة.
وعرض عليّ مبلغاً هزيلاً...وقال وهو يضحك
ضحكة عريضة:
- ذكرياتك عن الدار غالية.. أما الدار فلا.
كانت أم ياسر بانتظاري لنشرب الشاي
ولنستعيد ما يطيب لنا استعادته من ذكريات
تبدو للوهلة الأولى تافهة، لكنها فيما بعد
تشدّنا بقوة، نبتسم لها بحنان، نتذاكر
دقائقها بحب.

ذكّرتني كيف هربتُ مرّة من أمي رحمها
الله، بل قل هربتُ من الحمّام. وأيّ حمّام
هذا؟! غرفة ترابيّة صغيرة أكلها الشحّار.
نجلس عراة فوق بلاطة حجريّة بركانيّة
المنشأ. ونقضي الوقت كاملاً بالبكاء، حيث
الدخان يحاصر عيوننا وأنوفنا، وحرارة
الماء التي تخطئ أيدي أمهاتنا الخشنة
تقديرَ درجتها فتكوينا: إضافة لأثر
الصابون المتسرّب للعيون.
يومئذ هربت من بين يديّ أمي، وركضت عارياً
تماماً، وأمّي تلهث خلفي، وتتوعّدني إن لم
أرجع. إلى أن برزت أم ياسر، بل قل سهام
الصبيّة الحلوة، التي ركضت خلفي لتمسك بي
ولتجرّني إلى أميّ.
ضحكت وأم ياسر حتى طفرت الدموع من أعيننا،
ثم عقّبتْ مازحة: أما زلت تهرب من الحمّام،
أم أن أمّ أمجد أكثر سطوة من أمك؟. ونعاود
الضحك من أعماق قلوبنا اليابسة.
فيما بعد فاجأني صوت مألوف جدّاً، نفض عنه
غبار عشرات السنين، ليعود كما كان دائماً،
هادئاً وطريّاً!
كانت مريم... مريم بلحمها ودمها!
"... لاتخشى شيئاً أيها العجوز.. مجرّد
ذكريات بعيدة."
ومع ذلك شعرت بالرهبة، وأنا أنزلق إلى
تخوم ماض قديم وحساب قديم، اعتقدتُ أن
الزمن تجاوزه.
قالت: هذا أنت.. لم تتغيّر كثيراً.
قلت ممازحاً: تقصدين أنني ولدتُ عجوزاً؟
وضحكنا.
وثرثرنا حول أمورنا العامة، وحدثتني كيف
أنها رفضت الرحيل مع أولادها إلى المدينة
إثر وفاة زوجها.
قالت: لا أحب الحياة إلا في بيتي.. كما أن
المدينة كما تعرف لا تعطي أمثالنا إلاّ
قبوراً ضيّقة، ومضت تعدّ القهوة. رأيتها
تتحرك بنشاط.. لكأنها تتحرك خارج إطار
الزمن.. تتحرك هناك على بيادر القرية، تحمل
كتابها وتمضي، وأمضي بإثرها. حركاتنا
المجانيّة كانت تفضحنا.
يوم رحلتُ لم أودّعها. هربتُ مجرجراً
عمراً لم تتحدّد أبعاده، إلى أن فكّرت ذات
يوم بالعودة إلى القرية، وإلى مريم. لكن
الوقت كان متأخراً والظروف مختلفة. رشفت
مريم قهوتها وهي تتأمّل عريشة العنب،
وسألت:
- ماذا تحب من الخضرة؟
- القمح. أفلتت الكلمة من لا وعيي، وبعفوية
حارقة. والتقت أعيننا. ضبطتني في لحظة
هاربة، وابتسمتْ... التجأنا إلى حقل القمح،
كان صباحاً نديّاً، وكانت الشمس في أول
إشراقتها، وقفز أرنب كبير، أخافنا، وراح
يعدو بسرعة كبيرة.
قلت وأنا أحاول استعادة هدوئي: كان مع
أرنبة ولا شك. وضحكنا، واختلطت رائحتنا
برائحة القمح.
كنت في الثالثة والعشرين، وكانت في
الثامنة عشرة.
"مريم... هل نستطيع التحدّث عن الماضي
وكأنه لا يخصّنا؟"
"- دعه لي.. فهو يخصنّي."
- مريم... أريد بيع منزلي.
- ما أجرأك على البيع! قالتها لكأنني عازم
على بيعها هي!
واستسلمنا كلينا لصمت مربك.
إلى أن شيّعنا اللحظة الأخيرة بهدوء
كثيف، وتحرّكنا بوداعة، كعقارب الساعة
المشدودة إلى الوراء!
لأمضِي جازماً بأنني عاجز عن بيع دار
الذكريات حتى ولو كان "مجرّد خربة.".
المحتــويــــات
من مال الله
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
أحلام للبيع :.مجموعة قصصية/ ظافر النجار -
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999- 113ص ؛ 24 سم .
1- 813.01 ن ج ا أ 2-العنوان
3 - النجار
ع -1365/8/1999 مكتبة الأسد
- 113 -

/ 23