ادباء مکرمون نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ادباء مکرمون - نسخه متنی

عبد الکریم ناصیف، جمانة طه، نزار بریک هنیدی، نزار بنی المرجه، حسین جمعه، حمدی موصللی، عبدالکریم الیافی، حسن حمید، خالد محیی الدین البرادعی، . نذیر العظمة، نزیه الشوفی، عبد الله أبو هیف، شاکر مطلق، عبد الإله نبهان، مجیب السوسی، مصطفی رمضانی، محمدعلاءالدین عبدالمولی، محمد عزام، حوریة حمو، رضوان القضمانی، فایز الدایة، مهدی بندق

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

أدباء مكرمون
[IMAGE: 0x08 graphic] 22
[IMAGE: 0x08 graphic] الشاعر الدكتور د.خالد محيي
الدين البرادعي
أدباء مكرمون
22
الشـــاعر الدكتور خالد محيي الدين
البرادعي شــهادات ودراســات
- مجموعة باحثين -
شاهد عصر... كتابُهُ القصيدة
حسبت أن كتاباً من هذا النحو لا يحتاج إلى
تقديم أو توطئة، ذلك لأن جميع ما حواه هو
تقديم، وشرح، وتأويل، وانتباه،
واعترافات، تدور حول الشاعر وما كتبه؛ حول
الشاعر وموهبته، ومصادره، ومرجعياته،
والأفكار التي دار بها، والأعلام الذين
مرَّ بهم، والدروب التي مشاها، والنوافذ
التي عبَّ منها، والتخوم التي وصل إليها،و
الثقافات التي روَّى فكره منها، والرؤى
التي واجهته، والأهداف التي ندهته،
والدنيا التي واجهها...
قلت ما حسبت أن كتاباً محتشد بالبوح بحاجة
إلى التقديم، لكن ما جاء في الكتاب من
كلمات، وآراء، ووقفات، من جهة، ومن كان
سبب الكتاب وجمعه، عنيتُ الشاعر الدكتور
خالد محيي الدين البرادعي، من جهة ثانية،
هما معاً من فرض هذه المقدمة فالشاعر
البرادعي علمٌ تجلوه الموهبة، وتنهض به
التجربة المتفردة، وتأخذه الروح
الإنسانية إلى رحاب لا يدركها إلا
الممسوسون بالنور الإلهي.. والكتاب هو
خلاصة الرضا الحميم عن الشاعر وشعره، وعن
الشاعر وثقافته، وعن الشاعر ومضايفاته
الولود.
ولأن الكتاب، في مجموع دراساته ومقالاته،
وشهاداته، وآرائه... معروف ومدرك، فإنني
سأقف مع السطور القابلة عند دلالات شخصية
الشاعر، وقيمة ما كتبه، حفراً في تجربة
إبداعية أثقلها الزمن بسنواته الطوال،
وأثقلتها جمالياتها بالمعاني الكبار.
فالشاعر البرادعي، نبتٌ بري، وصوت رعوي،
وابن طبيعة صعبة، هي أشبه بمقلع للحجارة،
وابن اجتماعية لا تعرف من نعيم الدنيا سوى
ضوء الشمس، في هاتين البيئتين: الطبيعية
والاجتماعية باكر البرادعي الدنيا فكان
بكراً مشتقاً من تعب وصبر ومساهرة وموهبة،
يغني فلا يعرف أنه يقول الشعر، ويرى فلا
يدرك أنه يفترع دروباً جديدة للرؤيا،
ويشرد فلا يعي أن شروده هو شرود المتأملين
العارفين.. لكأنه كان، ولوقت طويل، يعيد
جبلة كيمياء الجسد لتزهر،..
أربعون عاماً مرت عليه، وهو يخاف الحبر،
والورق، والمجاهرة، يغني بصمت، ويتأمل
بصبر، ويتوارى بمحبة إلى أن قيضت لـه
الظروف فجمع ذخيرته الروحية، وأعد قصائده
المتوارية.. ودفعها بحياء إلى إحدى دور
النشر اللبنانية (الطليعة) فجاءت ديواناً
مدوياً بما حمله من جمالية، وروح تتفلت
بالموهبة من ربقة ظلم الحياة وقسوتها،
ورؤى تجعل (الهزيمة -هزيمة 1967) قطبة مخفية
في ثوب هندسته أصابع نورانية؛ ديوان شعر
قال عنه الفيلسوف زكي نجيب محمود:إنه كتاب
يجيب عن أسئلة فلسفية تحير العرب، وتنقذهم
من ضلالـه الراهن. وكرت الموهبة على الشعر،
والإبداع، واشتد عود الشاعر، وراحت
إبداعاته تترسخ نقوشاً في مدونة الشعر،
فواكبته الثقافة العربية لتؤرخ لحياة
شاعر ميزته الأولى موهبته النادرة. موهبة
لا تصنعها المدارس، أو الأحزاب، أو
المذهبيات، أو الفرق.. وإنما تصنعها يد
الله. فالبرادعي يعرف الشعر كما عرفه
الخليل، وابن قتيبة، وعازرا باوند،
وت.س.إليوت، ويعرف الإبداع كما يعرف
الصاغة الذهب، إنه الآن نبت بري، مغن
رعوي، بيته الوطن، وظله القصيدة، له ذات
موجعة بـ(فلسطين) حتى الإدماء، وروح رائية
إلى ما بعد الخراب. إنه شاعر شاهد على
عصره، ساهر الشعر كي يطلع النهار، وآخى
القهر لتبدو، بكامل ألقها وقيافتها،
بساتين هشام. ويطوي قامته الفارعة حياء
أمام قصائد لها تفتح بوابات المدن،
ومدونات البيان.
وبعد،
فالبرادعي شاعر سليل البراري، سليل
الضوء.. لهذا ما حجبته أكف الآخرين
العاتمة، ولا صحفهم الجاهلة، ولا
تظاهراتهم الكاذبة... إنه مـرآة فخـر.. فـي
التجـربة، والعـزم، والقصـيد.
*
القسم الأول: كلمات أمسية التكريم
كلمة اتحاد الكتاب العرب للأستاذ عبد
الكريم ناصيف عضو المكتب التنفيذي
سيداتي.. سادتي..
أسعدتم مساءً
أطيب التحيات أقدمها لكم باسمي واسم
المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب
معرباً عن سعادتي في أن أشارك في تكريم
شاعرنا الذي طالما لما أحببت دخول عالمه
الشعري الجميل...
عَجِّلي ..بارتداءِ السُّكونْ

و أَقيمي الصلاةْ
هكذا قالتِ العارِفهْ
و ادخلي في مَجالِ الكُمونْ
بذرَةً للحَياةْ
رَيْثَمَا تَهدأُ العاصِفَهْ
هكذا يدخل الشاعر إلى عالم عبد الله في
ديوانه "عبد الله والعالم" حاملاً إيانا
على أجنحة شفيفة وأكف رهيفة فلا نشعر إلا
ونحن نحلق مع شاعر نذر نفسه للإبداع فتىً
وكهلاً ليقضي في محراب الإبداع آناء الليل
وأطراف النهار رافعاً لربة الشعر،
مستلهماً آلهة الإبداع وكأنه لا هم لـه
سوى الإبداع، لا شاغل يشغله سوى الشعر
والعطاء حتى يخيل لمن يتابع رحلة خالد
البرادعي الإبداعية وعطاءاته الكثيرة أنه
كما قال شاعرنا العبّاسي أبو العتاهية: "لو
شئت أن يكون كل ما أنطق به شعراً لفعلت" لم
لا وهو الموهوب بالفطرة، الشاعر سليقة، هو
الذي اختارته ربة الشعر فارسها المجلي
يخوض كل ساح فيكون فارس الساح، يطرق كل باب
فيفتح على مصراعيه الباب.. عشرات الدواوين
.. عشرات المسرحيات الشعرية.. المسرحيات
النثرية.. الدراسات.. الأبحاث.. في إبداع
يفوق كيفه الكم؟ وأي نبع للعطاء جم؟
إنه الشاعر المشغول بهم الذات انشغاله
بهم الأرض، بهم الوطن بهم الإنسان حيثما
كان الإنسان.. هو الذي يرى وطنه مزقاً
وأمته مزقاً فكيف لا ينطوي على جراحه
النازفة يلعق دماءه الحارة ويبكي دموعه
السخان.. إنه الذي يخاف، الذي يهرب والذي
يضيع والذي يفقد ذاكرته تماماً كما هو عبد
الله، وجهه الآخر، بل وجه كل عربي في عصر
تكالب عليه الأعداء من داخل ومن خارج،
تتناهشه من كل حدب وصوب فيتساءل محزوناً:
فأَنا مَنْ؟ .
أذكرُ أني مجروحٌ جُرحينْ
جُرحاً يُدعَى القُدْسَ
وجُرْحاً تَخْجَـلُ منهُ العينْ
وأمامي سيفٌ
وورائي سيفٌ
وبخاصرتي نزفٌ
وأنا أركضُ بينَ البَيْنْ
لقد تماهى الشاعر مع أمته حتى صارا كلاً
واحداً يحاصره الأعداء من أمام ومن وراء
ولا يبقون في جسده موضعاً لسيف أو رمح إلا
ويضربونه.. حتى إذا صحا كما يقول عبد الله:
رأيتُني … تَجرُّني سلاسِلُ
الأَعْوامْ
و مرفأي … يسبحُ في الظَّلامْ
و زَوْرَقي المخلوعُ مِن شِراعِهِ أَغفْى
بلا كَلامْ
إنه شاعر الرؤيا ينطلق من الماضي ليرى
الحاضر ويستشف المستقبل، ويصدمه ما صار
إليه هذا الكون البغيض وقد صار فيه الأسود
أبيض والأبيض أسود، الخير شراً والشر
خيراً وانقلبت القيم كلها ليحل محل الحق
والخير والجمال قيم الشر والشيطان فيقول
الشاعر:
سادتي : اللص أمسى حكما
والقراصين قضاة
وبراهين الشكاوي ورما
وذوو الحق جناة
وعلى هامش هذا المنبر المهزوز ...
أمسينا بقايا بملفات القضيهْ
قيل إن الكلمة البيضاء في الصدر أمانه
فلمن أسأل عن مأساة شعبي
ولمن أروي سجلات الإدانه ؟
وأساطين القضاء
خلعوا النازي واحتلوا مكانه ؟
إنه الشاعر أبداً بمأساة أمته، صافي
الهوى، صادق الانتماء.. يرى في عروبته
الجذر الذي يستمد منه نسغ الحياة والنبع
الذي يشرب منه الماء والفضاء الذي يستمد
منه الهواء:
وصحراء تطوقها البحورُ
فلو لم أعشق العرباء داراً
وأضلاعي بموقدهِ بخورُ
وتاريخاً لـه دمعي مداد
ولي في صبح موسمها حضورُ
وجنات تطرزها القوافي
ودرت مع الفناء كما يدورُ
لكنت قتلت نفسي من قنوط
مع ذلك يرى ما يحدث في وطنه فيتمزق.. يرى
إلى فلسطين.. إلى محمد الدرة.. إلى جنين فلا
يملك إلا أن يصرخ:
من وحوش تضيق عنها الشعابُ
وجنين رغم العذاب تراهم
وقريب من اليهود العصابُ
لقنتهم من العصاب دروساً
فيه بدء التاريخ والانتسابُ
غسلت عصرها بنهر دماء
إنه موقن كل اليقين أن الحرية تؤخذ ولا
تعطى وأن باب الحرية لا تدقه إلا الأيدي
المضرجة بالدماء، لذلك يؤكد على القتال
وخوض المعارك هو يخاطب بغداد:
من ضواحيك أتاه الأنبياءُ
كبري بغداد في الكون الذي
ولك الشام على الدهر وقاءُ
وادفني العدوان في تاريخه
إن صمت القوم والموت سواءُ

واهجري من صمتوا في غيهم
كبر القوم وخان الأدنياءُ
أنتما وجهان للمجد إذا
أو حين يخاطب يوسف العظمة في ملحمته
الرائعة "ميسلون":
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ قاوِمْ
فَتواريخُ الْبُطولاتِ
وأَوْراقُ الْمَلاحِمْ
هَيَّأَتْ صَفْحاتِها اْلأولى
لِتَلْقاكَ، وَتَبْقى
بَهْجَةَ اْلآتي وإخْضابَ الْمَواسِمْ
والشاعر أبداً عدو للظلم مقاتل دائماً
للبغي والعدوان يرى العالم ملك الطغاة
فيرفض أن يمت لهذا العالم، ويرفض كل ما فيه
من نفاق ورياء، ودجل وخنوع... لنسمع ما
يقوله في مسرحيته الشعرية "مكاشفات عائشة
بنت طلحة"، وهي تخاطب العسكري الذي أرسله
الطاغية الباغية الحجاج في طلبها وأبت
الذهاب:
عائشة : لا تنطق حرفاً إن عدت إليه
بل أبصق في عينيه
العسكري : أبصق في وجه أمير المصرين
والمنتصر الظافر في كل حروب الشرقين
عائشة : ووجوه بطانته
الخائن والزاني والسارق
والشاعر والكاذب والمارق
وإمام الجامع والقاضي
والحامل في كل مناسبة وجهين....
وشاعرنا قلق أبداً... إنه قلق الإبداع الذي
لا يدعك تهدأ.. ولأنه كذلك فهو كثير
الترحال.. لا يحل إلا لكي يرحل.. إنه اليوم
في سورية وغداً في مصر .. شهراً في الحجاز
وآخر في المغرب.. أليس وطنه هو الوطن
العربي الكبير؟ أليس همه هم ذلك الوطن
الكير؟ إذن لماذا لا يرحل باحثاً عن
الأمل، ساعياً نحو الأفضل:
ذِراعايَ.. غُصْنا حَياةٍ وقلبيَ معبَدْ
وفي الْجَناحينِ لَحْنُ صَلاةٍ يَحِنُّ
لِيَصْعَدْ
لقد كتب ديواناً شعرياً كاملاً عنوانه
"الرحيل نحو المستقبل"، مجسداً بذلك توقه
الدائم للسفر والترحال حتى احتجت قرينته
ذات مرة:
إلى الرحيل وحاوي العمر قال: كفى
أراك تهتز للإشراق مندفعاً
للمفرحات وفصل الأمنيات غفا
هل ظل في عمرك المقهور متسع
غير الأماني ونبع المشتهى نشفا
رحلاتك الألف عبر الأرض ما حملت
فإن في الصبر للمقهور منعطفا
فامكث هنا في رحاب الصبر محتسبا
وعلى الرغم من أنه يوافقها تماماً على ما
تقوله مؤكداً:
وسؤالي الملحاح عن مثلي
سئم الهوى حلي ومرتحلي
غير النزوح لغربة المللِ
ما خلف الترحال يسألني
إلا أنه يظل شوقاً متجدداً للترحال
وكأنما ذلك هو قدره الذي لا مفر منه:
طَوَّفْتُ العالَمَ..
جُبْتُ الكَوْنَ..
سَلَكْتُ شِعاباً مَنْسِيَّهْ
وَجَناحِي مَرْبُوطٌ بِحِبالِ الرِّيحِ
إلى الآفاقِ العُلْوِيَّهْ
***
سَنَةً .. مائةً لا أَدْري
وَأَنَا أَسْرِي
خَلْفَ شُيوخِ قَبائِلِ هذا الوَطَنِ
المحزونِ
أُجَرْجِرُ آلامي.. وَمَخاضَ لَيالِيَّ
السَّوْداءْ
***
لكن مكرمنا ليس شاعراً ولا مسرحياً وحسب،
بل هو أيضاً ناقد لـه في النقد الأدبي باع
طويل... فقد كتب "دراسات في الشعر العربي
المعاصر" و"تعددية النمط في القصيدة
الجاهلية" وغيرها... وغيرها.. كما كتب
المسرحية النثرية ولـه في هذا الميدان
أعمال وأعمال: أبو حيان التوحيدي... الوحش..
الطريق إلى العصر الحجري... إلى آخره..
ومكرمنا دارس وباحث بامتياز، فقد كتب
"مقالات في الوعي والانتماء" "الإبداع من
الرؤية القومية إلى المنظور الإنساني"،
"الغناء الإنساني".. الخ.. كما كتب منظِّراً
في المسرح، يشهد لـه في هذا المجال كتابه
"خصوصية المسرح العربي.. وسواه من الدراسات
المسرحية التي كرسها لحبيبه الغالي:
المسرح.
ولأن مكرمنا شاعر غزير الإنتاج كثير
العطاء، كثير الترحل، عرفه المتلقي في
وطننا العربي كله، أعجب به وتتبعه، درس
شعره ومسرحياته وكافأه على عطائه بالكثير
من الجوائز الأدبية حتى دعاه أحدهم بحاصود
الجوائز:
جائزة البابطين للإبداع الشعري
جائزة يماني الثقافية
جائزة الإثنينية في جدة
جائزة اليونيسيف
جائزة الإمام الخميني
ولا عجب.. فشاعر مبدع كخالد وكاتب متعدد

المواهب، غزير العطاء مثله يستحق كل جائزة
كما يستحق كل تكريم... لقد عمل بدأب ما بعده
دأب.. واظب وثابر، هو الرجل العصامي الذي
صنع نفسه بنفسه، شق طريقه رغم الصخر
والحجارة والأشواك، ليتحفنا كل حين
بعطاء، ويصير فينا هو نفسه بحر العطاء،
مثبتاً أن الموهبة الفذة لا بد من أن تفرض
ذاتها وأن العبقرية كالشمس لا بد من أن
تزيح عن وجهها الغمام:
والخلد ملك العبقرية وحدها
لا ملك جبار ولا سفاح
لقد قرأت لهذا الشاعر الثائر دواوينه...
فكانت حصيلتي دائماً بعد قراءة شعره جذوة
اشتد وهجها، وأملاً في المستقبل لـه بريق
وماذا نرجو من شاعر يحقق رسالته أكثر من أن
يثير ثم يهدي.. هذا ما كتبه عن شاعرنا
الدكتور زكي نجيب محمود سنة ألف وتسعمائة
وسبعين فماذا نقول عن شاعرنا اليوم.. هو
الذي أثار وحرض، هدى وأرشد محققاً في
عطاءاته ما نفخر به خالداً مخلداً مدى
الزمان...
لمكرمنا كل تحية وإكبار... وله أيضاً طول
العمر عله يظل يتحفنا بالمزيد والمزيد من
العطاء...
شكراً لكم والسلام عليكم
خالد محيي الدين البرادعي إبداع: لحمته
روح، وسداه عشق
جمانة طه^*
سلام الله عليكم ورحمته، أيها الكرام
الأعزاء
لن أدعي أن معرفتي الإنسانية والأدبية
بالشاعر خالد محيي الدين البرادعي تمتد
إلى صداقة وثيقة ولا إلى قراءة معمقة،
ولكني أزعم أن بيننا صلة طيبة مبنية على
المودة والاحترام، تكفي لأن يهدي إليَّ
كنزه الثمين _(خالد محيي الدين البرادعي
والجامعات). بمجلداته الثلاثة
وبعد أن اطلعت على بعض ما جاء في هذه
المجلدات الغنية بدراساتها وبأسماء
كتابها، راودتني شهوة الكتابة عن إبداع
خالد البرادعي المتنوع بتنوع شخصيته
وتنوع البيئة التي نشأ فيها. ببرود
الاغتراب والوطن، المغاور والسهول،
الرهافة والصلابة، الحر والقر، الورد
وأشواك الروح. وخالد الثائر الهادئ،
الغامض الواضح، الأليف الجافي، الدمث
الخشن، المتفائل المتشائم. لكنه في هذا
كله هو خالد الإنسان، المتفرد عصامية
ونقاء وإبداعاً.
ماذا تراني أكتب، وإلى أي جنس أدبي أشير؟
هل أشير إلى قصائده في النضال والحب،
وأغانيه بين السفن التائهة، ورحيله نحو
المستقبل؟ أم أذهب إلى بلاط سيف الدولة
وأسمع كيف يتداعى المتنبي بين يديه؟ أو
أغافله وأقرأ رسائله إلى امرأة غريبة؟ أو
أحمل حكاياته إلى امرأة من يبرود، وأغني
معه لتنام سفانة؟ أم أتفيأ في ظل أسفار سيف
بن ذي يزن، وأتمتع بمكاشفات عائشة بنت
طلحة، ثم أحمل الزهرة في يد والسيف في اليد
الأخرى، لعل الذين يستهدفون أمتنا وتراثها
يعرفون أننا سلام على الأصدقاء، ونار على
الأعداء؟.
أم أتسلق الشجرة التي أورقت سيوفاً،
وأقطف عدداً منها أرد بها عن وطني كيد
المعتدين؟
أم ألُّم حبات اللؤلؤ عن شجرة أخرى وأزين
بها جيد جميلة من بلدي؟
أم أتلمس رؤيته الإنسانية والقومية عن
هذيل القبيلة في شعرها، والشعر العربي
المعاصر، وتعددية النمط في القصيدة
الجاهلية، والمهاجَرة والمهاجرين شعراً
وإبداعاً؟.
أو أصعد إلى عرش فاطمة، ليوصلني إلى
مسرحيات مميزة مضموناً وأسلوباً وصياغة؟
مسرحيات نثرية وشعرية أبدعتها ثقافة
اغتنت بتراث العرب والإسلام، وبآداب
الشرق والغرب. لقد كان فيلسوف الفكر
المعاصر الدكتور زكي نجيب محمود على صواب
يوم لفت نظر البرادعي إلى حضور المشهدية
المسرحية في قصائده، وأفهمه أن قصائده
الطويلة تشكل وقفات متقدمة على طريق
المسرح؟
فبذلك استنهض موهبة البرادعي في كتابة
نصوص مسرحية شعرية ونثرية، أثرت المكتبة
العربية. فجاءت المسرحية الشعرية (دمر
عاشقاً) بداية الغيث، وتبعها عدد من
المسرحيات المهمة مُثِّل معظمها على أكثر
من مسرح عربي. كما درست في الجامعات بعشرات
الأطروحات والرسائل.
إذا تلمسنا بذور الإبداع عند البرادعي،
نجد أنها بدأت مع تعمقه في قراءة القرآن
الكريم، وفي حفظه أشعار الشاعر المتصوف
عمر بن الفارض. فقد قرأ سور القرآن وآياته
بعين المبدع وقلب المؤمن، ونهل من لغته
ومعانيه واستلهم من بلاغته وأسلوبه. وغاص
في شعر ابن الفارض الذي فتح لـه الباب
للدخول إلى محراب الشعر العربي والتعرف
على الشعراء في مختلف العصور.
لكنه الشاب الطموح لم يكتف بذلك بل دلف
أيضاً إلى محراب النثر العربي، فقرأ

أمَّات الكتب في التراث والتاريخ
والدراسات النفسية والفلسفية، كما قرأ
الروايات العربية والمترجمة، وما كتبه
الرواة الأجانب والعرب عن ثورات التحرر
التي قامت في العالم وفي العالم العربي.
وهذا يدل على أن إبداعات خالد البرادعي
المتنوعة لم تأت من فراغ، وإنما كان
وراءها جهد كبير وثقافة موسوعية. لذا فلا
عجب أن يحضر التراث والتاريخ في جميع
كتاباته المسرحية، وفي معظم أشعاره وحتى
في كتاباته النقدية.
ففي مسرحية (أبو حيان التوحيدي)^(^^) يجسد
البرادعي علاقة المثقف بالسلطة من خلال
مسرحية حياة التوحيدي واستعراض المكابدات
التي عاشها بدءاً من البحث عن الرزق وليس
انتهاء بتنكر الأصحاب وجحودهم. للوصول إلى
معاناته الشخصية من مواقف سلبية حاولت
النيل من فكره وموقفه.
1 ـ أبو حيان التوحيدي: مسرحية نثرية،
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1983م.
وفي ملحمته الشعرية (ميسلون)^(^^) يستعيد
فترة الانتداب الفرنسي على سورية، ويشير
إلى أمجاد ميسلون وبطولة يوسف العظمة
ورفاقه، علها توقظ النائمين وتستنهض
الهمم:
أفيقوا
فَجَرَادُ الغَربِ قد يأتي صَليبيّاً
مع الصُبحِ إلى الشام
وقد يَقرضُ تاريخَ الفتوحات
وأوراقَ البيانْ.
ثم يجتاحُ حَرَامَ الحُرُماتْ
إنَّ أرجالَ جرادِ النَّجَسِ الغربيّ
لا تَعْرفُ في الزحف حلالاً أو حراما.
ويتكئ في الأحداث التي تتضمنها مسرحية
(الوحش)^(^^)، على التراث الإنساني، ليشير
إلى مشاكل الوطن العربي وينبه إلى الأخطار
التي تحيط به. وما اختياره لاسم الوحش إلا
كناية عن المستعمر الذي ينشب مخالبه في
جسد الوطن الكبير، ويمزقه قطعاً وأشلاء.
وفي حوار أجراه معه روجيه خوري، يوضح
البرادعي سبب اتجاهه إلى كتابة المسرحية
الشعرية، فيقول: ((لأن التعبير عن طريق
الشعر أكثر إيصالاً إلى الذات العربية،
وأقرب أنواع الوضوح والغموض في الشعر.
وأيضاً بسبب حالة التسيب والفوضى
والنمطية التي وصلت إليها القصيدة
الحديثة))^(^^).
عندما سئل عن سبب عودته إلى التراث في
مسرحه، قال: ((إنها مسألة شائكة ومعقدة.
فاللجوء إلى الماضي واستلهام التراث، لا
يعني الانخلاع من مواجع الحاضر أو الهرب
من ثقل الحاضر والاختفاء في دهاليز
الماضي، لكن لجوئي إليه كان إيهاماً فنياً
لإقناع المتلقي بمشروعية الشعرية))^(^^).
وفي ديوان (الرحيل نحو المستقبل)^(^^)
يستحضر البرادعي في قصيدة (نبوءات عن ظهور
الخضر)، قصة موسى مع (الخضر) الذي آتاه الله
رحمة من عنده وعلمه من لدنه علماً. إنه
((يلجأ إلى أسلوب السرد الحكائي ويستدعي
راوية يحدث الآخرين عن الخضر الذي سوف
يجيء ليلم أشتات الأمة المبعثرة، وينشر
الرخاء والعدل، ويستبدل الضوء بالظلمة
والنصر بالهزيمة، ويحمل الحَب والحُب
والأمن والسلام، ويمحو الحدود بين
الأقاليم))^(^^) في هذه القصيدة يمنح الشاعر،
الخضر صفات مميزة مستمدة من القدرات
الخارقة التي خصه الله بها، ويقدم قصته في
صور غير مسبوقة أبدعتها مخيلته ويراعه.
فهو يصور الخضر وكأنه عبير في جدائل
النسيم، يجلب معه زاداً من النخل والأعناب
والورود، ويحمل عصاً من شجرة الخلود
وإبريقاً من الفضة مملوءاً من بحيرة
السماء.
ثم يسرد بكلمات رشيقة رائقة، ما مر مع
الخضر من مواقف وأحداث أدهشت موسى ودفعته
إلى فضول التساؤل. منها إقامة الجدار
ليحفظ للغلامين اليتيمين الكنز الراقد
تحته: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في
المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما
صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما
ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن
أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا/
سورة الكهف، 82
وقال عبد الله:
ـ جدارها يريد أن ينقض قبل مطلع النهارْ
فاعطني مؤونة الإعمار كلي أُقيمه
ويغضب الرفيقْ
ـ منْ غير أجرٍ تحرس الكنوز عبد الله
ـ أُطهِّرُ البخيل يا صديقْ
أذوب فوق ذاته كشمعة بظلمة الطريقْ
وتركا مدينة الأحجار والنخيلْ
وأهلها نيامْ
وغاب عبد الله
وشقَّتِ السماءُ عينَ الأفقِ الشرقي
وانفغرتِ الأفواهْ.
***
هجس البرادعي بأقانيم ثلاثة، شغلته وملأت
عليه عالمه الكتابي والوجداني والإنساني،
وهي:
ـ البحث عن وحدة الأمة العربية في ليل

الشتات والتشرذم والتمزق الإقليمي الذي
تعيشه فصائل شعبنا بين المحيط والخليج.
ـ مواجهة الاحتلال الصهيوني في فلسطين،
ومحاربته.
ـ التعبير عن مواجع الأمة وعن مواجعه،
شعراً ونثراً.
يملك البرادعي حساً قومياً عالياً يجعله
يتمسك بحلم تحقيق وحدة الأمة العربية،
ويشجب في شعره وفي مسرحه كل ما يفرق الأمة
ويمزق شملها. وما استخدامه المتكرر لمصطلح
ملوك الطوائف إلا تعبير عن رفضه لما هو
قائم في البلاد العربية. كما أن إنتاجه
الأدبي بتنوعه لم يخل من تمثل الوجع
الفلسطيني وتصوير جرائم الصهاينة وعنفهم.
فقد كتب للقدس وللشهيد ولانتفاضة الحجر.
فمن قصيدة (الأحجار السبعة) وهي كناية عن
مرور سبع سنوات على ثورة الحجارة، نقرأ:
أَلَسْتَ الَّذي عاصَرَ الغَزْوَ مُنْذُ
أَقـامَ؟
وَكُنْتَ رَفيـقَ المُهانـينَ
بَيْنَ السُّجونُ وَبَيْنَ الخِيـامْ؟
فَإِنْ نَحَتـوا صَنَمـاً لِلْسَّـلامْ
وَإِنْ أَسْمَعوكَ هَديـلَ الحَمـامْ
وَإِنْ لايَنـوكَ بِحُلْـوِ الكَـلامْ
فَـلا تَسْـتَجـبْ
وَقُلْ :كَذِبٌ في كَذِبْ
فَمَنْ كَسَّـرَ الغَزْوُ أَضْـلاعَهُ
وَمَنْ بادَلوهُ عَزيفَ الرَّصاصِ
بِأَحْلامِهِ
وَمَنْ طارَحـوهُ
غَرامَ القَنابِلِ في بَيْتَ لَحْـمَ
وَمَنْ طارَدَتْهُ الشَّهـادَةُ حتّى
طُفولَتِهِ
وَالَّذي نـامَ بَيْنَ الحُـدودِ
وَبَيْنَ الحُـدودْ
يُغَطِّي عَذابـاتِـهِ بِالهـُدُبْ
أُولئِكَ خَلْفَكَ حُـرّاسُ عَصْـرِكَ
أَجْمَعُهُـمْ كُتْلَـةٌ مِنْ غَضَبْ
فَمَنْ وادَعـوكْ
فَقَدْ خادَعـوكْ
وَتَخْسَرُ مَنْ بايَعـوكْ
فَلا تَسْتَجِـبْ
وَلا تَنْسَحِـبْ^ (^^).
***
ماذا يمكن أن أضيف، وأنا لم أتمكن، كما
أود، من التجوال في بستان البرادعي الموشى
بريشة متمردة، وبلغة أنيقة ولفظة شفيفة
وفكرة موحية دالة ورؤية صوفية وتراث
أصيل؟.
مبارك لك هذا التكريم الذي تستحقه أيها
المبدع خالد البرادعي، وشكراً لفرع ريف
دمشق لاتحاد الكتاب العرب على هذه
المبادرة الطيبة، وتحية للدكتور نزار بني
المرجة على جهوده المبذولة في هذا المجال.
وأنتم أيها الأعزاء الحضور أحييكم
بالسلام، وأنقل إليكم من ديوان (الحب لغتي)
بعض ما همس به البرادعي في محراب حواء:
سأطرقُ بابكِ سرّا وأجثو لديكِ
وأكتبُ أحلى الحكايا على راحتيكِ
سأخلعُ عني رداءَ الرحيلْ
وأغفو قليلاً على ساعدْيكِ
وملءُ يديَّ قصائدُ خضرٌ
سأنثرها كالزهورِ على قدميكِ
سفينةُ عمري
بكُلِّ المرافئِ مَرَتْ لترسو أخيراً على
مُقْلَتيكِ
سأُبحرُ كالسِّندِبادِ بكلِّ اتجاهٍ
وأرجعُ عندَ حلولِ المساءِ إليكِ
كلمة فرع ريف دمشق لاتحاد الكتاب العرب
الهاجس القومي في أدب البرادعي
د.نزار بني المرجة^*
(.. قالت العرّافة الواسعة العينين:
يأتيكم
صديقاً بدوياً
حاملاً مِنْ خضرة الآتي فصولاً
إن هذي الحِلكة الصمّاء
جرحٌ عارضٌ
وانتظرناك طويلاً
ومشت قافلة الإصباح،
في البحر وفي الصحراء عجلى
وطوت أوجاعنا.. جيلاً... فجيلا
ثم لم تأتِ.. وظل الحلم في الصحراء
مخضراً... وعصفوراً جميلاً..)^(^^)
لعل هذا المقطع للشاعر العربي الكبير
خالد البرادعي، يعبر بصدق عن مكنوناته
وفلسفته في الحياة والأدب، كيف لا، وهو
الذي يصف نفسه بأنه: (المسكون بالهاجس
القومي والمقيم في محراب العروبة، يقرأ
هموم الجماهير، ويترجم مواجع الأمة،
ويمسح جراح العرب براحة الشعر، وأصابع
النقد، وأهداب المسرح)، فكان صادقاً في
وصفه لنفسه إلى أبعد الحدود، ومعبراً
بإيجاز باهر عن تجربته الأدبية الطويلة،
ورحلته المتميزة مع الكلمة المبدعة في
عوالم الشعر والنقد والمسرح، وبداية وحتى
يلامس الدارس والمتابع، الموضوعية في
نظرته إلى التجربة الإبداعية للبرادعي،
وجب عليه تأمل البيئة التي ولد وعاش وكتب
فيها هذا الأديب الكبير، ففي مطلق الأحوال
لا يمكن الفصل بين الشاعر وبيئته، مثلما لا

يمكن الفصل بين الشعر واللغة..، وتراها
بيئة القلمون الجبلة القاسية وطبيعة
أهلها المجبولة بالنبل والشجاعة والبراءة
والتوقد في آنٍ معاً؟.. أم أنها يبرود
ببحيرتها الشهيرة وأشجارها الباسقة
ومغاورها المغرقة في القدم، والتي احتضن
بعضها الإنسان الأول الذي عاش على هذا
الكوكب والذي اختار هذه المنطقة دون غيرها
من أصقاع البسيطة ليقيم فيها، ولتكون في
طليعة المناطق المأهولة لإنسان ما قبل
التاريخ، كما يذكر العالم الألماني ـ
ألفرد روست ـ في كتابه القيم (مكتشفات
مغاور يبرود) والذي اختارته المصادفة في
الثلث الأول من القرن الماضي ليقيم ثلاث
سنوات حافلة بالبحث والتنقيب في يبرود
الوادعة، والتي توجت بمكتشفات أذهلت
علماء التاريخ حول عراقة الإنسان في بلدنا
الحبيب.
في هذه البيئة الأصيلة تاريخاً وطبيعة
وإنساناً، ولدت وترعرعت تجربة الشاعر
العربي الكبير خالد محيي الدين البرادعي..
وهي ذاتها التي أنجبت تجارب إبداعية هامة
على ساحة الأدب العربي والمهجري منه بشكلٍ
خاص، كتجربتي الشاعرين المهاجريْن
الشقيقين زكي قنصل والياس قنصل....
وإذا أردنا اليوم الخوض في التجربة
الإبداعية لشاعرنا، مخلصين لعنوان هذه
الدراسة أي ـ الهاجس القومي في أدب
البرادعي ـ لوجب علينا إذاً إنجاز دراسة
قد تستغرق حجم كتاب كامل، أما وأن المقام
لا يسمح إلا بالإيجاز، فسأقتصر على
الإشارات والتلميح، والنصوص كاملةً
موجودةً بين أيدي المهتمين والمتابعين
لهذه التجربة التي نحن بصدد تسليط الضوء
عليها.. حيث بلغت مؤلفات الشاعر قرابة
خمسين كتاباً في الشعر والنقد والمسرح...
ففي الشعر تذكرنا التجربة الملحمية في
إبداعات الشاعر، بالنفس الملحمي العظيم
وتحاكي عوالم العبقرية الشعرية العربية
منذ المتنبي وحتى الجواهري... ونلمس ذلك في
معظم دواوين وقصائد البرادعي.. ومنها على
سبيل المثال لا الحصر: ديوانه (تداعيات
المتنبي بين يدي سيف الدولة) الصادر عام
1976) و(أناشيد الأنصار) و(صور على حائط
المنفى) و(الغناء بين السفن التائهة)،
ويبقى للفروسية بكل ما تمثله من الشجاعة
والإقدام والبطولة دلالات في تاريخنا،
لها مكانها المرموق في قصائد الشاعر فنقرأ
له:
ـ الفارس الذي عاد
ـ تراتيل وراء الفارس العائد
ـ صورة لعودة الفارس
ـ خمس حكايات إلى الفارس الذي عاد
ـ الفارس العائد والحبيبة المتعبة
ـ الفارس والمنفى والسيف
ـ اعترافات بين يدي الفارس العائد
ـ إشراقات الفارس العائد
ـ الفارس والخريطة
ـ تواقيع للفارس العائد
ـ الوجه الحزين للفارس العائد
ـ من أسفار الفارس..
ومثلما للفروسية مكانها الأول في الفكر
والتجربة والإبداع، شأن أية تجربة شعرية
عملاقة، كذلك فللعشق والمرأة والحب،
المكانة العالية في النفس والقصيدة.. عبر
لغةٍ تمنح المرأة الملهمة قدسيتها
واحترامها، وتجعل منها رمزاً لكل ما هو
خيّر ومضيء ومعطاء في حياتنا. نلمح ذلك في
مجموعته (الحب لغتي) الصادرة عام 1981
و(حكاية الأميرة حنان) و(قصائد للأرض قصائد
للحبيبة) و(حكايات إلى امرأة من يبرود)
و(رسائل إلى سيدة غريبة) و(قصائد في النضال
والحب) و(القبلة من شفة السيف) ويتجلى هذا
المفهوم بشكل أعمق وأكثر وضوحاً في
مسرحياته الشعرية وخاصة منها:
(دمّر عاشقاً) الصادرة عام 1978
(العرش والعذراء) الصادر عام 1980
(حصان الأبانوس) الصادرة عام 1981
وبعد هذا وذاك من إبداعات الشاعر، لا عجب
أن يكتب فيلسوف الفكر المعاصر المرحوم زكي
نجيب محمود قبل ثلاثين عاماً بعدما قرأ
ديواناً للشاعر صدر في بيروت عام 1972
بعنوان (صور على حائط المنفى)، يكتب قائلاً
بأنه عثر على كنزٍ ثمين ونصحه بمواصلة
كتابة المسرح الشعري.. وبالفعل فقد خاض
الشاعر هذه التجربة والامتحان الصعب كما
يقول، وعاش هاجس شعرية المسرح، حتى أصبحت
الأحداث تتكون وتتراكم شعرياً في مخيلة
الشاعر ليجسّدها على الصعيد الإبداعي
مسرحيات شعرية تتوالى يوماً بعد يوم، وكما
يقول ذلك المفكر العربي الكبير حول خصوصية
هذه التجربة عند البرادعي فإن المسرح قد
هذب القصيدة ونقلها إلى بناء جديد، حيث
أصبح البناء الدرامي جزءاً أساسياً في
هيكلية القصيدة.
وهكذا كان لتداخل التجربتين الشعرية
والمسرحية عند البرادعي النتيجة الباهرة
بشهادة كبار المفكرين والنقاد، فعبر ما
يزيد على العشرين مسرحية شعرية تمكّن
الشاعر من صياغة أجزاء هامّة من تاريخ

العرب وآمالهم وأحلامهم، والدروس والعبر
المستفادة من موروثنا التاريخي والأدبي،
عبر صياغة مسرحية شعرية متألّقة، كنت مادة
رائعة لعشرات أطروحات الماجستير
والدكتوراه، لباحثين ومؤلفين في الأدب
العربي في جامعات عربية ودولية مختلفة.
ويبقى الهاجس القومي إحساساً وممارسة في
حياة وإبداع البرادعي، ليتجاوز الأعمال
الإبداعية، إلى النظرية والدراسات
النقدية، كيف لا؟ وهو الذي يرصد المشهد
الشعري العربي بأكمله، مثلما يرصد في ذات
الوقت حركة المسرح على المستوى القومي
الشامل، ليشبع اهتماماته النقدية كما
يقول، ويلاحظ القارئ والمتابع لآراء
ودراسات البرادعي النقدية، بأنه يؤكد
دائماً على الأصالة واحترام الموروث
الثقافي العربي، لأن المبدع العربي لن
يكون مبدعاً، وهو بعيد عن الموروث الخالد
بكل فروعه وقنواته عبر التاريخ، تماماً
مثلما يكون المرء امتداداً لأسرته، بمعنى
أن يكون المبدع المعاصر تطوراً منطقياً
لمن سلف من مثقفي الأمة ومبدعيها، والأدب
العظيم كما يقول أيضاً: (لا يكون إلا من
نتاج بيئته وهو أدب قومي بالدرجة الأولى)).
وهذا الكلام المبدئي في الشعر، ينسحب
بالتأكيد على المسرح، ففي كتابه ـ خصوصية
المسرح العربي ـ الصادر عن اتحاد الكتاب
العرب في عام /1988/ نلاحظ بجلاء أن مدرسة
البرادعي الإبداعية، ترتكز على مسألتين
أولاهما: الإيمان بأن المسرح العظيم
كالشعر العظيم، إبداع قومي بالدرجة
الأولى. وثانيهما: أن تخلي الكاتب
المسرحي، عن أفق وطنه وأمته وقيم أهله
وابتعاد أقدامه عن تراب وطنه، سيحول دون
شك بينه وبين فرصة الوصول إلى العالمية..
لأن الإبداع لـه هوية قومية بالدرجة
الأولى كما أسلفنا. ولا يمكن أن يكون
عالمياً (يقول البرادعي) ذلك السابح في
ظلال المذاهب والطافي مع غثاء التيارات،
والطائر في الفراغ.. باحثاً عما يسميه
الصغار بـ (الصيغة العالمية) للإبداع..
وبتواضع العالم يصف الشاعر المسرحي خالد
محيي الدين البرادعي كتابه القيم ذاك بأنه
: بحث في إبداع النص، لغته، وفكره وأداته،
وحواره، ولا علاقة لـه بتقنية المسرح
الأخرى من إخراجٍ وتمثيل وزيان بل ومكان).
وبعد بذله جهداً مضنياً في إنجاز تلك
الدراسة القيمة حول خصوصيات النص المسرحي
العربي تحديداً، يرى البرادعي أنها أقل من
الطموح، ويقول: قبل البدء في إرسال هذا
الكتاب خطوطاً مكتوبة، كان لـه في الذهن
تصميم، وفي الإدراك مخطط، ولكنه بعد
الانتهاء منه، رأيته أقل حجماً من
التصميم، وأصغر قامة من المخطط))، ويورد
البرادعي عدداً من النصوص المسرحية
المضيئة التي يمكن أن تمثل بحق وجدارة،
مسيرة وتطور المسرح العربي، وفي مجال
النقد أيضاً وعبر الكتب والدراسات
النقدية التي قدمها البرادعي للمكتبة
العربية ظل الهاجس القومي أيضاً السمة
البارزة في المدرسة النقدية للبرادعي إن
صح القول ومن منظوره القومي العربي، حيث
قدم البرادعي الناقد كتباً ودراسات ستبقى
في الذاكرة وكان أن أغنى بها عدداً من
الدوريات مثل ـ المعرفة ـ والموقف الأدبي
ـ والأسبوع الأدبي تناول فيها بالنقد
والتقييم مئات التجارب الإبداعية، ليرسم
معالم الطريق الصحيحة للأجيال الجديدة من
الأدباء العرب..
ففي دراسته القيمة (مقدمات لقراءة الشعر
المعاصر)
يقول: (الشاعر يرى..
(الشاعر يتذكر..
(الشاعر يحول الرؤيا والتذكّر إلى واقع
ليس موجوداً بالأصل، أي إلى رؤيا...)
ويؤكد في الدراسة ذاتها: (الشاعر ليس
صحفياً.. الشاعر ليس مؤرخاً..
وبعد ليس ثمة ما يمكن أن نضيف على ما قاله
الكاتب والناقد والمفكّر العربي المصري
الدكتور زكي نجيب محمود عنه ذات يوم،
عندما كتب يقول: (لا غرابة أن يعيش ـ
البرادعي ـ أمجادنا الماضية بغير عناء
اللاهث في صفحات التاريخ، وأن ينتشي
بازدهار الغد وكأنه حقيقة ماثلة أمامه..)
كيف لا وهو الذي يتقن انتزاع بارقة الأمل،
من دوامة اليأس ويقول:
(صباحكَ فيكَ
أضئه وفيكَ النواةُ
لعهدٍ جديد، أنا بعض تلك النواة
فقطرة ماءٍ تقيم ربيعاً،
وحرفٌ يشعُّ
يضيء الحياة بأرضٍ خراب..)
كلمة جمعية الشعر البرادعي في حديقة
الشعر
د. نزار بريك هنيدي^*
في عام 1969 غرَسَ خالد محيي الدين البرادعي
شتلته في حديقة الشعر العربي في سوريا. هذه
الحديقة التي كانت تشهد آنذاك نمو الغراس
الجديدة التي زرعها الجيل الثاني من شعراء
حركة الحداثة الشعرية من أمثال علي الجندي

ومحمد عمران وفايز خضور وممدوح عدوان
وغيرهم. بعد أن كانت أشجار جيل الحداثة
الأول كأدونيس ونزار قباني ومحمد
الماغوط، قد رسّخت جذورها، وزهت بظلالها،
جنباً إلى جنب مع السنديانات العملاقة
لشعراء سوريا الكبار من روّاد المدرسة
الكلاسيكية الجديدة، مثل بدوي الجبل
ونديم محمد وعمر أبي ريشة، وغيرهم.
وهكذا، فإن حديقة الشعر في سورية عندما
دخلها خالد البرادعي للمرة الأولى، كانت
تعجّ بنسائم العبير التي تفوح من كل
سنديانة شجرة وغرسة فيها. إلا أن الشتلة
التي غرسها كانت قادرةً أيضاً على أن تلفت
الأنظار إليها بما يتضوّع منها من أريح
استطاع النفاذ إلى حواس وقلوب أعداد من
رواد الحديقة من متذوقي الشعر ومحبيه،
ونقاده ودارسيه.
وإذا كان لا بد للمؤرخ الأدبي من أن يلاحظ
أن أعداداً ليست بالقليلة، من الأغراس
التي زرعها أتراب البرادعي من أبناء جيل
السّتينيات، قد اعتراها الذبول، وأصابها
التخشّب واليباس، وأصبحت مجرّد حطب لا
يصلح إلا وقوداً لمدفأة التأريخ الأدبي،
فإنه لا بد لـه أيضاً من أن يسجّل حقيقة أن
شجرة البرادعي تلك، كانت من بين عدد قليل
من الأشجار التي استطاعت أن تصمد للزمن،
وأن تبقى قادرة على تلوين ظلالها وتجديد
أوراقها إلى أن بلغت من العمر الآن ما يزيد
على الأربعين سنة.
ومما لا ريب فيه أنه ما كان لهذه الشجرة أن
تظلّ واقفة هذه السنوات كلها، لولا أن
توافر لها من المقوّمات، وامتلكت من
الخصائص والسمات، ما مكّنها من البقاء،
بالرغم من جميع العواصف العاتية التي ما
فتئت تحيق بحديقة الشعر، والتي ليس أعظمها
الوقوع بين براثن المجتمع المادي
الاستهلاكي، والرضوخ إلى ما يروّج لـه
إعلام النظام العالمي الجديد من مقولات
خطيرة مثل موت الشعر وانتهاء عصر الشعراء،
وليس أقلها ما نراه اليوم من ازدحام
الحديقة بالأدعياء والمزيفين، الذين يتم
الاحتفاء بهم وتقديمهم على حساب الأصوات
الشعرية الأصيلة، التي تبذل الجهود
الحثيثة لتهميشها وتيئيسها وعزلها عن
ساحة فعلها الحقيقي.
ويمكن للمتابع أن يجتهد في تبيين بعض
مقومات وسمات شجرة البرادعي الشعرية،
فيلاحظ ما يلي:
1 ـ عندما دخل خالد محيي الدين البرادعي
حديقة الشعر للمرة الأولى، دخلها بروح
المزارع، الذي يستمد عزيمته من خصوبة
التربة المبللة بالأنداء، ويستوحي رؤاه
من علاقته الطبيعية الحميمة مع الشمس
والمطر والهواء، لذلك كانت الشجرة التي
زرعها مهيّأة للعيش والبقاء، مختلفة بذلك
عن الكثير من (الأشجار البلاستيكية) التي
زرعها بعض (المهندسين الزراعيين)، الذين
لا يهمهم سوى إنتاج أشجار تتطابق أوصافها
مع الأوصاف المنصوص عليها في النظريات
الغربية، في الحجم والطول والشكل، حتى ولو
كانت أزهارها دون أريج، أو كانت ثمارها دون
طعم أو مذاق.
2 ـ تمتلك هذه الشجرة جذوراً قوية تمتد إلى
عمق التراث العربي الشعري. ويتجلى ذلك
واضحاً في نصوص البرادعي التي توظف الكثير
من الجماليات الشعرية التراثية، وتستدعي
أعلام التراث وأحداثه، وتتناص معها وتحيل
إليها. كما يتجلى ذلك في لغة البرادعي
المتينة، وفي إيقاعاته المضبوطة، وفي
تعابيره وتراكيبه التي تمتح من المعين
الثرّ للشعرية العربية.
3 ـ لم تستكن شجرة البرادعي إلى النمو تحت
ظل أية شجرة من أشجار الحديقة الأخرى. إلا
أنها أيضاً لم تكن محجوبة عن الضياء الذي
يصل إليها من الثقافات العالمية
المختلفة، ولكنها في تعاملها مع هذا
الضياء كانت مثل أشجار الطبيعة تستقلب ما
يصلها بعملية التركيب الضوئي، دون أن
تعرّض نفسها إلى الاحتراق أو الاستلاب.
4 ـ منذ أن كانت هذه الشجرة يافعة غضة،
وحتى مراحل نضجها، والنسغ الذي يجري في
مساماتها ويغذيها، يتألف من ضفيرتين
مجدولتين بعناية، الأولى منها تتألف من
التجليّات المختلفة للحب: حب المرأة
والبشر والأشياء والطبيعة، وحب الخير
والعدل والجمال. أما الضفيرة الثانية
فتتألف من الهموم الوطنية والقومية، التي
تنطلق من معاناة الإنسان العربي في واقعه
الراهن الطافح بالخيبات والانكسارات،
لاسيما عند مقارنته بالماضي المجيد للأمة
التي حملت مشاعر الحق والعلم والعدالة في
زمن كان العالم فيه يغط في سبات ظلامه
الدامس، وتطاول الأحلام القومية الكبرى
في تحرير الأرض والإنسان وتحقيق الوحدة
العربية الشاملة التي تكفل للإنسان
العربي مكانه المتقدم تحت الشمس.
5 ـ ومن مميّزات هذه الشجرة، أنها متعدّدة
الأغصان، ففيها غصن للشعر الغنائي،
يتفرّع إلى فروع متعددة، منها قصيدة الحب،
والقصيدة الوطنية والقومية، والقصيدة

المعنية بأسئلة الوجود الإنساني. وغصن
للمسرح الشعري يتفرع أيضاً إلى عدة فروع،
منها المسرحية التاريخية، والمسرحية
الاجتماعية، والمسرحيات التي تستلهم
التراث العربي والعالمي. وهناك غصن للمسرح
النثري، وغصن للحكاية الشعرية، وآخر
للملحمة، وغصن للشعر الموجه إلى الأطفال
والفتيان. وهناك غصن كبير أيضاً لنقد
الشعر، وآخر للدراسات والبحوث في التراث
الشعري. ولا شك أن تعدد هذه الأغصان التي
تتشابك حول محور رئيس واحد هو الشعر، يؤكد
أن وراء هذه الشجرة مشروعاً شعرياً
متكاملاً يشتغل عليه البرادعي بكل دأب
واجتهاد.
6 ـ أما ثمار هذه الشجرة، فهي غزيرة
ومتنوعة. فقد أثمرت شجرة البرادعي أكثر من
خمسين كتاباً، بالإضافة إلى عدد كبير من
المقالات والدراسات والبحوث المنشورة في
الصحف والمجلات العربية. ومهما كان موقف
الناقد أو المتلقي من بعض هذه الثمار، فلا
بدّ لـه من أن يرى في غزارة الإنتاج هذه،
أنها تفصح عن رجل اعتبر الشعر همّه
الحياتي الأول، فأفرد جلّ وقته للقراءة
والكتابة والدراسة والبحث في شؤونه
المختلفة. ولا ريب في أن ذلك وحده يمثّل
قيمة عظيمة يستحق الرجل من أجلها الثناء
والاحترام.
أجل.. إن شجرة استطاعت أن تثبت جذورها في
حديقة الشعر العربي في سورية، وأن تمد
ظلالها إلى مختلف أقطار الوطن العربي،
فتعقد من أجلها الندوات، وتحبّر لدراسة
ثمارها البحوث والمقالات، ويشتغل طلاب
الآداب في عدد من الأقطار بإنجاز رسائلهم
الجامعية في جوانبها المختلفة، وتنال
عدداً من الجوائز الأدبية، إن شجرة كهذه
لجديرة حقّاً بالاحتفاء والتقدير. وإن
شاعراً بقي قابضاً على جمرة الكلمة قرابة
نصف قرن، لهو شاعر يستحق منا كل تكريم.
دمشق 23/11/2004
كلمة جمعية الدراسات والبحوث شاهد العصر
المتألق الشاعر خالد محيي الدين البرادعي
د.حسين جمعة^*
لم يعد جديداً أن نقف موقف الوفاء هذا
لنكرم أحد مبدعينا في اتحاد الكتاب العرب؛
لأن هذا التكريم غدا طقساً من طقوس العرفان
بجميلهم في بيتهم بيت الكلمة الحرة
والنزيهة... فمنذ أيام قليلة مضت؛
وبالتحديد في الثاني عشر من تشرين الأول
لعام (2004م) شهدت هذه القاعة تكريم علم من
الأعلام الرُّوّاد في الأدب واللغة
والنقد والفكر؛ إنه الأستاذ الدكتور عبد
الكريم الأَشتر ـ أطال الله عمره ـ.
وهانحن اليوم نجتمع مرة أخرى لنعزز قيمة
الوفاء بتكريم شاعر مسرحي مبدع إنه الصديق
خالد محيي الدين البرادعي المولود في
مدينة يبرود؛ مدينة الجمال والتاريخ
والحضارة، المدينة التي شهدت كهوفها
انتقال الإنسان من مرحلة العربي إلى مرحلة
الزراعة والصناعة...
في تلك المدينة المتوجة على ذرا جبل
القلمون وُلد المحتفى به عام (1943م)؛ ثم غدا
سفيراً لها بالكلمة الجميلة إلى عواصم
الوطن العربي وعدد من دول العالم؛ إلى
بيروت والقاهرة؛ والكويت والرياض؛ وأبو
ظبي ودبي والرباط؛ وطرابلس وطهران وصنعاء
وعُمان...
وفي كل مكان وطئت قدماه كان لـه نصيب من
تكريم؛ أو احتفال بجائزة استحقها؛ فهو
الشاعر المسرحي والناقد الصائد للجوائز،
وآخرها جائزة الشعر الأولى عن قصيدة لـه
في (القدس الجريحة) في يوم القدس العالمي
الذي أقامته المستشارية الإسلامية بدمشق
يوم الأربعاء (10/11/2004م). أقصد جائزة الإمام
الخميني.
لذلك ليس غريباً أن تقوم حول إبداعه
الشعري والمسرحي دراسات شتى في أرض الوطن
وديار الأمة العربية جُمع بعضها في كتاب
خاص صدر في ثلاثة مجلدات برعاية جامعة
محمد الأول بوَجْدة في المغرب العربي
بعنوان (خالد محيي الدين البرادعي
والجامعات) ـ لعام (2003م).
إنه ـ بحق ـ استطاع أن يحفر اسمه في ذاكرة
الدارسين منذ وقت مبكر، على الرغم من أنه
كان فقيراً ولا يملك الشهادات العالية...
فقد سبق للأستاذ أحمد زكي ـ رئيس تحرير
مجلة العربي الكويتية ـ أن جعله أحد
شعرائنا الخالدين حين قرأ لـه قصيدته التي
نشرها في هذه المجلة، ومطلعها:
فقد يَقيهِ نداءٌ منكِ أو حَذَرُ
نادي نجيَّكِ قولي: هَدَّك السَّفَرُ
وعزز هذه الشهادة أستاذنا الفيلسوف
الصوفي الدكتور عبد الكريم اليَافي^(^^).
ولسنا نغالي إذا جاريناهما فيما وصلا
إليه؛ فشاعرنا يذكّرنا في مسرحه الشعري
بكبار شعراء العربية أحمد شوقي وعزيز
أباظة وعلي أحمد باكثير، ويتفرد عنهم
برؤيته النقدية المعاصرة.
ومن ثم فنحن نقف أمام دواوينه ومسرحياته
الشعرية وقفة التقدير والإعزاز؛ لأنها
تبعث فينا نوازع متفردة لا نظير لها... إنها

تبهرنا بألفاظها العذبة السلسة التي
اختارها بكل عناية ومهارة واقتدار؛
وتثيرنا بصياغتها الشعرية الشفافة التي
جمعت بين السهولة والجزالة دون تعقيد أو
تكلف؛ وتطوف بنا على جناح الخيال بصورها
الموشَّاة بألوان الطيوف؛ وتحلّق بنا
بقيثارتها الرقراقة المتدفقة بإيقاعات
حلوة تقطف من جمال النغم الصافي رونقه
وبهاءه، وتوقظ في أذهاننا بأفكارها
المتوقدة أبعاداً إيحائية متنوعة...
إنها ـ وإن تجذَّرت بالواقع الوطني
والقومي والسياسي والاجتماعي... ـ تنقلنا
إلى أَثير سماوي رحب مُشَبَّع بالمفاجآت
وعناصر الإدهاش؛ في الوقت الذي تشدّنا إلى
تراث عظيم يحدو أبناء الأمة إلى بناء
نهضتهم للتحرر والخلاص من مواجع الفقر
والجهل، والقهر والذل، والتمزق والشتات...
إنه التراث الذي رأى فيه البرادعي أنه ليس
مدونة للحفظ والتمجيد، وإنما هو مادة
لاستلهام أطر الحداثة وبناء الحضارة؛ إذ
قال: "كل ما تخلّفه الأمة عبر مسيرتها
الحضارية من فنون التعبير عن ذاتها يمسي
تراثاً لأجيالها اللاحقة؛ ويندمج في
ثقافتها القادمة))^(^^).
إن إنتاج البرادعي الشعري والمسرحي يرسم
في نفس المتلقي عشق التوغل في الإبداعات
المتوهجة على صعيد الشكل والمضمون... فهو
يرسم لوحات فنية تأسرك كلما رمت رددت
النظر فيها، وتمضي بإحكام صنعتها إلى عالم
من الدلالات والرموز، سواءٌ في ذلك
مادتُها التاريخية؛ والأسطورية أم
الواقعية... فمسرحيته الشعرية (دُمَّر
عاشقاً) ـ مثلاً ـ تجترح العديد من المواقف
البطولية التي تنتشل العربي من الآثام
والمؤامرات التي تُحاك حوله... على حين
تُعَرِّي مسرحيته (العرش والعذراء) مواقف
القمع والتخاذل والادعاءات البهلوانية
الفارغة... إنها مسرحية شعرية جريئة في
معالجة موضوع الحرية والديمقراطية بأسلوب
رمزي مليء بالإيحاءات الفكرية والنفسية
والاجتماعية... وهي تدعو أبناء الوطن إلى
بناء وطنهم الحر العزيز... ومثلها مسرحيته
(حصان الأَبَانوس) التي شرَّحت أنماطاً
متنوعة من السلطة السياسية... ومن ثم تدعو
إلى تجسيد وحدة الأمة العربية بعد أن
مزَّقتها أهواء المسؤولين وانصرافهم إلى
ملذاتهم الخاصة.. إنها دعوة صريحة إلى كل
مسؤول كي يتخلى عن فرديته وأنانيته لصالح
الذات الجماعية للأمة وقضاياها الكبرى...
وحاولت مسرحيته (جُوْدر والكنز) أن تنقذ
العربي من آلامه القاتلة التي جعلت نهباً
للتبعية والمخاوف المرعبة لإرضاء الأجنبي
الذي تسلط عليه وعلى الأمة وثروتها.
لهذا كانت شخصية (جودر) رمزاً لبعض
المسؤولين العرب؛ إذ قدَّم التنازل إثر
التنازل ليبقى في منصبه؛ دون أن تعنيه أرض
أو وطن أو شعب. ومن ثم لا قدرة لـه إلا على
التنازل خدمة للغرب الإمبريالي الذي تحكم
بمصائر الشعوب؛ ولاسيما الشعب العربي.
أما مسرحيته (جزيرة الطيور) فهي تعنى
بأبعاد روحية وإنسانية تعزز في نفس العربي
القدرة على التخلص من خوف الآخر وتبعيته
للانطلاق إلى ألق الثقة بالذات وممارسة
الحرية الكريمة... فهي مسرحية مملوءة
بعناصر الإدهاش والفانتازيا، ولكنها نجحت
في استشراف آفاق المستقبل بكل حكمة
واقتدار...
وأينما تلفتنا في إنتاج البرادعي وجدنا
مغانم كثيرة، يعجز القلم عن الإحاطة بها
في عجالة سريعة، كما نحن اليوم... فإنتاجه
يستبطن مشاعل الهداية والتبشير بالفجر
القادم؛ وهو يناقش الواقع العربي مناقشة
عميقة بلغة شعرية مؤثرة...
وهذا ما نجده في مسرحيته (المؤتمر الأخير
لملوك الطوائف) و(السلام يحاصر قرطاجنة)
و(أسفار سيف بن ذي يَزَن) و(عرس الشام) و(أبو
حيان التوحيدي) و(الوحش) وغير ذلك...^(^^)
ولعل أبرز ما يميز إنتاج البرادعي الشعري
والمسرحي أنه عقد عقداً موثقاً ومبرماً مع
تراث الأمة العربية والإسلامية، فسخّره في
صوره وحواره وأفكاره ومشاعره لمعالجة
القضايا الكبرى للأمة؛ ((وكأن النفس
الشعري أو النكهة الشعرية لا تمتلك مبررات
وجودها إن لم تحصل على إذن مسبق من بوابات
الماضي))^(^^).
لهذا كله عَدَّه الباحثون مؤسساً لمسرح
شعري متميز وأصيل، وقدمه بلغة رشيقة
وفصيحة وبقوالب شعرية تناوب عليها الشكل
القديم والحديث... وكذلك جعلوه شاعراً
قومياً ووطنياً من أنموذج خاص؛ لأنه تشبع
بالفكر القومي وقضايا أمته الكبرى، وفي
طليعتها قضيتها المركزية فلسطين، كما في
الكتاب الذي ألف عنه، وسبق ذكره.
ولا شيء أدل على هذا من قصيدته (رثائيات
عربية في زمن الانتفاضة)؛ ومنها^(^^):
فَيا هَضَباتِ الْجزيرَهْ
بأيِّ التمائمِ يأتي زمانٌ غَبَرْ
لنَسْأَلَهُ أَنْ يُعيدَ إلى عَرَبِ
اليومْ
عُقْبَةً أَوْ عُمَرْ

فَحِطيِّنُ خارَتْ
وبَوّابَةُ الْفَتْحِ مُغْلَقَةٌ
وخَالِدُ ما أَيْقظتْهُ الحرائِرُ مِنْ
نَوْمهِ
لِيعلَمَ شيئاً عَنِ الرِّدَّةِ
العائِدَهْ
وعن عُشْبِ شَرّ تنامى على أَرضِنا
الْصامِدَهْ
فهذا المقطع الشعري مليء بدلالات رمزية
تراثية تمتزج برؤية نقدية معاصرة تطوف
بجراحات الأمة التي تنثال عليها المصائب
واحدة إثر الأخرى... لهذا فهو يعيد تحليل
الواقع بكل جرأة وصدق فلا يرى فيه إلا
نمطاً من الردة المعاصرة، ولا منقذ لـه ـ
ولنا ـ إلا أن يستغيث بسيف خالد بن
الوليد...
وبمقدار ما يرسي هذا المقطع ـ وكذلك
قصيدته كلها ـ في نفوسنا الآلام والمواجع،
ولاسيما حين مزقت مشاهد الدماء أبناء
الأمة وهم يرونها تسيل على شاشات التلفزة،
ولا يملكون إلا الآهات والحسرات... بمقدار
ما يدفعنا إلى آمال كبرى تنعقد على أيدي
أطفال الحجارة الذين استرخصُوا الحياة
وطلبوا الشهادة لترتفع راية العزة والشرف
على جنبات الأرض المقدسة في فلسطين، وفي
ديار العروبة والإسلام.
ولعل ما ينقذ البرادعي وينقذنا هذا
الإيمان المطلق بعالم الغيب.... لهذا تراه
يستحضر الملائكة في بعض شعره ليضفي على
حياتنا نفحة من القداسة التي تؤمن بطاقات
هذه الأمة الكامنة، وقدراتها على تجاوز
واقعها المُرّ ولأْم جراحاتها النازفة
على الرغم من وجود الحكام الطغاة، أو
الجبناء، أو المتخاذلين الذين تحالفوا مع
أعداء الأمة، كما يقول في إحدى قصائده
التي خصّ بها فلسطين الذبيحة التي أطلق
عليها اسم (عندليب) ومنها^(^^):
-: رأَيْنا مَلائِكَةً
جاذَبَتْهُمْ إلى عَرْشِها عَنْدَليبْ
تَقُصُّ عَلَيْهِمْ حِكايَةِ طاغِيَةٍ
يَزْرَعُ الْحَرْبَ
كَيْ يُنْبِتَ الْحَرْبَ
كَيْ يَسْتَمِرَ يُؤَجَِّجُ نيرانَها
وَيَبْقي على الأَرْضِ سَيْفاً
وَمِقْصَلَةً
لِيَبْقى على الأَرضِ شَعْبٌ شَريدْ
لذلك كله فإننا حين نقول: إن الأديب
يُعَدُّ شاهداً على عصره؛ إنما نؤمن بكل
صدق وصراحة بأن الشاعر المسرحي خالد محيي
الدين البرادعي كان شاهد هذا العصر... كان
شاهداً متميزاً لأحداث الوطن والأمة، عشق
ترابهما، وتألق في رسم ملامح الحب النقي
لكل ذرة فيهما، وغنَّى للغد الآتي الذي
سينبلج ذات يوم مع إشراقة فجر أزهار
الياسمين...
وإذا كنت قد تحدثت عنه مرتين؛ مرة في
الأسبوع الأدبي، ومرة أخرى في مجلة
المعرفة السورية، فها أنا ذا أقف مرة
ثالثة وأنا أحترق على مصابيح أشواقه
الشعرية لترحل الأحداق في عمق إبداعاته
المتوهجة؛ راجياً الله ـ عز وجل ـ أن تجد
آذاناً واعية تدرك ما في قلبه من عشق عظيم
لهذه الأمة، والتبشير بمستقبلها، وهي
تسعى بكل إخلاص وعزيمة إلى اقتلاع ما في
أرضها من شرور وآثام، ولتزيح عن كاهلها
نير الاحتلال الاستيطاني الصهيوني؛ وتهزم
مكائد الطامعين في خيراتها، والنيل منها...
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
كلمة جمعية المسرح
د. حمدي موصللي^*
ـ 1 ـ
في البداية عندما تحدثت عن مسرح البرادعي
الشعري قلت: يعتبر خالد محيي الدين
البرادعي بحق أحد أهم الشعراء المسرحيين
العرب المجددين مع أقرانه صلاح عبد الصبور
ومعين بسيسو ولعل إبداعه المتجدد يتجلى في
تحديث المسرحية الشعرية العربية. وقد أشرت
على نحو مباشر أو غير مباشر إلى ذلك أثناء
المقارنة بين المستلهم التاريخي للمادة
الإبداعية للبرادعي، وما اشتغل عليه
الكتاب والشعراء من قبله من جهة والمصدر
التاريخي من جهة أخرى، وكان التميز واضحاً
بينه وبين هؤلاء من حيث:
1 ـ كيفية تناول المادة التاريخية وآلية
توظيفها والتعامل معها على مستويات عدة/..
رسم الشخصيات وما هي عليه من إشكاليات،
وما اعتراها من تبدلات، وما تحمله من
مضامين أرادها لها وفق معايير الواقع
(المعاصر) الراهن اليومي والمعاش والمأزوم
السياسي المرهون بسلطة، أو متسلط أو
مستعمر من مكان وزمان وتاريخ.
2 ـ المعاصرة ولا أعني هنا أن الحداثة
تقترب من المعاصرة أو تنطبق عليها.
على كل حال إن الحداثة لا تعني المعاصرة،
وأن المعاصرة لا تعني الحداثة أيضاً فقد
نقرأ عملاً معاصراً ولكنه ليس حديثاً أي
لا ينتمي لما يمكن أن نسميه حديثاً، أو قد
نقرأ أو نرى مسرحية كتبها أبسن في نهاية
القرن الماضي مسرحية حديثة مثلاً رغم أنها
ليست معاصرة يقول: مونرو سيرز^(^^) (إن

المعاصرة ترتبط بالزمن أما الحداثة
فترتبط بحساسية معينة وأسلوب معين)
والفارق بينهما هو الفارق بين الانتماء
إلى الزمان والمكان، إلى قيم فنية وأدبية.
وفي هذا يقول هربرت ريد الناقد الفني
المعروف^(^^): (إن تاريخ الفن يمثل ثورات أو
فورات متتالية، فكل جيل وكل عقد أحياناً،
ولك قرن يقدم لنا ثورة جديدة تمثل تغيراً
في الحساسية.. لكنِّي متأكد أننا ندرك
الاختلاف النوعي في الثورة المعاصرة: إنها
ليست ثورة بمعنى الانقلاب أو الردة،
ولكنها انفصال حتى التحلل). على كل حال
الذي أردت أن اعبر عنه هو أن البرادعي لم
يزاوج أو يدمج بين المعاصرة والحداثة بقدر
ما عمل على التوازي بينهما، وفق خطين لا
يطغى أحدهما على الآخر، ولا يندمجان وفق
نظريات المستقيمات المتوازية.
3 ـ لم يدخل البرادعي دائرة النص (السياسي)
في خوف واستحياء شديدين أو لم يدخلها
بمغالاة أو يتجاهلها، إنما دخلها عن وعي
للصيرورة التاريخية ولتحولات الواقع
الراهن بكل تعقيداته وفواجعه ليعريها
ويفضحها، ومن خلال عملية التنوير التي
أرادها كضرورة حتمية حادة لفهم هذا الواقع
رغم ابتعاده غير المباشر عن مفهوم الحرية
الملازم أصلاً لعملية التنوير التي
أرادها عبد العزيز حمودة (... إن إشكالية
المسرح السياسي العربي، سواء أكان مسرحاً
سياسياً مباشراً أو مسرح إسقاط سياسي
تتمثل في مفارقة مقلقة، وهي الدراما،
وكلما زادت جرأته السياسية ضحى بنصيب أكبر
من الفن، لأن الكاتب يجد نفسه في مواجهة
متفرج غير مبال أو مكترث، متفرج غليظ الحس
أحياناً، فيلجأ إلى التصريح لا التلميح،
مثل هذا عند البرادعي أو بسيسو أو عند عبد
الصبور غير موجود، وعند الشرقاوي بدرجة
أقل، وسائد عند جيل شوقي وأباظة وباكثير.
4 ـ اختار البرادعي إقامة جسر قوي مع
الواقع، وهو الواقع المغموس بالسياسي على
أشده وخاصة في تركيزه على علاقة المستغل
أو المستَغَل (الحاكم والمحكوم).. حيث
انشغل منذ البداية في التركيز على تأثير
التغيرات
السياسية الجذرية على الواقع الاجتماعي
وعلاقاته في مراحله المختلفة سواء في
مرحلة التنبؤ بالثورة أو في مرحلة الحماس
لها أو في مراحل الضياع والإحباط
والتقهقر، وحتى الحلم. يتفق في هذا مع كتاب
المسرح الشعري والنثري على السواء مثل
الشرقاوي وصلاح عبد الصبور في المسرح
الشعري، وسعد الله ونوس والفريد فرج
وعرسان ومحمود دياب وسعد الدين وهبة.
5 ـ إن العودة للمادة التاريخية
والأسطورية كتراث شمولي سواء العالمي منه
والعربي، والولوج في عمقه وصلب علاقاته،
ونبش محتواه وإعادة ترتيبه بما يلائم
العصر ومتغيراته (ولا أعني هنا الهروب إلى
التاريخ خوفاً مما يحدث في الأجناس
الأدبية الأخرى) على العكس فإذا كان
الهروب من سلطة الرقابة السياسية التي قد
يلجأ إليها الفنان إلى أبعاد مقولته عن
الصدام المباشر معها، وبالتالي للبحث عن
معادل مشابه لعالمه، وفي تصويره لهذا
الواقع عبر التاريخي والأسطوري يقدم نقده
لواقعه بذكاء هنا تكمن الحداثة،
والبرادعي على ما أعتقد برع إلى حد كبير في
تحقيق ذلك التواصل مع التاريخي والأسطوري.
ـ والحداثة بمعناها الأوروبي في الفن
المسرحي لم يعول عليها المسرح العربي أو
ينتظر منها أن تُفعِّلَهُ بما يتلاءم
وحداثة الغرب المسرحي لأن مجتمعاتنا
العربي لم يحدث لها من التغيرات وخاصة
المادية منها أن تدمر علاقاته الاجتماعية.
لكننا في الوقت ذاته نأمل من مسرحنا العربي
أن يكون أكثر التصاقاً بالواقع، وأعتقد أن
الشعري منه كان مخلصاً إلى حد بعيد ولعلّ
البرادعي في تجربته المميزة أقرب
المسرحيين العرب لذلك.. يقول د. حمودة: (نحن
لا نندب غياب الحداثة بمعناها الغربي في
الفن المسرحي، فربما كان ذلك نعمة تؤكد أن
مجتمعاتنا لم تدخلها بسبب ضرورة تاريخية
جعلتنا نبدأ مسرحنا بعد أن كان القالب
المسرح العالمي قد وصل إلى درجة الكمال
بعد خمسة وعشرين قرناً من التجريب، فليس
معنى ذلك استعارة المضامين أيضاً. لابد أن
تكون الحساسية المسرحية عربية ناتجة عن
تجربة عربية كاملة).
6 ـ المرحلة الثالثة من ولادة المسرح
الشعري المعاصر:
تميز مسرح البرادعي الشعري في تاريخ
مسرحنا العربي الحديث بخاصة، فقد كان ثمرة
المعاناة الأكثر حداثة في جيل المسرح
الشعري العربي بعد المعاناة الأولى التي
عاناها شوقي وجيله، والثانية على يد أحمد
علي باكثير وعبد الرحمن الشرقاوي وآخرين،
والثالثة صلاح عبد الصبور وبسيسو
والبرادعي.
تلك المعاناة التي أنتجت هذه الثمرة
(المسرح الشعري) وعني بها البرادعي الذي
نقل المسرحية الشعرية مع أقرانه نقلة

جمالية، تغلبت في المقام الأول على حالة
التراوح بين الدراما والشعر. وتغلبت في
الثاني على الصراع الموسيقي بين
العروضيين، والتفعيليين، فان مسرحاً
متقدماً بالنسبة لمن سبقهم أو عاصرهم،
وكان تطوراً طبيعياً لنمو الدراما داخل
القصيدة الغنائية الخاصة.
ومن هنا يمكننا القول أن مسرح البرادعي
الشعري لم يأت من فراغ تاريخي أو فني، إنما
تم بوعي وتوجيه من رؤيته الجمالية الخاصة
التي تفتحت على المسرح الإنساني العالمي
وثقافته ونهلت منه، وتأثرت به، في صيغة
عربية.
أخيراً.. مسرح البرادعي الشعري حالة
استثنائية في المسرحة العربية المعاصرة
تتطلب منا البحث النقدي المستمر لتبيان ما
لم نستطيع الوصول إليه، لأنها تجربة غنية
متميزة، ولا أدري إن استطعت أن أفيها
بعضاً مما تستحق..
القسم الثاني: شـــهادات
شهادة العلاّمة الأستاذ الدكتور عبد
الكريم اليافي^(^^)
بسم الله الرحمن الرحيم
بلادنا العربية والإسلامية تشغل نصيباً
كبيراً من سطح أمّنا الأرض، وتقع في أواسط
المعمورة من هذا السطح. إنها بذلك تصل بين
الشمال والجنوب والشرق والغرب. وهي كذلك
معتدلة الإقليم كثيرة الخيرات. ما تحت
السطح منها حافل بالفلزّ والنفط والركاز.
وما فوقه غني بالواحات والبساتين
والحدائق والأشجار من كل نوع ولاسيما
الأشجار المثمرة. ومن أبدعها شجر النخيل،
وكذلك الأعناب والزيتون والحمضيات
والرمان والتين واللوز والتفاح
والخضراوات والبقول والرياحين وما إلى
ذلك.
تعيش السباع والخيول والظباء والأراويّ
في أرجائها وتسبح الطيور والقماريّ
والعنادل في أجوائها وتتراقص فوق
أزاهيرها الفراشات في أشعة الشمس الذهبية.
وأفضل من كل ذلك وأعلى سكانها الذين أنشئوا
حضارة الإنسانية الأولى فكانوا فخر البشر
أجمعين في قديم الزمان وغابره.
بلادنا بتنوّع جمالها ومحاسنها تهش لها
السماء حين تقابلها ويُزْهى شعاع الشمس
حين يلتمع في أجوائها وعلى جدرانها
وأشجارها وأزاهيراها ويحلو سنا القمر
ويحلم حين يشارفها وتستمتع النجوم
والكواكب حين ترنو إليها. إنها موطن
الأنبياء والأولياء والمصلحين والشعراء
والعلماء والصالحين ومهبط الوحي والإلهام
والرشاد والسداد والإحسان والعبقريات
الحسان.
وكما تنمو الأزهار في السهول والروابي
وعلى سفوح الجبال وقممها ويبسق الدوح
ويشمخ السنديان في ربوعها كذلك تنشأ
الأجيال الطيّبة عليها في كلّ عصر وتتفتح
المواهب الإنسانية والعبقريات من كل عمر.
تلك العبقريات والمواهب كامنة ومتحققةً
تكاد لا تحصى ولا تحصر في كل ميدان من
ميادين الحضارة والعمران وحقول الجود
والإحسان.
وإني ليسعدني أن أحيّي عندنا الشاعر
المبدع خالد محيي الدين البرادعي في
دواوينه الشعرية الكثيرة الممتعة البليغة
وهي تمتاح من منهل عذب غزير وعميق، كلّها
بيان مشرق لطيف وسموّ مونق منيف ومنهج
مبهج شريف.
لقد شرّف ربّنا سبحانه وتعالى في أزليّ
علمه وسرمديّ لطفه الأمة الإسلامية حين
أنزل وحيه الكريم ونوره الهادي فجاءت فيه
إشارة بمكانة هذه الأمة العظيمة الرفيعة
حين قال: وكذلك جعلناكم أمّة وِسطاً
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
عليكم شهيداً.. [البقرة، 143] وُصِفت الأمة
بالوسط، لأن الوسط خيار كل شيء ولأن
الأطراف قد يتسارع إليها الخلل. هذا عدا
موقعها الجغرافي. ثم إن الوسط يفيد العلو
والجودة. يقال: هو أوسطهم حسباً، إذا كان
أرفعهم محلاً. والواسطة من القلادة الجوهر
الذي في وسطها وهو أجودها. ووسَط الدائرة
بالتحريك مركزها. ووسْط الدائرة بالتسكين
أي نقطة في داخلها. ووسَطَ الجبل قمته.
(وليس معنى الوسط هنا ما بين الجيد
والرديء).
وحقّاً غدت الأمة العربية عند بزوغ
الإسلام وانبلاج أنواره مع الشعوب التي
تعشقت الدين الحنيف مشرفين على الخلائق في
المعمورة وموقظين لها من سبات التأخير
وغمغمات الجهل وأصبحت الأضواء العلمية
والحضارية والفنيّة والعمرانية
والاجتماعية تسطع من بلاد الصين إلى
المحيط الأطلسي مجتازة أواسط آسيا وأجواز
أوربَّة وأعماق إفريقية، متلقية وصائنة
ومطوّرة علوم الهند والفرس والصين
والرومان وناشرة أصول الهداية والتعاون
والعمران.
شاعرنا البرادعي الملهم قلبه مفعم بمجد
الأمة الإسلامية وسؤددها الغابر ومناقبها
الوثيرة الكثيرة وحضارتها السامية

الإنسانية. وهو ينظر اليوم في حاضر هذه
الأمة فيهوله ما انتهت إليه من تأخر وخزي
وجمود ومن تفرق وضياع. ومع ذلك يدرك
شمائلها المخزونة وممكناتها المكنونة
وتحفزّها القويّ العتيد وأمانيَّ شعوبها
في التعاون والسلام وقدرتهم على مواجهة
المصائب المدلهمّات ومجابهة المصاعب
الغاشية الملمّات. فينطلق بيانه بالشعر
هازجاً وحادياً، وحافزاً وشاكياً لعل
السبات الرائن ينجاب، والصباح الغائب
القريب يلوح ويفتح الأبواب.
وهو في دواوينه ومسرحياته كالمعين
المتدفق العذب جزل التعبير قويُّ التأثير
فنّيّ الإشارة بديع الاستعارة،ثرّ
الإلهام، يحزنه تفرق الأمة الإسلامية
وتشتت دولها وشعوبها فيهتف للوحدة
والتعاون ويُشيدُ ما استطاع بالتآخي
والتضامن. وهو في كل ما يكتب ويسطر وينمق
ويحبّر يندد بابتعاد أبناء الأمة
الإسلامية عن أصولها التليدة العميقة
وتراثها المجيد فيغدو داعية مفوّهاً إلى
تلمس أمجاد ذلك التراث وإلى الرجوع إلى
تلك الأصول.
ثم هاهو ذا يرثي الحاضر أيّ رثاء ولاسيما
حين يشعر بمظالم الشعب الفلسطيني وآلام
المسحوقين من أبناء الشعب العريق فيردد
مواجع آلامهم ويشهّر بالظلم والظلام
والافتراء عليهم وبمآسيهم وفواجعهم
والسكوت على ظلاماتهم بما لم يسمع لها
مثيل في ماضٍ أو حاضر. وهو يندب إلى العمل
المثمر والتضافر الناجح ورد المكايد في
نحور الكائدين ودعم الثائرين على الحيف
الغاشم والذلّ القاتم القائم ويبارك
المنافحين عن الحق والمدافعين عن العدالة
والمنادين بمقاومة التعسف والآخذين
بأسباب النهوض والمقاومة والرفعة والعلاء
والبانين لصروح المجد والسؤدد والإنسانية
السليمة والإخاء والداعين للإباء والأنفة
وللتعاون والسلام البنّاء.
يسعدنا أيضاً أن نرسم مراحل نشأة أديبنا
وشاعرنا خالد وصفحات صباه وشبابه الشاقة
الزكية التي قاومت شظف العيش ومصاعب
الحياة وعنت العمل وأعباء المسؤولية
ومشاق النهوض وضيق الكفاف.
لقد كان ضوءه اللامع ونبراسه الساطع
وخدينه الناصح الطائع مصاحبة الكتاب
وملازمة دواوين الشعراء وأسفار المبدعين
والعلماء وقراءة التراث العربي والإنساني
قديمه وحديثه. فكانت تلك القراءات
المثابرة والصحبة الدائمة والمنادمة
الهائمة لتلك الأمور الثقافية والروحية
أكبر غذاء وأسوغه لروحه وقلبه وفكره.
فنجده في شعره ومسرحياته مزوّداً أجود
تزويد بلغة راقية ثرّة مطواع كريمة غزيرة
وبأخيلة سامية علوية فصيحة وبتشبيهات
بديعة موحية وباستعارات يلتمسها في
التراث المجيد والماضي التليد والعمل
والبناء العمراني المشيد.
كل ذلك يجعلنا نحرص على تبيِّن مراحل
حياته التي عاشها واستطاع أن يتغلب على
أزماتها وضرائها لينعم قلبه أخيراً
بِسَرّاء الشعر وبناء الإبداع ومزايا
الريادة والإمتاع.
* * *
أحب أن أذكّر رأياً عرضه ألبير كامو حول
الطفولة. وأنها تنغرس في وجود الأدبي حتى
لو أراد الابتعاد عنها. من هنا أحسب قراءة
ماضيه بكل ما فيه يشكل الوجه الآخر
لإبداعه.
ولد في يبرود المدينة حالياً والقرية
سابقاً عندما كانت مغمورة بالمياه
والثلوج وكانت تشبه الجزيرة الصغيرة.
وعندما جفت مياهها وانحبست السماء عن هطل
ثلوجها وتصحر جردها الغربي الذي كان غابة
من شجر اللزاب الجميل الزكي الرائحة عند
ذاك أسميت مدينة. في تلك البقعة ولد وأدخله
والده إلى شيخ الكتّاب حيث تعلم قراءة
القرآن الكريم وحفظ معظمه ليكون القرآن
الكريم أول زاد ثقافي يتلقاه ليكوِّن فيما
بعد لغته التي ظهر نقاؤها في أعماله
الإبداعية.
وفي الصف الثاني الابتدائي أهداه مدير
المدرسة دفتراً صغيراً ومشكولاً به قلم
رصاص، ومكتوباً عليه: هدية المدرسة إلى
التلميذ النجيب خالد البرادعي. وحفظ
الأحاديث والحكم والأشعار التي غصت بها
كتب تلك المرحلة، حتى أجزاءً من ألفية بن
مالك. وفي نهاية الدراسة الابتدائية التي
كانت خمس سنوات منح كرسياً مجانياً
للدراسة في ثانوية جودت الهاشمي بدمشق لكن
الظروف حولته في مجرى آخر.
وقصد دمشق فعلاً وكان في الثالثة عشرة من
عمره آنذاك.، والتحق بمصنع أثاث. وبدأت
حياة نصفها بكاء ونفها عمل. وكل ما كان
لديه في دمشق من لوازم التعلم والثقافة
نسخة من القرآن الكريم مكتوبة باليد.
ونسخة من ديوان عمر بن الفارض مطبوعة في
بيروت عام 1830. وكان يمضي سواد الليل بين
القرآن وشعر عمر بن الفارض. ويلاحقه إحساس
بالغربة. وبدأ يميز منذ تلك السن بين

الغربة الجغرافية والغربة النفسية. وهو
معزول عما وعمن حوله حتى عن أهله في يبرود.
وعمر بن الفارض هو الذي فتح قابلية الفتى
ليغوص في أعماق الشعر العربي عبر كافة
أحقابه وعصوره وتياراته منذ طلائع الشعر
الجاهلي الذي وصلنا مع النابغة والأعشى
وطرفة وامرئ القيس وزهير والشماخ بن ضرار
وقيس بن الخطيم وعمرو بن كلثوم، والحارث
بن حلزة. ولبيد، والحادرة، والمرقش، وعبدة
بن الطبيب، وسلامة بن جندل، وعدي بن زيد
العبادي، وحاتم الطائي، وعروة بن الورد،
وعنترة، إلى آخر هذه القائمة النبيلة التي
عرفنا الشعر الجاهلي وتعرفنا على فنونه
وأنماطه وتياراته من خلالها.
في إحدى جلساته التلفزيونية وأظن في فيلم
وثائقي عنه قال إنه يقرأ كتباً بالأجرة
لأنه لم يكن يملك أثمانها.
في مرحلة الصبا كان يقرأ عناوين الكتب ضمن
واجهات الزجاج في سوق المسكية الملاصق
للجامع الأموي وهو مدخل سوق الحميدية.
ويبدو أن صاحب مكتبة وهو شيخ جليل كان
يراقب الصبي وهو يتنهد ويتابع قراءة أسماء
الكتب. واتفق معه على أن يقرأ أي كتاب من
مكتبته مقابل فرنك أي خمسة قروش وهي جزء من
عشرين جزء من الليرة السورية. ولكن في
الليلة الواحدة. وإذا استغرقت قراءة
الكتاب يومين يدفع فرنكين عشرة قروش. فكان
مضطراً للقراءة السريعة. حتى لا تزيد
الضريبة.
من تلك الكتب حديث الأربعاء. وفي الأدب
الجاهلي. ومن بعيد. ومن حديث الشعر والنثر.
ومن الأدب التمثيلي اليوناني. وعلى هامش
السيرة لطه حسين. والذي رسمت قامته
الشاهقة في مخيلته ورآه الناقدّ الأكثر
فهماً وشمولية. وفهم تعبيره عن النقد
التكاملي. وقرأ كتب أحمد أمين. وجانباً من
كتب العقاد. ودواوين الشعر التي تطبع في
الشام أو تصل إليها. ومجلة الرسالة التي
يصدرها أحمد حَسَن الزيات. والمجلات التي
كانت تصدر في لبنان.
في تلك المرحلة أو مرحلة التثقيف الأولى
وهي بضع سنوات تمتد من أول عام 1950 حتى 1954
تقريباً. ومع الشعر والنقد والمقالة كان
يتردد على المسجد الأموي فيقرأ بعض الكتب
الدينية وكتب الفقه والسيرة والحديث. ثم
استغرق في الروايات الأجنبية. وكانت أول
رواية أجنبية يقرؤها هي: لمن تقرع الأجراس
لأرنست همنغواي. وبقية رواياته حتى الشيخ
والبحر التي فاز من خلالها بجائزة نوبل. ثم
روايات سارتر التي ترجمها سهيل إدريس وبعض
الروايات التي كانت تباع على الأرصفة في
دمشق بقروش وفرنكات. وبدأت معرفته بنجيب
محفوظ ومن خلال رواياته تاريخ القاهرة
وأزقتها وأناسها ومطاعمها ومقاهيها.
وبدأ أولاً بكتابته القصة القصيرة ونشر
بعضاً منها في أواسط الخمسينيات. ثم كتابة
رواية طويلة لها شأن محزن في أعماقه. وكانت
محاولاته الشعرية الأولى بعد هاتين
الخطوتين نشرها في جريدة النقاد
الأسبوعية التي كان يصدرها سعيد الجزائري
رحمه الله. ولقي تشجيعاً من بعض المحبين
ورؤساء تحرير الصحف. كانت قابليته لقراءة
التاريخ وبعض الدراسات النفسية والفلسفية
لا تقاوم. وعندما كان يستطيع شراء كتاب من
الكتب القيمة يشعر بالفرح والغنى. وأصبح
شغوفاً بقراءة الكتب المترجمة وكتب
التراث. مثل مؤلفات الجاحظ. البيان
والتبيين وبعض أعمال ابن قتيبة. وتاريخ
الطبري. ومروج الذهب. ومقدمة ابن خلدون.
والعقد الفريد. وملحمة الإلياذة التي
عربها إبداعاً سليمان البستاني ومقدمته
الهائلة التي أصبحنا نراها من الدراسات
المقارنة المتقدمة. ومثنوي جلال الدين
الرومي وبعض كتب الصوفية ونهج البلاغة.
وبدأت معرفته بشوقي ضيف من خلال أطروحته
الفائقة: الفن ومذاهبه في الشعر العربي.
وتابعه بالطبع حتى قراءة أجزاء تاريخ
الأدب العربي فيما بعد.
وعرف أرسطو من خلال عبد الرحمن بدوي.
وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي. وكان
أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران
والأخطل الصغيرة وأمين نخلة جلساءه
الدائمين.
قرأ روايته الأولى التي لم تر النور، أكثر
من متذوق وناقد. منهم شاكر مصطفى ومنهم
فؤاد الشايب (أول رئيس تحرير لمجلة
المعرفة) فيما بعد. والتحق بخدمة العلم.
ولأن جسمه متناسق ولا عيب في قامته تم فرزه
إلى فوج المغاوير في قطنا ليمضي سنتين
كانتا من أكثر سنوات العمر اكتساباً
للمعرفة وتدريباً على تحمل الشدائد
والمرانة على الصعوبات.
لم يكن ملزماً بعمل النهار بطوله. فكان
يقرأ بين ثمان وعشر ساعات في اليوم وكان
راتبه الشهري أي الخمس عشرة ليرة سورية
وثمن مخصصاته من التبغ كافيين لشراء الكتب
من دمشق فقرأ في تلك الحقبة موسوعة جواد
علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
وجملة من تواريخ الأدب العربي لكارنينو
الذي قدمه طه حسين. وتاريخ الأدب لبلاشير

وتمكن من قراءة تاريخ آداب اللغة العربية
لجورجي زيدان بمجلداته الثلاثة ودخل في
عالم الأدب الروسي الكلاسيكي فكانت معه
مؤلفات مكسيم غوركي. وتشيخوف وتولستوي
ودستويفسكي، وبعض الروايات التي فازت
بجائزة نوبل مثل رواية: جسر على الدرينا
لإيفو أندريتش. ورواية الوضع البشري
لأندريه مالرو. وتعرف على شعر الجواهري
وشعر بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وعلي محمود
طه. وقرأ أعمال مارون عبود. وسعيد عقل. وبعض
المترجمات من شعر المهجر. وأعمال طاغور.
وأعمال ألبير كامو.
قبل انتهاء الخدمة الإلزامية توفي والده.
فكان مضطراً إلى إعالة أم وثلاث أخوات
وملحقات أخرى. ولم يكن العمل المهني
كافياً لإطعام وكسوة هذه الأسرة. ولاقى
الكثير من المثبطات في العمل الحرفي بدمشق
وفي يبرود فقرر السفر إلى الكويت. وكانت
تكاليف السفر مرتفعة قياساً إلى تلك
المرحلة مرحلة أو الستينيات فاضطر إلى بيع
كل ما لديه بثمن بخس دراهم معدودة. الكتب
وأدوات النجارة اليدوية وساعة يد. ولأن
المبلغ الذي جمعه لا يكفي لثمن تذكر
الطائرة اقترض من بعض الأقارب والأصدقاء
بقية ثمن التذكرة وما يعين أفراد أسرته
آملاً أن يرسل إليهم شيئاً من الكويت.
أمضى السنة الأولى في الكويت صامتاً. وكان
الصمت ضرورياً. وبعد مضي السنة الأولى شعر
بطمأنينة القلب وصفاء النفس ليستأنف
حياته المعرفية. فانتسب إلى معهد لتعليم
اللغة الإنكليزية. وكانت مكتبات الكويت
على قلة عددها زاخرة بألوان المعرفة من
الفكر الماركسي والفكر الغربي والفكر
الديني وما تجدد تحقيقه وإخراجه من ذخائر
التراث العربي والإسلامي ليغوص غوص
العاشقين في ذلك الخضم الزاخر. فقرأ ما
فاته من دواوين الشعر العربي. العباسي
عامة والأندلسي خاصة وانفتح أمامه مجال
الفكر السياسي ليقرأ الكثير من الماركسية
والفكر الاشتراكي. وشغفته مذكرات رجال
السياسة الكبار. مذكرات تشرشل. ومذكرات
هتلر، ومذكرات البانديت نهرو من خلال
كتابه الجميل: من السجن إلى الرئاسة، وما
كتب عن الجنرال ديغول، وعن جورج واشنطن
وما كتبه المؤرخون السياسيون عن الحربين
العالميتين وما كتبه الرواة الأجانب
والعرب عن ثورات التحرير في العالم وفي
الوطن العربي كما قرأ جانباً من تاريخ
أوربا وتاريخ أمريكا خاصة الموسوعة
الهائلة ذات المجلدات المتعددة التي
ترجمها وشارك في كتابتها الدكتور نور
الدين حاطوم. وشغلته الكتب الضخمة التي
خلفها أجدادنا الأندلسيون مثل: الذخيرة في
محاسن أهل الجزيرة لابن بسام. وكتاب
الإحاطة في أخبار غرناطة للشاعر والمؤرخ
والطبيب والخطيب والوزير المقتول غدراً
لسان الدين بن الخطيب، ونفح الطيب من غصن
الأندلس الرطيب للمقريِّ هذا الكتاب
الموسوعي الشامل في مجلداته الخمسة والتي
يمثل عرضاً بانورامياً لحياة أجدادنا عرب
الأندلس.
وكانت قراءة الشعر مستدامة. والشعر هو
المتنفس الروحي وهو المتعة وهو اللذة بكل
ما تعنيه كلمة اللذة من تنوع بما فيها من
اللذة السامية التي تحدث عنها أدغار ألن
بو.
فلم يغب عنه شاعر عربي واحد من طلائع
الأوابد الجاهلية التي وصلت إلينا وإلى
تاريخ هذا اليوم. إضافة إلى القراءات
الشعرية الأخرى التي تشمل جانباً عريضاً
من شعر شعراء الدنيا.
في تلك المرحلة مرحلة الستينيات. بدأ نشر
نتاجه الشعري في الآداب اللبنانية وفي بعض
الصحف السورية. وخاصة في مجلة المعرفة التي
بدأت تصدر عام 1961 بدمشق. وبدأت علاقاته
تترسخ مع صحف الكويت منذ سنوات الستينيات.
عاد إلى الشام عام 1965 وتزوج.
بدأ بهدم بيته القديم ورسم مخططاً من دون
معاونة أي مهندس. وأمضى سنتين في بيروت
كانتا غنيتين بترسيخ علاقات هامة في الوسط
الأدبي. وانصرف إلى التحصيل العلمي المنظم.
إلى ما قبل مرحلة الدكتوراه.
وكان خلال وجوده في الكويت اتفق مع أحد
زملاء المهنة من اللبنانيين أن يؤمن هذا
لـه عملاً براتب جيد في مصنع للأثاث
والديكور في منطقة الأشرفية ببيروت. وهذا
ما كان فعلاً. وفي لبنان زار عشرات
المكتبات الضخمة وأصغى إلى محاضرات
المفكرين والعلماء العرب والأجانب. وقرأ
جانباً هاماً من الأدب العالمي فاطلع على
رواية بوريس باسترناك المخيفة: دكتور
جيفاكو والتي فازت بجائزة نوبل للآداب
وحرم باسترناك منها بتأثير القهر السياسي
الشيوعي الذي مورس عليه وهدده ليرفضها
ورفضها فعلاً. وعلى رواية ملفيل ذات
التفرد والخصوصية التي ربما تنفرد بخصائص
ما زالت يتيمة وهي رواية: موبي ديك. ورواية
سرفانتس دون كيشوت التي تهزأ من البطولات
الجوفاء ومن المنطق البشري والتي رآها
الإرهاص الطبيعي لمسرح العبث الذي جاء

بعدها بمئات السنين.
ومن أهم الآثار الروائية التي عاش معها
رواية: الدون الهادئ بمجلداتها الأربعة.
لميخائيل شولوخوف والتي تقدم لقارئها
صورة روسيا بنفس الزخم الذي قدمته روايات
نجيب محفوظ عن مصر. وفازت هذه الرواية
الهائلة بجائزة نوبل عام 1965 في نفس الفترة
التي قرأها خلالها.
وعُني بالروائيين الروس وهم المبدعون
العظام الذين نبغوا بين القرن التاسع عشر
وأوائل العشرين. وليست مصادفة أن يعيش
تولستوي، وتورجينييف وبوريس باسترناك،
وتشيخوف، ودوستويفسكي، وشاعر روسيا
الأعظم بوشكين في قرن واحد، لتخمد الرواية
الروسية ويحل محلها الأدب الدعائي
والإعلامي وكأن هؤلاء الروس الكبار هبطوا
على الكوكب متفردين ورحلوا ولا ينسى
البرادعي غوغول الذي عاش مدى نصف القرن
التاسع عشر والذي يقول عنه النقاد الروس
والأوربيون أنه الأب الشرعي لحركة أدبية
هائلة كان من عطاءاتها الروايات الرائعة
والخالدة لكل من تولوستوي ودوستويفسكي
وتورجينيف.
لكن العوز المادي. ومتطلبات العيش وبناء
البيت وهموماً أخرى دفعته للعودة إلى
يبرود. وما لبث أن استقر به المقام في
الكويت للمرة الثانية.
كان هذا الرحيل في أوائل عام 1967. ليشتري
الكتب بشراهة كالجائع الذي أبصر مائدة
عليها من أطايب الطعام. فاقتني كتباً كانت
في ذاكرته، وكتباً قرأ عنها وكتباً منقولة
عن الروسية والإنكليزية والفرنسية
والألمانية. وبدأت إطلالة جادة على الأدب
الإفريقي وأدب أمريكا اللاتينية. وشعر
بكثير من التعاطف مع هذين الأدبين من شعر
ورواية ومسرح. وخاصة القصة القصيرة من
خلال قصاصي إفريقية بشقيها الإنكليزي
والفرنسي وقصاصي أمريكا اللاتينية
بجانبيها كذلك الأسباني والبرتغالي.
وألهمته نكسة حزيران المدمرة والمؤلمة
الكثير. أجل! تدفقت عليه القصائد الباكية
الدامية وانثالت عليه القوافي كما يقول
قدماؤنا الخالدون فقدم ديوانه الأول:
بدءاً من حزيران، كتب مقدمة لـه الدكتور
شاكر مصطفى يرحمه الله. وقدم ديوان: صور
على حائط المنفي الذي رآه فيلسوف الفكر
المعاصر زكي نجيب محمود أحد المفاصل
الإبداعية التي تجاوزت حيرة الحائرين بين
القديم والحديث. وقبل هذا وذاك قام بزيارة
إلى العلاّمة أحمد زكي مؤسس مجلة العربي
ورئيس تحريرها وقدم إليه إحدى قصائده التي
نشرها بعناية وكتب تحتها: صاحب هذه القصيدة
نجار وقد زارنا وحمدنا به صنعة اليد وعمل
الفكر.
وكان الشاب على تواصل مع الصحافة السورية
والصحافة اللبنانية، والتقى الشاعر علي
الجندي عام 1969 في زيارة لـه إلى سورية.
وكان أحد المشجعين الذي رأوا في شعره
إشراقة خاصة وبساطة محببة. وكان الأستاذ
الجندي يأخذ قصائده وينشرها في الصفحة
الأدبية في جريدة البعث. وكان مسؤولاً
عنها. وكانت مجلة المعرفة التي تسلم
الأستاذ أديب اللجمي رئاسة تحريرها تنشر
لـه قصائد بين الحين والحين.
وفي تلك الزيارة أخبره علي الجندي بفكرة
تأسيس دار أو مؤسسة تضم الطاقات الإبداعية
في سورية وبعد أسابيع كان إلى جانب النخبة
الذين أسسوا هذا التجمع وأسموه: اتحاد
الكتاب العرب.
كان صدقي إسماعيل يرحمه الله. وسليمان
الخش يرحمه الله. وسليمان العيس. وعلي
الجندي. وأنطون المقدسي. وأدونيس. وشوق
بغدادي. وجلال فاروق الشريف يرحمه الله.
ونخبة من آخرين وكان مع هؤلاء الأوائل.
وطُلب إليه أن يكون رسولاً لهذا الاتحاد
في الخليج العربي يشرح أهدافه القومية
والإنسانية النبيلة. وأعلنت صفة الاتحاد
الرسمية عام 1970. وصدر العدد الأول من مجلة
الموقف الأدبي عام 1971 وكان البرادعي من
الكتاب والشعراء الذين أسهموا في الكتابة
عليها منذ أعدادها الأولى.
وساهم البرادعي في تأسيس أكثر من صحيفة من
أهمها القبس التي تأسست في أوائل
السبعينيات وكان واحداً من مؤسسيها حيث
أسند إليه ركنها الثقافي وشارك فيها منذ
العدد الأول.
وتسلم أمانة تحرير عدد من المجلات
الأسبوعية في الخليج.
صدرت سلسلة عام المسرح في الكويت أول مرة
عام 1969 وتتالى صدورها شهرياً لتقدم
أنماطاً من المسرح العالمي كان رديفاً
غنياً لثقافته المسرحية التي كان ينميها
من خلال ما يصدر للمسرح وعن المسرح في مصر
ولبنان وسورية وكانت تجربته الأولى في
مجال المسرح بجانبيه النثري والشعري عام
1973 بعد نصيحة أسداها إليه فيلسوف الفكر
المعاصر الدكتور زكي نجيب محمود يوم لفت
نظره إلى وجود أو حضور المشهدية المسرحية
في قصائده. وأفهمه أن قصائده الطويلة تشكل
وقفات متقدمة على طريق المسرح. وكتب فعلاً

مسرحية (دمر عاشقاً) الشعرية التي تحولت
إلى عدد من الأطروحات الجامعية إضافة إلى
النقد والتعليقات التي واكبتها حتى إن
المعنيين بالمسرح قالوا إن: دمر عاشقاً
مسرحية عربية يتساوى في نسيجها الشعر
والدراما. أتبعها بمسرحية نثرية اسمها
(الوحش) تعالج الوجود الصهيوني في الأرض
العربية بدون أي نزعة تعليمية أو تقريرية.
حتى قال عنها المرحوم حسيب كيالي الكاتب
الساخر الذي يضحك على معظم الأدباء العرب
قال عنها: إنها الدخول المنطقي المشروع
إلى مسرح عربي جاد. ومن يقرأ مقالة حسيب
كيالي يدرك أن حسيباً يكتب دراسة جادة أول
مرة ويتخلى عن السخرية والتهكم والضحك على
شعراء وكتاب عصره.
لكن فترة الراحة النفسية والمادية التي
حققتها لـه الكويت لم تطل. ولعل قدره يريد
دائماً أن يعيش القهر والمعاناة. فصدر
قرار إبعاده سياسياً عن الكويت عام 1976.
وبين هذا التاريخ وتاريخ بدء الوفرة
المادية التي تحققت لـه بدخل مقبول مكنته
من خلاله تعليم أولاده في مدرسة خاصة
وشراء الكتب التي تشهّى اقتناءها كان أقل
من أربع سنوات.
أما الاتهام الأول فهو أن خالد البرادعي
ليس هو خالد محيي الدين البرادعي. وأنه
تستر بهذا الاسم بحرفة النجارة ليهرب من
اسمه الأصلي الذي هو الدكتور مصطفى عبد
القادر البغدادي. وأنه خريج جامعة دمشق في
الستينيات وينتمي إلى تنظيم سياسي محظور
آخر هذه التلفيقة العجيبة التي تم
اختراعها. والاتهامات الأخرى التي ترتب
على الاتهام الأول. وكان المحقق وهو عقيد
في مخابرات أمن الدولة يسأل بحماسة: كيف
تقول إنك نجار وأنت تُدعي باستمرار من قبل
كبار المسؤولين في الجزائر، وتونس،
وليبيا، والعراق. وأي نجار هذا؟
وتم ترحليه مع أسرته إلى سورية وعن طريق
العراق براً. وقد غادر الكويت كما دخلها
أول مرة بملابسه. وحذائه وجواز سفره. وعند
وصوله إلى مركز (أبو الشامات) على الحدود
العراقية السورية طلب إليه أن يصل إلى
دمشق موجوداً حَيّاً أي معتقلاً.
وانتابته موجة من الضحك الهستيري كانت
فيما بعد مفتاحاً لإبداع قصيدته الطويلة:
عبد الله يضحك والتي انضمت في ديوان: عبد
الله والعالم الحائز على جائزة البابطين
كأفضل ديوان شعر عربي. ويسأله مسؤول أمني
في مركز الحدود ما الذي يضحكك؟ قال جهلي
بنفسي ولم أكن أعلم أني إنسان عظيم، عظيم
إلى درجة أن دولة تطردني من أرضها لأني خطر
على أمنها القومي لتستقبلني دولتي سجيناً.
فكم أنا عظيم؟
ووصل إلى دمشق وإلى فرع الأمن الخارجي.
وعند استقباله من قبل محقق وعرفه من خلال
أسئلته أنه من حملة الحقوق. قبل أي سؤال
قال اسمعني يا سيدي لأروي لك حكاية طريفة
قد تساعدك على معرفتي أكثر. عندما وصل جمال
الدين الأفغاني إلى استنبول بدعوة من
السلطان عبد الحميد. شاهد على أرض الميناء
عَدداً من العربات الجميلة المزينة التي
تجرها الخيول فسأل: لمن هذه العربات؟
قالوا: هي لاستقبالك وحمل أمتعتك إلى حيث
إقامتك. ضحك جمال الدين وقال: لكن ليس لدي
أي أمتعة. قالوا: ملابسك. قال: هي على جسدي.
قالوا: وكتبك. قال: هي في صدري. قالوا أليس
معك أي شيء آخر؟ قال: بلى هذه المسبحة
وعلبة التبغ.
وأنا الآن أشبه بالأفغاني الذي زار
السلطان عبد الحميد. لا أحمل من الأمتعة
إلا جواز سفري وبعض الدنانير الكويتية.
وبعد هذا أخضع لمحاكمة؟.
ومن خلال الأسئلة أدرك البرادعي أن الملف
الخاص به والحافل بالاتهامات العجيبة قد
سبقه إلى فرع الأمن الخارجي في دمشق. وبعد
عدد من جلسات التحقيق قال للمحقق: اسمعني
يا رجل. وأرجو أن تحقق معي من خلال ثلاثة
اتهامات هي التي تحولت إلى شغلي الشاغل
وهواجسي وقلقي. أولاً: البحث عن وحدة الأمة
العربية في ليل الشتات والتمزق والتشرذم
الإقليمي الذي تعيشه فصائل شعبنا بين
المحيط والخليج. ثانياً: مواجهة النجس
الصهيوني في فلسطين وقتال هذه الآفة التي
تتمدد على أرضنا منذ سبع وعشرين سنة.
ثالثاً: ترجمة مواجع قومي وترجمة ذاتي من
خلال هذه المواجع. ويعلم الله أني لا أفكر
ولا أكتب شعراً ولا نثراً خارج هذا
الثالوث. فإذا كنتم ترون في هذه المسائل أو
المشاغل أو القضايا الثلاث خيانة أو
عصياناً أو كفراً فسوقوني إلى حبل
المشنقة.
وكان من نتاج تلك الفترة القصيرة المؤلمة
مسرحيتان معاً هما: الشيخ بهلول في سوق
الخياطين. والشيخ بهلول في المسرح.
ونشرتهما الدار الجماهيرية في ليبيا. وبعد
سنتين بالتحديد في سنة 1993 واحتفالاً
باليوم العالمي للمسرح قدمتهما فرقة نادي
خشبة الحي بمراكش بإدارة مسرح محمد
الخامس. تحت عنوان: رحلة الشيخ بهلول نحو
العالم المجهول. وجاء في جريدة الميثاق

المغربية تعريف بهذه المسرحية يقول: (إنها
حكاية الشيخ بهلول التي كانت ولا زالت. بل
وتطورت مع توالي الأنظمة وتعاقبها. حكاية
جديدة قديمة تمس الوجود الإنساني
واختياراته اليومية والمصيرية في ظل
مجتمعات سياسية تصادر الحلم تحت شعار: لا
تجهد نفسك في حلم ضائع إننا نفكر عنك ونحلم
لك، ورأى النقاد المغاربة في مسرحية الشيخ
بهلول، عقب عرضها على المنصة، عملاً فنياً
متقدماً جداً ذا أبعاد فكرية وأيديولوجية
تطرح القضايا الإنسانية من زاوية تشريح
الواقع وتعريته. وتفتح أمام المتلقي أفق
التأمل والتخيل، تأمل حالتيه السياسية
والوجودية عبر سيرورته التاريخية. وتخيل
آفاقه الممتدة في الزمن الآتي.
كانت الحرب الأهلية في لبنان تنشر روائح
القتل والقنص والبارود والحقد. وكان
الشاعر البرادعي يعيش مواجع اللبنانيين
بحكم إحساسه القومي وتمدد حلمه العريض حول
وحدة الأمة. ومن نتاج ذلك الإحساس وتلك
المعايشة الموجعة كتب مسرحية: الطريق إلى
العصر الحجري. وهي من النوع التراجيكوميدي
فيها المضحك المبكي في نص واحد ذي وجهين.
عالج فيها وجود عدو وهمي أو وهم يتحوّل إلى
عدو. ووجوده يحول أهل المدينة إلى مسلحين
يقتل بعضهم بعضاً. حيث لا يبقى من سكان
المدينة إلا فتاة وطفل وشاب واحد. كرمز
وإشارة لاستئناف الحياة من بداية البراءة.
كيف استؤنفت حياته المعيشية في تلك
الظروف وهو في درجة الصفر؟
كان في إحدى زياراته لسورية بفترة الوفرة
المادية قد اشترى آلات نجارة وهي حسب
مصطلحات المهنة: فريزة. ومنشار. ومجموعة
ذات ثلاث وظائف. وبعد ترحيله وعودته إلى
يبرود هيأ القسم الأدنى من الدار (القبو)
وأثبت فيه الآلات واستأنف العمل بحرفة
النجارة بنشاط وسهر وجدية. وقدم نماذج
جيدة ومتقنة. من إبداعه الأثاث واشتهرت
أعماله بـ موبيليا الشاعر حتى نسي الناس
اسمه.
في تلك الفترة كتب مسرحية: أبو حيان
التوحيدي.
ومن خلال أسفاره إلى لبنان والكويت.
وفترات مكوثه في سورية أحسّ أن معاناته في
كتاباته وفي تدبير شؤون معيشته. أجزاء من
حياة التوحيدي: العذاب. الاتهام. البحث عن
الرزق. تنكر الأصحاب. إلى آخر ما عاناه أبو
حيان. في عمره الذي قارب القرن.
فالتوحيدي لم يعد كاتباً ولا معذَّباً
ولا مفكراً بقدر ما حوله في المسرحية إلى
حالة وموقف وجزء من تاريخ الثقافة التي
تقتل أصحابها. وجزء من العصر أي عصر يغتال
مفكريه ثم يبعثون في عصور لاحقة. فلا الزمن
يعود إلى الوراء ولا هم يبعثون من جديد
لينالوا حظهم من العيش.
تجاوز البرادعي كل حالات التثبيط
والإحباط ومحاولات التعتيم والإطفاء التي
لاحقته وأحاطت به لخروجه عن مفهوم الشلل
والحلقات الحزبية الضيقة وانسيابه في
هموم وطنه ومواجع قومه. وتتالت عطاءاته
لتصل أعماله إلى بضعة وخمسين كتاباً
شعراً، ومسرحاً شعرياً، ونقداً وغوصاً في
تراث أمته ليؤلف نتاجه جزءاً من تراث
أمته، ونشرت كتبه بين المشرق والمغرب.
وصمد أمام الهزات الكبار. ليظل واحداً من
كبار المبدعين الذين تفخر بهم العروبة.
* * *
وهكذا تنبت الأشجار الباسقة في البقعة
القفرة اليهماء على الرغم من تقلب الصروف
وتجهم الأجواء.
شهادة الأستاذ حسن حميد
أعرف وتعرفون أن كثيرين ممن يعملون في
مجال الأدب والثقافة لا يحبون الإقطاع،
يولدون لديهم حساسية خاصة غير طيبة تجاه
الإقطاع وحيازاته، ولأن خالد محيي الدين
البرادعي إقطاعي لـه العديد من قرى الشعر
فهم يكرهونه أيضاً، وقد أدركوا عياناً أنه
رجل أشبه بالغابات التي تكاثر من حضورها
يوماً بعد يوم، أو هو أشبه بالقطار الذي
يمرّ بالآخرين وهم غرقى في غفلاتهم، فلا
همهماتهم ولا صريخهم يوقفُه أو يحدُّ من
اندفاعاته.
خالد محيي الدين البرادعي أديبٌ وشاعر،
لو أبصرته العين الرائيةُ طفلاً لقالت إنه
لن يعيش وسط مناخٍ ثلجي بردُه يبري العظام،
ووسط مُناخٍ آخر مملوءٍ بالفقر حتى ياقته،
جالَ في الطرقات ودروب الوعر حافياً،
واقتات الشوكُ ثوبَه الوحيد، وقسّت
الحجارةُ والصخورُ يديه قبل الأوان، دار
بطفولته في فضاءٍ من اللامبالاة وعدم
الاهتمام، فلا الأسرةُ تدري على أيّ حضور
سيحوز، ولا المجتمع يعي أيَّ الأجراس
النبيلة ستُقرع لـه إعجاباً ورضاً. كائنٌ
واحدٌ انتبه إليه ففوّر عزيمته وقوّاها،
وثبّت خطوتُه وحظوتُه بين الكتّاب كواحدٍ
من سادات القلم وأهلِه، ذلك الكائنُ هو
القلب. لقد تلفّتَ القلبُ نحو الطفل،
فأخذه إلى الطبيعة ليعود منها بالرهافة
والألوان، وماشاه في الدروب الصعبةِ بين
كتل الصخر ليحوك من صبره وظروفه وتوجعّاته

درعاً تحميه من ماديّة المدينة، ومن
ربوبيّتها المتعاظمة في النفاق الباهت،
والتجاهل المطلق، والأذى العميم. لقد جاء
إلى المدينة مستجيباً لنداء القراطيس،
والوراقة، والمطابع، والصحف،
والمهرجانات؛ جاء إلى حيث هم الكتّاب
والإعلاميون والنقاد؛ جاء وحيداً لا رفيق
لـه سوى موهبته.
شاعرٌ يكرُّ على المدينة لا نبالَ في
جعبته ولا رسائل تؤيُّدُه عند الولاة، لا
سيف يماشيه، ولا بيرق يظّلل هامته، ولا
فرس تجري به سوى فرس الشعر.
شاعرٌ يكرُّ على المدينة بنصوصه الكاشفة
للنصوص المطفأة والكلام الضرير، محتسباً
أن يمنحُه أهلُ الكلامِ مربعَه الإبداعيَ
الجديرَ به، أو أن يمنحوه دائرة َالضوء
التي اختصّه بها الشعر الأصيل، ومتحسباً
أيضاً أن ينال الحظوة والاعتبار اللائقين
به في مرايا العرافين بجوهر الكلام، لكن
التحسّب يظلُّ تحسّباً في يفاعته الأولى،
فالمدينة ساحرة شريرة تمنح مراياها
للعلَق توهماً بأنه أحلى من عرائس البحر
وأجمل، وهي ندّاهةٌ مُغوية تفتح الأبواب
والساحات لكائنات متحدّرة من سلالات
العتمة ليس إلاّ، مدينةٌ وزّعت الناس إلى
طوائف ومذاهب ومناطق وتيارات، فمنحت
خاتَمها الذهبي لمن قدّم لها الولاء
انحناءً ورخصاً وتهافتاً. وبسبب يفاعته
وبريّته حارَ الشاعرُ في أمر المدينة
وناسها، إذْ لم يرَ لـه صورةً في مراياها،
وذلك لأنه لم يتفطن إلى أن مراياها مُلئت
بصور الموالين للتياراتِ الوافدةِ،
والمذاهبِ الخادعة، وقد أدركَ بفطرته أن
المرايا عابسة لا نوافذ لها أو دروب، لذلك
عاد إلى قصيدته ليرى نفسَه فيها وقد
تشقّقت روحُه من هذا الصدود؛ قصيدتُه هي
التي ستوجد دربّه، وتشدُّ أزرَه ليغدو
كائناً عارفاً بالأسرار النائيات.
ومن عجب أن الأذيّات راحت تحفُّ بالشاعر
وتلتفُّ حوله وتترصد كلما تكاثر حضورُه،
وازداد ضوءه، وارتفعت قامتُه بين أقرانه..
فعادته مهرجاناتٌ وصحفٌ ومجلات، وقاومته
أحزابٌ وتيارات فكرية وشللٌ إبداعية
فأوقدت في روحه جمرةَ التخوفِ والقلق.
وجافته منابرٌ وأقلامٌ وكتب، فحبسَ
الغُصَّةَ في لهاته وطواها. وأُغلقت بوجهه
حدودٌ وترجماتٌ ودول ففتح شباكاً في قلبه
اسمه شباك الصبر. أذّياتٌ ومواقفٌ وحروبٌ
صغيرةٌ، وهجرٌ وتجاهلٌ أحاطت بالشعر مثل
السياج منذ بدوه شاعراً مشتقاً من صخور
بلدته يبرود وأشجارها، وعرائشِ عنبها،
ومواسمِ ثلجها الطويلة، ومع ذلك لم ينحنِ
أو يهادن، أو يذوب بفعل حامضية الأقوال
والهمس. كان طاحونة هائلة لطحن كلِّ ما
أغاظه، وكلٍِّ ما تقوّله الآخرون عليه. لم
يستند إلى حزبٍ سياسي يقيه رميات الآخرين،
أو يدفعه بقوة البخار الخرافية إلى الأمام
والظهور، ولم يماشِ تياراً فكرياً ذا
سطوةٍ طلباً للظلِّ ودنياهُ حرور، وإنما
ظلًّ أميناً لذائقته الشعرية، ورؤيته
التي لم يخالطها تشويشٌ أو ظلمة، يردّ على
الأذيات والأقوال والتقولات بالقراءة
والسهر قرب الحضارات القديمة. والحق أن من
يقرأ نصوص البرادعي يجد أن مكنتها
الأساسية ليست في صياغة الشعر وضوئه
الطالع من بين السطور وحسب، وإنما هما
فيما اختزنته تلك السطور من كتبٍ عتيقة
أتى عليها وهو الذي انتزعته ظروفُه
القاسية من دائرة القرّائين في المدارسِ،
ودائرة الباحثين عن شهادات التخويل،
ولعلّه يقرُّ أن الحياة بظروفها العبوس،
وصدور المتحزبين عنه.. هما معاً من كان
معلّمه الأول تماماً مثلما كانت بريّته
وحساسيّته معلمه الأول وبامتياز.
إن جاهليةَ الصوغِ والبلاغةِ، وروحانيةَ
التصوّفِ، ورقةَ الطبيعةِ، وخلابةَ
الألوان، وأجراسَ الموسيقا، وروعةَ
الخيال، وتعدّدَ الطيوفِ، ودوالَّ
المعنى، ووضوحَ الرؤيا، والثبتَ على
اليقين.. هي التي كوّنت مدونةَ الشعرِ عند
البرادعي فأوجدت أحيازها، وهذا الكثير لا
تختصُّ الحياةُ به سوى المخلّصين وحدَهم.
وقناعتي التي وقفتُ عندها دائماً هي أن
قراءةَ المبدِعِ قراءتان: أولى لحياته،
وثانية لإبداعه. إذْ لعلّ إحداهما تضيفُ
إلى الأخرى، أو تأخذ منها، أو لعلّ
إحداهما تطفئُ الأخرى وتميتُها، لكن
قراءة شاعرِنا حياةً وإبداعاً تكشف لنا
أسباب حيرتنا الضافية. فالمدارس لم
تخرّجهُ فيها شاعراً، وهو لم يعرف عتبات
المريدين في الوصول إلى المنابر،
وخؤولتُه وعمومتُه وطبقتُه الاجتماعية ما
كان لها يدٌ في وصوله. فحياتُه كانت أشبه
بمرمدة من المخاوف وقلةِ الحيلة،
وأوقاتُه كانت منهوبةً من أجل حيازة الرزق
ورضا الوالدين، ومع ذلك عاونتهُ الحياةُ
الموجعة على القصيدة، ثمّ عاونتهُ
القصيدةُ على الحياة، تماماً مثلما هي
الأنهار تُنبتُ أشجارَها على الضفتين
لتُوجد فضاءاتِها، ولترسم حدودَها.

فالبرادعي اليوم صوغُ قصيدته، إنه
أبياتها، وأقواسها، وقناطرها، هو ملعبها،
ومنبرها، وقولاتها التي لا تعرف لمحبة
الأوطان والمبادئ شريكاً. هاهو الشاعر
القصيدة بيننا الآن، كائنٌ بريٌّ يجمعنا
به مساءٌ بليل بالمودات الصافية.
شهادة الدكتور خليل الموسى د. خالد محيي
الدين البرادعي شاعراً
ليسَ غريباً أن يقفَ الشاعرُ أمامَ عريِ
القصيدة وأعراسِها المتأجّجة، ويلتقطَ
بمرايا القوافي تجليّاتِ الجمال ولحظاتِ
الكشفِ وهَدْهَدَاتِ الروح، فالشاعرُ
كالنحلة الدؤوب، هي تبحثُ عن الأزاهير
لتصنعَ الشَّهْدَ، وهو يبحثُ عن الجمال
ليصنعَ القصيدة.
الشَّاعرُ الحقيقيُّ عاشقٌ غجريٌّ لا
يعرف الاستقرارَ ولا الراحةِ ولا
الاطمئنانَ، هو، كالمتنبي أو كرامبو،
مسكونٌ بالقلق والتوتّر والتحوّلات، هو
عاشقُ جسدٍ، وعاشقُ روحٍ، وعاشقُ لغةٍ،
وعاشقُ سفر.. لا يُقيم في المكان طويلاً،
ولا يُقيم في قصيدةٍ واحدة، فهو على موعدٍ
متجدِّدٍ.. يعشقُ سريعاً، فتقودُهُ
عاطفتُهُ، ويسوقُهُ قلبُهُ، كبودلير الذي
أحبّ جان ديفال، وماتَ ولم يُشْفَ من
حبِّها، مع أنّها لم تكن جديرةً بذلك..
يعشقُ الشاعرُ سريعاً ويَمَلُّ سريعاً،
فيتنقَّلُ من حبٍّ إلى آخرَ ومن أنثى إلى
سواها، كالنحلةِ تنتقّلُ من زهرةٍ إلى
أخرى، وكعمر بنِ أبي ربيعةَ المخزوميِّ
الذي سجَّل رقماً قياسيَّاً في عدد
العذارى والنسوة اللواتي تغنَّى بهنّ،
وإنِ ادّعى قُبَيْلَ أن حضرتْهُ الوفاةُ
بأنَّهُ لم يرتكبْ فاحشةً قطُّ.. وهذه
الحجةُ مردودةٌ عليه لأن فُحْشَ القصيدة
أهمُّ من فُحشِ الواقع، هنا يجرِّبُ،
وهناك يفتعلُ ويكشفُ عن خبايا النفس
ودهاليز الغريزة، أَو قُلْ: إنّه شبيهٌ
بفارس الشدياق ورولان بارت اللذين
تَعَاطَيَا معَ اللغة، وكأنّهما
يتعاطيانِ مع الأنثى، ثمَّ لماذا لا نتذكر
بيغماليون الذي أسَّس لهذا المذهب حين
اتخذ من أنثاه غالاتيا المنحوتة الحجرية
زوجاً له.
والشاعرُ غيرُ وفيٍّ حتى لنفسه، فهو لا
يُقيم في القصيدة الواحدةِ طويلاً، وهو لا
يتعبَّدُ في محرابٍ واحد وإن ادّعى ذلك،
وهو إذا استقرَّ في مكانٍ ما انتهى أن يكون
شاعراً على رأيِ الأغلبيةِ من الشعراء.
خالد محيي الدين البرادعي شاعرٌ من هذا
الوطن.. شاعرٌ أحبَّ العربية كما أحبَّها
الشدياق، فأدنتْهُ منها، وسقتْه من
رحيقها، ومنحتْهُ كنوزَها، فصاغ منها
قلائدَ وجواهرَ.. قصائدَ مُطَهّمَةً..
كالدّررِ طويلةً.. كرحلات السندبادِ
البحري.. مقسَّمةً إلى أناشيدَ غنائيةٍ أو
فصولٍ مسرحيةٍ.. هو شاعرٌ يُقْرأُ
ويُحَبُّ.. أُحِبُّ فيهِ ما يُحَبّ.. وما
يُحَبُّ فيه كثيرٌ.. مبدعٌ يتألَّقُ يوماً
بعد يومٍ في زمنٍ جفَّتْ فيه ينابيعُ
الإبداع.. صادقَ القلمَ وارتبطَ بالشعر،
فمالتْ إليهِ ربَّاتُ الشّعر بغصُونها
وفُتُونها.. لَوَّعَ وتنقَّلَ بين الأجناس
الشعرية غنائيةً وموضوعيَّةً.. سافرَ مع
الأعمال الطويلة إلى المرافئ المجهولةِ
ليكتشفَ أسرارَ اللغة وعَبَقَ المحيطات..
نظمَ القصيدة الغنائيةَ والمسرحيةَ
الشعرية والملحمة، وكأنّه يسعى إلى
اختصار الشِّعرِ في الشاعر، فضلاً عمّا
قدمه للمكتبة العربية من دراساتٍ نقدية
جادّة في الشعر والمسرح.. غزيرُ الإنتاج..
لـه حوالي خمسين عملاً.. أدركتْهُ حرفةُ
الأدب وابتعدتْ عنه شيخوختُهُ التي
حلَّتْ في سواهُ ومجايليه.. وهذا ما
يُحَبُّ فيه.. صعودٌ مستمرٌّ.. صادقٌ..
يعملُ منذُ زمنٍ بعيدٍ دونَ ضجَّةٍ أو
ضجيج.. لا يبني مجداً على أمجادٍ ذاتية
سابقةٍ وإنْ كان الرجلُ يبني على أمجادِ
الأمَّةِ مجداً أدبيّاً جديداً..
عِصَاميٌّ يتجرَّأُ على الكلمة ويعشَقُها
وينحتُها كأنَّه بيغماليون يتعبَّدُ في
محرابِ غالاتيا.. عصاميٌّ جسورٌ.. عنيد..
خرجَ إلى الطبيعة عارياً واستطاعَ أن
يُرَوِّضَها.. كيفَ لا أحبُّهُ ونحن
متشابهان..!؟
شاعرٌ غنّى للقضايا الكبيرة كما لم
يُغَنِّ شاعرٌ عربيٌّ معاصر.. هو مسكونٌ
بالأمل.. يتلاعبُ معَ الواقع ويلعبُ
مَعَهُ، فكلّما أفْسَدَ عليه الواقعُ
حُلْماً أو ضيَّقَ عليه فُسْحَةً من الأمل
بإغلاق نافذةٍ استطاعَ أن يَفْتَتِحَ
كُوَّةً ليُطِلَّ منها إلى الشَّمْس..
غنّى للوحدة العربية في زمنٍ شبيهٍ بزمن
المتنبي سيطرت فيه الأعاجمُ.. طافَ مع سيف
بن ذي يزن في مسرحيته الشعرية داعياً لجمع
أشتات العرب وتحقيقِ الوحدة المنشودة..
وآمَنَ بأنَّ الفكر يصنعُ المعجزات، وهو
يُدْرِكُ تماماً أنّ عبوديَّةَ الشعوب
مرتهنةٌ بألوهية العروش منذُ عصور
الفراعنة.. لكنَّه أبى كسيزيف إلاَّ أن

يحملَ صخرتَهُ أو صليبَهُ إلى حيثُ
الجُلْجُلَةُ وأَن يُعرِّيَ السلطةَ
القائمةَ على عروشها، وفَضَحَ صِلاتِها
في مسرحيته الشعرية "العرش والعذراء".
حاولَ الشاعرُ جاهداً أن يَرفَعَ
المداميكَ.. أن يُقيمَ الأواصرَ، وهو
يعرفُ أنَّ القدرَ يسخَرُ ممّا يقومُ به،
ويتلاعبُ به ويلهو بصخرته العمياء..
لكنَّه كالمارد الجبارِ يستلُّ من جسدِ
التاريخ المجيد موقفاً مشرقاً يذكّرُ به
أبناءَ قومه بالمصابيح التي تَفْتَضُّ
ستورَ الظلماتِ.. وأيُّ بطلٍ أعظمَ من بطل
ميسلونَ يُدركُ جسامة الموقف، ويُقْدِمُ
كآخيلَ يردُّ إلى البلادِ شرفَ البلاد..
وكأنّه منذروٌ للموتِ والأعمالِ الخارقة:
الأعداءُ على بوّاباتِ البلاد، وقد زحفوا
بجيوشٍ جرّارة خرجتْ منتصرةً من حربٍ
عالمية، والبلادُ في انقسامٍ في الرأي
وتشتّتٍ في القوى، وضعفٍ بالغٍ في العدد
والعَتَاد.. هذا هو القدرُ إزاءَ هذه
البطولة التي أبى صاحبُها بكلِّ أَنَفَةٍ
وتَحَدٍّ أن يُدّوِّنَ التاريخُ ما لا
ترضاهُ الرجال، فقدَّمَ نَفْسَهُ كبشاً
للفداء.. ومضى مرفوعَ الرأسِ ليرويَ بدمه
أرضَ الوطن:
عَبَقَ الوادي
بما ينشُرُهُ المِسْكُ
إذا ما مازَجَ المِسْكَ فَتِيتُ
النِّدِّ والكافورِ مجبولاً بماءِ
الزَّعْفَرَانْ
وَبَخُورٌ جُدِّلَتْ أَنْسَامُهُ
مَيَّاسَةً في غَيَدِ الحُورِ الحِسَانْ
طَافَ مثلَ الكائِنِ الحيِّ على يوسُفَ
مَطٍْلِيّاً بِلَوْنِ الأُرْجُوَانْ
وعلى دائرةٍ من دَمِهِ السَّاخِنِ
لمَّا رُوِيَتْ ظامِئَةُ الوادي
بِلَمْحِ العَيْنِ،
شَقَّ التُّرْبَةَ الرَّيَّا نَبَاتٌ
وَعَلاَ يَمْلَؤُهُ ـ كالحُلْمِ ـ زَهْرٌ
فيهِ فَوْحُ اليَّاسَمِينْ
وحَدِيثُ الزَّيْزَفُونْ
وَلَهُ قامةٌ تُشبِهُ زَهْرَ
البَيْلَسَانْ..
أحَبَّ البرادعي شخصياتِ مسرحياته وعبّر
عنها، ورافقها في مراحلها المختلفة وفي
التحوّلاتِ التي طرأتْ عليها، كما رافقها
في ضَعْفِها وقُوَّتِها في هدوئها وغضبها
وفيما تُخفيهِ وتُضمرهُ أو تُقَرِّبُهُ
وتُظهرُهُ، فقد كانَ زمسكس في اللوحة
الأولى من مسرحية "الإمبراطور زمسكس"
وصوليَّاً داهية استطاع أن يتسلّلَ إلى
قلب سيّدته الشابة تيوفانو زوج
الإمبراطور نقفور وأن يتسلّلَ إلى
فراشِها ويستوليَ على قلبها، وكان
يتذلَّلُ إليها لتتخلص من سيِّدِهِ:
مثلما أقْنَعْتِ نقفورَ
بأنْ أبقى على قوَّاتِهِ
قائدَها الأعلى
وفي أفْيَاءِ قَصْرِهِ
جَرِّبي أن تُقْنعِيهِ بطلاقِكْ
حاوِرِيهِ بهدوءِ امرأةٍ ماتت بها الأنثى
فيَسْعَى لِفِراقِكْ
لكنّ لغتَهُ هذه الممدودة الهادئةَ
التوجيهيةَ تتحوّل إلى لغة حادّة صارمة
صريحة حين يصبح إمبراطوراً، فلما حاولتْ
زوجُه ماريا أن تعرف مكانتَها عنده طردها،
ولما هدّدْتُهُ بأن تفضح ما فعله مع راهب
القصر أتيكوس ثار ثورةً طاغية، وتغيّرت
لغتُه وفعلُه:
زمسكس : "يضربُ طبقاً نحاسيّاً بعنف. تدخلُ
فئةٌ من المسلحين. يصرخ"
تُقْتَلْ هذي المرأةُ في الحالْ
تُقْتَلْ هذهِ الجاسوسةُ في الحالْ
تُقْتَلْ قبلَ شروقِ الشّمس
ليعلمَ من يأتي
كيف يخاطبُ مولاهُ الإمبراطورْ
للبرادعي باعٌ في الشعر الغنائي العذب،
ومن ذلك عملُهُ الطويل "عبد الله والعالم"،
وعبدُ الله رجلٌ يسكنُهُ الخوفُ، وقد نام
طويلاً، وكأنّه واحد من أصحابِ أهل الكهف،
وهو ذاكرةٌ ورحّالةٌ في أنٍ معاً، وهو
حفيدٌ لجلجامش وسيزيف وأوليس والسندباد
البحري، وهو راءٍ وراوٍ ومعلِّمٌ يبحثُ عن
حبيبته من شواطئ الأطلسيّ إلى خليجِ
تهَامَة، وعبدُ الله هو الإنسانُ
العربيُّ المعاصرُ الذي حُكم عليه بأن
يكون في مواجهة العالم الذي يتلاعبُ
بمصيره، ولذلك كان هذا العملُ واحداً..
عملٌ غنائيُّ ودراميٌّ في آنٍ معاً، وليس
هذا بغريبٍ على شاعر كالبرادعي، فهو
شاعرُّ ومسرحيٌّ، ومسرحيٌّ وشاعرٌ معاً.
شهادة الشاعر د. نذير العظمة
ـ ماذا يمكن أن أضيف بعد هذه ؟ الاحتفالية
التي أسبغت على صديقنا خالد محيي الدين
البرادعي أحلى الحلل وأنا لست بعيداً عن
مثل هذه الاحتفالية ولكنني أريد أن أنصف
المحتفى به وأنصف نفسي فلن أتعرض إلى مجمل
أعماله التي تنوعت بغزارة وبالجودة
والتوليد. ولكنني سوف ألقي الضوء على
عملين من أعماله كنت قد حكمت بهما وحكمت

لهما، ولذلك أنا معجب بهذه الأعمال ولكنني
أتخذ موقف الناقد والمتفحص أكثر من دور
المعجب الذي حضر عباءة مسبقة ليسبغها على
المحتفى به.
العمل الأول ينوف على 1200 صفحة تعددية
النمط في الشعر الجاهلي وظلاله الطويلة..
في الواقع عندما حكمت بهذا العمل ونظرت
إلى حجم المجلدين (نفرت) قلت كيف يمكن
لباحث أن يكتب مثل هذين المجلدين
العرمرمين عن موضوع وحدة النمط وتعدده
ولكنني عندما بدأت بالقراءة بدأت
مستكشفاً وبدأت أتوغل بشيء من الإعجاب من
النتائج التي توصل إليها الباحث، ذلك لأنه
يعتمد على منهجية معرفية هي المنهجية
التعبيرية القريبة من منهجية عبد الله
الطيب السوداني وطه حسين.
تقرأ النص ثم تفرز من ذاتك، موقف الذات من
النص الموضوعي فيختلط الذات بالموضوع
والموضوع بالذات، وتخرج بنتيجة مهمة، هذا
هو المنهج الذي اتبعه خالد محيي الدين
البرادعي في قراءة النصوص القديمة. أنه لم
يكتشف وثيقة أو مخطوطة لكي يبني عليها
أحكامه الجديدة بل أنه قرأ النص القديم
فخرج بنتائج جديدة، وهذا فيه من الصعوبة
ما فيه، ولكنه يحاور الآثار التي كتبت حول
النص الجاهلي فيما ورد من كتب ومن نقد ومن
جمع واستكشف، يحاور بشيء من الدراية
والفهم والتعامل مع النص تعاملاً ذكياً
ماهراً، لكي يستكشف ملامحه ونبضه الأساسي.
لذلك البرادعي لا يقوم إبداعه البحثي من
استكشاف وثائق قديمة بل يتفاعل مع النصوص
ويفرد ما في نفسه حولها، وهذه الدراسة
المطولة أعتقد أنها وضعته من خلال منظوري
أنا في مصاف الباحثين الجامعيين.
وأعتقد أنها دراسة قدمت للجامعة لنيل لقب
الدكتواره على ما أعلم.
والبرادعي لا يأتي بالدرجة الأولى كباحث
أو كناقد وإنما يأتي كشاعر.. ولا يأتي
أيضاً كشاعر غنائي وإنما يأتي كشاعر
مسرحي. فهو شاعر أضاف في المسرح إضافات
جديدة تحفظ لـه لأن التراث الذي سبقه في
القصيدة الغنائية سواء على العمود أو على
الحرة كان قد أكنز وتكاثر وتكَّوم
تاريخياً مجيداً مهماً. لا يستطاع اختراقه
بسهولة لكنه استطاع أن يوازيه. بمعنى أنه
شاعر غنائي كتب في القصيدة الغنائية ليس
فيما دون معاصريه أو سابقيه وإنما
بمحاذاتهم، ولكنه لم يستطع أن يتجاوزهم
والتجاوز مسألة صعبة جداً في مسألة الشعر
الغنائي أو القصيدة المفردة.
أين أبدع خالد محيي الدين البرادعي.. حيث
أبدع في المسرحية، فالمسرحيات التي
ترونها على الشاشات هنا كثيرة. فغزارة
الإنتاج تحسب لـه مع الجودة، ليس هناك
غزارة من غير جودة، هناك غزارة وهناك جودة
وهناك أيضاً في موهبته وحدة النبض من ذاته
كمبدع وتعدد هذا النبض بأشكال متعددة؛
المسرحية، القصة، البحث، النقد، القصيدة
الغنائية، وقد حكمت أيضاً ببعض الأعمال
التي استفاد من التراث الفارسي عن ملحمة
الفردوسي أو حكاية (شهنامة) فيأخذ الحكاية
البسيطة المحدودة ويولد منها، لأنه كما
قلت شاعر مولد ويولد لك آفاقاً لا حصر لها
من حكاية بسيطة لكن إذا جئنا إلى بنيته
الدرامية نجد أنه يمزج ما بين الدراما
وبين الحكاية، فيلقح الحكاية بالدراما
والدراما بالحكاية والفرق معروف بين
الحكاية والدراما.
فالحكاية تقدم على السرد والدراما تقدم
على الإثارة وهو عندما يأخذ حكاية بسيطة
من الفردوسي يولد منها آفاقاً جديدة ويمزج
فيها الدرامي بالحكائي والحكائي بالدرامي
لكي يستوعب ذاته التي تتفاعل مع النص
تراثاً كان أم غير تراث..
ومن ذلك أيضاً ملحمته (ميسلون) وأعتقد
أنها الملحمة الوحيدة، لأن هذه الملحمة
تستدعي الوقوف منا كنقاد ودارسين للأدب
وأنا أتكلم كناقد ودارس وليس كمعجب أريد
أن أضفي على هذه الاحتفالية شيئاً من
النقد. ولا أن أعجب فحسب وإلا خرجنا من هذا
الاحتفال برطانة واحدة.
تتألف ملحمة ميسلون، ولاحظ اسم الملحمة
وميسلون حيث يجمع الفن مع التاريخ ويولد
منهما عملاً ملحمياً. يستوقفنا هذا لأن
تحديات الملحمة للشعر العربي بدأت مع
المستشرقين الذين انتقدوا الشعر العربي
بأنه شعر غنائي في مجمله ولا ينطوي على
الأجناس التي تنطوي عليها الأجناس
الكبيرة. فعل الأدب الروماني والإغريقي
والأدب الفارسي والآداب الشرق الأوسطية
(السورية القديمة والمصرية، سومري بابلي،
كنعاني، هذه كلها آداب اكتنزت مثيولوجيا،
نظام للآلهة، مجمع للآلهة واكتنزت أيضاً
لا من الوجود فحسب بل ما وراء الوجود.
فالمستشرقون أخذوا عن الشعر العربي بأنه
غنائي بحت لا ينطوي على الأجناس الملحمية
والمسرحية. لذلك نجد نزوع عند الأدباء
باتجاهين: إما عن طريق الترجمة كما فعل
سليمان البستاني ترجمة الإلياذة، أو عن
طريق الإبداع :؟ على هذه النظرة

الاستشراقية التي قالت بأن القصيدة
العربية غير قادرة على الأجناس إياها.
فإذا بنا نجد رفيقنا خالد محيي الدين
البرادعي قد كتب فيضاً من المسرحيات وكتب
أيضاً الملحمة وهي مهمة جداً .
والبرادعي استطاع في ملحمته "ميسلون" أن
يحقق نجاحاً ملحمياً لأنه في إحدى عشر
نشيداً سماها فصولاً وأنا أستزيد ذلك،
لأنه منذ هوميروس يستعملون النشيد عوضاً
عن الفصل.
على كل حال استطاع أن يجسم التاريخ
تجسيماً ملحمياً بمعنى أنه استرضى أن
يستدعي الشخصيات التاريخية بدءاً من يوسف
العظمة وميسلون وابنته "ليلى" وأمام
الجامع الأموي ورئيس الجمهورية واستدعى
أيضاً روح شهداء 16 أيار ومفاخر حطين..
بمعنى أنه ولد من التاريخ آفاق ملحمية
واستطاع أن يعطينا بنية ملحمية تطعم
الحكائي بالدرامي والدرامي بالحكائي وكان
من الممكن أن يستحضر شخصيات من 16 أيار ويضم
بينها وبين يوسف العظمة الحوار حول المصير
والموت والحياة. لكنه اكتفى به السرد
والحكاية.. وربما أسلوبه الرشيق وطريقته
في التعامل مع اللغة المولدة الشعرية
استفاد منها أن يغطي على نفسه هذا الجانب
الملحمي.
لكن عندما ننتهي من قراءة هذه الملحمة
نخرج بالإعجاب لأنه استطاع أن يجعل منه
التاريخ ملحمة واستطاع أن يجعل من الملحمة
شيئاً تنطوي على غايات قومية وتاريخية. أي
أنه جمع بين الفن والتاريخ.
وهي الوحيدة لأن الذين تغنوا بميسلون
قبله، تغنوا بها غنائاً شعرياً على نظام
القصيدة العربية بدءاً من شفيق جبري وخير
الدين الزركلي والشعراء المهجريين كلهم
أخذوا نظام القصيدة ذا البعد الواحد
وتحدثوا عنها من خلال ذواتهم..
شهادة الأستاذ نزيه الشوفي الشاعر خالد
محيي الدين البرادعي... مسكون بالأمل وأحد
الفراهيديين المعاصرين..
بعد خمسة وثلاثين ديوان شعر ومسرحية
شعرية، جاء ديوانه (أوراق) جامعاً لقصائد
كتبها الشاعر خالد محيي الدين البرادعي
خلال عشرين سنة، وفيها تلمس أن هذا الشاعر
مسكون بالشعر واسطة أو متنفساً عما تختزنه
روحه من أحلام وأوجاع وآمال في آن معاً..
وأن كل كتاباته، سواء كانت شعراً أو
مسرحاً أو دراسة ونقداً، تحمل هذا الهم
بصورة ضافية مما يجعل القارئ لأدب
البرادعي يصنفه في باب الهموم وفصول الحب
والوطن..
* وبدأ الشاعر البرادعي مسيرته الشعرية
أواخر الخمسينيات متكئاً على بحور الشعر
دون أن تُغريه البهرجة الوافدة، فاطمأن
إلى بنية القصيدة العربية وطامن نفسه إلى
هذا الحامل لأفكاره ورسالته الإنسانية
والأدبية، إلى الناس..
* وقد صاغ الشاعر البرادعي صورة طبقاً لما
يتوافق مع تعرجات الحياة منذ تقاطر
المصائب على الأمة والنكبات، من عام 1948
مروراً بنكسة حزيران، والاجتياحات التي
جرت على عواصم هذه الأمة من بيروت إلى
بغداد.. ولنقرأ معه هذه القطعة من قصيدة
بغداد:
أَمْضَيْتُ عَصْرَ الضَّنَى هَمَّاً
ومُرْتَقَبا
وكانَ وجهُكِ أَمْسِ الْكَأْسَ
وَالْحَبَبَا
لا السِّرُّ كاتِمَةُ الأَسرارِ
تَكْتُمُهُ
ولا الْمَلامِحُ تُخفي دونَكِ النَّسَبا
…...
في النَّومِ قائِمَةً
في الصَّحْوِ صاخِبَةً
واسْتَغْرَقْتَنيَ حتى احْتَلَّتِ
الْعَصَبا
........
ما سِرُّ هذا الْهَوَى بَغْدادُ؟
يَسْألُني
مَنْ لَم يُكَحِّلُ بِمَرآى وَجْهِكِ
الهُدُبا
...........
مِلْءَ الْبَصائِرِ اسْمٌ
إِنْ هُوَ اقْتَرَبا
مِلْءَ الْحَنَايا وشُغْلَ الْحُلْمِ
إِنْ عَزُبا
بَغْدادُ.. اسمُكِ أَمْ مِعْراجُ
مَلْحَمَةٍ
تَنْداحُ في الكَوْنِ حتى تَحْضُنَ
الشُّهُبَّا؟
أذاكَ اسمُكِ؟
أَمْ تاريخُ قافِلَةٍ
حُداؤُها الثأرُ حتى تَبْعَثَ
الْعَرَبَا؟
* يقول قائل أن في شعره الوطني نفحة
تحريضية وطنية، وشاهده على ذلك تلك النغمة
التي تقرب الخطابية والبطولة، إلا أن
الأصح هو أن البرادعي قارئ جيد للتاريخ
العربي، ومن خلال هذه القراءات يضيف على
شعره ومضات محمولة على جناح الأزمنة أو

الأحقاب، وتشي بالأمل الذي يبعثه الشاعر
في نفس المتلقي..
ولعل عدداً غير قليل من مجموعاته الشعرية
ومسرحياته تعني بهذه المحطات التاريخية
الرائعة أو الموجعة في حياة العرب منها
مكاشفات عائشة بنت طلحة، أسفار سيف بن ذي
يزن، رائدات في الإسلام، الأيام الطوال في
حياة أبي القاسم الفردوسي، أبو حيان
التوحيدي، الشيخ بهلول، السلام يحاصر
قرطاجنة، وهذه مسرحيات. وتداعيات
المتنبي، حكاية الأمير جنان، وهذا أشعار.
وهذيل القبيلة في شعرها، نقد، إلخ... وفي
هذه الأعمال كلها يعالج الشاعر خالد محيي
الدين البرادعي قضية شغلت عصرها ليسقطها
على حاضر الأمة.. ولنقرأ مقطعاً من ملحمة
ميسلون (من أوراق):
وعلى واحَةِ أَعْنابٍ، وَرُمَّانٍ،
وتينْ
زَيَّنَتْ "وادي الْحَريرْ"
لامَسَتْ راحَةُ فَلاَّحٍ دَماً
نزَّ مِنَ الأَرْضِ. فَخافْ
.........
سَمِعَ الوادي يُنادي
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ
أَلْقى دَمَهُ قَبْلِ الزِّفافْ
لِيُرَويِّ الأَرْضَ حتى الْمَسْجدِ
الأَقَصْى
وفي حَيْفا نِهاياتُ الْمطافْ
أَوْصِلِ الصَّوْتَ وَبَلِّغْ مَنْ تَرى
هذا الْهُتافْ
***
لكن هذه القصيدة هي من شعر التفعيلة، إلا
أنها شعر جميل، مبني ومعنى وسمتها
البنيوية هي أنها صورة في هيئة قصصية
ممتعة..
* أما شعره الغزلي أو البوح العاطفي فهو لا
يقل عن البوح المذكور آنفاً، مبنى ومعنى،
صورة ومفردة، بل لعله أسهل تغلغلاً إلى
القلب..
ما جئتِ في النوم ما أوغلتِ في السَّهَدِ
ولا خطرتِ ولَوْ طيفاً على خَلدي
ولا رسمتكِ في شعرِ الهوى ألقاً
يأتي بلحظةِ صَحْوٍ مُحرقاً كبدي
بل انزرعتِ على دربي مُباغَتةً
هُنيهةً من سنىً في ظُلمةٍ الأبدِ
فانهار مُغتَرَبٌ أَسْري بِعتْمَتِهِ
واخْضَرَّ عُمْرٌ أَمامَ اليَأْسِ
والكَمَدِ
ولا تَهْرُبي من لقائي اليومَ يا امرأَةً
ولا تقولي مَحا أمسٌ طُموحَ غَدِ
فنحنُ في الكونِ بعضٌ مِنْ مُصادفةٍ
زُرنا غَريبَيْنِ عصرَ الحُزْنِ
والنَّكَدِ
ما أنتِ قادرةٌ أَنْ توقفي قدراً
ولا أنا راسمٌ عُمري بخطِّ يدي
فهل تظنينَ أنَّ الموتَ يتْعبَني
وأنتِ باقيةٌ بعدي إلى أمدِ؟
* أظن أن هذا الشاعر المعاصر، أو الذي يحيا
في عصر الحداثة، استطاع أن يضع بصمته في
الشعر السوري في كل أشعاره التي تنتسب إلى
الشعر القديم وعمود الشعر، أو
الفراهيدية، دون أن يفقد نصاعته وعصريته
ويتألق متفرداً ببهائه بين هذا الركام من
الشعر في هذه الأيام.. ولعله بذلك يدحض
القول بأن الشعر العمودي سجين الوزن فيفقد
ألق الصورة والمفردة، وهذا خلط غير وثوقي،
تدحضه داوين خالد محيي الدين البرادعي،
وهو واحد من أولئك (الفراهيديين
المعاصرين) إن جاز لي أن اسميهم بهذا
الاسم.
شهادة حول البرادعي: الإبداع الحاضن
للرؤى الحضارية والفكرية
د. عبد الله أبو هيف
حضرت من القاهرة قبل انقضاء فترة مشاركتي
في المؤتمر العلمي حول اللغة العربية من
أجل تحية أخي وصديقي المبدع الكبير خالد
محيي الدين البرادعي في حفل تكريمه، فهو
جدير بهذه الحفاوة، وقد تعرفت إليه من
قلمه الشاعر أواخر ستينيات القرن العشرين
ومن شخصه النبيل في منتصف السبعينيات إثر
عودته من الكويت، بعد إقامته الطويلة
هناك.
وقد قضينا ثلاثة عقود من الزمن أخوة
وأصدقاء متعاونين على تدعيم النهوض
الثقافي العربي بعامة وفي سورية بخاصة،
وأسهمنا في إنجاح عمل اتحاد الكتّاب العرب
من خلال مشاركتنا الفعالة في مجلس الاتحاد
وعمل جمعياته وفروعه ونشاطاته الثقافية
والأدبية، إذ أُنتخبنا مراراً مقررين
لجمعيتي المسرح والقصة والرواية، وسافرنا
إلى أكثر من قطر عربي لحضور مؤتمرات
ومهرجانات وفعاليات فكرية متعددة بما
يعزز وعي الذات القومية، ويصون الثوابت
المبدأية، وأظهر البرادعي على الدوام
حماسته في الحرص على التواصل العربي في
مجالات الحياة كلّها، وما زلت أذكر بكثير
من التأسي الباعث للشجن القومي جولاتنا
المدّعمة باللقاءات الثقافية في الجزائر
وليبيا في مطلع تسعينيات القرن العشرين
أثناء احتدام الإرهاب أو اشتداد الحصار.

وظهرت باستمرار الاستجابات المباشرة
لوطأة ذلك على الضمير العربي واشتراطات
وجوده في أشعار البرادعي ومداخلاته
الفكرية.
مضى البرادعي عميقاً ومبكراً في تجربته
الإبداعية المتميزة شاعراً ومسرحاً
وباحثاً، ولقي التقدير العربي اللائق
بإبداعه في أكثر من قطر عربي في الإمارات
والكويت والسعودية ومصر والمغرب، وكُرم
مراراً فيما هو أهل له.
وشدّني البرادعي إلى إبداعه الشعري عندما
قرأت مجموعاته الشعرية الأولى، ولا سيما
"صور على حائط المنفى" (بيروت 1970) و"الرحيل
نحو المستقبل" (دمشق 1971) الذي انعطف
بالغنائية إلى الدرامية إحاطة بشروط
التاريخ واشتراطات الواقع، مما ظهر جلياً
في مجموعته الخامسة "قصائد في النضال
والحبّ" (دمشق 1973).
وتواصلت لقاءاتي بهذا المبدع الكبير
اهتماماً بالثقافة العربية ودوام
تنميتها، إذ كانت انعطافته الأكبر إلى
الإبداع المسرحي والفكري بعامة.
ولعلي أوجز القول في ملامح هذه تجربة
البرادعي الخلاقة:
ـ عني البرادعي أيما عناية بشعره القومي
الحاضن للرؤى الفكرية والموضوعية ضبطاً
للمنظور الشعري بتثمير العديد من
الخاصيات الدلالية، وهي تستحضر جوهر
التاريخ في معانيه وأغراضه الحيّة، كما هو
الحال في مجموعاته "الغناء بين السفن
التائهة" (بغداد 1974) و"القبلة من شفة السيف"
(دمشق 1974) و"تداعيات المتنبي بين سيف
الدولة" (دمشق 1976) و"الحب لغتي" (دمشق 1981)
و"قصائد للأرض قصائد للحبيبة" (دمشق 1989)
و"أوراق من هذا العصر" (جدة 2000) و"أغني لتنام
سفّانة" (يبرود 2001) و"والصعود إلى عرش فاطمة)
(حمص 2002).
بادر البرادعي إلى وعي المبدع لإبداعه
مدركاً عناصر التخييل والفنّ وتمثلاتها
القيمية، فوضع كتابه "الغناء الأبدي ـ
دراسات ونصوص" (دمشق 1977) ناظراً إلى تجارب
بعض الشعراء العرب عند استجاباتهم
التاريخية المباشرة وغير المباشرة
للوقائع والأحداث الكبرى بما هي تعبير
حضاري عن مسيرة الأمة العربية، وضم الكتاب
دراسات عن نصوص لنزر قباني ويوسف الخطيب
ومحمود درويش وسميح القاسم وسليمان لعيسى
وشوقي بغدادي وعلي جعفر العلاق وسهيل
إبراهيم في كتابتهم عن حرب تشرين 1973، فكان
شعرهم مواجهة تاريخية و"بداية علنية لصراع
بين الوجود والفناء" (ص 199).
ثم عمّق وعيه الفكري والفني بالإبداع في
كتبه "الإبداع من الرؤيا القومية إلى
المنظور الإنساني" (ليبيا ـ تونس 1973)
و"خصوصية المسرح العربي" (دمشق 1986) وفي هذين
الكتابين إصرار على قومية الفنّ والأدب،
وأن الخصوصية القومية هي المانحة للأفق
الإنساني الرحيب.
وتوّج هذا الوعي المنشود بسيرورة الإبداع
الشعري العربي الحي بكتابه "تعددية النمط
في الشعر الجاهلي وظلاله الطويلة" (دمشق
2004) الذي يفصح عن رسوخ التقاليد الأدبية في
هذا الإبداع وتجددها المستمر من عصر لعصر.
ـ تجلى إبداع البرادعي كثيراً في مسرحه
ومسرحه الشعري، إذ ألف أكثر من عشرين
مسرحية، ولقد وضعت أكثر من دراسة نقدية عن
مسرحه، وأشير إلى منجزه المسرحي في كتابه
المسرح النثري وكتابة المسرح الشعري
باقتدار يجعله من أبرز المسرحيين العرب في
هذا الميدان، وقد استفاد كثيراً من عناصر
التمثيل الثقافي في كتابته المسرحية ولا
سيما الموروث الشعبي والتاريخي والفكري،
فنقرأ في مسرحياته صور التاريخ والتراث
وقضاياه من تأمل انتشار العروبة والإسلام
في فتوحاته من أقصى الغرب في مسرحيته
"المؤتمر الأخير لملوك الطوائف" (دمشق 1986)
إلى أقصى الشرق في مسرحيته "وادي العذارى"
(دمشق 1995)، ومدّ أعماله المسرحية إلى
الأوبريت مثل "رائدات في الإسلام"
(الإمارات 1994).
ورصدت مسرحياته القضايا العربية في
أبعادها الماضية والراهنة والمستقبلية،
مثل "السلام يحاصر قرطاجنة" (دمشق 1978)،
و"النبوءة" (القاهرة 1992)، و"عرس الشام
وأشباح سيناء" (دمشق 2001)، و"أبو حيان
التوحيدي" (دمشق 1983)، و"الشجرة أورقت
سيوفاً" (دمشق 1996)، و"أسفار سيف بن ذي يزن"
(القاهرة 1997)، و"مكاشفات عائشة بنت طلحة"
(دمشق 1995)، و"ميسلون" (دمشق 2003). ولا نبالغ
إذا قلنا إننا نقرأ تاريخنا وقضاياه في
مسرح البرادعي. منذ ما قبل الإسلام إلى
يومنا هذا، وقد أضاف إلى مسرحياته المبنية
على الوقائع التاريخية ومفهوم التأرخة
مسرحيات عديدة تضيء قضايا الوجود العربي
واعتمالاتها تحت ضغوط أشكال الصراع
الفكري والأخلاقي كما هو الحال في
مسرحياته "الجراد" (ليبيا 1976) و"جودر
والكنز" (دمشق 1979) و"الإمبراطور زمسكس"
(دمشق 1992).
ولكم هي باعثة على الإعجاب والإدهاش

مسرحياته الباعثة لأسئلة التحقق الذاتي
العربي ومحاولات الإجابة عليها في مواجهة
المخاطر في العصر الحديث مثل مسرحياته
المشار إليها "وملحمة ميسلون" و"الشجرة
أورقت سيوفاً" و"عرس الشام وأشباح سيناء".
ـ اهتم البرادعي بالصوغ الشعري للحكاية
في "حكاية الأميرة جنان" (دمشق 1985) دخولاً
في القصة الشعرية، ووسّع مداه إلى مخاطبة
الأطفال في كتابة "حكايات شعرية للصغار"
(دمشق 2001).
وتتجلى في هذين العملين عمليات إثراء
شعرية الفضاء السردي الذي يرتقي بالأداء
الحكائي والقصصي إلى شمولية الرؤية
الإنسانية لمعطيات الصراع بين قوى الخير
وقوى الشر، مثلما حملت هاتان التجربتان
دأب البرادعي اليقظة لتعضيد الاعتبارات
التربوية والفنية في الخطاب القصصي
استلهاماً للموروث السردي العربي وتناميه
احتضاناً لمنظومة قيمية مضمرة.
ـ اشتغل البرادعي على التراث الأدبي
وتحقيقه، في كتاب "الزهرة" (جزآن، دمشق 1992)
تواصلاً مع الذاكرة الثقافية العربية
الغنية بأصالتها، ولعل التمعن في جوهر
إبداعه الشعري والمسرحي يكشف عن عمق حضور
هذه الذاكرة مكونات فكرية ومقومات فنية
تستحدث في الوقت نفسه رؤى حضارية نابعة من
الجذور العربية الأكثر عراقة في التاريخ.
أجدد تحيتي وتقديري لأخي وصديقي المبدع
الكبير البرادعي متمنياً لـه دوام
العافية الصحية والإبداعية.
شهادة بالشاعر الدكتور خالد محيي الدين
البرادعي د. شاكر مطلق
تربطني بالشاعر الدكتور خالد محيي الدين
البرادعي، صداقةً قديمة أتاحَت لي
التّعرفَ على نتاجه الأدبي المتنوّع عن
قربٍ وملامسةِ أجواءِ وخلفيّاتِ العديدِ
من نصوصه الإبداعية، وبخاصّةٍ الشّعريّةِ
منها، وإلى الاستماع إلى بعضها، وهو لا
يزال مخطوطاً وربما مناقشةُ هذا النص أو
ذاك مع الشاعر، في جلَسات خاصّةٍ حَميمية
وصريحة، وإلى التّعرف أحياناً على
الدّوافع التي دفعته إلى كتابة عمل ما،
والاطلاع منه على خفايا الكواليس، الأمرُ
الذي يُوسّع من مَنظور الرّؤية إلى وفي
النّص، وهذا غير متاحٍ طبعاً للقارئ
البعيد، وغير ممكنٍ أو مطلوب على ما أظن،
إنما هي مجرد شارات إلى معرفتي بتجربته
الإبداعية، وبخاصّة الشعرية منها، كما
ذكرتُ، مستثنياً الجانبَ الآخر، من نتاجه
المتنوّع، وأعني به مسرح البرادعي
الشعري، الذي يحتوي على كمٍّ غزير ونوعيّ
أحياناً، يتفاوت طبعاً في أهميته
وتألّقه، شأنُه شأن كلِّ الأعمالِ
الإبداعية في الأدب والفن والموسيقى
وغيرِ ذلك.
عرَف الشاعر البرادعي مدناً عديدةً، عاش
فيها أو عايشها إبان فترة ما من تنقّله
وابتعاده عن بلدته الجميلة ومسقَطِ رأسه
(يبرودَ) القابعةِ في سِلسلةٍ جبلية (جبال
القَلمون) مُذهلة الأشكال والألوان، إبان
اليوم الواحد وعبْرَ الفصول، والمُطلةٍ
على وادٍ خِصبٍ وسيع وعريق (وادي إسكيفتا)
عرَف الإنسانُ الاستفادةَ منه ومن السّكن
في مغائرِ جباله العديدةِ منذ أكثر من
مئةٍ وخمسين ألف عام، هذه البلدةُ وسَمتْ
طبيعتُها الجميلةُ نفسيةَ الشاعر الذي
ظلّ وفيّاً لها ولذاكرة المكان المُميَّز
فيها، كما عرف البرادعي الاستفادةَ من
موقعها الموحي الجميل في صياغة العديد من
أعماله الإبداعية، مثلَ ديوانه المُميّز
المعروف "حكايات إلى امرأة من يبرود"
الصادر في الكويت عن دار الرسالة عام 1974.
الشاعر، د. خالد محيي الدين البرادعي،
شاعرٌ مسرحي أيضاً، متمرسٌ في تقنيات بناء
المشهد المسرحي الشعري، وبخاصة تقنيات
وآليّات بناء اللحظة الدرامية في مجريات
الأحداث التي تتأرجح بين العادي
واللاعادي، بين العابر والثابت، بين
اللهو والجِد، وغالباً ما تستند إلى
التراث التاريخي العربي.
في عام 1992 كنت قد أصدرتُ للأديبة المغربية
الشابة (فطيمة وهّابي) ـ عن دار الذاكرة ـ
حمص/سورية ـ كتاباً نقدياً وهو مشروع لنيل
درجة أكاديمية من إحدى جامعات المغرب
الشقيق ـ وذلك ضمن سِلسلة الدراسات
الأدبية والّغوية يحمل رقم 6 ـ وعنوانه:
صورة المرأة في المسرح العربي مسرح
البرادعي أنموذجاً" تطرقتْ فيه، من خلال
دراسة أكاديمية جادّة، إلى العديد من
الجوانب المميِّزة لتجربة البرادعي في
المسرح الشعري، ولهذا فإن التطرّقَ إلى
هذا الجانب، ما كان ضمن دراستي المطولة
لديوانه المميَّز فعلاً الموسوم بـ:
(الصعود إلى عرش فاطمة)، وبخاصة قراءتي فيه
للكشف الثالث، المثقلِ باللحظة الدرامية
في هذا المشهد الكاشف، لأنك تقرأه وتستمع
فيه إلى الشاعر بمتعةٍ، بل وتكاد تراه
واقفاً على خشبة المسرح، بوجهه الحزين
وبشعر رأسه الكثيف الأبيض مُطرقاً، على
غرار أبطال"شكسبير" في "الملك لير" أو

"هاملت" مشاركاً في درامية المشهد غيرِ
المنظور.
نالَ البرادعي، كما نعرف جميعاً، العديدَ
من الجوائز الأدبية المحلية والعربية،
والتي تتفاوت في أهميتها وفي قيمتها
الأدبية الفعلية، ولكن يبدو لي أنّها
جميعاً أسهمتْ بإعطاء الشاعر شعوراً
بالرضى وبالاعتداد بالذات، الأمر الذي
يبدو لي جميلاً ومفرِحاً أيضاً بشرط
ألاَّّ يحجبَ عن عين الشاعر البصيرةِ أفقَ
الإبداعِ المختَرِقِ والمُنتَظر.
الحديث عن وفي الجانب الإبداعي للصديق
خالد محيي الدين البرادعي، حديثٌ يطول لا
مكان لـه الآن في هذه الكلمةِ القصيرة في
حفل تكريمه مِن قِبل اتحاد الكتاب العرب
في دمشق، اتحادُنا العتيد الذي يقوم،
مشكوراً، تكريم أدبائه المتميّزين وهم ما
زالوا أحياءً يُبدعون.
تحيةً إلى اتحاد الكتاب العرب، تحية إلى
المشاركين بكلماتهم في حفل التكريم وإلى
الجمهور الكريم وتبقى التحية الكبرى لهذا
الشاعر الجميل ابن يبرودَ المبدع
والمُتميز والصديق الحميم د. خالد محيي
البرادعي.
تشرين الثاني ـ 2004
شهادة في الشاعر الدكتور خالد محيي الدين
البرادعي
د. عبد الإله نبهان^*
في البدء عرفته شاعراً، وفي البدء أيضاً
من ديوانه القبلة من شفة السيف، ثم من
الدوريات المختلفة.. واستقرّ اسمه في
تلافيف الدماغ شاعراً بارزاً من شعراء
الأمة.
ثم التقيته فارس منبر في رابطة الخريجين
في حمص، وسعدت يوم شاركت في حفلٍ تكريميّ
أقيم لـه في رحاب تلك الرابطة يوم أن نال
جائزة عربية.. واعتززت به شاعراً متألقاً
يوم أن دعوته إلى كلية الآداب في حمص، وكان
لـه الوقت والمنبر.. وشدّ إليه حشداً
غفيراً ضاق عنه مدرج الكلية وهو يلقي من
شعره لمدة ساعتين.. والأنظار إليه..
والحضور كأن على رؤوسهم الطير.. ثم صعِدت
معه إلى عرش فاطمة, وما كان أروعه من صعود،
واقتحمت معه ميسلون.. وشاركته وقفته
الجليلة أمام الشهيد العظيم يوسف العظمة...
أنت مع البرادعيّ في شعره أي أنت مع العربي
المطلق، الخالص في عروبته، الحريص على
تثبيت هويته وتأصيلها، أنت أيضاً مع
الإنسان العربي الغريب الباحث عن هوية في
زمن الضياع، أنت مع "عبد الله" الذي يبحث عن
نفسه، والذي تحاصره الكوابيس من الجهات
الستّ وذلك يوم أن:
أغلق عبد الله عينيه... وهرب إلى داخله
رعباً
فرأى المخلوق بداخله يتربّع فوق مناماته..
لم يملك عبد الله سوى أن يفتح عينيه ويهرب
من ذاته...
أنت مع البرادعي أيضاً في حقول المقاومة
بلا صخب ولا ضجيج، إنها مآسي اللجوء
والإذلال، واغتراب المنافي وسكنى الخيام
ولكن:
لا شكاوى..
هكذا قال الصغار..
خيمة الأطفال حبلى بانفجار
راضع المأساة يأتي رجلا
إنّ سيرة البرادعي هي سيرة العصامية
بأجلى صورها وأروعها، إنها سيرة الطموح
الذي يدعمه الجهد والسهر، إنه الطموح
الدائم المتجدد نحو الإبداع.. من قلب
التراث إلى الحداثة.. من الشعر إلى المسرح
الشعري.. إلى قراءات في الأدب القديم..
ماذا أقول في البرادعي وقد كتبت في أدبه
ثلاثة مجلدات كبار ما عدا الأطروحات
الجامعية..
أتمنى لـه دوام الرفعة والتجدد، ودوام
العطاء في ميدان الأدب العربي الحديث.
قصيدة للشاعر مجيب السوسي إلى الشاعر:
خالد محيي الدين برادعي في أمسية تكريمه
ماسُ (يثربَ) صبرٌ، يزيّنُ أطرافها،
ونشيدٌ يخالطه النبضُ والدمعُ مِن
فرح القادمينْ.
نبيٌ من /الشِّعر/ جاءَ، يضيءُ /الجياعَ/
ويكشفُ للدرب عِمْيَتَهُ،
فتنزُّ البطونُ جيوشاً،
تقول لـه بخفوتٍ جميلٍ،
ستأتي المواسمُ يا سيدي
ثم.. نقطفها ونموتْ
***
هنا النمل، والبرقُ خاوٍ،
وتهليلةُ العنكبوتْ
فأيُّ سراج على جبهة الشاعر المستفيضِ،؟
وأيُّ أنينٍ كتومٍ بسرِّ البيوتْ؟؟
***
إنه شاعرٌ... ويؤاخي لظى النومِ،
أو سكرةَ المستحيلْ،
يؤنّثُ فوحَ البيادر.. أو يستقيلْ
قليلاً برغبتهِ، ثم يطفح من كيلهِ
الخمرُ،
ثم يبارك حزنَ السكوتْ
لماذا ـ إذن ـ يوصف مَنْ ينطق الشعرَ

في أنه من شذا الموت جاءَ، ومن عتباتِ
الخناجر، أو من جلال التشظّي،
وفي آخر الشوط يصهرُهُ الصمتُ،
أو يستقرُّ بقصر المنافي، وتأبيدةِ
المجدِ،
خلف التنفُّسِ، أو تحت زهر الشَّتاتْ؟
وليلٍ أتى من فضاءٍ جديدٍ،
لهُ لونُ عصرٍ (تَمَتْرَسَ) مِنْ
زمن العاصفاتْ
***
ها.. إنّ /يبرود/ تركض نحو يديهِ،
تصفّق في جملتين له، وتغيبُ،
فلا خوف منه، وليس يزاحم غيرَ
النجومِ، ولا شأن لهم فيهِ غيرَ
اقتراضَ التنفُّس من رئتيهِ،
وغير استعارة بستان عينيهِ،
حين تضيع الدروبُ، وحين
يعود الضحى في ثيابٍ ملطخةٍ
بالسواد!!!
تُرى.. كيف يقفز هذا المعنّى وحيداً
هنا.. وهناك، ويحزم أمتعةً
من زهورٍ، يرشُّ على أهلهِ ماء حرّية،
ويدق على باب خمرتِهِ، فترحّبُ في كل ضيفٍ
أتى معهُ،.. لكنها لم تكن تنحني، أو
تجاملُ،
خمرتُهُ مثل سكينة ولدتها الكرامةُ مِنْ
أخمص النخلِ حتى انهزام البلادْ؟
تُرى ماله يتربع عرشَ القناديل، تحيط به
الجميلاتُ،
ـ وهو كما تعلمون ـ جميلَ العواطفِ، تخرج
أنفاسُهُ
من يديه قلائدُ من وَلَهٍ وعطورٍ،
وتسمعُ من مقلتيه صهيلَ الجيادْ
تُرى وحدَهُ "خالدٌ"
في عواصم هذا الجَمال يغنّي ويعزفُ،
ثم تناسلَ من عزفهِ عالمٌ من بريئ
الطفولةِ،
أيَّ البراكين حين يشاءُ يزوّدُ رملَ
الرقادْ!!
هو الآن كُرٌّ، وفرٌّ، تغوص أناملُهُ
في القلوب، تسيّجُ عيناهُ حزنَ النخيلِ،
ومن صمتهِ تنهلُ /الضابحاتَ/ وتجتاح سد
الخيولِ،
العنيدةِ، في ومضةٍ من عِنادْ؟
تُرى خالدٌ وحدهُ.. وحدهُ سرُّ هذا
التغرُّبِ،
أو نارُ هذا البُعادْ؟؟
***
قفي حيث شئتِ..
المدينةُ ـ حين تريد التيقُّظَ،
تنصِبُ بيتاً من الفجر، ثم يقص الشريطَ
الذي نسج الأغنياتِ بليلٍ عصيبِ البكاءْ
سلي عنه ريح الشمال.. وشمس المساءْ
وقولي لكل الحمام الذي جاءَ..: إن الهديلَ
بعصر التشقّق سُمٌّ.. وداءْ
***
أنا.. عند /يبرود/ أُلقي التحيةَ، وهي
تَحوكُ القناديلَ،
توحي لخلاّنها أن بين الحروف ملابَس من
سندسٍ
نبتتْ في هزيع الوفاءْ،
وأن الذي كحَّلَ البلد المتدفّق شمساً
تنامى على شُرفات البقاءْ
القسم الثالث: دراسات كتبت عن المحتفى به
وهي لخمسة أدباء تتناول جوانب من إبداع
الشاعر الدكتور خالد محيي الدين البرادعي
1 ـ شعرية الدراما في مسرح البرادعي
الشعري: للدكتور مصطفى الرمضاني.
2 ـ قراءة في القول وتحولات الرمز: محمد
علاء الدين عبد المولى.
3 ـ ملحمة ميسلون: محمد عزام.
4 ـ مسرحية أسفار سيف بن ذي يزن : الدكتورة
حورية حمو.
5 ـ تعدد أشكال الراوي في ملحمة ميسلون :
الدكتور رضوان القضماني.
...........
6- الشوك والخصب بين المتنبي وسيف الدولة
لخالد محيي الدين البرادعي: د.فايز الداية.
7- الشاعر العربي يبحر نحو المستقبل،
قراءة في شعر البرادعي ومسرحه: مهدي بندق.
شعرية الدراما في المسرح الشعري عند خالد
محيي الدين البرادعي
د.مصطفى رمضاني^(^*^)
يلاحظ المتتبع للحركة المسرحية العربية
أن المسرح الشعري لا يعرف نفس الخصوبة
التي يعرفها المسرح النثري عامة على مستوى
الكم، وذلك راجع في اعتقادنا إلى ما يتطلبه
هذا الجنس الأدبي من آليات فنية تضاف إلى
الآليات التي يقتضيها جنس المسرح النثري.
ففضلاً عن المكونات الدرامية التي
يقتضيها هذا الفن من حوار ولغة درامية
وصراع ورؤية ذات طابع درامي، يشترط في
كاتب المسرح الشعري أن يكون ملماً بأدوات
الشعر التعبيرية من إيقاع وصور شعرية
وتكثيف للأصوات المعبرة داخل النص، حتى
يتحقق البعد الدرامي للغة والحوار.
وتضيق مساحة المسرح الشعري أكثر كلما
اقتربنا من مستوى الكيف، وحاولنا استجلاء
العناصر التي تؤهله ليكون فعلاً مسرحاً
شعرياً تتوافر لـه مكونات الخطاب الدرامي

والشعري، دون التضحية ببعض عناصر هذا
الخطاب أو ذاك.
وربما كانت صعوبة الجمع بين مكونات هذين
الخطابين، وتحقيق الانسجام بينها داخل
جنس أدبي واحد هو الذي يفسر إحجام كثير من
المسرحيين والشعراء عن كتابة المسرحية
الشعرية. أما الذين خاضوا مغامرة الكتابة
فيها فلم يوفق أغلبهم في تحقيق ذلك
الانسجام بين المسرح والشعر، وجاءت
إبداعاتهم نتيجة لذلك مهلهلة، مفككة
العناصر، ضعيفة في بنائها الفني، كما هو
الحال عند بعض رواد المسرح الشعري، كعبد
الله البستاني وخليل اليازجي، وأحمد
شوقي، وعزيز أباظة وغيرهم...
أما الذين أفلحوا في تحقيق ذلك الانسجام،
فأغلبهم كان يملك رؤية درامية وهو يكتب
القصيدة الشعرية، وحين جرب المسرح
الشعري، لم يجد عنتاً في ذلك، كما هو الأمر
عند عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور
ومعين بسيسو وخالد محيي الدين البرادعي.
وتضيق تلك المساحة أكثر حين نصل إلى مجال
النقد. فأغلب الدراسات التي تناولت قضايا
المسرح العربي، انصب على المسرح النثري
دون سواه. ومرد ذلك في اعتقادنا إلى أمرين:
أولهما ضيق مساحة المسرح الشعري قياساً
بالمسرح النثري، وثانيهما غياب الأدوات
الإجرائية الصارمة والدقيقة التي تمكن
الباحث من الإلمام بعناصر المسرح والشعر
معاً داخل خطاب أدبي فني واحد. وهذا الأمر
يعزى إلى غياب الناقد المتخصص عندنا، وإلى
الطابع الكشكولي الذي يميز كثيراً من
نقادنا إذ تجد ناقد الرواية أو الشعر أو
غيره يجتاح بنفس الأدوات والمصطلحات
مجالات أخرى قد لا تكون من اختصاصه،
كالمسرح والتشكيل والسينما إلخ.. وبذلك
نفهم لماذا نفتقر إلى نقود لها ضوابط
صارمة في المصطلح والمنهج وآليات التحليل
والدراسة.
ونتيجة لهذا كله، ندرك لماذا يعيش المسرح
الشعري هذا الغبن في الوطن العربي، ورغم
وجود كبار المبدعين الذين وفقوا إلى حد
كبير في تحقيق أقصى درجات الانسجام بين
مكونات الشعر والمسرح، وهم قليلون طبعاً.
فنجحوا في تقديم نصوص مسرحية شعرية تتميز
بأصالتها وحداثتها.
ومن أهم هؤلاء المبدعين الذين تميزوا
بتحقيق هذا الانسجام في بناء النص المسرحي
الشعري ـ من خلال احترام البعد التراجيدي
في الرؤية وشعرية اللغة وكثافة الحوار ـ
نجد المبدع السوي خالد محيي الدين
البرادعي.
فقد استطاع البرادي أن يوفر لمسرحياته
الشعرية هذا الحضور المأساوي، وهذه
الشعرية في الحدث، وذلك النقيض العلامتي
عبر اللجوء إلى التراث عامة وإلى الحكاية
الشعبية خاصة، ولم يقف عند الاستحضار
التاريخي الجاف للتراث، وإنما تجاوزه إلى
الاستحضار المبدع، لأنه قرأ الماضي بعيون
الحاضر، وقدم قراءات معاصرة لمصادر
تراثية متنوعة تحيل كلها إلى الواقع
العربي ومشاكله الحيوية الكبرى وهذه
الخصائص كلها قمينة بأن تدرج مسرحياته ضمن
المسرح العربي السياسي.
ولم يحل طابعها الرمزي والذهني المجرد
أحياناً دون واقعيتها، لأن الرمز في مسرح
البرادعي ليس ترفاً فنياً بقدر ما هو لغة
إشارية وظيفية، وهذه الوظيفية مزدوجة
الفعالية: فهو يحمل معنى دالاً ضمن السياق
الخاص للنص، ومن جهة أخرى حمل قيمة جمالية
باعتباره يساهم في بلورة الصور الشعرية،
أو يكثف من الحوار الدرامي، أو ينمي الحدث
أو يعمقه، وما يميز الرمز في مسرحيات
البرادعي عموماً كونه قريباً من الذاكرة
الشعبية، وبعيداً عن الإبهام، الأمر الذي
يساهم في إنجاح جمالية التلقي، ومن ثم
تأسيس الوعي النقدي الجمالي بالخطاب
المسرحي الشعري عند المتلقي العربي
البسيط.
وإذا كانت مسرحية (دمر عاشقاً) هي المنطلق
في هذا الاتجاه، فإن المسرحيات التي تلتها
برهنت على مدى تلاحم الشعر بالدراما
تلاحماً يكاد يخفي ما هو شعري في النص وما
هو مسرحي.
ثم إن هذه المسرحيات تعد كلها امتداداً
لها من حيث التصور والمنهج، مما يجعلنا
نعتقد أن البرادعي يقدم مشروعاً إبداعياً
تأسيسياً يبدأ من مسرحية (دمر عاشقاً) وما
زال يبحث عن صيغته النهائية. لهذا تظل
أعماله مفتوحة دائماً ترهص بالنص
المستقبلي، حتى إذا تحقق، تجاوزه المؤلف
إلى نص آخر وهكذا...
فهو في كل مسرحياته يحتفظ بطابعه الرمزي
وانسجامه مع الصورة الشعرية المركبة،
لأنه يعرف كيف يوفق بين الدراما والشعر
والرمز التراثي دون أن يتغلب جانب على آخر.
لذلك يرى أن (حالة الإقناع بشعرية الحدث لا
تتوفر إلا في اللجوء إلى الماضي كمخادعة
فنية يلجأ إليها الشاعر لتوفير الإقناع،
وتصديق الحدث على أنه حدث فعلاً)^(^^).
وتعد مسرحية (السلام يحاصر قرطاجنة)

نموذجاً جيداً للمخادعة الفنية في مسيرة
البرادعي المسرحية. وهي تنطلق من التاريخ
القرطاجني لتتناول حدثاً تاريخياً
معاصراً في الوطن العربي. فالمسرحية تصور
الضياع السياسي والعسكري والاجتماعي الذي
عاشته قرطاجنة من جراء معاهدة السلام التي
وقعها الملك مع عدوه الروماني بحثاً عن
السلام، ولما كان هذا السلام مزيفاً لأنه
لا يخدم غير الملك وبطانته، فقد رفضه
القواد والشعب، وقامت الثورة لتطيح
بالملك المستسلم للأعداء وتنقض معاهدة
السلام، ثم يتم بناء المدينة من جديد.
إن هذا التلخيص المركز لمضمون المسرحية
يحيلنا مباشرة على الوضع الاجتماعي
والسياسي والعسكري في مصر إبان عهد أنور
السادات، وما المعاهدة التي تتحدث عنها
المسرحية برمزية شفافة غير معاهدة (كامب
ديفيد) التي أبرمها الرئيس المصري الراحل
مع العدو الصهيوني باسم السلام، في الوقت
الذي كانت فيه القوى العربية في مواطن
قوة، مما يجعل المعاهدة تخدم إسرائيل وتذل
العرب.
يقول أحد النقاد معلقاً على هذا الإسقاط
التاريخي الذي قام به البرادعي: (ومن خلال
هذا الإسقاط، يصور المؤلف انحراف نظام
عربي معاصر، وارتباطه بأعداء الأمة
العربية واستسلامه لهم عبر توقيع معاهدة
مذلة).^(^^).
وما يؤكد هذا الإسقاط التاريخي الشفاف،
كون البرادعي كتب هذه المسرحية مباشرة بعد
توقيع معاهدة السلام التي غيرت مجرى
الصراع العربي الإسرائيلي، لأنها كانت
تهدف إلى إقصاء مصر من هذا الصراع باسم
التعايش والانفتاح والسلام، باعتبار أن
مصر تمثل مركز القوة العربية التي تخشاها
إسرائيل. وفي إقصائها إضعاف للقوى العربية
وتمزيق لوحدتها وتعاضدها.
وكما في كل مسرحياته، يقدم المؤلف البديل
التاريخي المتمثل في فعل الإنسان. فقد
رأينا كيف رفض دمر مساعدة شيهوب لأن بناء
الحضارة موكول إلى الإنسان. فظل يردد بأن
الإنسان فعل. وها هو ذا الشاعر في مسرحية
(السلام يحاصر قرطاجنة)، يكرر نفس الشعار
فيقول:
الشاعر : لكنا أحياء
أحياء يا مسينا
والأحياء هم صناع حضارتهم...^(^^)
وسيتكرر مرة أخرى في مسرحية (العرش
والعذراء) على لسان الشيخ الذي ينطق
بالحكمة الناتجة عن التجربة حين يؤكد
للجماعة أن الحرية والديمقراطية لا
تتحققان إلا بفعل الناس.
فالبرادعي حين يوظف هذه الرموز التراثية
إنما يقصد إلى بناء الوعي السياسي
والاجتماعي، لأنه يدرك أن عملية الإقناع
لا تتألى إلا بتحقيق جمالية الإبداع. لذلك
نجده يبتعد عن الخطابية التقريرية ويسعى
جاهداً لتوفير شعرية الحدث في خطابه
المسرحي.
لقد استطاع أن يوفر هذه الشعرية في
مسرحيته الثالثة (العرش والعذراء) وكان
التراث الأسطوري هو المنطلق لهذه الغاية،
فالمسرحية تعالج موضوع الحرية
والديمقراطية بأسلوب رمزي غني بالإيحاءات
والصور الشعرية الدالة.
وقد بناها على حكاية عذراء أوصدت دونها
أبواب القصر، بينما الناس في الخارج
ينتظرون رؤيتها، وكل من حاول اقتحام القصر
للوصول إليها يكون مصيره الموت. وهكذا
تستمر العذراء في سجنها داخل القصر، ويكثر
عشاقها، كل واحد منهم يرى فيها ضالته.
ولكنها مع ذلك تظل لغزاً لم يستطع أحد فك
أسراره ورموزه، باستثناء الشيخ الذي يرمز
به البرادعي إلى التاريخ. فهو الوحيد
الشاهد على حقيقة العذراء، بعدما لم يستطع
عشاقها تلمس الطريق الصحيح للوصول إليها.
وحين تسأله المجموعة أين العذراء ومن هي:
يجيبهم:
الشيخ : فيكم
المجموعة : فينا العذراء؟
الشيخ : وأنتم فيها.^(^^)
وهكذا نصل إلى فك رموز العذراء، كما نفك
شفرات العلامات اللغوية التي وظفها
المؤلف للدلالة على قيمة الحرية
والديمقراطية، فالعذراء ليست امرأة
حقيقية، ولكنها فكرة يجسدها كل الشعب.
فحين تتوحد كلمة الجماهير،تتحقق الحرية
والديمقراطية. وقد استلهم البرادعي هذه
الحكاية ليقدم صورة عن طبيعة بعض الأنظمة
العربية التي تصادر الحريات باسم الحفاظ
على الأمن الداخلي، في حين تغيب العدالة
والديمقراطية ويسجل كل شيء باسمها:
صوت العذراء: فالأناشيد.
والفتوحات باسمي
وأنا دمية حلم مهملة.^(^^)
(فالعرش والعذراء) مسرحية رمزية اتكأت على
التراث بلغة درامية لا تخلو من غنائية
حالمة.
وإذا كانت مسرحية (العرش والعذراء) تقترب
في أسلوبها من الطابع الذهني، فإن

البرادعي حاول أن يقترب من موضوع السلطة
وعلاقة أولي الأمر بالرعية، وأبى إلا أن
يستلهم من حكايات ألف ليلة وليلة^(^^)
ويطوعها لخدمة هذه الفكرة ليكتب من خلالها
مسرحية (حصان الأبانوس)^(^^).
ويمكن تلخيص هذه المسرحية في أن ثلاثة
فتيان حملوا لملك اليمن هدايا تتمثل في
طاووس من ذهب، وبوق ضخم، وحصان من خشب
الأبانوس. وما يميز هذا الحصان كونه يطير
ويطوي المسافات في ظرف وجيز. وهذه الخاصية
بهرت الملك حتى انساق وراء عجائبية الحصان
الطائر ونسي الأخطار المحدقة بوطنه.
والمسرحية رمزية لا تخلو من طابعها
الذهني كذلك، ولكن أحداثها وما تخفيه من
أبعاد دلالية توحي كلها بما يعيشه الوطن
العربي من تشرذم وتمزق بسبب انصراف
المسؤولين إلى متعهم الخاصة ومشاغلهم
الذاتية، وابتعادهم عن الاهتمام بشؤون
الوطن الملحة.
ويبدو أن موضوع السلطة من الموضوعات التي
تستهوي المؤلف لأنه مباشرة بعد (حصان
الأبانوس) ألف مسرحية (جودر والكنز) التي
وظف فيها الحكاية الشعبية توظيفاً محكماً
للغاية. وتتحدث هذه المسرحية عن صياد فقير
اسمه جودر كان يعيش سعيداً مع أمه وأخوته
قانعاً بالقليل الذي يدور عليه صيد المسك،
وفي يوم من الأيام اتصل به شيخ الكنوز
(مرجان) الذي أقنعه بأن الكنز في انتظاره.
وبالفعل يتخلى جودر عن أهله لنساق وراء
إغراء مرجان المتعدد، ابتداء من الكنز،
مروراً بتزويجه من ابنته الجميلة، وصولاً
إلى الملك. وخلال كل هذه المراحل التي تعكس
تحول شخصية جودر، يظل صوت أمه "رقية" يحذره
من الانصياع لمرجان ويثنيه عن التمادي في
غيه لكن دون جدوى، لأن الإغراءات التي كان
يقدمها (كاشف الكنوز) لا تقاوم.
وبالفعل يصبح جودر ملكاً على البلاد،
وينسى أهله ويبتعد عن الشعب، بل ينسى حتى
تقاليده في الحب والعمل، ولم يعد يهمه شيء
آخر غير التفكير في الكنز. وهذا ما جر
البلاد إلى الجفاف والفقر، لأن الناس لم
يجدوا ما يأكلون ولا ما يشربون، ولما كان
صوت الأم يعد بمثابة الوعي الغائب، فإن
هذا الصوت هو الذي سيعيد جودر إلى حالته
الأولى: إنساناً يعلم أنه لا حياة من دون
الناس ومع الناس، ولا كنز دون عمل.
صوت رقية : إِرم ملأى بالحب... وملأى
بالأحباب
ابحث عمن أحببت ولست تراهم
جودر : إني ماض للبحث عن الماء
بين الفلاحين وبين البسطاء.
آسيا : أشتاق إليهم مثلك
(تقدم لـه ثوباً يرتديه بعد خلع حلة العرش)
جودر : سأناجي الأرض بفأسي^(^^)
ويذكرنا هذا المشهد بمشهد حفر النهر في
مسرحية "دمر عاشقاً" حين أصر البطل على
الالتحام بالناس ومعانقة الفأس ليروي
الناس والأرض. فهنا أيضاً يعاني أهل مدينة
إرم الجفاف، والسلطان منصرف إلى ملذاته
الخاصة، لكن صوت رقية يعيده إلى حالته
الفطرية الأولى لينضم إلى البسطاء و يعانق
الفأس، ما دام الكنز الحقيقي موجوداً
بداخل الإنسان وبفعله الواقعي الواعي.
فالبرادعي كما هو واضح في كل هذه
المسرحيات التي مررنا على ذكرها، يركز على
الفعل ويعتبره جوهر الإنسان والتاريخ معاً
شريطة ألا يكون هذا الفعل فردياً، لأن
الخلاص الحق يكمن في الفعل الجماعي، وهذا
الموقف هو الذي سمح لنا بالحديث عن
البطولة الجماعية، وهي بطولة ملحمية تخفي
وراءها معنى الثورة الشعبية التي يتبناها
المؤلف بديلاً لأي فعل آخر غير إنساني
لمواجهة العدو كيفما كان نوعه: مادياً أم
بشرياً. فقد أعطى البرادعي للفعل الشعبي
كما في مسرحياته الأخرى (لبوساً واقعياً
وعقلانياً في مواقع كثيرة، وحاول أن ينفي
الاختلاط بين السحر والفعل الإنساني)^(^^).
لقد اتخذت هذه المسرحية التراث قناعاً
جمالياً لتصور حالة الأمة العربية
وانصياعها للإمبريالية والاستعمار،
فجودر يجسد شخصية الأمة التي كانت تعيش
آمنة مطمئنة، فجاءها المستعمر ـ الذي
يمثله شيخا لكنوز ـ غازياً باسم الحماية
والإنسانية بعد أن قدم لها مجموعة من
الإغراءات، وهكذا تنازلت عن مبادئها
ووطنها وأهلها لترتمي في أحضانه مستسلمة
لأهوائه وأوامره.
ويؤكد أحد الدارسين أن المسرحية تعالج
(فكرة تغلغل الإمبريالية في صفوف الشعب
العربي، وتختار الشخصيات المهيأة للسلطة
وتركز عليها لتنفيذ مآربها)^(^^).
فجودر وهو يهرب أمواله خارج الوطن، إنما
يعكس موقف بعض المسؤولين العرب الذين
يخدمون الغرب الإمبريالية بأموالهم
ومواقفهم ويقدمون التنازل تلو الآخر، في
الوقت الذي كان بإمكان تلك الأموال أن
تخدم الوطن وتنهض به نحو التقدم.
وإذا كان البرادعي يقوم بعملية تناص كلي
مع حكاية شعبية متداولة فإنه من جهة أخرى
يستحضر نصاً غائباً على شكل تناص جزئي

خارجي، وما هذا النص الغائب غير أسطورة
(فاوست).
أو ليس جودر الذي باع نفسه لشيخ الكنوز من
أجل المال والزواج والسلطة قناعاً آخر
لفاوست الذي باع نفسه للشيطان من أجل أني
ستعيد شبابه وحيويته.
الفرق الوحيد بينهما هو أن جودراً استطاع
أن يستعيد وعيه الضائع ليتوب ويلتحق
بالبسطاء ثم يحفر معهم الآباء ويبحث عن
منابع المياه، لأنه أدرك أن السعادة لا
تكمن في الجمال والمال والسلطة ولكنها
تكمن في داخل الإنسان نفسه.
فالبرادعي يقرر من خلال هذه المسرحية أن
عدو الإنسان الأكبر هو ذاته. فحين يستطيع
المرء أن يتغلب على الوحش الذي بداخله
يصبح بطلاً حقيقياً. وهو ما فعله دمر في
(دهر عاشقاً) والجماعة في (العرش
والعذراء)، وعبقر في (حصان الأبانوس).
وتتكرر هذه المعادلة في أغلب أعمال
البرادعي، الأمر الذي يجعلنا نطمئن إلى
أنه ظل وفياً لموقفه الفكري، وإن تعددت
مصادر التراث وأساليب المعالجة عنده، كما
ظل مرتبطاً بمشاكل الأمة العربية
وتطلعاتها. وهذا الموقف في حد ذاته يجعل
مسرحه الشعري سياسياً ملتزماً.
وربما كانت مسرحيته "المؤتمر الأخير
لملوك الطوائف" أحسن ما يمثل هذه الصفة.
فهي إدانة صريحة للأنظمة العربية التي
انصرفت إلى نزواتها الشخصية، وتركت الشعب
والوطن فريسة للضياع السياسي والعسكري
والعقدي والاجتماعي والنفسي. فهي إدانة
صريحة لها وإن كانت اعتمدت على الرمز
الشفاف حين استلهم البرادعي التاريخ
العربي الإسلامي في عهد ملوك الطوائف
بالأندلس الذي عرف بتمزق الأمة الإسلامية
إلى دويلات ضعيفة متصارعة فيما بينها
تحتكم إلى المصلحة الشخصية على حساب مصالح
الأمة الكبرى. وقد أدى ببعض أمراء هذه
الدويلات إلى الاستعانة بالعدو الصليبي
للقضاء على إخوانهم المسلمين.
وهذه الصورة التاريخية تتكرر اليوم بقناع
آخر فيما يحدث بين العرب من تفرقة وصراعات
وحروب. لذلك كان من السهل على البرادعي أن
يلتقط هذه الصورة التاريخية ليوظفها في
سياق معاصر طريف. والطرافة في هذا المنهج
تكمن في استغلال الفلاش باك، وتداخل
الأزمنة والأمكنة، وتغريب الحدث المسرحي.
فهو يحاكم الزمن العربي من خلال عودة صقر
قريش الذي جاء ليرى ما آلت إليه الأندلس
بعد موته. فماذا وج؟ وجد الدولة التي بناها
بجهاده تحولت إلى دويلات ينخر فيها الضياع
والتنازلات والخيانات، وانصراف أولي
الأمر عن مشاكل الشعب إلى الترف واللهو،
وحين يسألهم صقر قريش عن سبب هذه الحالة
المتردية، يجيبه كلٌّ على حده مبيناً حجم
التنازلات التي قدموها للعدو:
المعتمد : حقاً خفت من الروم
من ألفونسو
هذا من زمن يا صقر قريش
قدمت لأنفونسو بنتي
وعطاء سنوياً
وأذوب...... أذوب^(^^)
ويجيب ابن صمادح:
ودفعت المال إلى الروم هدية
طوعاً يا صقر قريش^(^^).
أما المنذر فيقول:
لا تصرخ فأنا كالعذراء رقيق القلب
ما قاتلت أخي لم أوقظ سيفاً من جفنه
إن أخي عاهد ألفونسو ضدي
وأنا مضطر أن أدفع مالاً لأظل الحاكم^(^^).
وهكذا يستمر كل أمير في الاعتراف بمواقفه
المتخاذلة، حتى يحضر يوسف بن تاشفين الذي
يجعله المؤلف البديل الثوري لكل هؤلاء
الأمراء، لأنه عرف أن السلطة الحق تكمن في
حب الأرض والدفاع عنها ليعيش المواطن حراً
كريماً، وحتى يطعم البرادعي موقفه من
المشروع العربي المستقبلي، قدم يوسف بن
تاشفين في صورة بطل ملحمي يؤمن بالفعل،
بخلاف الأمراء الآخرين الذين انصرفوا إلى
الخطب والقصائد الحماسية. وكأنه يؤكد من
خلال هذه الشخصية أن العرب ضيعو الأوطان
بسبب بطولاتهم الدونكشوتية المنحصرة في
المؤتمرات واللقاءات المشفوعة بالخطب
الحماسية، في الوقت الذي يحتاج فيه الوطن
إلى سلاح مادي وموقف عملي:
ألفونسو : ما يشغلني يا سيزنروس
أن العرب ذوو شعر وبيان
حتى المراء وحتى الحكام
أرباب فصاحة
أما هذا التاشفين
فهو يخالفهم
لا يتشدق بالشعر ولا يتسلى بالأقوال^(^^).
وقد صور البرادعي شخصية يوسف بن تاشفين
نساناً مجاهداً يحارب في سبيل الله، لا
يبغي مالاً ولا جاهاً، لأنه جاء لنصرة
الإسلام بعدما أدرك أن الصليبيين عازمون
على تقويضه بكل الوسائل الدنيئة، لهذا
الغرض، وجدنا المؤلف يكثر من التضمينات
والاقتباسات (ويجمع الخطوط المتناثرة
والمتنافرة أحياناً في عمل إبداعي واحد

لخدمة الحياة المعاصرة)^(^^).
بل نجده يوظف بعض الخطب أو الأقوال
المأثورة لدى يوسف بن تاشفين ليؤكد أن
الوزاع الديني هو السبب الذي كان وراء
عبوره إلى الأندلس، ولعل الخاتمة التي
أنهى بها البرادعي مسرحيته دليل قاطع على
ذلك. فحين يلتقي صقر قريش بابن تاشفين
يناوله القرآن الكريم والسيف ليسمع صوت
كالرعد يردد قوله تعالى:
الصوت: إنا عرضنا الأمانة على السموات
والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها وحملها الإنسان إنه كان ظلماً
جهولاً)^(^^).
وهذه الإشارة تدل دلالة واضحة أن المؤلف
يؤمن بأنه لا سبيل إلى خلاص الأمة العربية
الإسلامية إلا بارتباطها بدينها
الإسلامي، لأنه رمز وحدتها وقوتها. وهذه
النظرة الدينية تتكرر مرة أخرى في مسرحيته
النثرية (أبو حيان التوحيدي) التي يعالج
فيها قضية المثقف في الوطن العربي والمحن
التي يعيشها بسبب انعدام حرية التعبير
ومصادر المواقف النبيلة وما يترتب عن ذلك
من مآسي اجتماعية وسياسية وفكرية.
فأبو حيان المثقف رفض كل الإغراءات التي
قدمت لـه مقابل أن يتخلى عن مواقفه لصالح
السلطة الحاكمة. وقد جر عليه تمسكه
بمواقفه مآسي تعكس بحق الوضع التراجيدي
الذي عانيه المثقف في مجتمع تغيب فيه
الديمقراطية كالمجتمع العربي ومن بين
مظاهرها اتهامه بالزندقة ومحاكمته
ومتابعته وحرمانه من المناصب وأسباب
العيش. إلا أن أقساها مشهد بيعه لزوجته
أولاً وموته في الخلاء وهو يأكل الحشيش
والكلأ كالبهائم^(^^) بعد ذلك.
إن المسرح الشعري عند البرادعي يختزل
الهموم العربية في صور رمزية شديدة
الإيحاء وإذا كانت بعض الموضوعات
كالديمقراطية والحرية والصراع الطبقي
تأخذ صبغة عامة في مسرحياته، فإن بعضها
الآخر يأخذ صبغة خاصة، كموضوع الاستيطان
الصهيوني في فلسطين.
ويمكن اعتبار مسرحيته (جزيرة الطيور) أحسن
نموذج لذلك. وهي مسرحية تعتمد على حكاية
شعبية مؤادها أن الملك وردان استولى على
عرش أخيه الذي قتل في ظروف غامضة، وقرر أن
يمحو صورة العدل التي كان يتحلى بها أخوه
فأرسل ابنه ميمون للاستيلاء على (جزيرة
الطيور)، لأنها تنغص حياته بسبب ما تنعم به
من سلام وسعادة، ولأنها من جهة أخرى تذكره
بأخيه الذي صار ملكاً عادلاً بمجرد عودته
من إحدى زيارته لها. وحتى يغري ابنه، قرر
الملك أن يكون غزو الجزيرة بمثابة صداق
لابنة عمه التي رغب في أن يزوجها لـه. ولما
وصل ميمون الجزيرة، اكتشف أن أهلها عزل
يعيشون بالحب ولا يعرفون الأذى. وهناك
تعريف إلى حورية من جنس نوراني تطير في
السماء، ولكنها حين تنزل إلى الأرض تتحول
إلى فتاة بارعة الجمال، فتنشأ بينهما قصة
حب تعلم من خلالها ميمون كيف يمقت الحرب
ويدعو إلى الحب وعلم كل ذلك لجنوده. وهكذا
مكثوا في الجزيرة ـ بعد أن رفضوا الانصياع
لأوامر الملك الجبار ـ إلى جانب ميمون
وحورية وخطيبته الأولى التي رفضت كذلك
العيش في قصر الملك وردان.
هذه خلاصة مسرحية (جزيرة الطيور). أما عن
أسلوبها العام، فالمبدع خالد البرادعي
اعتمد فيها على عناصر الفانتازيا
والإدهاش. لذلك استعان بشخصيات تتعالى على
الطابع الإنساني. (فحورية) حمامة وإنسان
نوراني لا يراها غير ميمون، وتنطق بالحكمة
وتستشرف بالمستقبل (والشيخ) يقطع
المسافات، ويظهر ويختفي بشكل يذكرنا
بعالم السحر والعفاريت وما إلى ذلك. وقد
وظف الشاعر إلى جانب ذلك لغة إيحائية
شديدة الشاعرية حتى تحس أمامها بأنك تقرأ
تراتيل أو ابتهالات.
أما الصورة الشعرية، فتغرف من عوالم
خيالية تتجاوز العالم المحدود بماديته.
لذلك يصعب تحديد جغرافية الصورة الشعرية،
لأنها تتعامل مع الحدس والمتخيل
واللاشعور والأحلام وغيرها...
ولكن إلى جانب ذلك، نلمس الطابع الرمزي
الذي نجد لـه مرجعاً في الواقع العربي
والذي يؤكد فعل مصادرة الإنسان وكرامته
وسلامته، ناهيك عن القيمة الأساسية التي
يعالجها النص المتمثلة في رفض كل أنواع
الاستعمار، والاستعمار الصهيوني في
فلسطين بشكل خاص.
فالملك وردان في المسرحية رمز للمستعمر
الغاصب، وهو أيضاً رمز لكل السلطات التي
تحافظ على استمرار بقائها بمصادرة الآخر.
وميمون هو الصوت الآخر الفطري في الإنسان
الميال إلى المسالمة والحب. أما حورية،
فيمكن أن تكون هذا الممكن الذي نبحث عنه،
لأنها تجمع بين عالمين يبدوان متعارضين
بالرغم من أنهما متكاملان، وهما: عالم
الروح وعالم المادة. ويعتبر الشيخ لسان
الشاعر نفسه، لأنه الذي يقود خطوات ميمون
ومن يرشده إلى الفعل السليم. لذلك نجده في
نهاية المسرحية يدعو ميموناً إلى

الاندماج في الناس ووضعهم أمامه، لأنهم
القادة بدلاً من أن يكون الفرد هو القائد،
فالفعل الصحيح هو الفعل الجماعي الذي تصبح
فيه البطولة جماعية..
الشيخ : أحبتك الطيبون وراءك
فدعهم أمامك
لديهم بأكواخهم وخصاص البيوت الصغيرة
مزارع حب كبيرة
وأكبادهم يملأ الدفء أركانها
ذب بهم... بينهم كقطرة طيب.^(^^)
إن المسرحية لا ترتبط بزمان أو مكان
معينين، بالرغم من أنها توحي ضميناً بفضاء
لـه خصوصية واضحة وهي: الإرهاب ومصادرة
الإنسان، ومجتمعاتنا الراهنة مولعة بفعل
المصادرات.
ويعد الوطن العربي حامل لواء هذه
الخاصية، وقد برهن المبدع خالد البرادعي
على هذه الفكرة في أغلب أعماله الإبداعية
الشعرية والمسرحية، كما أكد ذلك صراحة في
مقدمة المسرحية حيث يقول متحدثاً عن
اختلاف الرواة حول مكان هذه المملكة: (لكن
خلافات أشياخنا الرواة والحكواتية ظلت
محصورة في الأرض العربية)^(^^).
وعلى العموم، فهذه المسرحية تشكل قفزة
مهما نحو الحداثة المسرحية. وليست الحداثة
مرهونة بشعرية الخطاب الشعري، ولكنها
مرهونة أكثر بدرامية الأحداث ودقة حبكتها
وفنيتها العالية.
فهذه الخصائص تضاف إلى النزعة التجريبية
والاغتراف الرمزي من التراث ومن الحكاية
الشعبية بشكل خاص إلى جانب الصورة الشعرية
المركبة واللغة التعبيرية الموحية، وما
يوفره المؤلف لأعماله المسرحية من صراع
درامي ونزوع نحو المأساوية، كلها خصائص
تؤهله ليقترب من الخطاب الحداثي في
المسرح.
إن درامية الحوار ليست صفة خارج سياق
النص، وإنما هي جزء أساسي فيه، وهو ما يفسر
ذلك التطور الطبيعي عند بعض الشعراء العرب
من القصيدة الدرامية إلى المسرحية
الشعرية كما هو الحال عند صلاح عبد الصبور
ومحمد الفيتوري ومحمد إبراهيم أبو سنة
وخالد محيي الدين البرادعي وغيرهم^(^^).
وما يلفت الانتباه أن هؤلاء وفئة قليلة
أخرى هم الذين يؤسسون الخطاب الحداثي في
المسرح الشعري، وإن كان الخطاب في بداية
الطريق طبعاً، بسبب العملية المركبة
والمعقدة التي يتطلبها هذا النوع من
الإبداع، على كاتب المسرحية الشعرية أن
يصارع في واجهتين: واجهة المسرح وواجهة
الشعر. كذلك نادراً ما تكون حظوظ النجاح
متوافرة. فالشعر المسرحي كما يقول أحد
الدارسين (هو خلاصة الحكمة ومنتهاها وهو
ذوب التجربة الإنسانية وتألقها، يعبر
عنها بالشعر والروح، ويفيد هذا التصدي
لعالم الفعل في اتساع أفق الشعر المضيء
للشواغل الأكثر إلحاحاً في المأساوي
والإنساني)^(^^).
الشاعر الدكتور خالد البرادعي يبدأ
(الصعود إلى عرش فاطمة) قراءة في كيفية
القول وتحولات الرمز
محمد علاء الدين عبد المولى ^*
( أَتَنَامُ فاطِمَةٌ إِذا غَنَّيْتُ
أَمْ تَصْحُو إِذا سَمِعَتْ غِنائي؟
ما كُنْتُ إلاَّ حادياً زَرَعَ
الصَّحَارىَ بالنُّجومِ
وهَيَّجَ الأَحْلاَمَ قافِلَةً تسيرُ
على الْحُداءِ...)/ص39/
من خلال هذا المقطع الشعري، يمكن وضع
أيدينا على بقعة مهمة من مساحة التجربة
الشعرية التي يقدمها الشاعر خالد محيي
الدين البرادعي في ديوانه ( الصعود إلى عرش
فاطمة). فمثل هذا المقتطع الشعري يكثف إلى
حد بعيد عدداً من الملامح والإِشارات في
هذه التجربة الجديدة. منها ما يتعلق
بمفهوم الشاعر للشعر، ومنها ما يتعلق بدور
الشاعر تاريخياً، وتبني الشاعر خالد
البرادعي لـهذا الدور من جديد.
الشاعر يكتب قصيدته متجهاً إلى (فاطمة)،
وهي عدد من الرموز التي سنشير إليها كل في
حينه. فهل سيكون موقف الآخر من القصيدة
متجسداً بالنوم أم بالصحو وهذان الحدان
يفسران طبيعة قصائد الشاعر من حيث
انتماؤها إلى عدد مختلف من مستويات الخطاب
الجمالي الذي يؤدي كل مستوى وظيفة ما حسب
مكوناته الداخلية. فما يبعث على حالة
النوم والاسترخاء والوجدان اللطيف وما
إلى ذلك، يتحقق في القصائد التي تتشكل على
أرضية جمالية تخاطب الروح والذات، وتنقل
التجربة الداخلية للشاعر مما يفرض لغة
هادئة خفيفة. وما يبعث على عكس ذلك، أي ما
يستنفر الأعصاب ويقذفها في حالة التأهب
واليقظة القصوى، هو الذي يتحقق في القصائد
التي تستمد فاعليتها من علاقتها بالخارج
الصاخب المنكسر، أكان ثورة أم وطناً أم
تاريخاً أم... مما قد يفرض على القصيدة
نوعاً حاداً من البلاغة ، والوضوح القصي.
أما فاطمة التي هي الآخر المرسل إليه،
فستتعدد أشكال استجابتها للقصائد إذا حسب
ما أشرنا إليه. ويبقى الشاعر على كل حال

مؤمناً بوظيفة ما يقوم الشعر بأدائها، مذ
كان الشاعر (حادياً). والشاعر الحادي، الآن
وتاريخياً، يسعى إلى إنعاش مسار الرحلة،
واستنهاض الداخل المسافر، ومداعبة الوقت
القاسي بحيث يبدو أخف وطأة. هذا دور يعلنه
الشاعر من خلال
(ما كُنْتُ إلاَّ حادياً زَرَعَ
الصَّحَارىَ بالنُّجومِ
وهَيَّجَ الأَحْلاَمَ قافِلَةً تسيرُ
على الْحُداءِ).
لكن البرادعي إذ (يحدو) فليس لتسلية
القافلة التي يحدو لـها لا تحتمل أن تكون
التسلية هدفاً من أهدافها، لأنها قافلة
أحبطت وكفت عن البحث عن الفرح الممكن،
واستنفدت آفاقها ووصلت إلى مرحلة ما يسمى
فكرياً (مرحلة انسداد الآفاق). أي مرحلة
يصبح لزاماً معها- في مفهوم الشاعر من خلال
هذه القصائد- أن ترتفع طبقة صوته ويعلو
غناؤه ليقترب بذلك من مستوى الدور الذي
أخذه على عاتقه وهو (تهييج القافلة)
لتستيقظ وتستثار. إنه يصرخ في وجه هذه
القافلة
(مِنْ أَلْفِ عامٍ يُنادي بُطونَ
قَبيلَتِهِ في الشَّتاتْ
فَمَنْ أَرْهَفَ السَّمْعَ كَيْ
يَسْمَعَهْ؟ )/ص 107/
وكأنه يستعيد وظيفة الشاعر القديم في
بيانه (أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى/ فلم
يستبينوا الرشد الأضحى الغد) ومع أن هذا
الحادي يبدو غريباً في أهله، لكنه ما زال
يترحل بين القبائل منذ ألف عام (لنلاحظ
تذكير الشاعر لنا بأنه يستعيد ما كان
يفعله الشاعر منذ ألف عام)، يواسيها ويضمد
جراحها، ويصنع لقومه مفتاحاً لصباحهم،
فهل يستقبلونه أم يستفردونه ويتركونه
وحده ينقل أحلامهم ووردهم (على هودج اللغة
المبدعة). إذ يصر الشاعر على أن تكون أداته
المعاصرة (هودج اللغة المبدعة)، مع كل ما
يستلزم ذلك من معاناة فنية من دخل لغة
(الـهودج).
من خلال ذلك يصل قارئ الشعر هنا أن الشاعر
يمارس - على المستوى المفاهيمي- مفهوماً
(أصولياً) للحداثة. فإضافة إلى أنه حادي
القافلة، وناقل أحلامها على هودج اللغة،
فإنه قبل ذلك، وبعده ومعه، مشبع بروح نمط
المعلقة كمثال إبداعي يحتذى، وهو واع - من
خلال ما نلمسه من ملامح فنية- لما يقوم به
من تشبعه بهذا الروح. من هنا يبرز الشاعر
وكأنه هو الفارس، العاشق المدافع عن
حبيبته التي يحبها مثالاً مطلقاً، الراحل
بين أنقاض أمكنة الأمة المتداعية، الشاكي
من غدر عشيرته واستفراد القوم لـه.
واختيار الشاعر لدور الفارس هو شكل من
الالتزام بخطاب شعري سبق ,وأشرنا إلى بعض
عناصره. إنه خطاب العاشق المنتظر المخلص
المستجيب لكل نداءات أنثاه عندما تستصرخ:
من يحضنها هي الطير المرهق الذي فرد
جناحيه واحداً في (طنجة) والآخر في (الشام)،
فيرد عليها فارسها: (ناديت أنا يا مولاتي)
لأنه هو (الراهب والعاشق والساري في ليل
منسي مغلق). إن البرادعي يختصر في شخصه
(فارساً عاشقاً شاعراً) كثيراً من صفات
الكائن العربي المشرد في فيافي قبيلته
المعاصرة المشردة هي بدورها إلى جزئيات
ضعيفة، بحيث يتماهى ضعف الذات بضعف
الجماعة، وكلما تشتت العرب إلى (أعراب) زاد
إحساس الشاعر- والكائن معه- بأنه مطرود من
نسق الجماعة.
(وراحِلاً ما زِلْتُ أَطْلُبُ الْمَدَدْ
مِنْ تَعَبِ الرَّحِيلِ في مَسالِكِ
الأَعْرابْ
وكُلَّما أَوْغَـلْتُ في الْمَسِيرِ
أَوْغَـلَ الطَّريقُ في الْوِحْشَةِ
وَالْخَرابْ)/ص127/
إن البرادعي، كما تقدمه كتاباته شعراً
ومسرحاً وبحوثاً، شاعر قومي بامتياز،
يلهج بلغة (القوم) متشرباً ثقافتهم
وآراءهم وأحلامهم ومثالـهم الشعري، وهو
من أجل ذلك يبدع من خلال جولانه في ذاكرة
تراثية، وتاريخية مليئة برموز سياسية
وشعرية وروحية ودينية، كل ذلك في خطاب
ينحو في كثير من مسالكه المنحى
الأيديولوجي المشرب برؤية قومية عربية
للماضي والحاضر والغد.
وقد نرى في سياق ذلك تجانساً في مستوى
اللغة، كيفما كان شكل القصيدة الخارجي، من
نوع (التفعيلة) أو قصيدة(البيت)، أي أن
علاقة الشاعر بلغته- وهي الأداة الأهم في
إبداع الشعر- مرسومة وفق رؤية واحدة وليس
ثمة تجزئ في كيفية صياغة الوقائع والعوالم
التي بين يدي الشاعر كيفما كان شكل
الصياغة. فثمة صلابة في اللغة وتماسك في
بنيان الأدوات المتعلقة باللغة وصياغة
التراكيب وإنشاء الجمل الشعرية، وهذا لـه
مرجعية في القاعدة التراثية التي يؤسس
الشاعر عليها، وفي هذه المرجعية تتجلى
جماليات لا يتخلى الشاعر الحديث عنها.
إننا نقرأ في قصيدة على البحر البسيط: /ص33/
وَذُبْتُ في الْعِشْقِ حتى بِتُّ
مُنْجَرِداً

كَشَفْرَةِ السَّيْفِ أَوْ عُسْلوجَةِ
الْقَمَرِ
نقرأ كذلك في قصيدة تفعيلية:
((فُوَيْطِمُ رَقْصَةُ الْفَراشَةِ
السَّكْرَى إِذا مَشَتْ
وَرَجْفَةُ السَّيْفِ اليَمانِيِّ إِذا
ما الْتَفَتَتْ
وَوَمْضَةُ الْمَسْبوكِ مِنْ خُلاصَةِ
النُّضارْ
إِنْ ضَحِكَتْ )) /ص 61/
وإذا أراد الناقد أمام ظاهرة كهذه،
التساؤل عن سبب ذلك، فلن يجد- إضافة إلى
السبب السابق المتمثل في القاعدة
التراثية- إلا أن الشاعر يعلن تمسكه بهوية
شعرية صلبة في وجه ميوعة اجتماعية وثقافية
ومفاهيمية شائعة وخراب عربي في المواقف
والأفكار ، حيث لا يبقى لـه كشاعر- والشاعر
روح الأمة وورقتها الحضارية الغنية
بالاحتمالات- إلا أن يحصن اللغة على أنها
ذات وإبداع وشخصية مهددة. وهذا يسم اللغة
وأدواتها بنوع من الملامح الفنية مثل
انضباط الجملة -جملة قصيرة وفعلية غالباً-
بمسافة لغوية وإيقاعية محدودة الحركة،
غير مستغرقة في التشظي والتداعي مما
يستلزم وقفات موسيقية تساعد في ضبط الحركة
وهنا تفسير اعتماد الشاعر اللامحدود على
نظام التقفية.
وفي سياق تحصين اللغة وتأصيلها، كجزء من
تحصين الذات الفردية والجماعية، وتأصيل
التجربة الفنية كلها فيما بعد، تأتي قصائد
البرادعي المشغولة في مناخات الشعراء
القدماء في فصل (أصوات قديمة تحت عرش
فاطمة) حيث نرى -أو نسمع- أصواتاً لكل من
(أبي نواس- أبي تمام- المتنبي- أبي العلاء-
طرفة- دولقة المنبجي) وهنا يبرز شكل فني
معروف منذ عصر الإحياء الشعري، هو شكل
(المعارضة)، فكل صوت لهؤلاء يذكرنا بقصيدة
ما لـه، باستثناء صوت (دوقلة المنبجي) حيث
لم يلتزم البرادعي بقانون المعارضة، الذي
يفترض إضافة إلى وحدة الوزن، وحدة الروي،
الأمر الذي لم يتحقق بكامله هنا. (نذكر أن
روى قصيدة المنبجي هو حرف الدال في قصيدته
المشهورة باليتيمة ، أما روي قصيدة
البرادعي فهو الميم، مع وحدة الوزن).
وما يجمع هذه المعارضات أن الشاعر يختم
معظمها ببيت للشاعر المعارض، ما عدا شاعر
اليتيمة. وهي معارضات تقترح وحدة
والتحاماً بين البرادعي -كشاعر معاصر-
وتجارب كل من هؤلاء الشعراء، ويبدو هذا
واضحاً من اختياره للأسماء التي يناجيها،
فكل اسم يحمل تجربة متميزة في الشعر
والحياة والموقف والعلاقة مع عصره. وعادة
الشاعر الحديث أن يختار من رموز الشعر من
يرى أنه يمثل امتداد لتجربته، ويكشف
اتحاداً في المعاناة والأزمات التي
يعيشها، على صعيد الذات والمرأة والسياسة
والوجود والشعر نفسه. وهذا ما فعله
البرادعي تماماً...
فاطمة وتحولات الرمز:
تم التركيز فيما سبق على مسائل تقنية
وأدوات فنية في عمل الشاعر. ومع أننا لم
نستبعد من حديثنا عن التقنية والفن إشارات
على المادة الفكرية والموضوعية والرؤيا،
فإننا هنا سنتوسع في ذلك، مع توضيح علاقة
كل ذلك بـ (فاطمة) كرمز يتجلى في عدة أشكال
على امتداد قصائد المجموعة، التي تبدو
وكأنها كلها حواريات مختلفة من مقامات
مختلفة مع (فاطمة) التي نستطيع تحديد
علاقتها بالشاعر والقصيدة من خلال المقطع
التالي، وهو مقطع مهم على صعيد ما نزعمه
هنا:
(( تَتَرَبُّعُ فَاطِمَةٌ فَوْقَ
الْوَرَقَهْ
تُمْسِكُ عُنُقَ الْقَلَمِ وتَسْأَلَهُ:
مَنْ يَرْسُمُ صورةَ جَسَدِي،
ويُتَرْجِمُ أَعْمَاقِي
الْمُحْتَرِقَهْ؟
مَنْ صَوَّرَني قامَةَ أُنْثَى عاشِقَةً
أَوْ مَعْشُوقَهْ؟
يَتَشَهَّاها الشِّعْرُ ويَقْطِفُ
مِنْها أَلَقَهْ؟
مَنْ يَرْسُمُنِي ضَوْءاً، يَتَفَجَّرُ
دِفْئاً
يَلْمَسُهُ الشاعِـرُ في وِحْدَتِهِ
ويُعانِقُهُ أَوْ يَحْضُنُهُ حتى
يَرْويَ شَبَقَهْ؟
مَنْ أَسْمَاني اللُّغْزَ الْغامِضَ
والسِّرَّ الْمُغْلَقْ
تَتَخَيَّلُني لُغَةُ الْحُبِّ
وتَعْتَنِقُ زَوَايايَ الْعَبِقَهْ؟ ...))/
ص52/.
يضمر هذا المقطع الشعري كثيراً من عناصر
العلاقة بين البرادعي ورمزه الجيد
(فاطمة)، خاصة وأن البرادعي سبق لـه وأن
اقترح رمزاً شعرياً وفنياً وفكرياً في أحد
أميز أعمالـه الشعرية (عبد الله والعالم).
وإذا كان رمز (عبد الله) هو ذات الشاعر بما
هي ذات تكتسب ماهيتها من انتمائها إلى
الأمة، فإن (فاطمة) هي الآخر الذي لا تحيا
الذات من دونه، ولا قيمة لأحدهما خارج

الثاني. وكما يعلن البرادعي خلال كل قصيدة
من قصائد (فاطمة) رغبة في الحوار مع فاطمة/
الآخر، فإن فاطمة هي الأخرى بدورها، تخفي-
عند لحظة وعيها لمسألة أنها (ذات) أيضاً
وليس فقط (آخر) للشاعر- هذه الرغبة في
الحوار مع الشاعر الذي يصبح كذلك (آخرها).
هنا -وفي كل علاقة بين الذات والآخر- تبادل
في الوظائف والأدوار. وهي في المقطع
السابق تتساءل عمن يحاورها، عبر تساؤلـها
عمن يعيد خلقها على الورقة البيضاء، تريد
رؤية ذاتها مجسدة محسوسة، تريد من يصوغ
بيان جسدها ويعلنه على الملأ، تريد من
ينقلها من حيز الوجود الزائل (الجسد،
الأعماق المحترقة) إلى الوجود اللامتناهي
المتحقق في (اللغة)، حيث لن يبقى من فاطمة
غير ما كانت توحي به وتشير إليه، وهي عدم
خارج فعل الشعر الذي يضمن لـها إحساساً
بشرط الخلود. والبرادعي يمارس هذا الفعل
التخليدي لفاطمة فهو العاشق المنذور
لتحويل أحلام فاطمة إلى واقعة شعرية غير
راهنة، وهكذا تتكشف العلاقة الداخلية بين
فاطمة ولغة الشعر، وتلتقي الرغبتان في
لحظة واحدة: فاطمة الموضوع ، وأداة الخلق
المتمثلة بالشاعر. إننا نرى في قصيدة (حوار
مع شاعر اليتيمة) أن الشاعر يعلن بكل وضوح
إرادته في تحويل اسم (فاطمة) على رمز خالد
كما يفعل كل شاعر عاشق، كما فعل مثلاً صاحب
(اليتيمة) عندما خلد اسم (دعد). يقول
البرادعي:/ص205/
دَعْدٌ غَوَتْ، وأنا بِفاطِمَةٍ
لُصْقَ الْجُنونِ أُعَمِّرُ الْوَهْـما
أَتَراهُما خَلْقَيْنِ في نَسَقٍ
فَرْدٍ نَبيلِ النَّبْعِ إِنْ يُنْمَى ؟
أَمْ تَوْأَمَيْنِ لِسِفْرِ مَلْحَمَةٍ
لِلْعِشْقِ . إِنْ شُمَّا وَإنْ ضُمَّا
وكيف سيخلد اسم فاطمة إنه سيشكل لـها
أفقاً من التفاصيل واليوميات، متأملاً
أحوالـها وتقلباتها وأزمنتها، وارتباط
دلالتها بمجمل دلالات الـعصر سياسياً
وذاتياً وعاطفياً ومستقبلياً.
وما يجمع بين هذه المستويات كلها، أن
فاطمة هي الأنثى التي تدخل في جوهر
العلاقات بين الشاعر وبين هذه المستويات،
فمثلاً نرى أن خطابه السياسي المتكئ على
فاطمة، ليس محايداً، بل هو مشحون بالغيرة
عليها والتمسك بضرورتها. فاطمة هذه تعطي
مضامين الشاعر أبعاداً أخرى، هي في
السياسة رمز سياسي، وفي التاريخ رمز
تاريخي، وفي العشق امرأة من شهوة ونور،
وفي الوهم هي احتمال يطارده الشاعر بلغته.
إنه يربط منظومة رؤاه على اختلاف
محتوياتها بمحور واحد يحدد حركاتها
وسكناتها، هذا المحور هو بطبيعة الحال
(فاطمة). وفاطمة بقدر ما هي حاضرة بشكل مكثف
في كل صفحة في المجموعة ، فإنها كذلك
(غائبة)، والشاعر يغني لنا حضورها كلما ألح
على أنها ليست هنا بل (هناك) خلف الجغرافيا
الأرضية والروحية والحسية، وغالباً ما
نكتشف في هذا السياق مسافة- تتحكم بها
ضرورات الفن والإبداع- ما بين الشاعر،
وفاطمة، مما يترك المجال فارغاً أمام
إمكانية التواصل، الذي يبدو وكأن وسيلته
الوحيدة هي المجال اللغوي/ الشعري. أن
الشاعر يمارس شهوة البصر والاستغراق في
متابعة تحولات رمزه من حالة إلى حالة، حتى
ليذوب في تفاصيلها صوته الذاتي، وكأن
الـهاجس الأول والأخير هو إبراز فاطمة وهي
تتصاعد إلى مستوى (البطولة الشاملة) أو
مستوى المرأة/ المطلق المتمتعة بنسبة
هائلة من الطغيان المنتشر في ملكوتها حيث
تقعد هي متحكمة بخطوات الشاعر راسمة لـه
أقداره وأهواءه. إنها الكلية المستوعبة
للجزئيات العابرة، المجال الحيوي للطاقات
الكامنة في مخيلة الشاعر.
(( وفاطِمَةٌ بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ تُحاوِرُ
في الشام بَصْمَتَها
وتَزْرَعُ في الْقُدْسِ زَفْرَتَها
وتَسْكُبُ في النيلِ دَمْعَتَها...)) /ص87/
هي في كل الأماكن، لأن كل الأماكن مقدرة
لـها، هنا يمتزج الجمالي بالقومي، مما
يذكر بالموقف القومي المتكرر في الشعر
العربي منذ عصر الأحياء حتى مرحلة
الاستقلالات القطرية، المتجسد في نظرة
واحدة للوطن، بحيث إذا أصاب النيل جرح،
نزف الدم من دجلة (على سبيل المثال...) ومع
أن (المدى ضيق بين ليل المحيط وليل الخليج)
فإن الشاعر يصر على موقف العشق أمام هذا
الخراب العربي الشامل. إنه ليس فقط عشقاً
يهرب عبره الشاعر من التاريخ، بل هو العشق
الذي يضعه وجهاً لوجه أمام كل استحقاقات
التاريخ والأمة والحلم العربي.
((سافَرْتُ في خَرائِبِ التاريخِ ..
قُلْتُ:
نَسِيَتْ فاطِمَةٌ طَريقَها الْقَديمْ
فَلَمْ أَرَ الدِّيارَ، لَمْ أَرَ
الطُّلولَ والسُّيولَ والرُّسومْ
ولم تَلُحْ فاطِمَةٌ في هَوْدَجٍ
يَحْفُزُها لِلْحُبِّ شِعْرُ عاشِقٍ
مَجْنونْ )) /ص129/.
لقد بدا للناقد المتتبع وكأن (فاطمة)

شخصية شاملة، بما تعنيه هذه الأخيرة من
إمكانيات إلى التحرك على مسرح الأحداث كما
تشاء إرادة الشاعر. ففاطمة هي المرآة التي
تتمرآى بها كل شخصيات الكتاب وأفكاره
وأحلامه. أي أنها بتعبير أدق: حامل جمالي/
فكري للتجربة التي هو في صدد صياغتها
ونقلها إلينا. إنه يدفعها للحديث باسمه عن
أي شيء يراه أو يحلم به موكلاً إليها مهمة
القيام بدور الراوي لسيرة الشاعر في
علاقاته المتعددة مع العالم.
يقول لـها (( إِرْوي هذا الْخَبَرَ
فِطامْ)) وعندما يريد صياغة أسئلته حول ما
شاهده أو حلم به فإنه يتوجه بالتساؤلات
إليها، وعندما يصرخ في وجه العالم بأن هذا
العالم كاذب، يقول لـها (( ما أَكْذَبَ هذا
الْعالَمْ)). وإذا صرخ ((الطِّفْلُ
الْجائِعْ / وتَشَبَّثَ بِحِذاءِ
الضَّابِطِ يَسْأَلُهُ/ عَنْ قَبْرِ
أَخِيهِ الضَّائِعْ )) يقول لفاطمة ما كنت
معي عندما صرخ هذا الطفل...
وتبرز قيمة أخرى من مجمل القيم الروحية
التي تختزلـها فاطمة في ذاتها، عندما يقف
الشاعر موقف (خريف العمر)، ويستدعي مفردات
(الجفاف- جيوش الشيب- الثلج) وما غير فاطمة
من يعيد شباباً مفتقداً، وتمنح الشاعر
الذي يتآكله إحساس الغروب، لغز العودة إلى
(بداية التكوين):/ص177/
ضَحِكَتْ فاطِمٌ وقالَتْ : تَجَدَّدْ
كُنْ رَبِيعاً كَخُضْرَةِ الزَّيْتونِ
قلتُ : إني كما تشاءُ فَطيمٌ
فامْنَحيني بِدايَةَ الْتَّكْوِينِ
إن اسم فاطمة يتلون ويتغير حسب حالة
المقام الذي يشهده الشاعر، لـهذا نرى أن
الشاعر مغرم (وهذا مفهوم حتى على الصعيد
النفسي لعاشق يستهويه تكرار اسم من يهوى)
باشتقاقات متلونة للاسم: (فاطمة- فطيم-
فاطم- فطام- فطيمة)حتى أنه في أحد المواقف
يبعثر الاسم إلى حروفه المفردة، ويضع أما
كل حرف مسمى آخر يرى أنه مناسب لوقع هذا
الحرف عليه: (ف/فراشة- أ/أريج- ط/طائر عشق-
م/ملاذ - ة/ تواصل)...
أخيراً، إذا كنا أشرنا إلى مسافة من
المعاناة بين الشاعر وفاطمة، وأشرنا إلى
استحضار الأنثى والجسد وتحولاتهما من
خلال عالم اللغة والكلمات والتكوينات
الشعرية، فإن الشاعر في مجموعته يمارس
شكلاً آخر (جديداً بالنسبة إلى طباعة
مجموعاته فيما أرى) من أشكال استحضار هذه
الأنثى الغائبة، وطريقة الاستحضار هنا
تدل على مقدار الغياب الذي تتوغل فيه
فاطمته، عبر ملء صفحات المجموعة والبياض
المحيط بالكلام، بتشكيلات فنية ورسوم
مختلفة محورها كلها الجسد الذي ينتمي إلى
ذائقة عربية موغلة في الأصالة والجرأة
معاً، جسد يذكر بجسد (امرئ القيس)، ويوحي
بعلاقته مع مفردات الصحراء والخيل والقمر
البدوي والعراء الكامل. إنه جسد فني يمثل
خلاصة تأملات الشاعر في جسد غيابي، ببيانه
المباح وأكوانه الايروسية اللذيذة، بيان
صاغته يد حساسة وخيال شبق مجنون، أرى أن
بعضاً من القصائد لم تصل في لحظات شبقها
واشتهائها إلى مستوى الخيال المعبر عنه
بالرسوم والتصويرات. وكأن الشاعر عندما
يضطر للإحجام عن تعرية الأنثى في القصيدة،
يطلق العنان لداخله في رسم خطوط وتضاريس
الجسد بحرية مطلقة، حتى ليخيل إلي أن
الباحث عن علاقة وطيدة بين اللغة الشعرية
وهذه الرسوم، لن يجد علاقة، نظراً للتفاوت
الكبير بينهما في مسألة تنازل عالم المرأة
بما هي جسد ونبع لذة لا ينضب. لـهذا قد
ننظر- وهذا أقرب للقراءة النقدية
الموضوعية- إلى الرسوم العارية على أنها
عمل فني آخر ينشره الشاعر في هذه
المجموعة، ليضعنا أمام شكلين تعبيريين
لفنان واحد...
***
(الصعود إلى عرش فاطمة) - شعر: د.خالد محيي
الدين البرادعي - منشورات دار الذاكرة-
حمص- 1997- في السلسلة الإبداعية.
ملحمة ميسلون للشاعر الدكتور خالد محيي
الدين البرادعي
محمد عزّام^*
عُرِفَ الشاعر خالد محيي الدين البرادعي
بمسرحه الشعري النضالي المستمد من
التاريخ والتراث الشعبي العربي، استجابة
للأحداث العاصفة التي تهز الوجدان العربي
في وقتنا الراهن. فهو ينطلق من مقومات
الوجود القومي، والإيمان بزهو الحضارة
العربية واستمرارها، والثقة بالمستقبل
العربي، ويدعو إلى تفتح الذات العربية
وتحقيق العمل القومي. ولـهذا تصدى
للموضوعات القومية في كثير من كتبه وشعره
ومسرحياته التي هي مباشرة للوعي القومي
الناهض في ضمائر أشخاصه، وفي تطلعه إلى
كتابة مسرح شعري نضالي يحتفي بالموضوع
القومي على نحو صريح، كما يحتفي بالموضوع
الوطني.
وإذا كان شاعرنا الكبير أحمد شوقي هو الذي
أدخل المسرح الشعري إلى أدبنا الحديث حين
وضع أول مسرحية شعرية عام 1893، استمدها من

تاريخنا الحديث، فإن تابعيه قد ساروا على
نهجه، حتى ومنهم البرادعي الذي استمد من
تاريخنا القريب (معركة ميسلون) التي وقعت
يوم 24 تموز عام 1920 والتي أصبحت منارة في
النضال الوطني، يستمد منها الشعراء
قصائدهم الوطنية، والأدباء رواياتهم،
والمسرحيون تمثيلياتهم. يقول المؤرخ
إحسان هندي في كتابه (كفاح الشعب العربي
السوري): "كان يوسف العظمة موقناً بأنه
ليست هناك أية فائدة من الدفاع، وأنه مقبل
على الموت لا محالة. ولـهذا فقد قال الساطع
الحصري، وهو يودعه: إني أترك ابنتي الوحيدة
ليلى أمانة في أعناقكم. ثم انطلق إلى القصر
الملكي ليستأذن الملك فيصل في الذهاب على
ميسلون قائلاً:
- أتيت لأتلقى أوامر جلالتكم
فأجاب الملك: - ولماذا تصرّ على الدفاع
بشدة؟
قال: - لأنني لم أكن أعتقد أن الفرنسيين
يتمكنون من دوس جميع الحقوق الدولية
والإنسانية ويقدمون على احتلال دمشق.
فعلّق الملك ببيت من الشعر:
حتى يُراق على جوانبه الدم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
قال: - فهل يأذن لي صاحب الجلالة أن أموت؟
قال الملك: - يجب علينا أن نموت جميعاً
شرفاء.
فقال:- إذن فإني أترك ابنتي الوحيدة لدى
جلالتكم" (49- 40).
فماذا يتوقع القارئ أن يكتب الشاعر عن هذا
الحدث التاريخي المشهور، غير شعر يعيد فيه
تصوير يوسف العظمة يقود "جيشه" الصغير الذي
هو عبارة عن تجمّع متطوعين تأججت في
ضمائرهم حمية الكرامة والوطنية، لم
يتجاوز عددهم الثلاثة آلاف، منهم ستون
جندياً نظامياً فقط. جابهوا بالعصي
والسكاكين والبنادق جيش فرنسة الذي يزيد
عدده على التسعة آلاف جندي مدجج بأحدث
الأسلحة والمعدات، من مصفحات ودبابات
وطائرات. في معركة غير متكافئة، سقط فيها
أربعمائة شهيد، ومن بينهم يوسف العظمة،
قبل أن تعبر الحملة الفرنسية الغازية على
جثثهم.
فماذا فعل البرادعي^(^^) في "ملحمته"
الشعرية هذه؟^(^^) والملحمة أصلاً هي قصة
بطولية خارقة للمألوف، سُمّيت بذلك لكثرة
سقوط القتلى فيها، وارتكزت على الشعر
المعني بالمآثر البطولية. وهل لديه هامش
من الحرية كي يعدّل أو يغيّر شيئاً؟
هذا ما سنراه لاحقاً.
وقد اعتمدنا في دراستنا لـهذه الملحمة
منهجاً يعتمد الخطوات التالية:
?
الحدث الملحمي. ?
البناء الملحمي. ?
الصراع في الملحمة. ?
الحوار في الملحمة. ?
الشخصيات في الملحمة. ?
تقنية التداعي. ?
التناص.
1- الحدث
يقوم الحدث على الاختيار والعزل.
فالاختيار هو أن يختار المؤلف حادثة أو
جانباً من جوانب الحدث يرى أنه صالحٌ لأن
يكون مادة لعمله الفني، أو يقدر أنه يمكن
أن يثير اهتمام المشاهد أو القارئ. وعلى
هذا فإن الشاعر قد اختار معركة ميسلون
حدثاً تاريخياً مشرفاً، وعمد إلى التركيز
على هذا الحدث، وعزله عما ليس لـه علاقة
به، وعرض من خلالـه ما يريد أن يصوّره من
عواطف وأفكار.
ولقد اطلع الشاعر اطلاعاً وثيقاً على
التاريخ وألم بجوانب معركة ميسلون كلها،
فذكر كل شيء عنها: الإعداد السريع، والقوى
غير المتكافئة، والعمل الانتحاري الذي
قام به يوسف وصحبه، وترك ابنته الوحيدة. بل
إنه جاء على ذكر أمور كانت مكبوتة من قبل
مثل قطع يد الجنرال الفرنسي في حرب
الدردنيل، والـهمس بأن يوسف قد قتل غيلةً
من خلفه.
*
2 - البناء الملحمي:
هو تفاعل الشخصيات والأحداث في صورة حوار
أو فعل. ويتكون البناء الملحمي من ثلاثة
عناصر، هي: العرض الذي قدّم الشاعر في
الفصل الأول فكرة عامة عن الملحمة ليهيء
الأذهان للحدث ويشوّق النفوس، ويعرّف
بالأشخاص والمكان والزمان. والعقدة التي
تشتبك فيها الوقائع حيث الجيشان على روابي
ميسلون في معركة غير متكافئة. والحل الذي
جاء في خاتمة الملحمة حيث حسمت المعركة
لصالح العدو بعد أن استشهد البطل يوسف
العظمة.
وقد لجأ الشاعر إلى تقسيم ملحمته إلى أحد
عشر فصلاً بعدد إخوة يوسف الذين ألقوه في
الجب في النص القرآني. وهي لفتة ذكية إلى
الراهن العربي الذي أصبح العربي فيه يلقي
بأخيه إلى العدو ليذبحه.
في الفصل الأول (حوار الوحدة): يُنادي يوسف
بأن يُسرج فرسه ويهئ للرحيل "أنت موعود من

الغيب". وهذه إحدى سمات البطل (التراجيدي)
الذي ينذر نفسه لقضية يعرف أنه سيدفع
حياته ثمناً لـها، فلا يحيد عنها، ولا
يـهرب منها، لأنه مسوق إليها بقوة
قَدَرية:
- : لَيْسَ وَهْماً ذلكَ الصوتُ
ولا في الْحُلمِ جاءْ
إنَّهُ يأتي مِنَ الأَعْلى
ويَنْصَبُّ هُطولاً مِنْ سَماءْ
فماذا يطلب (صوت الغيب) من يوسف؟:
أَسْرِجِ الْمُهْرَ، فَأَرْجالُ
الْجَرادْ
غاَدَرَتْ شاطِئَها الشَّرْقِيَّ جوعاً
لتكونَ الشامُ مَرْعىً
ولأَيَّامٍ مِنَ الدَّهْرِ شِدادْ
تأكُلُ الضَّرْعَ
وتَمْحُو الزَّرْعَ
تَغْتالُ الولاداتِ
..................
هكذا حمّله (الصوت الخفي) مهمة الدفاع عن
الوطن، ورغب منه في أن يكون فادياً
وهادياً، يضحّي بنفسه من أجل وطنه
والآخرين:
- : كُنْ لهذي الرِّدَّةِ الكُبْرَى
أَبا بَكْرٍ جديداً
و لـهذي الْفَتْرَةِ الْعَمْياءِ
هاديَها
تَكُنْ إِنْ تَفْعَلِ الْحادي
وفاديها الْعَميدا
في الفصل الثاني(الخروج من الذات) يجمع
يوسف أهل الحمية للدفاع عن الشام التي
شيعت بالأمس كوكبة من شيوخ الفكر والحرية
شنقاً. سابقوا الموت إلى الخلد ضيوفاً.
ورأى يوسف أن الشام قد نامت على جرح يغطي
الجرح. يوسف لا يوسفاً كان إذا لم يضمّد
جرحها:
وَمَضى يوسُفُ
في لَمِّ شَتاتِ الْقَوْمِ
مِنْ دارٍ لِدارْ
يَغْسِلُ الأَكْبادَ مِنْ يَأسِ
الشَّحيحينَ
ومِنْ عُقْمِ الْبَوارْ
فاضِحاً عَتْمَ الْوِشاياتِ
بِمِصْباحِ الْحِوارْ
نازِعاً بُؤْسَ الْغِشاواتِ
بما يَحْمِلُهُ الفارِسُ مِنْ نورٍ ونارْ
...
ويُنادي:
- : أيُّها الْقَوْمُ اسْمَعوني
أنا ماضٍ
لأَرُدَّ الغَزْوَ عَنْ تاريخِكُمْ
في الفصل الثالث (الخطوة الأولى): يسير
البطل التراجيدي يوسف العظمة إلى قدره
المحتوم، على الرغم من علمه بأنه ميت لا
محالة. ومع ذلك فهو ماضٍ في طريق الشهادة
يقابل الأعداء بهمة الأبطال:
أَيْقَظَتْ خَطْوَةُ يوسُفَ أَهْـلَ
الشَّامِ
فانْشَدَّتْ عُيونٌ نَحْوَهُ
موجَعاتٌ قَلِقَهْ
وقلوبٌ حَضَنْتَهُ
وجِراحاتٌ بها مُحْتَرِقَهْ
سَمِعَ الفارِسُ في خُطْواتِهِ الأُولى
حَفيفَ الدَّعَواتْ
ورأى مِنْ خَلْفِ بِللَّوْرِ الدُّجَى
ثاكِلَةً تَنْدُبُ إِبْناً ضِاعَ في
الْحَرْبِ
وأُنْثى أَرْسَلَتْ أَجْفانَها خَلْفَ
حَبيبٍ
وأباً يَسْأَلُ في رَكْعَتِهِ اللَّهَ
عَنِ الإِبْنِ الذي لَمْ يَرَهُ مُنْذُ
سِنينْ
الفصل الرابع (ليلى والقُمرية): تصوير
لحال ليلى ابنة يوسف العظمة الوحيدة التي
تركها أبوها دون وداع. فقد أفاقت صباحاً
فلم تجد أباها. فهرعت إلى شيخه (بدر الدين)
في الجامع الأموي تسألـه عنه وتنادي:
-:يا إِمامْ
سيدي يا شَيْخُ بَدْرُ الدِّينِ
يا شَيْخَ الشَّآمْ
والدي الْيوسُفُ قَدْ غابَ
فَأَرْشِدْني إلى وَجْهَتِهِ
إنَّكَ الصاحِبُ والرَّائي
وأنتَ الأَبُ للوالِدِ
فأجاب بدر الدين: لا
هَلْ يَفِرُّ الطَّودُ مِنْ مَوْقِعِهِ
اِصْبُري يا بِنْتَ يوسُفْ
يوسُفُ الْعَظْمَةُ طودٌ لَنْ يَفرّا
....
قاسَيونٌ مِثْلُهُ
وبهِ ما في قَوامِ الْجَبَلِ الرَّاسي
ثَباتاَ وَثِقَلْ
الفصل الخامس (حديث بردى): يحاور يوسف
العظمة نهر بردى بقولـه:
إنَّكَ الْخالدُ في هذا الَمْدَى
إخْلَعِ الصَّمْتَ وقُلْ يا بَرَدى
هَلْ صَلاحُ الدِّينِ صَلىّ
مِثْلَما صَلَّيْتُ في أَعْتابِكَ
عَبْداً ساجِدا؟
إحْكِ لي يا بَرَدى

كَمْ عَظيماً
غَلَّفَتْ أَمْواجُكَ مِنْهُ الْكَبِدا؟
لكن بردى صامت لا يجيب.
في الفصل السادس (الجمجمة): يعثر يوسف وهو
في طريقه على ميسلون بجمجمة. أوقف المهر
وهاجت موجة من أخيلة. أنسته أفكاره وأنبتت
في ذهنه شتى الخواطر. فراح يسائل الجمجمة:
نادى بِلُطْفٍ: أَنْتِ
يا هارِبَةً مِنْ سَطْوَةِ الإِفْناءِ
في أَيِّ زَمَنْ؟
كُنْتِ رَأْساً لِكِيانٍ آدَمِيٍّ
ثم أَمْسَيْتِ كما لَوْ كُنْتِ جُزْءاً
مِنْ وَثَنْ؟
.......
ولِمَنْ كنتِ؟
لأُنْثَى عَشِقَتْ؟
أَمْ لإُمٍّ أَرْضَعَتْ؟
أَمْ لِعَذْراءَ سَقَتْ أَحْلامَها
الْخَجْـلَى
وظَلَّ الْمُشْتَهى
حُلْماً جَميلاً
وانْطوى تَحْتَ الْكَفَنْ؟
أَمْ لِشيْخٍ ضاعَ في وِحْدَتِهِ
واْبتعَدَتْ عنهُ فُصولُ الْعُمْرِ
فاسْتَلْقى على صَدْرِ الْوَهَنْ؟
أَمْ لِمَسْجونٍ قَضى تَحْتَ الْعذابْ
شالَهُ الْجَلاّدُ سِرًّا
ثم أَخْفاهُ بهذا الْكَهْفِ مِنْ غَيْرِ
ثِيابْ
مُخْفِياً آثارَهُ
عَنْ أَيّ أَهْلٍ أوْ جِوارٍ أَوْ
وَطَنْ؟
أَمْ لِغازٍ
داعَبَتْهُ الأُمْنياتُ البيضُ
وانْفَضَّتْ لِيلْقى حَتْفَهُ
مُغْتَرِباً
خارِجَ أسْوارِ الأَماني
وبَعيداً عَنْ صَباباتٍ
بِلُقْياها افْتَتَنْ
أَمْ على قامَةِ جَبَّارٍ عَتِيِّ
.........
وكأنما استشف يوسف مصيره المحتوم، وأنه
لن يبقى منه سوى جمجمة تحكي قصة حياته
للأجيال. فجاءه من حفر الأنف والعينين
صوتٌ كالصفير:
-أيُّها القادِمُ مِنْ أصْلِ البطولاتِ
إلى عَصْرِ السُّقوطْ
تَحْمِلُ النُّبْلَ دَماً
والفُروسيَّةَ هَمَّاً عربياً
لا يُدانيهِ القُنوطْ
ليسَ هذا الْعَصْرُ عَصْرَكْ
فالزْمِ الصّمتَ وَعُدْ
.......
قالَ: لا
يوسفُ العَظْمَةُ نادى:
-: أَلْفَ لا
رَدَّدَ الوادي ومَوْجُ النَّهْرِ
والْحوْرُ
وقَلْبُ الكْهفِ: لا
...........
يوسُفُ العظمَةُ ظَنّ الأُمّةَ
المجروحَةَ القَلْبِ
تُنادي: أَلْفَ لا
في الفصل السابع (الجبهتان): يصل يوسف إلى
الجبهة في ميسلون، فيخاطب الأعداء راغباً
منهم السلام، لأنه ليس بينهم وبين بلادهم
عداوة، قائلاً:
-: أيُّها الآتونَ
مِلْءَ البَحْرِ والبَرّ ومِلْءَ الجَوّ
مِنْ خَلْفِ البحارْ
كُتَلاً زَحّافَةً
يَحْملُها عِشْقُ التَّشَفيّ
مِنْ حَديدٍ وجحيمٍ وغُبارْ
........
أفلا يُفْتَحُ في كَوْكَبنا
دَرْبٌ بدونِ الحرَبِ والتّقْتيلِ
............
إنّ عَرْضَ الأرْضِ مَبْسوطٌ لأَطْفالٍ
إلينا وإليكُمْ قادِمينْ
فدعوا الأَطْفالَ
للْحُبّ، وللحُسْنى، وللنُّعْمى مَنامْ
لا تَجبُوّا الزّهْرَ والنَّخْلَ ولا
تَذْبَحوا سِرْبَ الفراشاتِ
وأطيْارَ الحمَامْ
ولكن صوت الحديد جاءه كالرعد مدوياً:
-: يوسُفُ العَظْمَةُ لا تُطْفِئْ
مَصابيحَ الحضَارَهْ
لا تُعَطِّلْ سيرَةَ المَدِّ
بإغْلاقِ مَنارَهْ
..........
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ إِرْجِعْ
ضَجَّ فينا الصَّبْرُ
واحْمَرَّتْ جُفونُ التُّؤَدَهْ
ولقد جِئْنا
نُقيمُ الألَقَ الْغَرْبِيِّ في الآفاقِ
لا أَنْ نُقْعِدَهْ
..........
ليس في قُدْرَةِ فَـرْدٍ
فارسٍ مِنْ حَوْلِهِ مُنْتَحِـرونْ
أَنْ يُجيدَ الصَّدَّ والرَّدَّ على

قُوَّاتِنا الْمُمْتَنِعَهْ
لكن يوسف لم يخش ولم يذعن لمن عرّضه للذل.
وحملقت عيناه في الآلات والعدد والأعداد،
فرأى بغياً عتيا، فاستوى فوق جواده شامخ
الصدر أبياً. فجاءته أصواتٌ من الخلف
تحذره وتنذره بأنه لن يستطيع الصمود أمام
هذه العدد والأعداد. فليسالم وليحافظ على
حياته وحياة صحبه. ولكنه ينهر هذه الأصوات
المترددة الخائفة المتلفعة بأردية
الحكمة.
في الفصل الثامن (الصعود): تلخيص لمجريات
المعركة، فقد زمجر صوت العدو الوحشي ينذر
الوطنيين بالعودة، لأن قرار الزحف قد
كُتب، ولن يرجع عن موقفه جنرال فاتح باسم
فرنسة ما كتب.
أما يوسف فقد مضى يلهب الفرسان تحريضاً،
رافعاً راية المجد، صارخاً بالأعداء:
-: بَلِّغوا مَنْ سَقَطَتْ يُمْنى يَدَيهْ
في مِياهِ الدَّرْدَنيلْ
..........
سَيَرى يُسْرى يَدَيْهْ
وَحْدَها مُنْزوعَةً مِنْ كَتِفَيْهْ
..............
أنَّ لَحْمَ الشَّامِ مُرُّ
ويَدُ الشامِ إلى زائِرِها حُبّاً
بإِكْليلٍ من الزَّهْرِ تَميلْ
والَّذي يَرْتادُها
غَزْواً، وفَتْحاً، وسِفاحاً
سَتُواريهِ وتَبْقى بَعْدَهُ
............
فاجَأَ الشَّامَ غُزاةٌ
أَقْبَلوا مِنْ شَرْقِ وَحْشِيِّ
التَّتَرْ
وغَزاها في صَقيعِ اْلأَعْصُرِ
الْعَمْياءِ
رومانٌ وَرومْ
.........
وطَغى فَوْق رَوابيها الْخَزَرْ
وصَليبِيوُّنَ قَدْ شَدُّوا الصَّواري
لشَواطيها سِفاحاً، وغِوىً
............
وغَزاها عاهِلُ التُّرْ كِ بِجِلْبابِ
التُّقَى
كُلُّهُمْ مَرُّوا
وظَلَّتْ ضَحْوَةُ الشَّامِ على
الشَّامِ
كَوَرْدِ الشَّامِ نَدْيانَ مَعَ
الصُّبْحِ اْلأَغَرّ
ست ساعات والمعركة محتدمة. وقد نفدت ذخيرة
الوطنيين فقرروا أن يجابهوا النار
بصدورهم. ويجرح يوسف في يده، فلا يبالي.
ويردد: لا لن يمروا. لا لن تمروا. وصوت وحشي
يردد:
-: مَزِّقوا هذا الْعَنيدَ الْفاقِدَ
الْجَيْشَ
وما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ عَتادْ
أَيُّها الْمَغْرورُ فَوْقَ الْمُهْرِ
هَلْ تَحْسِبُ أَنَّ السَّيْفَ يَحْمي
فارِساً
مِنْ قاذِفات الْمَوْتِ في هذي الوِهادْ؟
وتنهال قذيفة مدفع على صدر يوسف، فتنهار
قمة من شامخ العز إلى فسحة التاريخ. واختفى
من ظل حياً من جنود الصدّ.
في الفصل التاسع (رؤيا الشيخ بدر الدين):
تهرع ليلى إلى الشيخ بدر الدين تسأله عن
مصير والدها. ولكن شيخ الشام صامت. يرتقي
في عالم التهويم:
-:يا لَيْـلى اصْبِري
فالصَّبْرُ مِعْراجُ الرَّجاءْ
..........
فَأَبوكِ الآنَ يَعْلو
مِنْ سَماءٍ لِسَماءْ
إنَّهُ ضَيْفٌ على كَوْنِ الأَساطيرِ
كأْبَطالِ الأَساطيرِ
وفي الْكوْكَبَةِ الْعُلْيا أَميرُ
الْعُظَماءْ
في الفصل العاشر (عودة الجواد): يعود فرس
يوسف وحيداً دون فارسه. يخبط الباب فتهرع
ليلى ظناً منها أن أباها قد عاد. وفي لمح
تلمع في ذهنها شتى الصور والأفكار: فيا شام
، يا قمرية الشباك، يا نافورة الحوض، يا
نارنجة الدار. ها يوسف قد عاد، فكيف يقول
الشيخ إنه قد مات. وفتحت الباب فإذا دموع
المهر تملأ مقلتيه. والدم الساخن سيال على
العرف والجبهة. صعقت ليلى وحملقت كالحجر
الجامد من هول الذهول. هرعت ليلى إلى عتمة
الشارع تقول.
-: عُدْتَ يا مُهْرُ وَحيداً
وأَبي أَيْنَ تَرَكْتَهْ؟
دُمُهُ هذا عَلى وَجْهِكَ
أَمْ دَمْعُ الشَّآم
عِنْدَما لامَسَ عَيْنَيْها دَوِيُّ
الْفاجِعَهْ؟
لَيْسَ مِنْ عادات هذا الْفَرَسِ
الْموغِلِ في التَّأْصيلِ أَنْ يَهْرُبَ
مِنْ فارِسِهِ
كَيْفَ يا مُهْرَ أَبي تَأْتي وَحيداً؟
في الفصل الحادي عشر والأخير (سبعة مشاهد):
?
مشهد الصدى : يطالب بأخذ ثأر يوسف. ?

مشهد العشب الذي طال وصارت لـه رائحة
الورد والنعنع. ?
مشهد الرائي الذي شاهد قطرات هطلت من ثغر
كوكب دري. ?
مشهد الساري الذي رأى صلاح الدين سارياً
غرباً بوادي بردى. ?
مشهد حمام مكة يزور ميسلون. ?
مشهد الفلاح الذي شاف جدولاً من عندمٍ
يجري جنوباً. ?
مشهد المنادي يبشر من يلبس قميص يوسف بأنه
سوف يرتد بصيراً.
3- الصراع:
الصراع هو العراك بين نقيضين. وهنا صراع
صاعدٌ تجلّى في كل فصل من فصول الملحمة،
حيث غالباً ما يتحاور صوتان نقيضان: ففي
جمع يوسف للمجاهدين ينبري لـه صوت مثبطٌ
للهمم يصفهم بأنهم منتحرون. فيرد يوسف إن
الوطن أغلى من الحياة:
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ إِرْجِعْ
إنَّ ما تَسْعى إلى تَحقْيقهِ اْلآنَ
جُنونٌ وانْتِحِارْ
أَنْتَ كَالقَطْرَةِ في الْحَجْمِ
ومَنْ جاؤوا إلى الشامِ غُزاةً
مٍثْلُ أَمْواجِ الْبِحارْ
-: أَنْتَ كَالْقِشَّةِ شاءَ تْ
وَقْفَ سَيْـلٍ عَرِمٍ
يَنْقَضُّ كَاْلأَجْبالِ مِنْ أَعْلى
انْحِداراً في انْحِدارْ
***
-: كُنْ كما الْعُشْبَةُ تَحنْي جِذْعَها
لِتَمُّرَّ الريحُ زَحْفاً
ثم تَسْتَلْقي على صَدْرِ الْبَوادي
والْقِفارْ
..........
-: كَيْفَ يا يوسُفُ تبْقى
بِنْتُكَ الْعَذْراءُ لَيْلى
تَنْقُلُ الدَّمْعَ على والِدِها
الْمَقْتولِ
مِنْ دارٍ لِدارْ؟
***
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ قُلْ
لِفلولِ الدُّخلاءِ اللاّحقينْ
مثْلَما قالَ لَهُمْ
جَدُّ النَّبِيِّ الْعَرَبي الهاشِمِيِّ
إنَّ لِلْكَعْبةِ رَبّا
هُو يَحْميها لِتَبْقى
قِبْلَةَ الناسِ وَدَرْبا
.............
رُبَّما يُرْسِلُ رَبُّ الشَّامِ
أَطْياراً أَبابيلَ أُخَـرْ
تَجْعَلُ الْغَزْوَ الصَّليبيَّ رَماداً
مثلما حَلَّ قَديماً باْلغَوِيِّ
الْحَبشِيِّ
لكن أصواتاً أخرى تتناهى إلى سمعه قائلة:
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ قاوِمْ
فَتواريخُ الْبُطولاتِ
وأَوْراقُ الْمَلاحِمْ
هَيَّأَتْ صَفْحاتِها اْلأولى
لِتَلْقاكَ، وَتَبْقى
بَهْجَةَ اْلآتي وإخْضابَ الْمَواسِمْ
وكذلك كان الصراع في المعركة بين
الوطنيين والغزاة.
*
4- الحوار:
الحوار هو الأداة الرئيسية التي يكشف بها
المؤلف عن شخصياته، ويعبر بها عن فكرته.
والحوار يدل على وضع الشخصية الاجتماعي
ومستواها الثقافي. وقد اختار الشاعر لغة
فصحى ذات مستوى رفيع يلائم موضوعه
وشخصياته. وجاء حواره مركزاً لا لغواً فيه
ولا حشواً. متسماً بالوضوح والبعد عن
الغموض، مما أضفى على الملحمة طابع
الحيوية.
وقد تجلى كلٌ منهما يفضل وجهة نظره: عندما
جمع يوسف مجاهدي الشام، ورد على مثبطي
العزائم والـهمم، وعندما وقف الجيشان
أمام بعضهما بعضاً، يتحدى كل منهما الآخر.
وعندما طلب بعضهم من يوسف أن ينسحب إذ لا
فائدة من الاستمرار الذي يعني الموت
المحتم.
*
5- الشخصيات
لا بد أن تشتمل الملحمة على شخصيات تحدث
وقائع القصة، فليس هناك أحداث مجردة عن
الشخصيات، ذلك أن الحدث والشخصية هما
وجهان لعملة واحدة. وعلى الرغم من قلة
الشخصيات هنا فإننا نجد نوعين من
الشخصيات: شخصيات وطنية، وشخصيات معادية.
فأما الشخصيات الوطنية فهي يوسف وابنته
ليلى وشيخه بدر الدين وصحبه المجاهدين.
وأما الشخصيات المعادية فهي الجنرال
المقطوع الذراع وجنوده.
في الشخصيات الوطنية كان الشاعر مقيداً
بشخصيات تاريخية لا يستطيع أن يزيد فيها
أو ينقص منها، ومع ذلك فقد أضاف شخصيات
جديدة من مثل شيخ يوسف، ومهر يوسف، ونهر
بردى، وقمرية الدار. أنْسَنَها كلها،
وجعلها تذرف الدمع على فقدان يوسف، وتدير
حواراً عن مناقبه وسجاياه.
فأما (يوسف) فشخصية تاريخية معروفة، وبطل

تراجيدي ضحى بنفسه من أجل وطنه. فهو بهذا
يشبه أبطال الملاحم الذين يقودهم قدرهم
إلى مصائرهم دون أن يبدوا مقاومة، فكأنهم
يرون حياتهم في موتهم. موت الجسد، وحياة
الذكر والسيرة والمثل. يصوره الشاعر بهذه
الصورة، وينسج حول كل حرف من حروف اسمه
قصيدة يجعل كل جملة فيها تبدأ بالحرف نفسه:
فـ : يوسفُ الياء : يحيي ميّت الفتح، يضيء
الدربَ في مغترب الحيرى، يرود المستحيل.
يوسف الواو : ورودُ النّبل، وِرْد الخيل،
وقعُ الـهطّل، ورقاءُ الـهديل.
يوسف السين : سنى من كوكب يختال فوق الشام،
سَعْيٌ نحو من عشش في أجفانه العتمُ، سموٌ
ونهوض.
يوسف الفاء : فتيتُ المسك، فوحُ الـهوى،
فلٌّ، فرسٌ تصعد في أفق عروبي، عليها
فارسٌ أسطورةٌ، يغرس فوق الشمس بندا.
وأما شخصية ابنته (ليلى) فهي فتاة وحيدة،
غادرها أبوها دون وداع. وعندما أفاقت
صباحاً، وبعد أن كانت الدار تضج بزقزقة
العصافير وعطر الورد. فوجئت بوجوم قمرية
الدار، وصمت الفل والياسمين. فاستغربت.
وحين وجدت مكان الوالد فارغاً، راحت تسأل
عنه الغرف والجدران. لكنها جوبهت بالصمت
والدموع. فهرعت إلى شيخه بدر الدين تسأله
عن والدها الذي غاب ولم يترك لها كلمة أو
خبراً.
وأما شخصية (الشيخ بدر الدين) الذي كان
يُلقي دروسه الدينية والوطنية في الجامع
الأموي، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً غير
تقديم النصيحة: الاستشهاد ليوسف فداء
للوطن، والصبر لابنة يوسف الملتاعة على
فقد والدها. ثم يعود إلى تهويماته في عالم
الملكوت.
ومن الشخصيات التي أبدعها الشاعر (مهر
يوسف) الذي عاد من المعركة دون فارسه، فخبط
باب الدار. وهرعت وهرعت ليلى مستبشرة بعودة
الغائب. وعندما وجدت الفرس دون فارسه
انخرطت في البكاء. وشاركها المهر أساها.
كذلك أبدع الشاعر شخصية (نهر بردى) وجعله
إنساناً يلجأ إليه يوسف فيناجيه:
-:أَيُّها الرَّاكِضُ نَحْوَ الشَّرْقِ
حَدِّثْني
حدَيثَ الأَصْدقاءْ
أَيُّها الطَّالِعُ مِنْ عُمْقِ
الأَساطيرِ إليَنْا
اِفْتَح السِّفْرَ الّذي خَبَّأَهُ
في ضِفَّتَيْكَ الْقُدَماءْ
.........
أصَحيحٌ؟
أَنَّ مَنْ زاروكَ بالسَّيْفِ على
كَثْرَتِهمْ
حَوَّلْتَهُمْ ذَرَّاتِ عَتْمٍ في
الْفَضاءْ؟
..........
إحْكِ لي يا بَرَدى
كَمْ عَظيماً
غَلَّفَتْ أَمْواجُكَ مِنْهُ الْكَبِدا؟
*
6- تقنية التداعي (أو نجوى النفس):
لما كان الشاعر مقيداً بحادثة تاريخية
محددة ومعروفة، وبشخصية واحدة لم يُعرف
عنها إلا الشهادة، فإنه لم يستطع أن يطوّر
في الأحداث، ولا أن ينوع في الشخصيات،
وإنما كل ما يسعه هو أن يتزيّد في الشخصيات
عن طريق التداعيات الذهنية، والانثيالات
العاطفية، والمشاعر الذاتية التي عبرت
فيها كل شخصية عن تأملاتها ومشاعرها، من
خلال (مونولوجات) طويلة، أو نجوى داخلية،
كانت على الرغم من كونها تبطئ من حركة
الصراع من أجمل ما في الملحمة، لأنها تعبر
عن الذات الإنسانية في قوتها وضعفها،
وتصميمها وترددها، فكأن (الملحمة) رواية
لا تحكي المعركة، فحسب، بل وتحكي أيضاً
انعكاس المعركة في نفوس أبطالـها. وكأنّ
كل حدث لـه وجهان: ظاهر معروف، وباطن غير
مكشوف، يسترسل المرء فيه في تداعيات بلا
حدود. ففي (مناجاة) ليلى لأبيها مثلاً تقول:
-: لَمْ تَعُدْ يا أَبَتي الفارِسَ مِنْ
هذا السَّفَرْ
مَنْ يُسافِرْ يُخْبِرِ الأَهْـلَ
ولَوْ في بَعْضِ سَطْرٍ مِنْ كِلامٍ
أَوْ بِلْمْحٍ مِنْ بَصَرْ
..............
لم تَقُلْ لي أَيْنَ أَنْتَ الآنَ
لم تَتْرُكْ لِمَنْ فارَقْـتَها
أَيَّ أثَرْ
أَبَتي الْفارِسُ أَدْرِكْني
أنا بِنْتُكَ لَيْلى
لم يُجْبِني أَحَدٌ عَنْكَ إلى الآنَ
وفي (تهويمات الشيخ بدر الدين) يجيب (ليلى)
الباحثة عن أبيها الغائب وكأنه يراه في
عالم الغيب ضيفاً على الملائكة:
يوسُفُ الْعَظْمَةُ يَدْنو
يَدْخُلُ الآنَ إلى مَقْصورَةٍ
لِلْعِشْقِ
والْحُسْنُ بَـقايا حُسْنِهِ
جُبَّتُهُ الضَّوْءُ
عَلَيْها اللُّؤْلُؤُ ازْدانَ
غَريقاً في مُجاجاتِ نُضارٍ

ذائِبٍ في أَلَقِ الْياقوتِ
مَفْروشاً على المَرْجانِ
مَعْصوباً بتاجِ الْكِبْرِياءْ
........
وَكِتابُ الشامِ يا لَيْلى
على كَفَّيْهِ مَفْتوحٌ فَصيحٌ وَ مُضاءْ
-: يوسُفُ الْعَظْمَةُ إِقْرَأْ
في كِتابِ الشامِ إِنَّا سامِعوكْ
ولقد استثمر الشاعر هذا الحوار الداخلي
(المونولوج)، وجعل دوراً بنائياً: فهو كشف
عن الرغبات الكامنة، وإظهار للصراع
النفسي، واستشفاف لحجب الغيب والمستقبل.
*
7- التناص:
يؤكد التناص تفاعل النصوص الغائبة
والماثلة، والسابقة والمعاصرة، مع بعضها
بعضاً. فليس من نص وُجد دون أن تسهم فيه
نصوص كثيرة غائبة استُدعيتْ. ومن التناص
الذي وجد في (الملحمة) نصوص دينية، وشخصيات
تراثية مستدعاة، وتوظيف أغانٍ شعبية.
فالنصوص الدينية بتهويمات الشيخ (بدر
الدين) الذي يصف يوسف بقولـه ليلى:
فَأَبوكِ الآنَ يَعْلو
مِنْ سَماءٍ لِسَماءْ
..........
وعَذارى الْجَنَّةِ الْحورُ حَفِيَّاتٌ
بهِ
في مَقاصيرِ الرَّخاءْ
.........
إنَّني أُبْصِرُهُ
في هَوْدَجٍ مِنْ زُخْرُفِ الْجَنَّةِ
مَحْمولاً على أَجْنِحَةِ الأَمْلاكِ
في قُبَّةِ أَضْيافِ الْعَلاءْ
........
وَصَلَ الآنَ إلى يَحْيَى النَّبِيِّ
..........
عانَقَهُ الفاروقُ في الدِّرْبِ
النَّدِيِّ
..........
حَلَّ ضَيْفاً
وغُلالاتُ السَّنا تَحْمِلُهُ
كالنَّسْمَةِ الْمَمْشوقَةِ الْقَدِّ
على قَصْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
وَدَّعَ الآنَ الْعَريسَ
الْكَرْبَلائِيَّ
وفي رابِعِ خُطْوَهْ
يَصْطفيهِ الْقُرَشِيُّ الصَّقْرُ في
وَثْبَتِهِ
كَيْ يَنْزِلَ ضَيْفاً
في الْخِباءِ الأُمَوِيِّ
...........
لا تقولي ماتَ يا لَيْلى
فإنَّ العُرْسَ في جَلْوَتِهِ الأُولى
ومن الواضح أن الشعر استدعى لا الشخصيات
الدينية (الملائكة، الحور، الأنبياء،
يحيى، الفاروق، الحسين) وحدها، وإنما
الشخصيات التاريخية أيضاً (صقر قريش، صلاح
الدين، أبو عبيدة بن الجراح، عبد الرحمن
الغافقي) وكلهم ممن تحقق الفتح على يديه:
فصقر قريش بنى مملكة العرب في الأندلس،
وصلاح الدين حرر القدس من الصليبيين، وأبو
عبيدة بن الجراح أسهم في فتح الشام، وعبد
الرحمن الغافقي تابع فتوح الأندلس حتى وصل
(بواتييه) في فرنسة.
ولكن الشاعر لم يوظف هذه الشخصيات
التراثية أقنعة يتحدث من خلالـها، وإنما
جاء بأسمائها فحسب، استشهاداً ببطولاتها.
فقد سأل يوسف بردى هل مرّ به يوماً صلاح
الدين، بقولـه:
-: أَيُّها الشَّاهِدُ أَنْبِئْني
وأنتَ الصادقُ
هَلْ مَرّ صَلاحُ الدينِ يَوْماً مِنْ
هُنا؟
إنَّكَ الْخالدُ في هذا الَمْدَى
إخْلَعِ الصَّمْتَ وقُلْ يا بَرَدى
هَلْ صَلاحُ الدِّينِ صَلىّ
مِثْلَما صَلَّيْتُ في أَعْتابِكَ
عَبْداً ساجِدا؟
ورأى يوسف في احتدام معركة ميسلون طيف
صلاح الدين يرتادُ المكان:
يَرْتَدي في الْجَوْلَةِ بُرْداً
سُنْدُسِيّا
يَنْضحُ الْعَنْبَرُ مِنْ خَطْوَتِهِ
فَيضوعَ الطِّيبُ في الوادي
شَميماً قُدُسِيّا
أَوْ عَبيراً يوسُفِيا
.........
ورأى يوسُفُ أَطْيافاً
يُماهي بَعْضُها بَعْضاً وصارَتْ
باقَةً مِنْ كُلِّ زَهْرٍ يَنْفَحُ
الطِّيبَ زَكِيّا
ظَنَّها"صَقْرَ قُريشٍ"
خَلْفَهُ"الْجَرّاحُ"
في بَسْمَةٍ"خَنْساءٍ"
تُلاقي"الْغافِقِـيّا"
في توظيف الأغاني الشعبية أورد الشاعر
أغنية شعبية تقال في الأعراس وذلك بعد
استشهاد يوسف فكأنما استشهاده عرسٌ لـه:
هَبَطَتْ كَوْكَبَةٌ مِنَ باذِخِ
الْعَلْياءِ

مِنْ أَمْلاكِهِ الأَطْهارَ
في بَوّابَةِ الْعُرْسِ
بوادي مَيْسلونْ
وأَناخوا هَوْدَجاً
مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ مَنْسوجاً
بَأَقْواسٍ مِنَ الْعُشْبِ لِدانْ
جَبَلوا الْحِنَّاءَ
في طاساتِ ياقوتٍ، وَحَنُّوا
يوسُفَ الْعَظْمَةَ
مِنْ شاهِدَةِ الْكَفِّ وَ أَطْرافِ
الْبَنانْ
واحْتَووهُ
في رَبيعِ الْهَوْدَجِ الأَخْضَرِ
والدُّنيا تُغَنيِّ
وشَبابُ الْجَنَّةِ الأَطْهارُ شالوا
يوسُفَ الْعَظْمَةَ
والْهَوْدَجَ
في العالي
على وَقْع الْغِناءْ:
(-: عَريسَ الْمَجْدْ يَتْهَنّا
يَطْلُبْ عَلينا وَيَتْمَنَّى
جَبَلْنا النِّدّْ والْكافورْ
مَعِ الدَّمْعْ، مَعِ الْحِنَّا
وَجينا لَنِفْرَحْ بْيوسِفْ
لَقينا الْحُوْر سَبْـقَتْنا
حَمَلْنا الدَّفّْ والْمِزْمارْ
حَضَنَّا الْعودْ والْقِيثارْ
وْجِبْنا الأَهْـلْ والزُّوارْ
فَقالوا الْعُرْسْ بِالْجَنَّه )
وهكذا حاول الشاعر خالد محيي الدين
البرادعي أن يصور لنا بطولة يوسف العظمة
في ملحمة شعرية كان حرياً به أن يسميها
ملحمة (يوسف العظمة) لا ميسلون، وأن ينسب
البطولة للإنسان لا للمكان.
مسرحية (أسفار سيف بن يزن) وقضية الوحدة
والحرية
د.حورية حمو^*
تعدُّ قضية الوحدة والحرية من أهم
القضايا التي شغلت الكتاب المسرحيين؛ إذ
باتت هاجساً يؤرق المبدعين العرب، في أكثر
إبداعاتهم الأدبية والفنية، لذلك الهاجس
الذي نبغ من إيمانهم العميق بشغف الشعوب
بالحرية، ومن إيمانهم العميق بدور المسرح
في معركة التثقيف والتوعية. وكان للشاعر
خالد محيي الدين البرادعي دور بارز في هذا
المجال؛ إذ استغرقت هذه القضية أكثر
كتاباته الفنية، وعبّرت مسرحياته عن هموم
الإنسان العربي، وعن قضاياه، فراح يرسم
الواقع، ويشير إلى العوائق، ويعمق
المأساة، من خلال كتابات مسرحية شعرية،
جمع فيها بين الأصالة والحداثة، ولعل
إلحاحه على ضرورة تحقيق الوحدة وآماله
العريضة في حتمية الحرية، هو الذي جعله
يكتب مسرحية (العرش والعذراء)^(^^) ويتبعها
عمل مسرحي آخر هو (أسفار سيف بن ذي يزن)^(^^).
إضافة إلى حوالي عشرين مسرحية شعرية أخرى.
نشرت بين سوريا ولبنان ومصر والخليج
العربي.
لقد انطلق خالد محيي الدين البرادعي من
فكرة قومية مفادها أن الوحدة العربية هي
حاجة ملحة وضرورية، في مرحلة البحث عن
الذات العربية، وأن حالة التجزئة التي
تعيشها الأمة العربية، يتقاسم مسؤوليتها
(الاستعمار ـ الشعب ـ السلطة) وقد حاول أن
يبلور رؤيته الشعرية، التي تجلت في إدانته
للذات العربية، ولواقع الأمة العربية.
وإذا كان قد لجأ في مسرحية "العرش
والعذراء" إلى خلق ماضٍ لا وجود له، لا في
الزمان ولا في المكان^(^^). مستعيناً ببعض
الرموز التاريخية، فإنه في مسرحية (أسفار
سيف ابن ذي يزن) لجأ إلى خلق حدثٍ يعتمد فيه
على التراث الشعبي، ليسبغ عليه رؤيته في
ضوء الظروف السياسية والاجتماعية
والثقافية، عن طريق استيحاء إحدى السير
الشعبية وإعادة خلق بطلها عصرياً يتماشى
ورؤيته الحاضرة، لذا فقد وقع اختياره على
سيرة سيف بن ذي يزن، ويمكن أن نعدّ هذه
المسرحية من ناحية الفكرة المطروحة تتمة
لمسرحية (العرش والعذراء)، إذ تطل برأسها
في أكثر من موضع على أولئك الذين يصلون إلى
عرش العذراء ولا يطئوه.
وإذا كان البرادعي قد عاد إلى التراث
رغبةً منه في تحقيق رؤاه السياسية
والقومية، عن طريق تحقيق عملية الإسقاط،
فإن عودته تعني أمرين:
أولهما: أن خالد محيي الدين البرادعي
يعدُّ في رحلة المسرح العربي، من أولئك
الذين حاولوا أن يؤصلوا المسرح العربي،
وقد ارتبط تأصيل المسرح العربي في أحد
جوانبه، بقضية التراث^(^^).
ثانيهما: لأن السيرة الشعبية تعدُّ من
الموروثات الراسخة في أعماق أبناء الشعوب
العربية، لذا فقد استخدم البرادعي التراث
الشعبي لصب طموحاته الفكرية، إذ لا يكفي
لتحقيق عملية التواصل أن نطرح مضامين
عصرية تهمُّ المواطن العربي فحسب، بل لا
بد أن نحقق ذلك من خلال محاورة الجمهور
عَبْر ذاكرته التاريخية، لذلك فقد اعتمد
البرادعي في مسرحيته على الحدث الإطار،
وبهذا يكون اعتماده على التراث الشعبي ليس

هدفاً بل غاية ووسيلة.
لذا فقد جاءت مسرحية (أسفار سيف بن ذي يزن)
الشعرية لتؤكد من خلال تطور أحداثها، ورسم
لوحاتها، وشحن لغتها، ورؤية الشاعر
القومية، وبحثه الدؤوب عن الذات العربية
النقية الفاعلة في صنع الحضارة الإنسانية
في وحدة أجزاء الوطن العربي، وإعادة
الوحدة إلى فصائل الأمة المشتتة.
يقول البرادعي في أول صفحات المسرحية: إنه
كتبها على فترات متقطعة، وأعاد النظر في
صياغتها عام 1997، ويقول ناشر المسرحية
(إنها مستوحاة من السيرة الشعبية
المعروفة. سيرة أسفار سيف بن ذي يزن، وقد
حاول الشاعر البرادعي، من خلال هذه
المسرحية أن يقدّم رؤيةً خاصة عن الواقع
العربي المرّ الذي يتسم بالتمزق والتناحر
والعداء، من أجل السلطة والسيطرة وتحقيق
الأطماع الذاتية على حساب الجماهير
المغلوبة على أمرها، والتي أدت في النهاية
إلى ضياع الفرصة في التقدم والازدهار)^(^^).
لقد اعتمدت هذه المسرحية على السيرة
الشعبية، واستلهم الشاعر شخصية البطل،
وحاول أن يوظفها من أجل إتمام رؤيته
السياسية والفنية التي طرحها في مسرحية
العرش والعذراء، وإذا ما حاولنا أن نسلط
الأضواء على الهيكل التراثي الذي استوحى
الشاعر مسرحيته منه فإننا نجد (سيف بن ذي
يزن) الذي تقول المصادر التراثية إنه
البطل الذي كان سليل بيت من ملوك حمير، وقد
احتفلت المخيلة الشعبية به، لما كان لـه من
شأن عظيم في التاريخ القومي العربي؛ إذ
يعود إليه الفضل في طرد الأحباش جنوبي
الجزيرة العربية، وتقول بعض المصادر إنه
سيف بن ذي يزن تغلب على الأحباش الذين
استعمروا اليمن بمساعدة الملك الفارسي
كسرى أنوشروان، وبسط سلطانه على أرض
أجداده اليمانيين بحماية من الفرس، ولهذا
التألق المضني الذي مارسه ارتفعت قامته من
موقعها التاريخي إلى أفق الأساطير، فاحتلت
سيرته الشعبية التي حفلت بالتراكمات
والإضافات مكاناً بارزاً في ذاكرة الخيال
الشعبي أضفتْ على سيرة سيف ثوباً فضفاضاً
من الخوارق والمعجزات، حتى خرجت شخصيته من
إطار الممكن والمعقول.
وتحدثت هذه السيرة غير التاريخية عن مدنٍ
عمّرها سيف وعن أنهار أجراها وعن أبطال من
الجن قادهم فحاربوا أعداءه معه، وكيف أن
أمه أمرت بقتله لحظة مولده لكنه نجا
بأعجوبة، وأرضعته ظبية ورعته أخته وهي من
الجن^(^^).
ومن يبن هذه التخيلات والإضافات التي
ألصقت بشخص سيف دخل البرادعي، وحاول أن
يغتنم لا معقولية الأحداث ليصوغ رؤيته
القومية والفنية، مسقطاً ما يتشهَّى من
أحلام ورؤى على تلك المواقع الغامضة،
متفلتاً من قبضة التاريخ وصرامة وثائقه.
يضاف إلى ذلك قضية الأسماء في المسرحية،
فمن خلال تتبع سيرة سيف بن ذي يزن الشعبية،
التي تضخمت على مرّ العصور. نجد أن هناك
مجموعة من الأسماء التي علقت بالذاكرة،
مثل: أفراح، وجبلة، وشامة، وقمرية،
وعاقصة، وسعدون. فهذه الأسماء هي التي
شغلت أحداث المسرحية التي قدّمها
البرادعي، لكن بعد أن غيّر البرادعي
مهماتهم كما وردت في السيرة، ليقوموا
بأعمال درامية، تشكل التطور والتوتر في
الأحداث، مع أسماء أخرى هي من خيال الشاعر
مثل: جرهم، وتمثال، وشحر، وقيس، وعبد
النجم والرسول، والعروس.
لقد طرحت مسرحية (أسفار سيف بن ذي يزن)
الفكرة ذاتها التي طرحتها مسرحية (العرش
والعذراء)؛ إذ تحدثت عن قضية الوحدة
والحرية، تلك القضية التي عاشت مرحلة صراع
بين أماني الشعب وتفرد السلطة، وأكدت أن
قضية الوحدة العربية هي مطلب جماهيري
قومي، تسعى الجماهير العربية جاهدة
لتحقيقه، إلاّ أن هناك سدوداً قوية تحول
دون تحقيق ذلك المطلب، لذا فإنه في هذا
العمل المسرحي يبقى حلماً لا يتحقق ولن
يتحقق إلاّ بالالتحام بين السلطة والشعب،
وبتقديم بعض التنازلات^(^^).
تجري الأحداث في المسرحية بين بلاد الشام
و اليمن ومصر والحبشة، أما زمانها فإنه
زمن قبل الإسلام، وتدور أحداثها حول شخصية
(سيف بن ذي يزن) وتتحدث عن أسفاره التي
قطعها بين بعض البلدان العربية، ساعياً
إلى تحقيق هدف نبيل. وتتألف على صعيد الشكل
من ثماني لوحات متتالية متصاعدة.
فمنذ بداية الأحداث ومن خلال الحوار الذي
يدور بين أفراح ملك الشام وأفراد حاشيته
نعلم أن (سيف بن ذي يزن) عرفه ملك الشام
ليترعرع بنعمته. واسمه وحش الفلا أو ابن
الظبية، ولأنه يتمتع بقدرة جسمانية خارقة
تساعده على صرع الأبطال، ولأنه منذ صباه
كان فارساً لا يقهر، ولأنه يتمتع بوسامة
فاق بها أقرانه، أحبته ابنة ملك الشام
واسمها (شامة) ولأن الملك لا يوافق على هذه
المصاهرة، حاول التخلص من سيف فلم يفلح،
فطلب منه مهراً، وأرسله في مهمة صعبة شاقة
يحضر هذا المهر، علّه يهلك في رحلته،

فيتخلص من هذا العبء،ولا يفقد محبة ابنته
في الوقت نفسه، ومن هذا الواقع تبدأ
الأحداث بالتصاعد والتسارع، وتبدأ مرحلة
كشف الحقائق بجلاء ووضوح.
ذلك أن ملك الشام وحاشيته ووزيره، حاولوا
أن يضخموا العداء بين سيف وأمه ملكة سبأ
التي تظن أن ابنها قد هلك عقب ولادته،
فأرسلوا سعدون ذلك البطل الضخم، صديق سيف
الحميم ليلعب دور الوحش الفاتك، ويقتل
سيفاً.
وعندما يزور سعدون قصر ملكة سبأ، ويمثل
بين يديها، تعلم أن ابنها ما يزال حياً،
وهو يبحث عن عرش أبيه، وأن سعدون جاء ليحمي
سيفاً صديقه ورفيق دربه، عندها تغري
الملكة (سعدون) بالجمال والمال، ترسل
سيفاً خوفاً على عرشها، ليمضي سيف بين
مؤامرتين: فملك الشام يريد التخلص منه،
وملكة سبأ تحاول قتله خوفاً على عرشها،
ذلك أن سيفاً لـه الحق في إرث أبيه أولاً،
ولأنها حكمت شعبها بيدٍ من حديد ثانياً.
وبين هاتين المؤامرتين يمضي سيف ذلك الذي
تحول بحكم نشأته واضطهاده وبطولته إلى
داعية متفرد في عصره لجمع أشتات العرب،
وتحقيق الوحدة العربية، وهذا هو الخيط
المضني والقبس والمتوهج في سيرة أحداث
المسرحية. مع ما يتشكل من إضاءات ومنعطفات
وارتكاسات محزنة يتجاوزها سيف جميعها. لكن
كيف رسم البرادعي نهايته بعد أن عرفنا أن
أحداث المسرحية تجري بين الشام ومصر
والحبشة واليمن والجزيرة العربية؟
يزجنا البرادعي في دوامة الأزمة من بداية
المسرحية، فالملك الذي أحب سيفاً ينتابه
القلق والرعب وتشغله الوساوس من خطر سيف
على عرشه. ولكن كيف استطاع سيف أن يدخل إلى
قلوب الناس في الشام حتى أصبح يرعب العرش
ومن عليه؟ هنا يطالعنا الملك المتأزم وهو
ينتظر شيئاً ليدخل عليه وزير عرشه جبله:
أفراح : منذُ الفجرِ أنا أنتظرُكْ
ما أخبارُ الناسِ وأخبارُ دمشقٍ يا
جبلَهْ؟
جبلة : لا شَيْء
لا شَيْءَ... سوى همهمةِ الدَّهْماءْ
عن سَفَرِ رَضيعِ الظبية وحسٍ
والشوقِ لما يحملُه مِنْ أحلامٍ خرقاءْ
وكأنَّ لقيطَكَ هذا يا مولايْ
سحْرٌ نَثَّتْهُ الأقدارُ بأرضِ الشامْ
فتنقَّلَ مِنْ شفةٍ عَنْ شَفَةٍ
حتى استلقى في الأَحْشَاءْ
ما مِنْ عائِلةٍ في هذا البلد الآمِنْ
إلا حفظتْ نزراً مِنْ أقوالِهْ
عن خلخلةِ عُروشٍ
عن غربَلةِ جيوشٍ
عن نَشْرِ الضوءِ بفصْلِ الْعَتْمَهْ^(^^)
هذا هو سيف الفتى الذي لم يعرفه أحد باسمه
الحقيقي هو اللقيط ووحش الفلا، وقد أطلعنا
الشاعر على جانب من شخصيته، فهو خلال
الصورة التي رسمها جبلة، يريد أن يغيّر
الحياة، وأن آراءه أو أحلامه انتشرت
كالضوء بين الناس بعصر تملؤه العتمة، إنه
يريد أن يرسم الأمة وفق ما تحبه الأمة، لكن
كيف والسدود من حوله؟‍.
فالملك يعلن لوزيره عن خوفه وشعوره
بالرعب من أفكار لقيطه، ويريد التخلص منه
ومن سعدون البطل المتوحش الذي ينتصر في
الحروب، فالملك غير مطمئن، إذا يطلعنا من
خلال مخاوفه على المؤامرات التي حاكها
تباعاً لقتل سيف وكي نجا منها جميعاً. إلى
أن قرر أن يرسله في مهمة شاقة يأمل ألاّ
يعود منها، وليتأكد أكثر أرسل من يعلن في
البلاد على مسامع الملوك والحكام أن سيف
الذي لا يبحث عن مهرٍ بل يبحث عن ثأر،
ليكون مقتله مؤكداً.
إلاّ أن الأحداث التي ابتعدت بأخطارها عن
الشام تفجرت في أقطار عربية أخرى رسمها
ناقلو الأخبار المتخصصون بحراسة العروش
إلى المعنيين بها.
ينفجر الحدث الأول في اليمن عندما دخل
موفد النجاشي على عرش سبأ، يقبل قدميّ
الملكة قمرية ملكة سبأ، وأخبرها عن مخلوق،
جبار يظهر في أكسوم وفي وادي النيل. وهو
يتكلم لغة أهل الشام ويحمحم كالمهر يتحفز
للعدو، فتثور الملكة قمرية وتصرخ: لا فهي
ابنة الآلهة وعرش سبأ لها، فترسل ربيبها
وفارسها الذي يشبه العماليق، والذي نشأ
بين يديها نشأة خاصة، ليبحث عن سيف بن ذي
يزن في الطريق الذي يوصل إلى الحبشة، ومعه
أدلة وأدوات وزاد ومال علّه يلتقي سيفاً
ليقتله.
لكن المتتبع لأحداث المسرحية يلتقي الآن
بسيف بن ذي يزن ويراه لأول مرة، بل يظهر
سيف على مسرح الأحداث بقامته وسيفه ولسانه
بعد أن عرفناه قبل أن نلتقيه، فكان حاضراً
رغم غيابه كما أراد الشاعر أن يرسمه، وقد
آن الأوان ليظهر.
ومنذ أن التقينا به على ساحل البحر الأحمر
راح يشكو متاعبه ومواجعه، ومخادعة ملك
الشام لـه وأدرك أن الملك أرسله ليهلكه لا
ليزوجه ابنته. ومن هذه اللحظة يدخلنا
الشاعر في خدعةٍ فنية. تجدد جاذبية
الأحداث وتضفي على الحوار رونقاً خاصاً.

ذلك عندما يسمع سيف صورتين يتعاقبان على
ندائه وتحذيره وترغيبه يسمع لكنه لا يبصر
شيئاً. وربما يمسك المشاهد أو القارئ
أنفاسه أمام هذه المشهدية الخاصة في
المسرحية.
ويتبدى سيف في اللوحة الرابعة، ومنذ
اللحظات الأولى و: كأنه المنقذ المنتظر:
/يا سيفُ، يا ضحيةً بلا ثَمَنْ
ويا وريثَ شعبِ تاهَ في دوَّامَةِ
الحروبْ
وضَلَّ في مَفارِقِ الدُّرُوبْ
فَعُدْ إليهِ... عُدْ إليه يا نُوّارَةَ
اليَمَنْ/^(^^)
لقد تزامن ظهور سيف في هذا العمل المسرحي
مع مرحلة جديدة، هي مرحلة التعرف، إذ بدأت
شخصيته تتكشف، وبدأ يعي هويته، وذلك من
خلال تلك الأصوات الخفية التي راحت تناديه
بوحش البرية، وبالسيف اليزني، بأصوات
حاولت أن تجلي الحقائق، فحركت الهواجس،
لدرجة أن سيفاً حسب نفسه أنه بات يهذي^(^^)
وتتيه روحه بين الوهم والحقيقة، لترصد
الجواب اليقين:
صوت (2) : لستَ بموهومٍ يا سيفْ
إنكَ ابنُ الملكِ اليزنيِّ
وأُمُّكَ قَمَرِيَّهْ
الْجالسَةُ على عرشكَ في سَبَأٍ
وخُلِعْتَ ضَحيَّهْ
نَبَذَتْكَ رضيعاً في البريَّهْ
لتضيعَ بقاياكَ
ويرحلَ اسمُكَ في قافلةِ الريحِ
الوحشيَّهْ
لتَظلَّ لِمَلِكِ الأَحْباشِ سَرِيَّهْ
باعتْكَ بثمنٍ بخسٍ، متعَةِ عَرْشٍ
صاحبُهُ ماتَ قتيلاً بالسُّمّْ
فارجعْ لليمنِ الخضراءْ
واقتلْ تلكَ الأُمّْ^(^^)
لقد انكشفت حقيقة أمه، إنها ليست
كالأمهات، بل هي أم خائنة لفظت رضيعاً
عارياً في الليل، في وادي الأموات.
فالتقطه رعاة الملك الشامي. وأشرفوا على
تربيته، وفي لحظة التوهج المعرفي، ينقض
عليه عشيق والدته ملثماً يبغي قتله، وبعد
أن دفعته ملكة سبأ لقتل وليدها، إلاّ أن
يسبقه بسيفه فيرديه صريعاً، فيتخلص منه
بيسر وسهولة، وعند نشوة الانتصار تظهر
صاحبة الصوت المعرفي الآتي من المجهول،
ليعرف سيف أن هذا الصوت هو صوت أخته عاقصة،
أخته من أبيه، ذلك أن أمها لا تنتمي إلى
عالم البشر، وفي هذا المشهد بالذات تتقارب
المسرحية. وتتشابه مع مسرحية (الكترا) تلك
التي اتفقت مع أخيها العائد من رحلة طويلة
على الأخذ بثأر أبيهما مع أمهما القاتلة،
إلاّ أن الكترا وأخاها، قد وصلا إلى
مأربهما ونفذا الحكم فعلاً، لكن هل يمكن
لسيف أن يقتل أمه. أم يسعى إلى هدف آخر؟.
وتبدأ مرحلة التوحد والتحول في اللوحة
الخامسة، ذلك أن سيفاً وأخته (عاقصة)
يمضيان معاً إلى ساحة عامة في مدينة طيبة.
طيبة أوديب والملك لايوس، وتتجلى مرحلة
التوحد من خلال قول عاقصة: (معك أنا يا
سيف/بأعماقك في وجدانك/أبصر في عينيك/
وأغسل نطقي بلسانك/ أنت الآن بمعركة/ هل في
عمرك مفصل/ واضحة كالشمس أراها لا ألغاز
ولا أسرار)؟ ترى من تكون عاقصة؟!.
وتبدأ مرحلة التحول بتحليل اسم سيف الذي
أصرت عاقصة على أن اسمه رمز لربيع دائم،
وتميمة عصر محفزّ قادم^ (^^) وصوت دعوته
ترجمته أصوات الملايين التي/هزت أكثر من
عشرين مليكاً/^(^^) أما أحلامه فقد أوصلها
الغرباء إلى مصر ومنهم الغرباء؟
إنهم أولئك:
/الْمَزْروعونَ بأَعماقِ الغُرْبَهْ
مَنْ يزرعُ قمحَ الآخرِ
ويعيشُ بظلِّ مَجَاعَته
مَذْلولاً يبحثُ عَنْ حَبَّهْ
مَنْ يَحرقُ كَفَّيْهِ بِصُنْعِ السيفِ
ومِنْ نَفسِ السيفِ تَجيءُ إليهِ
الضَّربَهْ/^(^^)
وهناك بدأ سيف يوقن بأن أحلامه بدأت تثمر
رغم جنون العصر. ورغم سلاطين القهر، ورغم
عبيد اللذات^(^^). وفي مرحلة التحول يقرر سيف
العودة إلى اليمن ليسأل عن أهله. ويأخذ
بثأر أبيه من أمه، التي تفردت بالعرش،
وأصبحت مطية لملك الأحباش، لقد أدرك سيف
أنه أصبح حلم الأمة، الحلم المستتر في
أذهان الشعب،وفي قلوب الضعفاء والمساكين.
وفي أ؛لام المنتجين والمبدعين: (إنه الحلم
الذي يدعو إلى هدم العروش/وإنهاء دور
الجيوش/ فخبأ في الشعب رأسه/وحصّن بالشعب
عرشه)^(^^).
وفي اللوحة السادسة، يوضع سيف في مكان لا
يحسد عليه؛ إذ تجره (عاقصة) تلك التي حملت
لواء الحرية، والتي دعت إلى الأخذ بثأر
أبيها، إلى قاعة كبيرة يؤمها قوم مجهولون،
في بقعة من بقاع الأرض العربية الأبية،
ويرأسهم رجلٌ يلبسُ ألبسة السلطان،
ويتزين بأوسمة الفرسان^(^^).
إنه حاكم الإقليم، ومن خلال مراقبة سيف
وأخته لهذه اللوحات الفنية. بصورة خفية،
تبدأ الحقائق الدموية تنكشف أمام

ناظريهما في معاملة السادة لأفراد
البرية، ولأرواح الشعوب الطاهرة الزكية.
ففي هذه القاعة التي حوت الحاكم والمحكوم،
تُسلط الأضواء على الأسلوب الذي يتمُّ
التعامل فيه بين السلطة والشعب، وكيف تنفذ
المحاكم الشرعية. التي تحاسب المرء على
إرثه الدموي، وعلى تفكيره، وعلى حلمه لا
على أفعاله الواقعية، وذلك من خلال
التقرير الذي قدّمه رئيس الأطباء بعد فحص
أولئك المجانين المشبوهين: إذ يقول:
(نحن طبيب المشبوهين/نرفع لقداسته هذه
الحالة/ذي الرقم العشرين/بعد الألف الثاني
والسبعين/لاحظنا خيط مؤامرة/في طبقات
البول/ثم فحصنا قدراً من قطرات دمه/حتى نقف
على الوسواس فننقذه من ألمه/أو مما يبصر في
حلمه/ فرأينا في دمه الأخضر/ والأحمر
والأصفر/ ذلك ما ندعوه بلغة الحكمة/ماء
الرغبة في التهديم وفي التخريب/ ثم فلقنا
جمجمته/ لنرى هل في حجرات العقل/من يهمس أو
ينفث أو يرفث/ أو يرقص حتى اختل/ يا
للهول/^(^^).
ففي هذه القاعة التفكير ممنوع والحلم
ممنوع والموت بات أرحم من التعذيب
والتمثيل في بلدٍ.
: لكنَّ الأَمْنَ تَخَلْخلْ
والليلَ تَمَدَّدْ
والظُّلْمَ مَشَى في الطرقاتْ
والفقْرُ وليمةُ كلِ الناسْ
ورجالُ البلدِ أَذِلاَّءٌ ^(^^)
وفي هذا الكابوس المقحم، يستولي على
العرش فرسان أجلاء لإنقاذ الشعب من ظلم
الحاكم، لكن ما إن يصل الفارس المقدام إلى
مبتغاه، حتى يمثل شخصية الحاكم القديم،
فالملك هو الملك، كما أقرّ سعد الله ونوس.
وفي اللوحة السابعة: ينقلنا البرادعي إلى
سبأ حيث الملكة قمرية تتحدث عن همّ
يؤرقها، وتخشى سعدون بعد أن ملّ الجواري،
وأَفاق من سكره، فتكشف عن سرّها المكنون،
وتروضه فتزوجه من إحدى جميلات القصر،
ليكون عضواً وعوناً لها في المصائب
والشدائد.
وفي تلك النعمة التي عاش فيها سعدون ينسى
صديقه، فلم يعد يشكل خطراً عليها إلاّ أن
سيفاً بأفكاره المسمومة، جعل هواجسها
تزداد يوماً بعد يوم، لكن هاجسها الأقوى
هو الرغبة في القضاء على سيف؛ إذ أكدَّ لها
حدسها أن سيفاً قريب من عرشها، لذا فقد
راحت تبث إلى جرهم الحكيم أشجانها وتكشف
أسرارها، وبين زلات اللسان، يعلم جرهم أن
سيفاً هو ابنها الحقيقي وهو صاحب هذا
العرش، الذي تحاول قمرية التشبث به، وتطلب
النصح من حكيمها لإبعاد سيف، لكن جرهماً
الذي يتمتع بسعة الصدر، وعمق الحكمة، يضع
عدداً من الخيارات لإبعاد سيف عنها، إلاّ
أنها خيارات لا تزيد الملكة إلاّ قلقاً
وضيقاً، عندها يحاول أن يفهمها أن سيف
اليزني الذي يسقي أحلام الفقراء، ويرسم
قامات البسطاء، لن يجلس على عرش أبداً،
وسيظل خارج دائرة الحكم، جرهم:
(أيتُها المَلِكَهْ
سيفُ اليزنيُّ الساقي أحلامَ الفُقَراءْ
والراسِمُ قاماتِ البُسَطاءْ
ليَجيئوا مِنْ عُمْقِ الزَّمَنِ الآتي
مَغسولينَ مِنَ الأَخطاءْ
لَنْ يرثَ العرشَ ولن يحكُمَ بَلَدا
وسَيَبْقَى خارِجَ دائِرَةِ
الأَضْواءْ)^(^^)
وعندما تسأله عن الأحلام، والقذائف التي
راح يطلقها حيثما حل، وعن دعوته إلى تعطيل
الجيوش وإزالة العروش، يُفهمها جرهم أن
الثائر إذا جلس على العرش زال، وتمزقت
دعوته، وتحول إلى إنسان آخر.
وفي اللوحة الثامنة: تصدق نبوءة الحكيم
جرهم، ذلك أن سيفاً يصل إلى سبأ، ويسمع
باسمه جميع الناس، وهم يرددون صدى أفكاره
وأحلامه فيقترب من العرش، فتفهمه أخته أن
رسالته النبيلة قد وصلت إلى كل العرب، ولم
يبق أمامه إلاّ اقتحام العرش، والأخذ بثأر
أبيه.
وبمجرد وصوله إلى القصر، تفتح الأبواب
أمامه، وتستسلم الملكة لمصيرها، ويشاهد
سيف (سعدون) صديقه القديم الذي استقبله
ببرود تام، فيصاب بالذهول لهذا الموقف:
سيف : سعدونُ أخي
هل أنتَ الوارِثُ عَرْشَ أَبي؟
أَمْ قاتِلُ أُميِّ
أم خَدَعَوكَ بهذا التكريمِ
لِتَقْتُلَني؟^(^^)
وبين الأخذ والرد يحاول سعدون أن يُفهمَ
سيفاً أنه أقسم للملكة، وعاهدها أمام
الآلهة، أن يحمي هذا العرش، ويتدخل الحكيم
جرهم فيشرع لسيف رؤيته بما حدث ويحدث،
ويقرّ أمام الملأ، بأن هذا العرش هو عرش
أبيه، وينصحه بإغماد سيفه، والعودة إلى
جموع الناس، وأن يدع العرش إلى أمه.
جرهم : يا سيفُ اليزنيُّ الحالِمْ
بالتوحيدْ
لا تَقَرَبْ دَبَقَ العَرْشِ
ولا تمسخْ رأَسَكَ بالتاجْ
إِنْ تَفْعَلْ

تَنْسَ الأَحلامَ الخُضْرَ
وتَغرقْ في عَتْمِ الدّيباجْ
سافِرْ يا وَلَدِي
بينَ أمانيكَ المَلأَى بالخِصْبِ
وكُنْ ف يكُلِّ طريقٍ تعبرُهُ
سنبلةً خَضْراءَ وضَوْءَ سِراجْ)^(^^)
ترى هل يريد البرادعي بهذه الدعوة أن يعيد
للتراث وهجه، وهل هي دعوة إلى التمثل بماضي
العرب المجيد؟ أم أنه يريد أن يؤكد أن من
يجلس فوق العرش يبصر الدنيا بعيون حاشيته،
وحراسه لا بعينيه؟! ذلك لأن سيفاً ينادي
أخته عاقصة ويدعوها إلى العودة سوياً إلى
الشام. وهنا يسدل الستار ويبقى السؤال
مطروحاً، هل استطاع الشاعر البرادعي أن
يجسد رؤيته الفكرية في هذا العمل المسرحي؟
لقد حاول خالد محيي الدين البرادعي على
صعيد المضمون أن يجسد شخصية سيف صاحب
الإرادة الحرة، والفكر الواعي، من خلال
تصوير مجموعة من العلاقات المتشابكة،
المصارعة، المتوحدة في الزمان والمكان
والتي يشكل كل منها زاوية من زوايا مثلث،
متساوي الأضلاع، فكل سلطة في هذا العمل
الفني تتربع على رأس زاوية من زواياه،
وبين أضلاعه الثلاثة يمتثل الشعب.
وقد بدا ذلك واضحاً من خلال تحليل هذه
الرؤوس الثلاثة، فالزاوية الأولى يتزعمها
ملك بلاد الشآم، إذ أراد البرادعي في هذا
العمل المسرحي أن يزجّ المشاهد منذ بداية
الحدث في دوامة الأزمة، وذلك عندما أظهر
الحاكم قلقاً مرعوباً تشغله الوساوس من
خطر سيف على عرشه، لأنه استطاع أن يدخل إلى
قلوب الناس، عن طريق أفكاره، التي دعت إلى
تغيير الحياة السياسية والاجتماعية،
فانتشرت تلك الآراء مثل الضوء بفضل
العتمة:
جبلة :(ما مِنْ عائِلة في هذا البلد
الآمِنْ
إلا حفظتْ نَزَرْاً مِنْ أقوالِهْ
عن خلخلة عُروشٍ
عن غربَلةِ جيوشٍ
عن نَشْرِ الضوءِ بفصْلِ الْعَتْمَهْ)^(^^)
لقد بدأت تنكشف شخصية سيف منذ بداية
الحدث، وذلك عندما راح الملك ينزع الستار
عن ماضيه، لكن كلما أُزيح ستار ازداد
الملك منه رُعباً، ولعل أكثر ما يرعبه قول
سيف لوزيره ذات يوم:
جبلة : منذُ انتصبَ أمامي مِنْ سَنواتٍ
كالمارِدِ يسألُني ما رأيُكَ يا جبلَهْ
لو تحترقُ عروشَ العربِ بأجمعِها/^(^^)
ويكتمل المشهد عندما يعترف الملك بعظمة
سيف، ويدرك قيمة دعوته في وحدة العرب،
ويزيده إعجاباً أن دعوته تلك لاقت أصداءً،
وانتشرت بسرعة الضوء إذ يقول:
أفراح: /لكنَّ رُؤاهُ الْمجْنونَهَ يا
جبلَهْ
طَبَعَتْ بصمتَها في الأَحيْاء
ورأتْ منْ يحضُنُها في بَحْرِ
الدَّهْماءْ
صَوَّرَ لِرَعايانا
ورعايا مِصْرَ وَدلْمونَ وبابِلْ
أَنَّ عُروشَ العربِ مناراتٌ
تُغْرِي الغَزْوَ الحَبَشِيَّ
الرُّوميَّ
كما تُغْرِي الْفُرْسَ ليَبْتَلِعوها
عَرْشاً عَرْشا/^(^^)
ومع هذه الصحوة، وهذا الوعي، تنفجر خاطرة
في ذهنه، وهي ضرورة مقتل سيف، لقد وضع
البرادعي في هذا المشهد التمثيلي يده على
الجرح، وجعله ينزف، ذلك أن اغتيال سيف
يعني اغتيال الأفكار الحرة، القائمة على
نصرة المظلوم، وتحقيق العدالة
الاجتماعية، وحرية الأفراد والشعوب ووحدة
الوطن.
ولتعميق الحس المأساوي أكثر جعل البرادعي
الملك (أفراح) يرفض فكرة جبلة عندما اقترح
عليه أن يتبنى أفكار سيف وأحلامه، لأن
أحلامه هي أحلام الملايين، لينقض بها
كالليث على عصره، وعلّته في ذلك أن أحلام
سيف الثورية المجنونة، لا يمكن أن تقيم
وطناً على حريق عشرات العروش، فلكل عرش
حاشيته التي تحيطه كالسور، وتحجب عنه
أحلام الناس^(^^).
أما الزاوية الثانية فيمثلها من تربع على
عرش طيبة، ذلك أن البرادعي لم يرسم لنا
صورة ملك طيبة مباشرة، وإنما بيّنها من
خلال أحاديث الشعب، ورواياتهم، ذلك أن ملك
طيبة عندما سمع بأفكار سيف، وكيف أخذت
تتردد أقواله على ألسنة الشعب راح يمنح
الهبات، خوفاً من تصدع عرشه، إذ نسمع أحد
رجال طيبة يقول:
: غَريبْ
متى كانَ حاكمُ طيبَهَ
يدعو الرعيَّةَ شَعْبَاً
ويُسْبِغُ هذا الكَرَمْ
وفي كل يومٍ
يَوزِّعُ ما في خزائنِ طيبَهْ
من الْبُرِّ والقَزِّ والْمَنْتَقى بين
ضَرْعٍ وَدَمْ
كأنَّ الَّذي بينَهُ وبَيْنَ الرَّعايا
صِلاتُ رَحِمْ؟/^(^^)

وبين ملك الشام وملك طيبة، تمتثل ملكة سبأ
أم سيف سيف اليزني، بقامتها المدينة، تلك
التي غارت الأمومة من قلبها وتصدرت عرشها،
وباتت بحمايته أولى، وقد تجلت صورتها
عندما أخبرها موفد النجاشي عن ذلك الوحش
الذي يتكلم لغة الشام، ويقول عن ملوك ذلك
الزمان إنهم أقزام أمام الأخطار
الخارجية، بينما يذلون رعاياهم، ويحلبون
الناس كالأغنام، وإن هذا الكائن يعبئ
البسطاء والفقراء والعبيد بالحقد على
أسيادهم، ويرى أن رعاياهم مستذلون تحت
وصاية الحاكم، فلهذا كله يطلب النجاشي من
ربيبته وصنيعته ملكة سبأ أن تحاصر هذه
الدعوة، وتقضي على هذا الكائن، إن شوهد في
اليمن^(^^)، ولم تكن ردة فعل الملكة قمرية
أفضل حالاً من ردة فعل الملك أفراح، إنهما
وجهان لعملة واحدة عن البرادعي، لأنها
تعدُّ نفسها أحق بالعرش، على الرغم من
أنها تسوس رعاياها طوعاً أو كراهية. ويعيد
البرادعي الصورة نفسها التي حدثت في قصر
الملك أفراح؛ إذ تستعين بحكيمها جرهم
لإبداء رأيه بالأمر، فينصحها بأن تدعه
يدخل بلاد سبأ، فإن كان صادقاً في دعوته،
واستطاع أن يحقق الوحدة والحرية للعرب،
فهو أحق بالمُلك، وكأن جرهم في هذا الموقف
داعية من دعاة حقوق الإنسان، إنه يمثل
ضمير الأمة وضمير الشعب، ويقترب بأفكاره
من حكيم الملك أفراح.
لقد حاول البرادعي أن يعرّي السلطة
القائمة على عروشها، ليدينها كما أدانها
في مسرحية (العرش والعذراء)، فالسلطة
مدانة في علاقتها مع عروشها، ومُدانة في
علاقتها مع حاشيتها، ومُدانة في علاقتها
مع الشعب.
وإذا كان البرادعي في هذا العمل المسرحي
قد أدان السلطة، فكيف جسّد صورة الشعب؟
إن الشعب في مسرحية أسفار سيف بدا أكثر
إيجابية من شعب مسرحية (العرش والعذراء)،
وإن كان يُساق بعصا الحاكم، وأمر
القادة^(^^)، ذلك أنه راح يردد دعوات سيف،
وينشرها، لتصل أقواله إلى أذن القادة عبر
ناقلي الأخبار. فما من عائلة إلا حفظت
نزراً من أقواله، وراحت رؤاه تطبع بصمته
في الأحياء، ورأت من يخضنها؛ إذ أدركوا مع
سيف أن عروش العرب منارات قد تغري الغزو
الحبشي وغري الغزو الرومي وتغري الفرس
ليبتلعوها عرشاً بعد عرش.
لكن لا يعني ذلك أن الشعب في هذه المسرحية
بات واعياً، يحلم بالثورة ويهتف باسمها.
فكل ما هنالك أن تلك الأقوال التي بات
الشعب يرددها عادت عليه بالنفع، وذلك
عندما أمر صاحب عرش طيبة أن تحوّل فوائد
نهر النيل إلى أبناء الشعب وتحديداً إلى
الصيادين، يضاف إلى ذلك أنه وهب أفراد
الشعب بعض حقوقهم لا خوفاً بل لكتم
أفواههم.
والإيجابية الثانية التي يمكن أن تسجل
لصالح الشعب هي أن الشعب أدرك حقيقة أمره،
وأدرك أنه لا يستطيع أن يحرك ساكناً،
فارتدّ إلى المستقبل يحلم بالأيام
القادمة. ويكبر أمله بالأجيال الآتية، ذلك
أنه قرر على لسان أحد أفراده أن:
/نُدوِّنُ أحلامَ سيفٍ
فنمزجُها في حليبِ الصغارِ
وفي هَمَساتِ العذارى
ويشدو بها الرَّكْبُ حتى تلامِسَ وجهَ
السَّماءْ/^(^^)
فمع حالة الاستلاب التي يعيشها بدا
واعياً، لأنه أدرك واقعه المعيش، ورغب في
تغييره، وهذه إيجابية تحمد لـه، لأنها قد
تثمر يوماً وذلك عندما تلامس وجه السماء.
وبين ألوهية العروش وعبودية الشعوب،
يُظهر البرادعي شخصية سيف ذلك الإنسان
الحالم بالتوحيد، والبطل المنقذ الذي كشف
سرَّ لعبة الحكام، وراح يعبئ الشعوب من
أجل الوحدة والحرية. لقد صرخ يوماً في وجه
الأعراب والحضر، فقال:
اصنعوا أنتم مصائِرَكم
وارسموا أنتم خُطَى القَدَر/ِ^(^^)
إن شخصية سيف في هذا العمل المسرحي، شخصية
متكاملة متعددة الجوانب، لذا فقد بات
المحور الأساس الذي يرتكز عليه الحدث من
بدايته إلى نهايته. حتى لو لم يظهر إلاّ في
اللوحة الرابعة، أي في الثلث الثاني من
العمل المسرحي، لكننا قد تعرفنا عليه منذ
اللحظة الأولى، وذلك من خلال أقوال
الآخرين وتصاويرهم.
وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر البرادعي
عندما أظهر شخص سيف، كان ظهوره متميزاً
على مستويين: المستوى الأول: عندما لم
يظهره وحيداً في دعوته؛ إذ شاركته في
مسيرته المصيرية أخته عاقصة، عندما راحت
تنير لـه الطريق، وتبصره الأشياء،
وأعانته في المسرحية، كما أعانته في
السيرة وأنقذته من مواقف خطرة.
المستوى الثاني: أن مرحلة التعرف ووعي
الذات عند سيف كانت عن طريق الأنثى، وهذا
يدل دلالة واضحة على إيمان البرادعي بدور
المرأة في عملية البناء^(^^)؛ ذلك أن سيفاً
عندما التقى أخته (عاقصة) وكشفت حقيقة

أمره، صرخ بأعلى صوته:
سيف: يا آلهةَ الشامْ
يا شامَةُ، يا سَعْدونُ
ويا فقراءَ الدنيا
هل كنتُ أنا ذاكَ الحالِمْ
وأنا ذاكَ الفارِسُ والراهِبُ والكاهِنْ
ومَعِي سيفٌ أحضُنُهُ عِشْقَاً
وأعانِقُهُ شَوْقَاً
وأُعلِّمهُ كيفَ يحطِّمُ عرشَ
السُّلْطانِ الْجائِرْ
والسلطانِ المنكفئِ على سوء بِطانَتِهِ
وأنا مَلكٌ حَقا
وابنُ الْمَلِكِ الْمُتَقَصِّفِ سُمَّاً
أَوْ خَنْقا
وابْنُ امرأةً شَوَّهَهَا حُبْ العرشِ
لتَبْقى/^(^^)
لكن ما هي نقاط الالتقاء بين سيف الأسطورة
وسيف الحالم بالتوحيد؟ إن خالد محيي الدين
البرادعي عندما استلهم السيرة الشعبية،
واستوحى شخصية سيف اليزني نزع عنه السمة
الأسطورية، ليصبح شخصية واقعية؛ تنتمي
إلى الواقع، وترتبط فيه، وتعبّر عنه،
وأبقى فيها السمة الملحمية التي ميّزت
أبطال الأساطير الشعبية في أنهم يحاربون
باسم العرب، ويصبح الواحد منهم ملكاً
للكل.
فالبطل في السير الشعبية يرمز إلى الدور
الذي يحلم كل الناس بالقيام به، ويعدُّ
انتصاره القومي انتصاراً لهم، فالمرحلة
الملحمية تؤكد الدمج بين البطل والجموع^(^^)
فسيف الأسطورة يخوض معارك ضد الأحباش بقوة
سيفه وفروسيته ليصبح البطل، وفي مرحلة
تالية يصبح رمزاً للإنسان العربي في
مواقفه السياسية والعسكرية ثم يتحول إلى
بطل قومي^(^^).
أما سيف المسرحية فإنه بطل عصري لا يحارب
بسيفه، ولا يؤكد وجوده بالقتل والتدمير،
بل يحارب بالفكرة، ويؤكد وجوده ووجود أمته
بالمبادئ والأفكار الحرة، إنه سيف المؤمن
بانتصاره وانتصار الحق.
وفي هذه النقطة بالذات الإيمان بالنصر،
تلتقي الشخصية الأسطورية في السيرة
الشعبية مع شخصية سيف اليزني في المسرحية،
لأن إيمان سيف بالنصر هو الذي جعل يستمع
إلى نصيحة الحكيم جرهم عندما طلب منه في
نهاية العمل المسرحي أن يتخلى عن العرش،
فيلبِّي سيف النداء ذلك لأنه لا يريد أن
يرى الدنيا بعيون الحراس بل بعينيه، ويريد
أن يكون بطلاً لا ملكاً^(^^).
أما على صعيد البنية الفنية: فقد تألفت
المسرحية من ثماني لوحات، كل لوحة تفضي
إلى الأخرى، لتشكل هذه اللوحات دائرة
متكاملة تبدأ في بلاد الشآم، وتنتهي في
العودة إلى الشآم، وبين البداية والنهاية
رحلة شاقة قطعها البطل في سبيل الوصول إلى
الهدف، ومع كل تشكيل مكاني ينفجر تشكيل
زماني، ينعكس على شخصية سيف، لتكتمل رؤية
البطل ورؤية الشاعر في نهاية العمل
المسرحي، لتبدو المسرحية سلسلة من
المفاجآت تشد المتلقي وتشحنه بطاقة
الرغبة في المتابعة والتشويق لمعرفة ما
سوف يحدث.
لكن إن كان الشاعر قد استعان على صعيد
المضمون بالسيرة الشعبية واستلهم شخصية
البطل الشعبي، فإنه قد استعان على صعيد
البنية الفنية بأدوات المسرح الأرسطي
والمسرح داخل المسرح والمسرح البريختي؟؟!.
نقول المسرح الأرسطي: عندما استخدم
البرادعي شخصية الكورس، التي مثلتها تلك
الأصوات التي راحت تعرّف سيفاً بنفسه،
وترسم لـه مسارات عصره^(^^).
لقد قدمت هذه الأصوات المعلومات الوافية،
عن سيرة سيف، وعقّبت على بعض الأحداث
والمشاهد، وحاورت البطل فكشفت لـه بعض
الأفكار والمواقف، المهم أن شخصية الكورس
وإن كانت صوتاً، قد دخلت في نسيج العمل
المسرحي.
واستخدم أسلوب المسرح البريختي في مراحل
تطور شخصية البطل؛ إذ انتقلت من مرحلة
التكوين إلى مرحلة التعرف ثم مرحلة التوحد
فالتحول، واستغرقت مرحلة التكوين الفترة
الزمانية التي قضاها سيف في كنف ملك الشام.
وبدأت مرحلة التعرف في اللوحة الرابعة
عندما بدأ سيف يعي ذاته، ويتلمس هويته،
بعد أن التقى أخته عاقصة، وتجلت مرحلة
التوحد في اللوحة الخامسة أيضاً، عندما
قررت عاقصة أن تصحبه وتسانده.
عاقصة : معكَ أنا يا سيفُ
بأعماقِكَ، في وجدانِكْ
أُبصرُ في عينيكَ
وأغسلُ نطقي بلسانِكْ/^(^^)
أما مرحلة التحول فهي المرحلة التي قرر
فيها سيف أن يرحل إلى اليمن. ويأخذ بثأر
أبيه، وبعد أن كان هدفه إحضار المهر
لإرضاء من أحب، أصبح هدفه ملتحماً بهدف
الأمة. إلاّ أن النهاية لم تكن نهاية
تراجيدية كما كانت نهاية دُمَّر بطل
مسرحية دمر عاشقاً^(^^)؛ إذ لم يسقط البطل في
وهدة العرش، ولم يتنازل عن مبادئه، ذلك أن
البرادعي ترك نهاية العمل المسرحي مفتوحة.

لأنه آمن بانتصار الشعوب، وبانتصار
الحرية.
واستعان بأسلوب مسرح (بيرانديللو) المسرح
داخل المسرح وذلك عندما صحبت عاقصة سيفاً،
وأخفته، ليراقب أحداثاً جرت في قصر ما في
بلد ما في العالم العربي، إنه تمثيل داخل
التمثيل، لكن وإن بدا ذلك المشهد دخيلاً
على العمل المسرحي؛ إذ لم يدخل في نسيج
الحدث، إلاّ أنه عمق المأساة، وأيّد
الفكرة المطروحة، وإذا كان البرادعي في
هذا المشهد قد استخدم أسلوب مسرح
(بيرانديللو) على صعيد الشكل فإنه على صعيد
المضمون قد استخدم أسلوب المسرح داخل
المسرح.. وذلك عندما أراد أن يصدم المشاهد
قبل أن يصدم سيفاً، من خلال تصوير مشهد
جانبي كشف فيه الستر عن القمع والقهر
والظلم والقتل المجاني، بحجة الحفاظ على
الأمن؛ إذ يذبح الأمن باسم الأمن، وينتشر
الفقر تحت شعار محاربة الفقر، ففي داخل
القصر المراقب انسحب الحدث المفجع على
كافة سكان الإقليم، إذ أصبح:
(الابْنُ يَشُكُّ بوالِدِهِ
والوالدُ يحسبُ أَنَّ بَنيِهِ
جُنودٌ غُرَباءْ
والمرأَةُ تبلعُ دَمْعَتَها
خوفاً مِنْ كل مَساءْ
نصفُ السكانِ يزورونَ السجنْ
والنصفُ الآخَرَ هَرَبَوا مِنْ أنفسهِمْ
خوفاً مِنْ رَائِحَةِ السجنِ
وَهَلَعاً مِنْ قَصَصِ التعذيبْ)^(^^)
لقد أراد البرادعي أن يصدم المتفرج،
وأرادت عاقصة أن تصدم سيفاً، وتشحنه
بالقدرة على الفعل، خصوصاً عندما أكدت له.
أنه في أرض الوطن، وتعاريج الوطن، وتباريح
الوطن^(^^).
ومن خلال هذا المشهد نرى أن هذا العمل
المسرحي يطل برأسه من ناحية الفكرة
الأساسية على مسرحية (العرش والعذراء) لكن
إن كانت مسرحية العرش والعذراء قد طرحت
الفكرة عن طريقة الرمز، فإن مسرحية (أسفار
بن ذي يزن) كانت صريحة في طرحها؛ إذ كانت
صورت تلك الانقلابات التي كانت تحدث من
أجل إنقاذ الشعب من الظلم والقهر. كان
القائمون عليها يتنكرون لعهودهم،
ويتنكرون لأولئك الذين ساعدوهم في الوصول
إلى سدة الحكم، بعد أن يطئوا العرش، وكأن
البرادعي يريد أن يقول: إن العروش هي التي
تصنع الملوك، وهذه الفكرة تلتقي مع فكرة
سعد الله ونوس عندما أقرَّ أن الملك هو
الملك؛ إذ عدَّ التهام الملك محصلة
طبيعية، فطقس الالتهام (هو بالضبط
الاحتفال الذي يتيح لنا أن نتقاسم الملك
ونتوزع دلالته، أي أن يصبح كلُّ منا الملك
في مجتمع بلا طبقات، وبلا تنكر)^(^^) فإن
خالد محيي الدين البرادعي جعل بطله
مراقباً للحدث، يكتفي بنشر أفكاره،
والتبشير بين المظلومين والمقهورين.
ولم يكتف البرادعي بذلك، بل ترك بطله
منتصراً، عندما لم يسمح لـه باعتلاء العرش
في نهاية العمل المسرحي، ليبقى منارة
للأجيال، وحاملاً لواء الدفاع عن الحرية،
بعد أن نصحه جرهم بأن يعود إلى جموع الناس،
لأنه الحالم بالتوحيد على حد تعبير جرهم،
وفي هذه القضية تتوحد فكرة الحكيم جرهم مع
فكرة البرادعي.
وتجدر الإشارة إلى أن العمل المسرحي أقيم
على أساس اللعبة الإيطالية ممثل ومتفرج،
ولعب المؤلف دور المخرج عندما راح يحدد
السمات الأساسية، لكل لوحة من اللوحات
الفنية، من خلال تحديد الزمان والمكان،
والمواقع النفسية للشخصيات فمن قبيل ذلك
(في قصر الملك أفراح بدمشق، الوقت ضحى،
الملك يروح ويجئ أمام كرسي العرش، كما لو
أنه ينتظر أحداً، حاجبه قيس لصق باب
القاعة، ينظر إليه بانتظار أوامره...)^(^^)
(ينظر إلى الملكة بريبة)^(^^).
أما لغة الحوار المسرحي فقد كانت لغة
واضحة شفافة، ابتعدت عن التعقيد في
أغلبها، فجاءت قريبة لا غموض فيها،
واستطاع الشاعر أن يختار الألفاظ بمهارة،
وأن يحدد التعابير المناسبة للمواقف
المسرحية، وابتعد عن الالتزام بحرف
الروي، وتنوعت القافية، وتنوع الإيقاع.
ومما لوحظ عدم التزام نظام ثابت في طول
السطور وطول القوافي، فالأسطر اختلفت
طولاً وقصراً، ومال أكثرها إلى القصر،
وانتهى كل سطر نهاية موسيقية مريحة دون
تقيد بنظام ثابت.
وقد تجلت الموسيقا الخارجية أيضاً من
خلال تشابه هيكل بعض الجمل المسرحية (عن
خلخلة عروش/عن غربلة جيوش/ عن نشر الضوء
بفصل العتمة)^(^^).
(.. لنرى هل في حجرات العقل من يهمس أو ينفث
أو يرفث أو يرقص)^(^^) أو استخدام بعض الصور
البيانية من جناس وطباق كقوله (فلا مبصراً
أبصره)^(^^) (في ظلمتها أبصرت النور)^(^^) و(عن
نشر الضوء بفصل العتمة)^(^^).
يضاف إليه الصور الفنية المرسومة بإتقان
(لا يقرب دبق العرش/ ولا تمسخ رأسك بالتاج/
إن تفعل/ تَنْسَ الأحلام الخضر، وتغرق في

عتم الديباج /سافر يا ولدي/ بين أمانيك
الملأى بالخصب /وكن في طريق تعبره/ سنبلة
خضراء وضوء سراج/^(^^).
لقد امتاز الشعر إجمالاً في هذا العمل
المسرحي بالعمق والتكثيف، وبعد عن الشرح
والتفصيل، وبُعد عن الغنائية. مما جعل
الأحداث تسير سيراً حثيثاً، ونبعت اللغة
من المواقف المسرحية، وعبّرت عن الشخصيات
تعبراً وافياً.
وهكذا فقد حاول الشاعر البرادعي أن يقدم
تراجيديا عربية. أفاد فيها من نماذج
وتيارات متعددة في تاريخ المسرح العالمي،
أضف إلى ذلك أنه استلهم التراث الشعبي،
وقرأه قراءةً دقيقةً واعية، استطاع من
خلاله أن يقدم نقداً للواقع العربي،
وقضاياه، كل ذلك ضمن بنية فنية تمّ
التناغم والانسجام بين أطرافها.
تعدد أشكال الراوي في الملحمة المعاصرة
"ملحمة ميسلون" للشاعر الدكتور خالد محيي
الدين البرادعي نموذجاً
د.رضوان القضماني^*
ـ 1 ـ
يشغل الشاعر خالد محيي الدين البرادعي
مكانة بارزة في المشهد الشعري السوري
والعربي معاً، وتظهر هذه المكانة من خلال
حضوره الواضح في الساحة الثقافية السورية
والعربية نظراً لتنوع إبداعه بين الشعر
والمسرح، على الرغم من أن الشعر يظل الجنس
السائد في هذا الإبداع انطلاقاً من أن
البرادعي يرى أن الشعر أصل للمسرح، وأن
المسرح الشعري أصل للمسرح المعاصر^(^^). ومع
تنوع هذا الإبداع كان لا بد لشعر البرادعي
من أن تتراسل فيه أجناس الأدب الأخرى،
السردية والشعرية، على نحوٍ راح يميز
إنتاجه. ولذا فإننا سنحاول في هذا المقام
أن نتلمس ما استعاره البرادعي من فنون
القول الحديثة (القصة والرواية والمسرح
الحديث) والقديمة (المسرح الإغريقي
والملحمة وفقاً للفن الأرسطي) لنرى ما
أضافته هذه الاستعارة عبر تراسل فنون
القول من تجريد وجمالية على شعرية الملحمة
المعاصرة خصوصاً وشعرية القصيدة العربية
الحديثة عموماً وما استتبع ذلك من تطوير
كان لا بد منه في الوظيفة الشعرية إذ إن
الهدف الرئيس من كل تجديد وتطوير في بنية
الجنس الشعري (أو غيره من الفنون) أن يتمكن
هذا الجنس من تأدية وظائف جديدة تتناسب مع
وضع جديد يتعايش هذا الجنس معه،^(^^) لأن
(وعي الأديب بالواقع الذي يعايشه وبأدوات
التشكيل الجمالي لعمله يهب لفنه الجودة
والخلود)^(^^).وربما كان تراسل فنون القول
ضرورة تفرضها المرحلة الراهنة بما فيها من
تحولات في شكل القصيدة المعاصرة ومضمونها،
وما تقتضيه هذه التحولات من بحث عن وسائل
تعبيرية يتيحها لجوء الشاعر إلى أجناس
أدبية أخرى، يطعم بها إبداعه ويستفيد منها
في إغناء تجربته وخلق نموذج ينفتح على
المرحلة الراهنة ليرفدها بنماذج لا تقف
عند المعطى القديم بل تتجاوزه من غير أن
تلغيه، مستفيداً مما تقدمه هذه الأجناس من
تقنيات متاحة توسع حدود النص وتغني فضاءه.
لذا سنحاول في هذه المقاربة أن نستجلي هذه
الجوانب. عبر تمظهراتها في ملحمة الشاعر
البرادعي (ميسلون ملحمة شعرية في أحد عشر
فصلا) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
بدمشق عام 1999.
ما دامت ميسلون ملحمة (شعرية) وإضافة
الصفة: شعرية، للتحديد، هي إضافة من
الشاعر المؤلف، فلا بد لنا أولاً أي قبل
الولوج في صلب موضوعنا من تحديد اصطلاح:
ملحمة.
إذا رجعنا إلى مادة (ل ح م) في لسان العرب
سنجده يحدد الملحمة بأنها (الواقعةُ
الشديدةُ في الحرب). أما الموسوعات ومعاجم
المصطلحات الأدبية فقد حَدَّدتِ الملحمة
بأنها: (قصيدة سردية طويلة، واسعة المدى
والتأثير، تنطوي على أعمالٍ جليلةٍ
للرجال العظام، وسرد مغامراتٍ مدهشةٍ
وحوادث بطولية، أبطالها بَشَرٌ متفوقون،
وآلهةٌ يقومون بأحداثٍ عجيبة مدهشة
وخارقة للمألوف، ويعالج بها الموضوع على
نحوٍ يتناسب مع البطولة، وتكون سيرة البطل
هي الموضوع الملائم والرابط الأساسي
لأحداثها وبنى سردها. وتهدف الملحمة
الكلاسيكية إلى تمثيل مثل جماعية دينية أو
وطنية أو إنسانية)^(^^).
وتعد دراسة أرسطو للملحمة أساساً فقد حدد
لها جملةً من الخصائص والسمات أهمها: أنها
تنهض على حدثٍ كبير وله مرجعية تاريخية،
فهي تعيد إنتاج الأحداث التاريخية بشكل
فني واضح وتركز على الحدث حتى يكاد يكون
البطل الرئيس فيها. ويمكن للملحمة (أن
تذهب... إلى حَدّ الأمور غير المعقولة التي
يصدر عنها خصوصاً العجب... فإذا أدخل
الشاعر الأمر اللامعقول وعرف كيف يضفي
عليه ظلاً من الحقيقة فله أن يفعل ذلك
بالرغم من عدم المعقولية)^(^^)، ويجب أن تتسم
الملحمة بالوحدة العضوية، بمعنى (أن يكون
الفعل واحداً تاماً، وأن تُؤَلَّف
الأجزاء بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط عقد

الكل وتزعزع، لأن ما يمكن أن يضاف، أو ألا
يضاف، دون نتيجة ملموسة لا يكوِّن جزءاً
من الكُلِّ)^(^^). وتقوم الملحمة على البطولة
الشخصية التي تتسم بخصائص فردية وشخصية
كالقوة والبسالة... وتدخل فيها التشبيهات
المطولة وعدد كبير من أسماء الأبطال أو
أسماء أشياء هامة في حياة هؤلاء الأبطال،
كالأسلحة والسفن وما إلى ذلك، وكذلك خطب
التفاخر وخطب الإثارة للمعارك أو
المبارزات البطولية...
عرف العرب الملحمة وكتبوا الملحمات، على
خلاف ما يذكره بعض الدارسين من أن الملحمة
فن إغريقي صرف. وقد أشار إلى الملحمات
العربية أن زيد محمد بن أبي الخطاب في
كتابه (جمهرة أشعار العرب) وخَصَّ الملحمة
بالقسم السابع من كتابه، وذكر منها سبع
ملحمات لسبعة شعراء إسلاميين هم: الفرزدق
في قصيدته الطويلة ومطلعها:
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرفُ
عزفت بأعشاش وما كدت تعزفَ
وجرير في مطولته التي مطلعها:
رسماً تقادم عهده فأطالا
حيّ العذاة برامة الأطلالا
والأخطل التغلبي في قصيدته التي مطلعها:
وأقفرت من سليمى دمنةُ الدارِ
تغير الرسم من سلمى بإقفار
وقصدية ذي الرّمة التي مطلعها:
كأنه من كلى مفرية سربُ
ما بال عينك منها الماء ينسكب
وكذلك مُطَوَّلات كلٍ من عبيد الراعي،
والكميت بن زيد الأسدي، والطِّرمّاح بن
حكيم الطائي. كما يمكننا أن نضم إلى ملحمات
العصر الإسلامي ملحمة الشاعر العباسي أبي
تمام الطائي في فتح عمورية...ثم الملحمة
المعاصرة ومثالها إبداعُ البرادعي الذي
نحن بصدد دراسته في هذا المقام.
يقول أرسطو: إن الشاعر يجب أن يكون صانع
حكايات أكثر من صانع أشعار، لأنه شاعر
بفضل المحاكاة، وإنما يحاكي أفعالاً، ولو
وقع لـه أن يتخذ موضوعه من الأحداث التي
وقعت لظَلَّ مع ذلك شاعراً..)^(^^) والذي يلفت
النظر في هذا القول تحديد أرسطو العنصر
الأول في الملحمة وهو (الحكاية)، فالشاعر
الذي يؤلف الملحمة يروي أولاً، (حكاية) لذا
فهو (صانع حكاية) قبل أن يكون (صانع شعر).
والحكاية فعل سردي، أي فن من فنون النثر،
لا الشعر، إلا أن الشاعر يحول هذا الفعل
السردي إلى قول شعري مستفيداً من تقنيات
السرد، وهو ما فعله الشاعر البرادعي عندما
جاء بواقعة تاريخية ليجعل منها حكاية تقوم
عليها ملحمته، والواقعة التاريخية بسيطة،
بل غاية البساطة، وعندما حدد أرسطو أنواع
المآسي والملاحم قال إن (الشعراء يبلغون
غايتهم المثلى في الأفعال البسيطة)^(^^)
لكنها حكاية قامت على (عامل المفاجأة) الذي
ينتج (أثراً بليغاً)، وعلى الرغم أننا
نحاول أن نتجنب التأثيرات الأرسطية
الخاصة في (فن الشعر) وخصوصاً فكرة أرسطو
عن المحاكاة واعتبار الملحمة شكلاً من
أشكال محاكاة الواقع، إلا أن تساؤلات عدة
تبرز للعيان عند الحديث في هذه المسألة،
أهمها: ما الملحمة؟... إنها في النهاية
حكاية. على الرغم من أنها شعر، لكنه شعر
تبرز فيه أدوات السرد وتقنياته وأشكاله
المختلفة... إذن، لنبدأ بتحديد الحكاية.
يعرفها فورستر بأنها (سرد حوادث مع تركيز
الاهتمام على الأسباب)^(^^). لكن أرسطو أضاف
إلى ذلك عند حديثه عن الوحدة العضوية في
الملحمة أنها لا تستقيم إلا إذا ائتلفت
الأجزاء (بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط
عقد الكل وتزعزع، لأن ما يمكن أن يضاف أو
ألا يضاف دون نتيجة ملموسة لا يكون جزءاً
من الكل) كما سبق وأشرنا، لكن ملحمة
(ميسلون) قامت على حكاية لم تُبن على سرد
للحوادث بقدر ما حاولت استكناه جوهر الفعل
السردي وتوظيفه شعرياً، لأن البرادعي لم
يبن ملحمته على سرد الحكاية، إنما أقام
بنيانها على المشهد الحكائي، وبذلك يكون
قد جعل الملحمة في سرديتها أقرب إلى
المسرحية منها إلى القصة، ولذا قسمتها إلى
فصول تجعلنا نحس إزاءها كأننا أما مشاهد
مسرحية يتعاقب فيها السرد والحوار، بمعنى
أن الحكاية فيها بنيت على تعدد الأصوات
(Polyphony) حيث يتناوب صوت الراوي (الذي يشبه
صوت الجوقة على خلفية خشبة المسرح) مع صوت
يوسف العظمة وصوت غورو (الجنرال المحتل)
وهاتف الرؤيا، وصوت الشيخ بدر الدين
الحسيني وصوت ليلى ابنة الشهيد العظيمة،
وكذلك صوت المهر، وصوت بردى...
لكن حكاية الملحمة على الرغم من هذه
البنية الملحمية المعقدة تبقى بسيطة تقول
إن يوسف العظمة وزير الحربية في أول حكومة
عربية مستقلة بعد سقوط الإمبراطورية
العثمانية قرر مواجهة القوات الفرنسية
الزاحفة إلى دمشق عام 1920 بعدد ضئيل من
الفرسان، وكان يدرك أنه يذهب وإياهم إلى
حتفه فقد اختاروا الشهادة التي لا مفر
منها ما داموا مصممين على التصدي للجيش
الفرنسي المنتصر في الحرب العالمية
الأولى، وبذلك تحول يوسف العظمة إلى

أسطورة من أساطير الفداء في التاريخ
العربي.
لكن هذه الحياة يرويها راوٍ هو شخصية
متوارية كأنها هاتف ينادي:
مَنْ يُناديهِ بِعُمْقِ اللَّيْلِ:
يا يوسفُ أَسْرِجْ فَرَسَكْ؟
وامْسَحِ الشامَ بكَفَّيْكَ
وَهَيِّئْ للرَّحيلْ
ذاتَكَ المُلتهِبَهْ؟
ثم يصبح الراوي سارداً، يروي بجمل خبرية
تقريرية هادئة وكأنه صوت الجوقة في
الملحمة الإغريقية يمهد للمشهد قبل ظهور
شخصيات الملحمة.
إنَّ جُرْحَ الشامِ مَفْتوحٌ على كُلِّ
الجهاتْ
مِنْ قُرونٍ أَوْغَلَتْ في الصَّمتْ
حتى سَئِمَ الصَّمتْ الْحياةْ...
ثم يعود صوت الراوي ـ الشخصية المتوارية:
... انْهَضْ مِنْ هدوءِ الْحُزْنِ....
ليعود بعده صوت الراوي السارد ثانية:
إنَّ ريحاً زَجَرَتْها الحربُ شَمْطاءَ
مِنَ الغربِ أَتَتْ
ولقد أمْسَتْ على بُعدِ خُطاً مِنْ ساحلِ
الشامِ
سَموماً رجَفَتْ....
والذين انْتُدِبوا للفتحِ.. ناموا
وحُداةُ العصر بُحوَّا من الضّجيجْ
وتوارَتْ في صحارى البردِ والجوعِ
بقايا أُمَّةٍ مُسْتَلَبَهْ..
إن الراوي في كلا الحالتين، حالة الراوي
المتواري، والراوي السارد، هو شخصية
حكائية، أي شخصية من شخصيات الملحمة، وهو
في الحالة الأولى، وفقاً لتصنيفات
توماشفسكي شارك في الحدث، لا يقدِّمُه إلا
من وجهة نظره، أو من زاوية رؤيته، حسب
تعبير توماشفسكي. أما الراوي في الحالة
الثانية فهو أيضاً شخصية حكائية، على
الرغم من أنه لا يشارك بالحدث، بل يقوم
بوصفه ليدفع الشخصية إلى الانطلاق من هذا
التوصيف، فهو ليس راوياً محايداً لا يتدخل
في توصيف الأحداث، بل يساهم في تشكيلها،
وعلى هذا تختلف وظيفة الراوي في الحالتين
السابقتين فهي في حالة الراوي المتواري
وظيفة ندائية تدفع بالمروي له: يوسف
العظمة إلى اتخاذ موقف:
(يا سوفُ أَسْرِجْ فَرَسَكْ؟) ص 13.
(انْهَضْ مِنْ هدوءِ الْحُزْنِ) ص 14،
(يوسفُ الموعودُ والواعدُ اِنْهَضْ) ص 15،
(ـ: أَيُّها الرَّاحلُ في هَوْدَجِ عِزٍّ...
حاذِرِ السَّيْفَ مِنْ الخَلْفِ وحاذِرْ
أَنْ تَميلا...) ص 58.
أما في الحالة الثانية حالة الراوي
السارد، فإنه يقوم بوظيفة انفعالية بمعنى
أنه يضع المشهد الملحمي في إطار محدد يحدد
علاقةً ذاتية قيمية به:
أَنْتَ مَوْعودٌ مِنْ الْغَيْبِ/ بكَشْفٍ
لَكَ وحدَكْ/ لِترى القادِمَ بَعْدَ
الليلِ/ مفتوحَ الذراعينِ عليكْ/ تَقرِأُ
الضوءَ بهِ/ وتُواري الْحِقْبَةَ
الْمُصْطَخِبَهْ؟ / أنتَ مفتاحٌ لعصرٍ لَم
يَجِيءْ/ فاقْتَحِمْ بَوَّابَةَ الآتي
عليهْ/ لترى مِنْ خَلْفِ بَوّاباتِهِ/
الأَوجاعَ والأصفادَ تَسْتَلْقي/ عَلى
أُمَّتِكَ الْمُغْتَصَبَه/.
وهكذا يكون الراوي في كلا الحالتين شخصية
مكونة في المشهد الملحمي أي أنه شخصية تقف
داخل الملحمة لا خارجها وتشهد على ذلك
وظيفتها. على أننا لا نعدم في ملحمة
(ميسلون) شكلاً ثالثاً من أشكال الراوي
الشخصية أي الراوي الذي يقف داخل النص لا
خارجه عندما يتحول إلى شخصية حقيقية في
الملحمة، شخصية تشارك بطل الملحمة في
الحوار، ويظهر هذا في الفصل الأول من
ملحمة ميسلون حينما يدخل الراوي المتواري
في حوار مع يوسف العظمة. ينادي:
ـ: يوسفُ الْعَظْمةُ
ثم يأتيه الجواب لتبدأ تعددية الأصوات،
وهي تعددية حوارية أحد أطرافها الراوي
المتواري الذي يتحول إلى راوٍ شخصية:
ـ: مَنْ؟
مَنْ يُنادي الْمُتْعَبَ الْمَقْهورَ
في راياتِهِ الْمُنْسَحِبَهْ؟
ـ: سابِقٌ مِنْ طاهِرِ الْحَوْضِ
يُناديكَ
لِتجْتَازَ الرُّؤى الْمُضطَرِبَهْ...
ويستمر الحوار الملحمي بين بطل الملحمة
والراوي الشخصية المتوارية:
ـ: لَيْسَ وَهْماً ذلكَ الصوتُ/ ولا في
الْحُلمِ جاءْ
ـ: يوسُفٌ أنتَ ضَحِيَّهْ.../ لستَ مَنْ
أَوْقَدَ هذا الْعَطَبا...
عَرِّبِ الْعَصْرَ الذي أَعْجَمَهُ
أَلْفُ طاغوتٍ وطاغوتٍ صَبَا....
أَسْرِجِ الْمُهْرَ، فَأَرْجالُ
الْجَرادْ
غَادَرَتْ شاطِئَها الشَّرْقِيَّ
جوعاً....
ـ: أيُّ مَهْرٍ وَحْدَهُ/يوقِفُ أَرْتالَ
الْجَرادْ....
ـ: أنتَ وَحْدَكْ.... ...

ـ: لم تَقُلْ يا... أَنْتَ/لكنْ.. أنْتَ
مَنْ؟..
إنها أشكال ثلاثة للراوي الذي يقف داخل
النص لا خارجه: الراوي المتواري، والراوي
السارد، والراوي الشخصية، وهي أشكال
ثلاثة لراوٍ واحد يدخل في عِداد شخصيات
الملحمة، لكننا نجد في الملحمة راوياً يقف
خارج النص لا داخله لأنه لا يتدخل في تكوين
المشهد الملحمي بل يقدمه موضوعياً، ولذا
تتغير وظيفة الراوي لتصبح وظيفة مرجعية
نلمسها لغوياً من خلال غياب الجمل
الإنشائية لتحل محلها الجمل الخبرية بما
فيها من أفعال تدل على سرد الحكاية ليبدأ
عندها فِعلُ القصِّ في الفصل الثاني من
الملحمة: (ورآى يوسُفُ أَنَّ الشام/ قَد
نامَتْ على جُرْحٍ يُغَطي الْجُرْحَ...) ص
33، (وَمَضَى يوسُفُ/ في لَمِّ شتاتِ
الْقَوْمِ) ص 35، (يوسُفٌ، زارَ إمامَ
الشَّامِ بَدْرَ الدينِ...) ص 36، (يوسُفُ
الْعَظْمةُ صَلَّى خَلْفَ بَدْرِ الدينِ
صَلَّى رَكَعاتٍ لِلْجِهادْ) ص 38، وفي
الفصل الثالث: (أَسْرَجَ الْمُهْرَ/
وشَقَّ الْعَتْمَ بالسَّيْفِ وَأَسْرى) ص
45، (وَكَزَ الْمُهْرَ/ وكانَ
الْمُتْعَبونْ/ يَنْشُرونَ الْحُلُمَ
الْمَذْعورَ أَنْفاساً/ على صَمْتِ
اللَّيالي) ص 47، (ورآى يوسفُ في
"الْمَرْجَةِ" سَفَّاحاً/ وأطيافاً
لِسَفّاحينَ...) ص 52، (ذاكَ ما كانَ
بِقَلْبِ الشَّامِ...) ص 55، ثم يعود الراوي
المتواري بوظيفته الندائية:
ـ: أَيُّها الرَّاحِلُ في هَوْدَجِ عِزٍّ
تُنْقِذُ الشَّامَ
مِنْ الرِّيحِ مِنَ الطَّاعونِ
مِمَّنْ سامَها خَسْفاً
وَوارىَ مَجْدَها حِقْداً
جَريحاً وَقَتيِلا
حاذِرِ السَّيْفَ مِنَ الْخَلْفِ
وحاذِرْ أَنْ تَميلا
إنَّ هذا الْعَصْرَ مَلْعونٌ
وَمَحْمولٌ على الْغِيلَةِ
أَهْلاً وَقَبيلا (ص 58).
وإذا كنا قد رأينا أن للراوي داخل النص
أشكالاً عدة، فإن الراوي الذي يقف خارج
النص لن يشذ عن ذلك أيضاً، إذ إن الراوي
معطىً نصيٌّ ينهض بمهمة سرد أحداث الملحمة
بالشكل الذي يتطلبه النص، فقد يختار
الراوي لسرد الحكاية الخطاب المباشر أو
الخطاب المحكي أو الخطاب الحواري أو
الخطاب المستعار فليس الراوي إلا مكوناً
من مكونات لعبة فنية يبتدعها صاحب النص،
وعلى هذا فإن بوسع الراوي الموضوع لا أن
يحكي حكاية الملحمة مباشرة، بل أن يستعير
لها حكاية أخرى من ميراث حكائي وثيق الصلة
بحكاية الملحمة، وذلك للارتفاع بشعرية
النص ودلالاته التعبيرية. يقول الراوي
الموضوع في الحكاية المستعارة:
نَقَرَتْ قُمْرِيَّةٌ، بِلَّلْورَ
شُبّاكٍ
لِخِدْرٍ مِنْ خُدورِ الشامِ
ـ كانَ الْوَقْتُ فَجْراً ـ...
أَيْقظَتْ لَمْسَةُ كَفّ الصُّبْحِ
لَيْلى....
رَقَصَتْ قُمْريَّةُ الدَّارِ/ وخَضَّتْ
هَدْأَةَ الصُّبْحِ/ بما خالَتْهُ
لَيْلى/....
وليست الحكاية المستعارة هنا استطراداً
أو تداعياً لأنها حينها ستصيب وحدة
الملحمة التي تحدث عنها أرسطو إصابة
قاتلة، بل تدخل في صلب الحكاية الأصلية
لتخلق حالة تغني الموقف وتزيده توهجاً
وتوتراً لدى القارئ، عندما يتحول الراوي
الموضوعي إلى راوٍ للحكي فكأنه راوٍ مقنع،
يتوسل بقناع الحكاية المستعارة لينقل من
خلاله من عالم مشدودٍ إلى الواقع إلى عالم
مشدود إلى الخيال المستمد من القص الشجي.
وهكذا فإن تنوع أشكال حضور الراوي في
ملحمة (ميسلون) يخلق تنوعاً غنياً في أشكال
السرد، ومهما تعدد أشكال حضور هذا الراوي
فإنه يبقى راوياً ملحمياً يلبي مقتضيات
بنية شعرية محددة في الملحمة تميزها من
غيرها من الملحمات الشعرية وتعطيها
نكهتها الخاصة بها.
الشوك و الـخصب بين المتـنبي وسيف الدولة
لخالد محيي الدين البرادعي
د.فــــايز الــــدايــــة^*
مـدخــل
كيف تنتقل الأجواء التاريخية وقضاياها
إلى الواقع الذي يعيشه المتلقي، سؤال
يواجه قصيدة ( تداعيات المتنبي بين يدي سيف
الدولة)^(^^) للشاعر خالد محيي الدين
البرادعي في الديوان الذي يحمل اسم هذه
القصيدة (1976)، ويبدو لأول وهلة أنَّ
لاختيار الوحدات الدلالية في الرموز
دوراً هاماً؛ خاصّة مع اقتران حقائق
التاريخ بسمات يستشفها الشاعر ويركبّها
في أداة دالة هي هذا الرمز، ولكننا سنكتشف
في القصيدة والديوان قيماً أسلوبية تنوّر
التجربة، وتؤكد فاعلية الدلالة في
التواصل المنشود بين النصّ وقارئه.

الدراما والموقف
استعان خالد محيي الدين البرادعي في
قصيدته الغنائية بملامح درامية تسمح
بجلاء الموقف وبيان جوانبه المختلفة،
ونلحظ الأسلوب الحواري أعطى منذ البدء
موقعين لا يتطابقان وإنما تباعد بينهما
مسافة، ورغم أن المواجهة بين المتنبي وسيف
الدولة لا تبلغ مرحلة الصراع فإننا نجد
مكاشفة تبلغ الحوافّ الحارّة، ويحرص
الشاعر على مراوغة بارعة تستلّ الغضب
وتتيح استمرار الجولات في ساحة تلتمس
الحقيقة، وتنتظر فجراً غير كاذب.
إنّ المكَوِّنَ الدلالي التاريخي لشخصية
المتنبي هو ارتباطه الوثيق بالأمير
الحمداني وإعجابه بنضاله وجهاده ذوداً عن
العروبة والإسلام في وجه الروم
(البيزنطيين)^(^^)، وتقوم قصائده (السيفيات)
شاهداً، وهذا ما يؤهّل للحوار العميق
بدقائقه، ولقدرٍ من الأمان لا بدّ منه
أمام السلطان في إهاب سيف الدولة:
وأنا أولُ من نادى باسمِكَ،
رُمحاً تهتكُ أستارَ المجهولِ، وتغتالُ
الخوفْ
وحُساماً يلثُمُ وجه الأرضِ الظَّمْأَى
للأفْراحِ
بِعصرِ الزَّيْفْ
لكنَّ .....^(^^)
ولعلّ اللمحة الذكية في البنية الرمزية
الدلالية هي استثمار البرادعي لفراق
المتنبي حلب وصاحبها مغاضباً ثم تواصلهما
عن بعد^(^^)، فهكذا يمكننا إدراك ما أتيح لـه
من تصوّر متكامل يتجاوز المديح والإعجاب؛
ويستطيع الرمز حمل مهامّه ليغدو ضمير
الناس، والفكر الذي يمتد الأفق أمامه فيرى
ما لا تبديه اللحظة الراهنة:
إنِّي أقرأُ صفحاتِ الناس المكتوبةَ
بالصمتِ المتوثِّبِ والأنَّاتْ
وأُترجمُ هرب الألسنةِ المِرْواغَ، وما
يرقدُ تحت الأغنيَّاتْ
وأرى الأوجهَ راضيةً أو غضْبى
تطلبُ من سيفِ الدّولةِ مالا تطلب من
أحدٍ،
والصَّمتْ،
يكون رِضىً حيناً، ويكون جفاءً أو عُتْبى
فاقرأْ في الصَّمتْ
تظهر شخصية المتنبي عند البرادعي عصرية
في تمثلها لوظيفة فوق المديح وا لهجاء (كما
كنا نألف لدى كثير من الشعراء القدامى
الذين حبسوا مواهبهم ورؤاهم بالتكسّب)
إنها تحمل رسالة الدفاع عن الشعب وتستشرف
أيّامه القادمة في سبل لا تتقطع بها
الأسباب، وعندما نسبر أغوار هذا المتنبي
نلقى أنفة ورفعاً جعلا (الشاعر) يعلو في
الحياة العامّة ويرتفع مراتب خلّفت
الآخرين في حنق وغضب كما لدى الوزير
الحاتمي^(^^) والصاحب بن عبّاد، وكذلك ردّدت
قصائد أبي الطيب نداء العروبة خلاصاً لا
يمكن أن يحلّ مكانه الصوت الأعجمي الغريب.
يبدو سيف الدولة في هذه القصيدة شخصيّة
إشكالية يتوجّه إليها المتنبي ناقداً
أسلوب الإدارة وطالباً إحكام المعايير
وهنا لا نسمع تردداً في الأهداف والرؤى،
ولكن المعادلة تحتاج إلى وقفة مع الشعب
ومعاناته في رحلة الحياة الصعبة:
ـ : صمتُ النَّاسِ يقول: كؤوسُكَ مُترعةٌ،
ومَقَاصيرُكَ تلفَحُ أوجهَهُمْ بالعِطرْ
ومراياكَ ازدحمتْ بالغيدِ، وغُصَّتْ
بالأعيادْ
قيلَ النُّعْمَى : تطرُفُ عينَ العدلِ،
وتُبطِئُ من دقَّاتِ القلبِ،
وتملأُ فَجواتِ الأحقادْ
إنَّ المتنبي يلحّ على أن المطلوب من سيف
الدولة سلطة تختلف عمّا انتشر في عصره في
أرجاء الأرض العربية، فالأتراك يتحكّمون
بخلفاء بني العباس في بغداد وكثر
المتوثبون على الحكم في الأمصار يسعون إلى
مكاسب آنية لا تعرف المستقبل ولا تقيم
وزناً للناس، وتقسو كلمات المتنبي في موجة
حماسة ومرارة:
وعشب الشَّكّ،
ترك الناسَ بوادٍ والحكَّامَ بوادْ
ظَّنُوكَ تُتُمِّمُ إِحكامَ الطَّوقْ
على العنقِ المجروحِ،
وترسمُ أطوالَ الأصفادْ
يا سيفَ الدولةَ ، مُتَّهَمٌ
من يحكُمُ في الليلِ ليوقفَ زحفَ الليلْ
^(^^)
وفي إضاءة تبرز موجة أخرى في قصيدة
البرادعي فنسمع المتنبي يعقد الأمل على
الأمير الحمداني، ويراه قادراً على تجاوز
هذه الحالة وعلى الإمساك بزمام الأيَّام:
والمِثْلُكَ يا سيفَ الدولهْ،
يتمكَّنُ من قَطعِ شِعابِ الرّحْلهْ،
فوق الخوف، وفوقَ الضَّعفْ ^(^^)
لم يقصد البرادعي أن يغيّر صورة الأمير
الفارس سيف الدولة الذي وقف سداً منيعاً
أمام أطماع الروم، وارتفع رمزاً للبطولة
والجهاد، وإنما ترك لـه مساحات يملؤها
بأحلامه وإنجازه وشقائه بمن حولـه ممن لم
يبلغوا شأو فكره ورؤاه الثاقبة^(^^).

وتروي صفحات التاريخ ذلك السعي الدؤوب
لسيف الدولة وهو يؤسس نواة دولة عربية
تعوّض الوهن الذي أصاب الديار بخلافة
ضعيفة في بغداد وأخرى منافسة فاطمية في
القاهرة، وتشتت للقبائل وتنافرها مع
الحواضر، ولقد أمضى في حلب وإمارتها (23)
ثلاثاً وعشرين سنة ( 944 - 967 م) وهو يقود
الحملات على جيوش بيزنطة وحصونها حتى بلغت
أربعين حملة ومعركة، وكان قد أيقن أن الضعف
المستشري سيفتح بوابات الثغور أمام
الأعداء الطامعين في الشمال، ويدرك من
يقرأ تاريخ بيزنطة أن هذه الحقبة شهدت
توالي الحكام العسكريين على القسطنطينية
من الأسرة المقدونية الذين كان همّهم
إعداد الجيوش والتوسع وعرفوا بالبطش
والقسوة (من أشهرهم باسيل الثاني سفّاح
البلغار، ونقفور فوكاس).^(^^)
إن أهمية دور سيف الدولة في هذه الحقبة
تكمن في إحياء فكرة الجهاد والعودة إلى
التحصّن ومباغتة العدو البيزنطي
المتحفّز، وقد صدقت رؤيا هذا القائد
العربي بعد وفاته بقرن أو يزيد إذ تقدّمت
جحافل الحملة الصليبية الأولى عبر
القسطنطينية (1098م) واستشرت في الجسد
العربي حتى بيت المقدس^(^^).ولا ننسى أن سيف
الدولة رغب في دولة حيّة لا تعيش على أصوات
السيوف والرماح وصهيل يملأ الحلبات فحسب،
وإنها تعرف ازدهاراً للعلوم والفنون
وصلابة للغتها، وانتشاراً لأقلام أدبائها
وكلمات شعرائها فكان ممن ضمهم بلاط حلب:
أبو نصر الفارابي الفيلسوف، وابن جني
اللغوي، والمتنبي، وأبو الفرج الأصفهاني،
وياقوت الحموي، والخالديان، وأبو الطيب
اللغوي وحشد من الشعراء.
لقد أعطى الشاعر البرادعي رمز سيف الدولة
في القصيدة الفرصة ليعرض خطته ورؤيته
وكانت مواقفه تتطابق مع الحقائق
التاريخية المروّية، وإن يكن بعضٌ منها
احتمل تفسيرين بحسب الموقع بين الراعي
والشعب، ونتابع أولاً سيف الدولة:
ـ ناديتُ بصوتٍ عربيٍّ ـ
إنِّي أنشرُ في الآفاقِ شُموسَ الضَّادْ،
أحكُمُهم لا أملِكُهمْ، أتفجَّرُ لا
أملكُ،
أُبعثُ في الزَّمَنِ المُتهدّلِ طفلاٍ
عربيّاً
يوقفُ نهبَ اللُّغةِ، ويُسقطُ سبيَ
الذاتِ،
ويُطفئ شمعات المنفى، ويخادعُ ريحَ
الغُربهْ ^(^^)
........
أَسْمَعُ، هل تسمعُ يا متنبي؟
دمَّرْتُ حصونَ الرومْ،
أرهقتُ أباطرةَ التَّهديمْ،
أطفأتُ النارَ اليونانيهْ ^(^^)
إنّ الذروة الدرامية التي يقدّمها نصّ
البرادعي هي الصراع داخل سيف الدولة فهو
يعرف أنه لا بُدَّ من إشعال النيران في وجه
الأعداء وأن هذه المعارك ينبغي استمرارها،
وليس للتوقف إلا نتيجة واحدة هي التراجع
والاضمحلال، ولكن وقود الحرب وعتادها
وأعباء دولة تبني كلَّ ذلك يعني تكاليف
تنوء بها حلب إمارةً وظلَّ دولة تمتد
رقعتها وتقصر أحياناً. إنّ رؤية المستقبل
تسوّغ الشدّة في التحصين والتحصيل، وفي
الطرف الآخر تبدو جوانب من حياة الناس
صعبة ووطؤها شديد، ولعلّ هذه النقطة هي ما
يجعل الصوتين مختلفين: المتنبي وسيف
الدولة ونحسّ بالأسى في كلمات الأمير
الحمداني:
ـ : آهٍ يا جُرحي، من أيِّ وجوهكَ تُؤلمني؟
آهٍ يا جرحَ الأمَّة، من أيِّ شقوقِكَ
تُبصُرني؟
آهٍ يا جرحي، أينَ أنا؟ بل هُمْ أينْ؟
آهٍ… كم ناديتُ تميماً،
بَكْراً،
تَغْلِبَ،
أنَّ المالَ المُجْبَى منهمْ يُنفقُ كي
يبقوا
ودماً يرشحُ من جرحِ شهيدٍ منهمْ
يُزرعُ في المجهولِ ليبقَوْا
وأنا منهمْ، أمشي بين يديهمْ،
يتضح أن لجوء البرادعي إلى الحوار وظلال
الدراما أعانه على توصيل القصيدة إلى
المتلقي الذي يتوزّع إحساسه وتأملّه بين
الصوتين فلا يغرق في استكانة إلى المديح
والفخر وتبهت معهما الأخطار في إطار
استعذاب المجد! ولا تضيع خطواته مع أولئك
الذين ينفخون زوايا الضعف في التاريخ
ويبدّدون الحقائق بما يأتون من مبالغات،
ولا شك أن المعايشة المعاصرة وقدراً من
الخبرات الإنسانية يلونان تطلع المتلقي
المعاصر مع القصيدة، بل إنه يعاود قراءة
قصيدة أخرى في الديوان تحمل عنوان (من
أسفار سيف الدولة) باحثاً عن عمق لموقف هذا
الأمير الذي أطلق زفرات البوح الذاتي وإن
يكن الكلام موجهاً إلى خولة، هي أخته
ومعادلة للذات وهناك يسمع:
يا خَوْلَةُ، وحدي أركضُ في الصحراءْ
شرّدني الأحبابُ عن السَّيْفِ العاشقِ

والمعشوقِ،
وظلّ معي،
يحلمُ مِثلي، وينامُ على الأحزانِ بدون
غطاءْ
..............
أركُضُ يا خولةُ في الصَّحراءْ
البحرُ معي يلتفُّ على عُنقي، وأنا أبحثُ
عن قطرةِ ماءْ
تُوحي لي الآفاقُ المفتوحَةُ أنَّ
العالمَ، أكبرُ من همِّي،
أنَّ العالمَ أوسعُ من حُلمي
وإذا ما عانقَ طولُ الخُطوةِ خصرَ
العينْ،
خُلِعتْ أزهارُ طموحي من تُربتها،
وتبدَّى الكونْ،... ^(^^)
الخصوصية والدلالة:
أحدث الشاعر في هذا النصّ اختراقاً
دلالياً للزمن، فلم تعد الوقائع محصورة في
العصر العباسي، والرقعة المحيطة بسيف
الدولة، فالمتلقي يجد دوّال من عالمه
المعاصر تشعّ تصوراتها من حوله، وشيئاً
فشيئاً يتقاطع الماضي بالحاضر، وتعمل
إبرة البوصلة بحسب الطاقة الثقافية
والفكرية، ويشكل هذا المتلقي دلالات
النصّ الشعري الحديثة.
نطالع المفتاح الدلالي العصري (أتفجرّ)
أحكُمُهم لا أملِكُهمْ، أتفجَّرُ لا
أملكُ، ^(^^)
الذي اكتسب إيحاء الاندفاع إلى أقصى مدى
مع مرافقة الخطورة وما يكون من تضحية،
وذلك اشتقاقاً من الانفجار بالمواد
الحربيّة الحديثة، ولم يكن الأصل اللغوي
قديماً يرتبط بهذه السمات وإنما كان يحدّد
التدفّق وهكذا ذاعت عبارة (تفجّر غضباً)
وما تفرّع منها.
والمفتاح الثاني يلتقي مع الثالث في مقطع
واحد فتتضاعف إثارة الدلالة المعاصرة :
* ملُّوا دقَّاتِ القلبِ الْعَجَميِّ
بصدرٍ عربيٍّ ^(^^)
** عافوا سنواتِ العُقمِ، وسَئموا
كلَّ بياناتِ الأحزابْ ^(^^)
فهذان المفتاحان (دقات القلب) و(بيانات
الأحزاب) ينضحان من دنيا الانفعالات وما
لزم من عبارات ترتبط بالقلب وأحوالـه
وقديماً استخدم (النبض) و(الخفق)، وكذلك من
معالم الحياة السياسية وما يصطخب من أصوات
الجماعات المنضوية في أحزاب وكلُّ يقزم
وجهات الرأي والنظر، ورغم أن كلمة (أحزاب)
استخدمت قديماً لكن اقترانها بالمضاف
(بيانات) حدّد انتسابها المعاصر، وكذلك
الشأن فيما احتواه المفتاحان الرابع
والخامس من عصرية في العلاقات السياسية
الوطنية والإجرائية (الشعب) و(التوقيع):
* ـ : شَعبُكَ يا سيفَ الدولةِ، يبحثُ عن
أفقرِ فُقرائِهْ
صمتاً
ويُنادي سيِّدَ أُمرائِهْ
صمتاً ^(^^)
** أن يتطهَّر بالحزنِ، وأن يتجلبَبَ
بالحِرمانْ
ـ : لا، يا أصدقَ توقيعٍ عربيٍّ
في سَنَةِ العُجمةِ والتَّزييفْ
وَحَذارِ، تجنَّبْ كلُّ الكلماتِ
الجَوْعى ^(^^)
ويتكرر هذا النهج الدلالي في قصيدة (من
أسفار سيف الدولة) فالأمير الحمداني يقول :
كانت تهربُ من أيديهمْ أوراقٌ خُضرٌ،
فيها أسماءٌ للعشّاقِ،و فيها صورٌ
للشُهَداءْ
وبنادقهمْ ثكلى،
تسألُ عن مَوْضِعِها
بين الظُّلمةِ والضَّوضاءْ ^(^^)
فالبنادق تداخل بين الأزمنة ويترك
التاريخي مواقع للواقعي والمعاصر وتتجلى
دلالة من لقاء الوحدات الدلالية.
لقد ترك الشاعر البرادعي كلاًّ من
المتنبي وسيف الدولة في مواجهة انداحت
فيها الآراء والرؤى في أزمة مستحكمة، ولم
يَنْحَزْ إلى طرف دون الآخر، وأتاح
للمتلقي حرية اختيار مكانه خاصّة بعد أن
تشعبت السبل بين الصفحات القديمة
والراهن، وفي الوقت نفسه أومأ إلى أفق
يتحرك الفكر معه ويسبر مكامنه وههنا اتكأ
على معطيات الدلالة (الدائرة الدلالية)
وانتظر من قارئه أن يتأمل في هذا الديوان
(تداعيات المتنبي بين يدي سيف الدولة)
ليجول مع المحاور والمفاتيح ، ويتأكد
لدينا أن معايشة النصّ تتطلب في حالات
كثيرة ربط الخيوط في نصّ هو مجموعة نصوص
تفصح بنيتها الدلالية عن رؤى وإشارات لا
تتموضع في ركن فحسب من إبداع الشاعر.
لمعت في القصيدة إشارتان تنتسبان إلى
دائرة (الخصب والولادة) الدلالية ومن ثم
توزعت المفاتيح في عدد من قصائد الديوان
لتتعاظم وتتفرع مساحاتها وتثير احتمالات
وتصوّرات في (الأزمة / القضية) التي دار حو
لها الحوار.
كانت الإشارة الأولى في كلمات الأمير
الحمداني إلى الطاقات الخلاّقة والقادرة
في إهابه ومع خطوه في سبيل خلاص الأمّة

ونهوض ترنو إليه:
أحكُمُهم لا أملِكُهمْ، أتفجَّرُ لا
أملكُ،
أُبعثُ في الزَّمَنِ المُتهدّلِ طفلاٍ
عربيّاً
يوقفُ نهبَ اللُّغةِ، ويُسقطُ سبيَ
الذاتِ،^(^^)
فالولادة هنا تمنح الأمّة هذا الطفل
المحاط بالرعاية ممّا يقرّبه من الرسل فيه
الصفاء والطاقة الخارقة.
والإشارة الأخرى حملتها نداءات المتنبي :
وازرعْ في رحلتك الخضراءِ، بذورَ الحبّ
بِطولِ المكْث، وطولِ السيرْ
ما عَرَفتْ، لن تعرفَ، أرضُكَ
غرساً أصدقَ من زرعِ يديكَ ^(^^)
وأيُّ أَمينٍ في عصرٍ الريحِ المجنونةِ
لا يتعذّبْ؟
ونلحظ أننا أمام معادل في الطبيعة لخصب
الإنسان وتجدّده، وبهذا تكتمل دورة كونية
تؤكد نبع ضياء يبدّد العتمة.
يرى البرادعي أن الأمّة قادرة على
التجدّد بعنفوان الخصب الكامن فيها،
ويتمثل خلاصها في أجيال حزمة ناشطة تتجاوز
بها عقبات مركبّة في المسار الحضاري
التاريخي، إنّ الطفل الجديد هو من روح
الأمّة/ الأم تضمّ حناياه الطاقة المبدعة
من غير ولوغ في المنعطفات الآسنة بتلك
المطامع والإحن العارضة التي تحجب الرؤية
وتضلل الخطوات.
إن مفتتح الديوان يبدأ (بالنبوءة) التي
تبشر بالنقاء والخصب في طفل آتٍ ونلحظ
التلاقي في مرتبة تخترق المألوف وتقترب من
حالة القداسة مع مفتاح قصيدة التداعيات
(أُبْعَثُ). وههنا لا تبعد عنا صورة الطفل
المعجزة السيد المسيح(ع.):
قيلَ لي: طفلٌ غريبٌ سوف يأتي
بعدَ أنْ تُغلَقَ أبوابُ الزمانْ
ـ مثلَ عُصفورٍ مهاجرْ ـ
هارباً من صخبِ السُّكنى بأطلالِ
العُصورْ
قيلَ : يأتي
مُقبلاً من مدنِ المِلحِ، وحاراتِ
الدُّخانْ
قيلَ لي: كلُّ تواريخِ المآسي
لمحةٌ من عُمرهِ أو لمحتانْ
زَغَبٌ في ريشهِ يَنْفُضْهُ
قبل اقتحامِ السُّورِ والأفقِ وأبوابِ
الزمانْ
أخضرَ الكفَّينِ ضَوْئيَّ الخُطى
لِجناحيه حفيفُ الفاتِحينْ
واخْضرارُ الفاتحينْ
وشميمُ الفاتحينْ
وعلى جبهتهِ يُشرقُ قِنديلُ البراءَهْ
^(^^)
تعدّ هذه القصيدة بؤرة في الدائرة
تؤازرها وتكمل الحركة البؤرة الأخرى التي
تحمل عنوان (عن الطفل عمر في الحضور
والغياب) ويتحدث الشاعر مع ابنه الطفل
الذي يتملكه المستقبل بأكثر ممّا يكون
لوالديه لذلك فهو سينجز ما لم يفلح فيه
الجيل الغاربة أيّامه، إن الولادة تمنح
البقاء ولكن الطموح في حضور الحلم
المتفلّت من بين الأيدي هو الهدف الأبعد:
غداً يا حبيبي، تمدُّ يديكَ إلى غيمةٍ
حَبُلت من دموعِ الشهيدْ
وتقطف ليمونةَ الفرحِ المتَدليِّ،
بفرعينِ يعتنقانِ أمامَكَ، بين اليمامةِ
والأطلسيِّ
وتنهارُ غائلةٌ، حاصرت حُلمَنا، ..^(^^)
تذهب دائرة الخصب والولادة في شطرها
الأوّل عبر ثلاثة محاور تنتشر مفاتيحها
متغلغلة في المواقف بين أطراف القصائد،
وهذا التردّد في دلالاته الحقيقية وتلك
المجازية ينقل إلينا رسوخ هذه الرؤية لدى
الشاعر ويحفزّنا نحن المتلقين: للتساؤل
ولمِّ الأجزاء للوحة لا تبعد عنها أحلامنا
وعثرات زغب في تغييبها، وتبلغ مرّات
التردّد(50) خمسين في الديوان:
ففي المحور الأوّل تتوالى الطفولة: (طفل
غريب، طفلاً عربياً أو فتاة، بنكهة
الأطفال والشتاء، للأطفال الظمأى،
الأطفال المذبوحين، طفلهما يحبو، رائحة
مثل الأطفال، أُبعث طفلاً عربياً، يقتل
طفلَ الحبّ المشرق، والصمت يركض كالطفل
بين الغريبين، يرسم بالسيف أطفالنا
القادمين، والصبح طفل فرح، طفل، طفل بلا
يدين، طفل يراكما، عن الطفل عمر، الأطفال
يزورون، في بسمات أطفالـه، طفل ا لهوى..)^(^^)
إنّ التنوّع ظاهر في حضور الأطفال
كالشرايين تمتد في البادي من الجسم وفي
خفايا تحرّك النبض، ونراها تهتز فرحاً،
وتحدق بها الأخطار الفادحة وتصيبها ضربات
تغافل وتؤلم، وهكذا التفّت نظرات الشاعر
حول العالم والتقطت تلك المشاهد، ونقف عند
واحد منها فتزداد (دائرة الولادة والخصب)
وضوحاً، ذلك أن الحديث يدور عن المتنبي في
قصيدة أخرى .
تقولُ فُوَيْطِمُ: يثوي بكلِّ الجروحِ،
ويقتاتُ دمعَ البطولاتِ،
يكتب ملحمةً لِلأجنَّهْ

ويرسمُ بالسيفِ أطفالنا القادمينْ ^(^^)
فتهيئة الأطفال بدء لنهج صحيح ونحن نشهد
الاهتمام يسبق الخطوة الأولى إنه يتزامن
مع أنفاس الجنين.
وفي المحور الثاني نرصد حضور داليّن
الأوّل هو (الأم)(امرأة سوداء العينين الأم
العربية، يا أمّاً ، يا أمي، أمهات
الدفاتر) والآخر هو (الأمّة) (بطل الأمّة،
يا جرح الأمّة، الأمّة، أمّة عربية)^(^^)
وبلغ التردد (15) خمس عشرة مرّة، ولا يخفى
التواصل بين الفرد والجماعة وتطابق دورة
الحياة بينهما، ولعلّ الدوّال في المحور
الثالث تحقق هذا التكامل بين الطرفين،
فنحن نتابع حدث الولادة والخصب(16) ست عشرة
مرّة:
(تولد، زفّه، موائد الولادة، نما شجر
الميلاد، أعراس الشام، لم يولد في شفة،
ولدنا، ليولد عصر بلا أغلقة، ولادة عصر،
غيمة حبلت من دموع الشهيد، غوى يولد في
الأجفان، تخصبين العمر، وأنت انتظار الذي
يُولدُ المستحيل، تفكّين عن الخصب)^(^^)
وثمة حالة سلبية تعبّر عن النقيض (عرس
البغي‍) وهي تدعو إلى مقاومة اقتران سوف
يؤدي إلى ولادة ترفع أسواراً على الدروب
في الأيّام الآتية.
معادل خصب الولادة:
إنّ الشطر المكمّل للدائرة كانت مجموعة
من الصور تضيء جنبات الكون من حول
الإنسان، فيرى انبثاق الطاقة في حيوية لا
تحدّها قيود أو حواجز، وتظل المشاهد شعلة
يزداد أوارها لأنها مرتبطة بدوران الفلك
وفصولـه المتوالية وهي التي تطوي العصور
وينجو من يقدر على التقاط سرِّ التجدّد
فيها.
في واحدة من إشارات الشاعر البرادعي نرى
التلازم بين الخضرة رمز النماء والولادة
ورغم أن السياق كان يرسم حالة سلبيّة
لكننا ندرك من خلا لها التطلع إلى الجهة
المقابلة على الضفة الأخرى، فمن قصيدة
(الحبيبة والجزيرة المسحورة) نقتطف:
رأيتُ فيها الناسَ.. يذبلونَ كالحشائشِ
الظَّمأى،
وينبتونَ من جديدْ،
والشَّمسُ تبدو فوقهم باهتةً حَزينَهْ
وكانتِ الخُضْرةُ تهربُ عن موائدِ
الولادهْ ^(^^)
وبدا في هذا الحشد التصويري نداء الطبيعة
المتدفق في النسغ والصادحة ألوانه تعلن عن
مواسم تتقدم مواكبها رغم أعاصير الشتاء
وصقيعه، وهي توفر سبلها لا تخشى شموس
الصيف اللاهبة فلحظة الولادة موعد لا
يتأخر، وقد أئتلفت مع هذه الدفقة في
الطبيعة إرادة الإنسان وسعيه ، وهكذا يتمّ
التفاعل ويدرك البشر رسالة بلا حروف وإنها
طقوس تفصح عندما تصغي القلوب وتتفتح
الأرواح، عندئذٍ تندفع إلى اكتما لها
كالموج لا يهدأ حتى يبلغ الشواطئ:
(وسيفي المسافر... صار بذوراً/ تغيب بأرض
ظميّهْ/ وبعد تباريح شوق/ وأنّات عشق/
تفتّح زهراً / تفرّخ شعراً وأبقى..)^(^^)
تتوالى الصور فيما يزيد على (24) أربعة
وعشرين موضعاً، وسيتيح تحليلها المزيد من
الأواصر بمركز الدائرة الدلالية:
( تهرب.. أوراق خضر، تنبت أزهاراً، تفتح
عشب، أورق غصن العشق، بذور فتّح زهراً،
زهور... زفّتها الموسمية، نمت أوراق
الحكمة، لأزرع في لغتي الياسمين وأوقد
صوتي احتجاجاً، يزرع الشمع في كل الدروب،
الرطب المتدلي في أودية النخل، يزرع في
المجهول ليبقوا، غرساً زرع،..)^(^^)
وتدور في هذا المجال صور أبعد غوراً في
صلتها بالخصب عندما تبرز كلمات في سياق
لها عشاق العالم، عاشقها ثم: السيف العاشق
والمعشوق، ثم نصادف صورة كاشفة سرّاً من
أسرار الطبيعة يحرص عليه الشاعر خالد محيي
الدين البرادعي في رؤاه التي بثها في
الديوان مع سيف الدولة وشاعره المتنبي،
إنّ التحوّل الذي تابعه في الطبيعة يجمع
بين الفضاء وأرض الجزيرة المسحورة وتختلط
طيوف المرأة والنجم وأطوار تجدّد
الأجيال، وفي الأعماق نبض الخصب الخفيّ:
مَشَتْ أمامي نجمةٌ عجوزْ
أنهكها السيرُ ومزَّقتها حُللُ القُرونْ
وهبطت في الشرقِ عند طرفِ الجزيرهْ
حاورتُها فلم تُجبْ أحسستُ بالغُربةِ
والخُواءْ
ورغبةٍ ـ لولا جفافُ الدِّمعِ ـ بالبكاءْ
ظهرْتِ لي ثانيةً كَفَرَسٍ من نورْ
تُكَسِّرِينَ جبلَ الظلامِ بالعِشقِ،
تُمَزِّقينَ وجه الزمن المنتن بالبخورْ
^(^^)
القصيدة والمتلقي المعاصر:
قدّم خالد محيي الدين البرادعي قصيدة
(تداعيات المتنبي بين يدي سيف الدولة)
متطلعاً إلى القارئ المتلقي، وخاض في
مواقف تاريخية حاول ألا تكون سرداً لما
تضمّه أوراق المؤرخين فحسب، فهذا أمره
ميسور ويثقل الشعر، لقد جاء العرض الدرامي
فاتحاً المجال لمتابعة تنطلق من المختلف
لاتخاذ الموقع الذاتي، وانزاحت شخصيَّة

المتنبي من غير تناقض لتتبدى عصرية في
حوار الفكر وشمولية تستطلع الحقيقة
والمسار ، وكان المعبر الذي تتدفق منه
النظرة المعاصرة تلك الانكسارات في حاجز
الزمن دلالياً، ثمّ ألقى البرادعي كرة
سحرية اندفعت بين سطور الديوان وقصائده
لتفرش دائرة (الخصب والولادة).
إنّ المتلقي مطالب بجهد القراءة المتعددة
ليحصد المتعة في جمالية الفن والفكر،
فَغِنى النصّ يتكشّف استحواذاً على
الممتع، وبلوغاً لزوايا نرى منها بعضاً من
حياتنا التي نعيش وحنواتها.
ويبزغ التساؤل ألا نشقّ على هذا المتلقي
بتجوال بين عديد القصائد وتتبّع للدوال
وعلاقاتها وظلال إيحاءاتها؟‍ إننا نضع
أدوات أمام المتلقي الساعي وراء آفاق أكثر
شمولاً ويتضح أن الشرح يأتينا من نصّ
الشاعر نفسه قبل الخروج إلى مصادر التفسير
الثقافية الأخرى وذلك عندما وسّعنا مفهوم
النصّ ليكون الديوان أو المجموعة
الشعرية، ويظل الناقد هنا وسيطاً يستكشف
ويبني الجسور لكنه لا يفرض رؤيته ولا يحلّ
بديلاً في سُدّة الإبداع.
الشاعر العربي يبحر نحو المستقبل قراءة
في شعر البرادعي ومســـرحه
مهدي بندق ^*
- 1 -
(شاعر أنت والكون نثر
والنفاق ارتدى أجنحة
وتزيا بزي ملاك جميل
والطريق طويل
والغناء إجتراء على كشف سر).
كلمات صلاح عبد الصبور هذه أسمعها تهمس
رَعَدِةً بها روحي كلما التقيت من يكشف لي
سراً. وسواء كان الكاشف فيلسوفاً (من ابن
رشد إلى زكي نجيب محمود) أو مفكراً
اجتماعياً (من ابن خلدون إلى جمال حمدان)
أو إماماً دينياً عاملاً (من على بن أبي
طالب إلى محمد عبده) فإنني لا أملك إلا أن
أهتف به: شاعر أنت والكون نثرُ فأما
(الشعراء) الذين لا يكشفون سراً ولا
يجترحون قائماً مستقراً، الشعراء هؤلاء
الذين هم أكثر من ا لهم على القلب فإنني
أقول لهم : كان أولى بكم أن تنثروا ما
نظمتم، وربما كان الأولى فالأولى ألا
تنظموا أو تنثروا لكنكم لا تملكون الحياء
الذي دفع (بالكميت) وهو بعد صبى إلى أن
يستأذن الفرزدق؛ هل يذيع شعره إن كان
شعراً أم (يستر) عليه الشاعر الكبير،
مؤمناً أن إذاعة المكرر والمقلد والتافه
السطحي فضيحة بل هي جريمة.
فالشعر في جوهره، إن هو إلا موسيقى الروح
تتفجر عطفاً على الكائنات معايشة لها
وارتباطاً بمصائرها واندماجاً وجدانياً
بكينونتها، وهكذا تفجرت موسيقى صلاح عبد
الصبور معبرة عن اندماج مصيره بمصير
(لوركا) الشاعر الذي اغتالـته الفاشية،
فأما القارئ (الذي يقرأ بعينيه أو بأذنيه
لا بقلبه) فما هو إلا منافق لأنه ليس أخاً
شبيهاً بالإنسان.
Hypoctrie lecteur
Mon semblabe, mon frére
وها هو ذا الشاعر السوري العربي خالد
البرادعي يصرخ ليس من طعنة الرصاصة في قلب
الشهيد اللبناني، بل من أوراق النفاق
الكثيرة التي تدبجها الصحف العربية تذرف
الدموع بعين وتنظر إلى أرصدة أوراقها
المالية في بنوك الغرب بعين أخرى.
(سمعتُ المصاحفَ تبكي
وأنتم جميعاً قتيلٌ بكى قاتلهْ
وكان اليهوديُّ يسحبُ ناقتهُ
مِنْ قناةِ السويسِ إلى طبريا
وتاريخكم كُلُّهُ راحلهْ )^(^^)
في هذه القصيدة (يوميات شهيد في لبنان)
يطارد الشاعر تاريخنا فاضحاً أسراره
المخزية:
ما لِحُكَّامِ الطوائِفْ
وزَّعوا أدوارَهم بالعاصفهْ؟
فتميميَّ يُهادنْ
ومعدِّيٌّ يلاينْ
وقريشيٌّ يواري النجسَ الغربيَّ عن
راياتِ مازنْ
ونزاريٌّ يصبُّ الزيتَ في نارِ هوازنْ
وكُلابيٌّ يُنادي في المآذنْ
أَنَّ من أَسْلَمَ للغزوِ سِلاحهْ
فَهُوَ آمِنْ ^(^^)
فتاريخنا هذا ليس إلا تاريخ حكام تعلموا
بقاءهم على العرش مرتهن بشرطين، أو لهما
قهر رعاياهم، وثانيهما خضوعهم هم أنفسهم
للغرب الاستعماري.. وأما شعوبنا فتحيا
خارج التاريخ إن كانت ثمة حياة خارج
التاريخ والشاعر خالد يؤكد في مسرحيته
الشعرية (الأمبراطور زمسكس)^(^^) هذا المعنى
حينما يصور مأساة أمة لا يتولى أمرها إلا
كل انقلابي قادر على اغتيال سلفه ما دام
يجد حولـه من يصور لـه الجريمة في هيئة عمل
ثوري.
: لا. في مَقْتَلهِ راحتُنا
تيوفانو
إِنْ كانَ سيؤذي خطواتِ الثورَةِ

والمسرحية جميعها تدور حول محورين اثنين:
القصر الملكي والكنيسة، فهما وحدهما مطبخ
السلطة والتسلط، أما الشعب فهو المطبوخ
المأكول على موائد الغزاة ثم ينال الطغاة
ما تبقى من لحمه وعظامه. ولقد يرى الناقد
المحترف أن غياب الخصم antagonist أو قل غياب
البطل الحقيقي Pratagonst (الشعب) لا شك يضعف
الصراع الدرامي إن لم يكن ملغياً لـه
أساساً لكن الشاعر بمنطق الفنان التشكيلي
إنما يستحضر هذا الغائب بشكل مطلق وكأنه
يدعوه إلى التدخل ليوقف هذه المهازل
الجارية باسمه. فالشعب اصطلاحاً هو الناس
لكن في كيان سياسي موحد، إنما وحدته قمينة
بألا تنفى أو تطمس تنوع طبقاته وفئته
وضرورة تشكلها في أبنية ذاتية (أحزاب
نقابات، جمعيات، مؤسسات... إلخ) فأي بلدان
الوطن العربي يسمح بنمو هذا المجتمع
المدني وتطوره؟ ربما كانت مصر بحكم وقعها
الجغرافي البحر أوسطي واحتكاكها من قديم
بثقافات أوروبا وبحكم سبقها إلى التحديث
أقرب العرب إلى هذا المطلب شريطة ألا
تنخلع من (موضعها) العربي لأنها منه موضع
(القلب) من الجسد بالمعنى الشعري لا
الفسيولوجي، فإذا انخلع عن جسده ضل القلب
وغوى الجسد وتخاصمت أعضاؤه.
(هذي مصرُ مسافرةٌ نحو الغربِ. ضحى
تغتسل وتستبدل مئزرها
فثياب الليلْ
أضيقُ من لغةِ الضوءْ
والأرضُ مبللَّة بالزيت هنا
وشيوخُ البدو يغنون مساءً
وصباحاً
يختصمونَ على بوابة مقصورتها)
فإما إذا مصر استبدلت بالموضع situation
الموقع site واستبدلت بالعروبة النظام
الشرق أوسطي/ الأوربي/ الأمريكي سقط عنها
مئزرها وإذا شعبها الذي قاد الثورة
العربية ذات يوم قريب:
(عريانٌ أعزلْ
والطاغوتُ طويلُ
والليل البارد أطولْ)
وكأَنَّ البرادعي يتنبأ وهو يرى إخفاق
المجتمع المدني بقيادة الطبقة البرجوازية
في إنجاز الوحدة العربية إخفاقَهُ في
السير بالثورة الوطنية الديمقراطية إلى
غايتها. فالبرجوازية المصرية تلك الطبقة
المذبذبة منذ ميلادها ، تضغط عليها
الرأسمالية لتكون تابعاً لها وتضغط عليها
الطبقات الشعبية لتقودها إلى الاشتراكية
وهي لا تريد التبعية ولا الاشتراكية،
فماذا تفعل غير أن تثبت أو تتجمد حتى يخرج
من صلبها بورجوازيون صغار ينادون بالعودة
إلى الماضي.
(العودة نحو قبور الموتى أسلَمْ )
ويرفع أشباح الماضي هؤلاء سيف الإرهاب
الديني في وجه الدولة والمجتمع المدني
جميعاً حتى يصرخ الشاعر موجوعاً:
(مصرُ مسافرةٌ
يا ولدي لا تعرف أنت إلى أين )
غير أن شعر البرادعي ليس نبوءة دينية
كنبوءة عاموس في العهد القديم بل هو بحث عن
الـهوية يحذر وينذر، وليس غوصه في التراث
بل ليس إلا صدى قويّاً لحركة التنوير التي
بدأها في القرن الماضي الطهطاوي وجمال
الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين،
استخلاصاً لفكر المعتزلة من براثن
النسيان وتجديداً لفلسفة ابن رشد وفقه
الأحناف الأول لكنه يكتشف مثل (حسن طلب)
أنه لا يمكن مقايضة:
(بالنعت الفلزِّ
بخمسة الأسماء علم وظائف الأعضاء،
بالمترادفات مفاعلات في الذرة، الآلات
بالعلل المصانع بالمضارع والمضاف إليه
والمجرور بالجزم الجيولوجيا، بلام النصب
أو واو المعية أو أداة النهي هندسة القوى،
بعلامة التأنيث درفلة المعادن بالمعلقة
الجهاز) ^(^^)
ذلك أن البرادعي حين يلتقي (ألولغا) امرأة
الحضارة العلمية لا يجد في جيبه من هدية
لها إلا قصيدة الشعر:
سمعتُ مَنْ يهتفُ في ضلوعي
: لابدَّ مِنْ هديةٍ تُفرحُها
وانغرستْ أصابعي العشرةُ في جيوبي
فلم أجد غيرَ القمرْ
وضُمةً مِنَ النُّجومْ
نسيها السَّحرْ
وبضعَ أُغنياتْ
ضلَّت بعصرِ التيهِ والشتاتْ
والتصقتْ قصيدةٌ بكفِّي
تُلحُّ أن أكتبُها
لكنَّ هذا الحُسنَ مِنْ أمامي أَحرقَ
أَيَّ حرفِ ^(^^)
إن حواء الحضارات تحتاج إلى الجديد
فالأصالة لا تعني القديم بحال، بل التميز
فحسب، أن تكون أصلاً Origin فلا تكون تقليداً
حتى لنفسك ولماضيك، ولأن الشاعر العربي
الأصيل قد أدرك أنه لا شيء طالما قدم نفسه
للعالم المعاصر باعتباره حفيد بناة
الأهرام ومشيدي المسجد الأموي، فلقد كان
ضرورياً أن يحاول الرحيل إلى المستقبل..

وهذا الرحيل مطالب إياه بأن يتزود بأدوات
فنية غير التي درج القوم على استعمالها.
فالعمود الخليلي بثباته الإيكولوجي
وتناظر معماره في المصراعين (معبراً عن
ثنائية الحاكم والمحكوم، المطلق والنسبي
في توازيهما توازي شريطي القطار أبداً
بغير التقاء) ذلك العمود / المعمار لن يكون
سفينة الرحلة في البحار الغامضة، لا ولا
حتى وحدة التفعيلة تلك التي قننتها
وأطرتها نازك الملائكة حتى صارت مطلقاً
جديداً. بل تنوع التفاعيل وهارمونية
الإيقاعات هي التيار الذي يحاكي (الخلق
الأول) الذي يرى أن (الوجود) يظل ناقصاً لا
يكتمل معناه إلى في (الحقيقة) وهذه الحقيقة
لا يمكن تجسيدها إلا بالعمل حيث يستلهم
العمل حقيقة الجمال مثلاً من الجميل) الذي
يتشكل كل آن. الحقيقة إذن لا تكون إلى في
المستقبل وليست هي قط تلك التي (كانت) في
الماضي. لهذا فإن الشعر الجديد وإن استخدم
التفعيلة فإنه يستخدمها حقاً ولا يتركها
تستخدمه. بمعنى أنه بمجرد أن يستنفد
طاقتها الموسيقية تراه يثب إلى غيرها:
Hbpping, Like a Bird fram
Branch to another
خالد البرادعي الذي بدأ عمودياً ثم صار من
شعراء التفعيلة (بالمقصود الملائكي) نراه
الآن يندفع شيخاً/ فنياً متجاوزاً ثنائية
الماضي/ الحاضر واثباً إلى مركب sunthesis هو
مستقبل الشعر المعادل الموضوعي لمستقبل
الأمة:
( وأنا
كلما لامستِ النشوةُ كأساً
رحلت ذاكرتي
خلف مطايا من سرابْ )
فالموسيقى في هذا المقطع تشي بما سوف يكون
عليه المستقبل من تنوع ورفض للأوهام التي
تعيش عليها الذاكرة. فالسطر الأول يعطيك
انطباعاً بأن التفعيلة من البحر المتدارك
بزحاف الخبن، لكن السطور التالية تكشف عن
تفعيلتين من البحر الرمل تامتين ثم ثلاث
تفعيلات من نفس البحر لحق بها زحاف) فعودة
إلى تفعيلة المتدارك المخبونة وفجأة نرى
وثبة إلى رجز دخل عليه (الطي) فعودة إلى
المتدارك بإدخال علة زيادة (التذييل). وفي
مقطع آخر نرى استخدام دائرة المتفق
(المتقارب والمتدارك) يرصعها الرمل بزحاف
(الكف) وليس المتقارب العروضي:
(تقولُ النوارِسُ - وهي تلملِمُ
أَعْراسَها
: إنَّ للبحرِ فَصْلَ غِيابٍ
ينامُ بهِ مُسْتريحاً مِنَ الخَوْفِ
ثم يُلمْلِمُ أسرارَهُ نحوَ صُبحِ
الشُّطوطْ
و ترجِعُ للبحر أَفراحُهُ الغافِيَهْ
و الطيورُ تخبِّئ في البرْدِ أسْرارَها )
^(^^)
إن الوعي الجديد باللغة وبإمكانياتها
وموسيقاها المستقبلية يتساوق مع وعي
الإنسان الجديد الذي ينظر إلى مشكلات
الحاضر بضوء المستقبل لا في ظلال الماضي،
لهذا فإن الشاعر الجديد لا يكترث بالتشبيه
البليغ أو الاستعارة أو الكناية، بل يلجأ
إلى ابتداع صور خيالية بمنطق الديالكتيك (
وليس بمنطق أرسطو) وخالد البرادعي حين يرى
(فصل الغياب) معادل الثورة العربية (ينام
في البحر) معادل الزمن المجسد، لا يلبث أن
يكتشف أن هذا النوم (بالمعنى الجنسي) لا بد
وأن يولد طيوراً (لم يقل نوارس لأنه لا
يدري ماذا ستكون) وهذه الطيور تخبئ
أسراراً والشعر وحده يعرفها إنها الفرحة
والضحكة التي يخشاها السلطان:
( : أنتَ عبدَ اللهِ مقبوضٌ عليكْ
تَحفرُ الأَرضَ بلا إذنٍ منَ السُّلطانْ
كَيْ تَكْشِفَ أسْرارَ السنينَ
المُقبِلَهْ
تَتَخَفَّى نحنُ شاهَدْناك في ظلِّ
الخُزامَى
و تُنادي الغيمةَ المرتَحِلَهْ!! ) ^(^^)
وقد يقتله السلطان لأنه كشف السر وعرف
فأذاع أن المستقبل للشعب.. ولكنه بضحك:
(شاهَدَ الحُرَّاسُ عبدَ اللهِ
مَشْنوقاً على السُّورِ صَباحاً
و بُكاءُ الريحِ يُخْفي ضَحِكَهْ .) ^(^^)
ليكن، فإن رحلة الإنسان العربي تبدأ
(مثلما تقول) من الآن وعيناها على المستقبل
والضحكات في العيون اجتراء على كشف سر.
شاعر أنت يا خالد ... والكون نثرٌ
***
2
جماليات اللغة الدرامية في مسرحية
(الزهرة والسيف)
ليست الدراما الشعرية مجرد اتحاد فيدرالي
بين الشعر والدراما. الدراما الشعرية
إمبراطورية لا تني تتسع بغير حدود. إنما
أملاكها تمتد على خارطة الروح لا الأجسام.
السلم فيها توأم سياسي/جمالي للحرب.
والحرب غايتها السلام.
هي مملكة للعواطف الحارة. والانفعالات
الممطرة، وا لهواجس الثلجية. لغتها العطر
والدخان ممتزجان. الحروف فيها أطفال

تتواثب للصبا، والأسماء على جبينها
فلاحون طيبون منتجون. وبين أيديهم الأفعال
فتية ملاحون رواد فضاء، ومعانيها صبايا
فاتنات مراوغات، عيونهن: الحورُ ناعسات
فاحصات، وقدودهن علامات تعجب واستفهام.
ومن جمهورية للتواصل المباشر. ربما كان
الحوار فيها يشغل منصب كبير أمناء
الرئاسة. ومحتمل أن تتبوأ بها الاستعارات
والأمثولات مناصب الوزراء والمحافظين،
بيد أن هؤلاء الكبار مستعدون دوماً أن
يستقبلوا أي لفظ جلف، وأي كلمة متشردة، أو
حتى أصوات الأنوف الوقحة. ولم لا ؟! أليس
هؤلاء أعضاء أيضاً في مؤسسة اللغة.. أعلى
مؤسسة ديمقراطية بناها الشعب قبل
التاريخ؟!.
ورغم كون الدراما الشعرية كياناً قائماً
بذاته (أنطولوجيا) وليست تعبيراً عن شيء
خارجها: إلا أن شبكة من علاقات المخايلة
التاريخية والأسطورية. منسوجة بتبرقعات
الحاضر، قمنية بأن تسعى وراءها مثابرة كي
تقتنصها قنص (بان) دون جدوى، فاللغة
الدرامية كوكب دري يسبح في سماء الغد
الآتي حُرّاً طليقاً، وهي ربة عذراء لكنها
قادرة على إنجاب البطل الخالق المخلوق،
الحاكم المحكوم، المتخيل والملموس في آن.
فهل من دهش أن تنبجس أفعال وممارسات Prazis
هذا البطل في المهد وكهلاً، إنتاجاً
مشتركاً بينه وبين توأمه الشاعر، إذ
يقومان معاً بتنمية اقتصاديات الجمال؟!
وهل من عجب أن يثمر نضال التوأمين إضافة
(بل وخلق) عالمٍ من أقواس قزح الملونة
المتعانقة في مواجهة فسيفساء الواقع
وتشظياته الرمادية؟!
يَبْدَهُنا الشاعر الكبير خالد محيي
الدين البرادعي على هذا الدرب بدرامته
الشعرية الجديدة (الزهرة والسيف) ليؤكد
لنا أن الدراما الشعرية لا تتجلى إطلاقاً
في هيئة مرآة تعكس الواقع المعيش، لكنها
تتجلى فحسب بهيئة بلورة سحرية تكشف عن
جوهر هذا الواقع لا أعراضه، بلادته
ونقصانه، استفزازاً لـه أن يتغير.
وآية ذلك أن الحدث المسرحي هو نفسه في
ظاهر الأمر، العرض المختصر لتاريخ
الإنسان، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل إلى
اليوم.. حيث يقتل جنود الاحتلال النساء
والأطفال، وحيث يقتل الإرهاب من يخالفه
الرأي والعقيدة ، وحيث تفترس الشركات
الرأسمالية الكبرى لحوم الفقراء. وفي
الوقت الذي يموت فيه الأبرار لأنهم يرفضون
أن يتحولوا إلى قتلة، فإن الفجار لا
يتورعون عن قتلهم خضوعاً منهم لغواية
المرأة الفاتنة، اللذة، الشهوة، السلطة
(رفض محمد أن يقتل أخاه ليظفر بالكنز, لكن
أخاه هشام قتله دون تردد ليكتشف أنه قبض
الريح في النهاية).
ذلك الحدث البسيط، الذي يذكرنا ببساطة
أحداث التراجيديات الإغريقية الكبرى،
ينسج حولـه شاعرنا الكبير البرادعي ثوباً
شفيفاً تزينه جماليات لغوية لا حدود لها،
جماليات هي بذاتها مجموعة أفعال وردود
أفعال. فقارئ المسرحية يكاد يلهث وهو
يتابع إغواء المرأة للبطل. وقارئ المسرحية
يرهص لنفسه بأن البطل سيصمد. وحين يكتشف أن
نبوءته تحققت يكون القارئ أعني، قد استدرج
إلى صلب الحدث. صار جزءاً لا يتجزأ من هذا
العالم العجيب. ومرة ثانية يخمن القارئ أن
الإغواء سيتبدل، وأن المرأة اللذة الشهوة
السلطة لها مساحة ستنتقل إلى الجانب
المعاكس فتحرض الشقيق الآخر بالضد على
شقيقه، وبينما كان القارئ على يقين من
صلابة الأخ الأكبر، نراه مستضعفاً
مستخدماً متشككاً في قدرات الأصغر على
المقاومة. هل لأن الأصغر صغير النفس؟! هل
لأنه اعتاد أن يكون المعيل لا العائل؟! هل
لأنه كان مقلداً ولم يكن قط مبدعاً؟!
أسئلة كثيرة تتناوش القارئ بينما يكون
متحدراً مع الشقيق الأصغر في اتجاه ا
لهاوية المروعة حيث السيف والرقبة
المقطوعة والدم المتفجر عن قلب الحبيب،
وحين تبلغ المأساة ذروتها بمقدم الأم، مع
اكتشاف القاتل أن التي أغوته هي ذاتها
هاجرته، فالوجود كله كذب وعدم.
بيد أن خالد محيي الدين البرادعي ليس
شاعراً عدمياً، بل هو شاعر مناضل (على نحو
ما بينا في دراسة لنا سابقة)^(^^). شاعر
يستخدم أحياناً آلية النقد الذاتي
لتراثنا وحاضرنا جميعاً كي نفيق ونتغير.
وأحياناً أخرى نراه يستخدم آليات الفكر
الحداثي ولغته الطازجة في بث الأمل:
(تقولُ النوارِسُ - وهي تلملِمُ
أَعْراسَها
: إنَّ للبحرِ فَصْلَ غِيابٍ
ينامُ بهِ مُسْتريحاً مِنَ الخَوْفِ
ثم يُلمْلِمُ أسرارَهُ نحوَ صُبحِ
الشُّطوطْ
و ترجِعُ للبحر أَفراحُهُ الغافيَهْ
..... ...... ....
تلك اللغة الدرامية وهي إبداع على غير
مثال سابق، هي بعينها ذلك الـ Antigonist الذي
يتصدى للبطل الشرير في ملحمة الوجود:

الفناء. وفي هذه المسرحية تحديداً نرى
الفناء بطلاً شريراً تحيط بنا أفعاله منذ
البداية حتى النهاية. فالجدب الذي حلَّ
بحقل الأخوين كان البداية، بداية
المأساة، وهو المعادل الموضوعي Objective
correlative للجدب الكامن في النفس البشرية.
وكما كان منديل ديدمونة مجرد تكأة
سيكولوجية انتهز عطيل فرصة ضياعه ليفجر
أحاسيسه الدفينة التي لا تصدق استحقاقه
لتلك الجميلة. فإن البرادعي استطاع أن
يوحي إلينا بأن الحقل المجدب. واحتياج بطل
المسرحية (محمد) إلى المال لاستصلاحه مرة
أخرى، إنما كانا معاً مجرد تكأة نفسية
يتفحص بها الرجل أعماق نفسه، كي يصل إلى
إجابة لسؤال خطير: هل أنت مستعد أن تقتل
لتظفر بطيبات الحياة؟ وكان الجواب قاطعاً
باتراً:
إنَّكِ حِسْناءٌ مجْنونَهْ
حَسْناءٌ حَمْقاءْ
إنكَ جِنِّيَّهْ
يملؤها الشرُّ وتعشقُهُ
هل أَقْتُـلُ مَنْ يَبْصِرُ بي والدَهْ
ويَحنُّ إليَّ حَنينَ الطِّفْل إلى
أَبَوَيْهْ
أَقْتُـلُ أُمّاً… مَنَحَتني فَصْلَ
نَضارَتِها
واكْتَهَلَتْ مِنْ أَجْلي
... ... ...
وبالمقابل يكون جواب الأخ الأصغر معادلاً
لمعدنه الخسيس:
قَدَري أَنْ أَرْفَعَ السَّيْفَ إِذَنْ
لم يَعُدْ لي أَيُّ دَرْبٍ غَيْرُ هذا
... ... ...
ها هو يتذرع بعقيدة الجبر، عقيدة سائر
الطغاة. سيقتل وينسب فعلته للأقدار. يمحو
إنسانيته وقدرته على الاختيار الحر ليصبح
مجرد شيء من أشياء الطبيعة، مثله مثل
النار أو السيل أو الحجر الملقى بيد لا
يراها. تكأة نفسية أخرى ولكن موقعها كائن
في الجانب الآخر من الحياة.. جانب الفناء
والعدم.
فهل انتصر ذلك الجانب المظلم بنهاية
المسرحية؟! بالقطع لا، لأن الأخ القاتل لم
يظفر بجنيته. لقد هجرته المرأة اللذة
السلطة. فكأن الفناء قد ظفر فحسب بالفناء.
ومن فناء الفناء ينبعث الوجود من جديد.
تلك هي كلمة المسرحية الأخيرة، وما
أجملها من كلمة شعرية درامية.
القسم الرابع: تجربتي في المسرح الشعري
للشاعر المكرم
إضـاءة :
شاءت ظروف ترحلي ومشاركاتي الأدبية في
عدد من الأقطار والمواقع الفكرية والفنية
أن أتحدث بإيجاز عن تجربتي في الكتابة
المسرحية والمسرحية الشعرية بالتحديد.
فقرأت تجربتي هذه في: جمعية المسرح باتحاد
الكتّاب العرب. وفي كلية الآداب بجامعة
محمد الخامس بالمغرب. وفي كلية الآداب
بجامعة حمص. وفي أكاديمية المسرح في ليبيا.
وفي فرع اتحاد الكتّاب العرب بحمص. وفي
المركز الثقافي في حلب. وفي المركز
الثقافي في اللاذقية. وفي دار الثقافة في
مدينة الثورة (قرب الرقة) وفي قاعة السابع
من نيسان في مدينة السويداء. وفي المجمع
الثقافي بأبو ظبي.
وتشجيع المحبين يدفعني لأتوسع في هذه
التجربة لتصبح كتاباً مستقلاً.
الدكتور خالد البرادعي
****
على هامش التجربة:
في السنوات الأخيرة من عقد الستينيات صدر
لي ديوان شعر عن دار الطليعة في بيروت
اسمه: (صور على حائط المنفى). كنت في الكويت
آنئذ وكانت الصحافة في بداية نهوضها. أعمل
إلى جانب رهط من راحلين من الشام في تأسيس
بعض الصحف. وكانت جامعة الكويت الفتية تضم
في أورقتها نخبة من العلماء الأعلام،
تتخيرهم من كل أقطار الوطن العربي. وكان في
طليعتهم فيلسوف الفكر المعاصر الراحل
الدكتور زكي نجيب محمود، الذي كنت أتابع
نتاجه الفكري إلى جانب المفكرين
المعاصرين. وخصوصاً مجلته الرائعة: الفكر
المعاصر. أهديته نسخة من الديوان.
ليفاجئني بعد أيام بما لم يكن يخطر على
خلدي. ولم أكن أعلم أن تلك الرسالة الزرقاء
التي حملها إليّ البريد ستفتح أمامي درباً
سيكون منعطفاً جديداً في حياتي الفكرية.
وترسخ لي موقعاً لم أكن أحلم به.
قال المفكر زكي نجيب محمود في رسالته: ((
عندما قرأت ديوانك هذا يا خالد أحسست أني
عثرت على كنز ثمين. وكان هذا الديوان
مجموعة إجابات على أسئلة معلقة في الأفق،
كنت أنا واحداً من واضعيها، وجئتَ أنت
لتحدد الأجوبة بعفوية عليها. فكنّا نظن أن
الشعر شعران، قديم وحديث. وأن اللغة
لغتان، لغة الناس ولغة خاصة. كأنها
للأباطرة والملوك. وأن هموم الناس ابتعدت
عن الشعر كما ابتعد الشعر عنها. فاقرأ أي
قصيدة من هذا الديوان على أي فئة من فئات
الناس. لتراهم قد خرجوا إلى الحالة التي

أردتها لهم. وأي مطلب يطلبه الناس من
الشاعر أبعد من هذا المطلب النبيل؟ وتكررت
جلساتي مع المفكر العربي الراحل. وفي كل
جلسة كنت أتزود من فكره زاداً جديداً)).
وسألني ذات يوم: هل كتبتَ مسرحاً شعرياً
أو حاولت؟ قلت: لا. لكني قرأت كل ما كتبه
العرب في هذا المجال وهو قليل. بدأ مع كبار
عصر النهضة العرب في بلاد الشام. وظل أقل
من القليل إذا قيس بالشعر والرواية
والقصة. وذكرت لـه رأي أستاذنا طه حسن
بالمسرح وكيف أن طه حسين لا يحب المسرح
الذي يعرض على الناس شعراً في هذه الأيام.
وكان طه حسين يبدي هذا الرأي في مقدمة
كتبها لإحدى مسرحيات عزيز أباظة.
وأفهمني زكي نجيب محمود أن أخطر الأحكام
هي الأحكام العامة التي تلغي الفوارق
الفردية بين المبدعين. وأن ما يجيده كاتب
قد يخطئه كاتب آخر والاثنان ينتميان إلى
دوحة واحدة من العطاء والإبداع.
وعدت بعد أيام لأسأل فيلسوف الفكر
المعاصر: لماذا نصحني أن أكتب المسرح
الشعري بالذات. فقال: لأن بذور الدرامة
الشعرية نابتة حتى في قصائدك القصار. ألم
تر إلى الحس المشهدي، والسرد الحكائي.
وكيف أن قصيدتك تنقل مشهداً لقارئها؟ وكأن
مفردات قصيدتك خطوط وألوان في لوحة حية
ناطقة؟
وكانت مسرحية: «دمر عاشقاً» أول تجربة لي
في هذا المجال وكنت قد استوحيت هيكلها
العام وخطوطها الأولى من حكاية شعبية
عربية لعب الخيال الشعبي على مدى عصور
بتضخيمها وتهذيبها لتتحول إلى متنفس
بطولي يريح أعصاب الناس في عصور الهزائم-
كما هي الحال في تطوير الأدب الشفهي
والشعبي المروي والمكتوب- إنها قصة سيف بن
ذي يزن. وقد التقطت من أحنائها سطوراً
معدودة كانت مفتتح الرؤيا لمسرحية دمر
عاشقاً وقرأها قبل نشرها عدد ممن أثق
برؤيتهم النقدية وقدرتهم على التمييز
بحياد بين الغث والسمين. لأسمع بضعة آراء
كان من أعمقها بالنسبة إلي الرأي الذي قال:
إن دمر عاشقاً عمل درامي مثير يجمع بين
الشعرية والدراما في بناء قل مثيله في
المسرح الشعري العربي. بدون أن يخرج
البرادعي من مقالع التراث وتراب البيئة.
وهي البداية الصحيحة. وبعد نشر المسرحية
في اتحاد الكتاب العرب تحولت إلى شغل نقدي
مثير. وعندما شاركت في مهرجان دمشق
المسرحي، كتب عنها أكثر من خمسين دراسة
نقدية. ثم تحولت فيما بعد إلى محور لأطروحة
دكتوراه. تقدم بها الدكتور مصطفى الرمضاني
لنيل درجة دكتوراه دولة في الآداب بدرجة
حسن جداً مشرف. بإشراف البروفيسور عباس
الجراري. وكثر الحاقدون والحاسدون والذين
لا يعملون ولا يريدون لأحد أن يعمل كما قال
أستاذنا الخالد طه حسين فانبرى أحد هؤلاء
واتهم المسرحية اتهامات بشعة فرأيت أن
أشير إلى هيكلها الحكائي وأصولها
التراثية:
رهط من العلماء والمفكرين كانوا على
مائدة المأمون الخليفة العباسي العالم.
وأحب الخليفة -حباً بالعلم- أن يبالغ في
إكرامهم فوقف بعد أن دعاهم إلى الطعام،
وأخذ يشرح لهم بعض منافع الأطعمة المبسوطة
أمامهم بلغة الطبيب العالم فقاطعه أحد
العلماء، قائلاً: مهلاً يا أمير المؤمنين
إني ذاهب ولن أتناول طعامك، وشده المأمون
للمفاجأة. وغالبه الصمت، بينما أتم الرجل
قائلاً: أجل يا أمير المؤمنين لأني لا أحب
الرجل أن يكون طبيباً على مائدته.
والمبدع الذي يتصدى لإبداعه فيتحدث عنه
وهو في متناول الآخرين شبيه بالمأمون الذي
حاول أن يكون طبيباً على مائدته. وعلى
الآخرين الذين أصبح الإبداع في متناول
أيديهم أن يقفوا من المبدع موقف ذلك
العالم من المأمون إذا أراد هذا المبدع أن
يشرح ويفسر، لأن في ذلك الموقف مصادرة
للأذواق وحجباً أو محاولة لحجب رؤية
الآخرين، ومهمة الشرح أو التفسير أو وضع
المعادلات وإصدار الأحكام منوطة بالناقد
وحده، الناقد الذي تتوفر فيه أشراط المحكم
العادل كالثقافة الرفيعة وسعة الاطلاع
والحس المرهف والقدرة على التمييز
والحياد والابتعاد عن مسارات الشلل.
لكن على مائدة المأمون بالذات لو أن
واحداً من الطامعين اتهم المأمون بوضع
السم في أحد الأطعمة لجاز للمأمون قطعاً
أن يقف موقف الطبيب. ولعل في هذا الافتراض
يكمن تبرير موقفي الآن من تقديم لمحة
موجزة عن مسرحيتي الشعرية الأخيرة "دمــر
عاشقاً" الآن وبعد صدورها بأسابيع أربعة
لا دفعة لشبهة ودفاعاً عن موقف بل لتفسير
بعض الأمور التي فاتني الحديث عنها كمقدمة
للمسرحية وكان في نيتي أن أفعل لولا تعاطف
المحبين الذين كرهوا كتابة مقدمة الإبداع
يقوم بها صاحب الإبداع بالذات. وذلك خوفاً
من إشاعة قول مأثور قديم هو أن مقدمة
الكتاب عصا يتوكأ عليها الكتاب. والثقة
بالنفس تدفعني لدفع كتبي إلى الناس دون
عصي أو متكآت.

* * *
منذ سنوات قرأت عدداً من القصص والسير
الشعبية التي تنتمي إلى تراثنا وأردت أن
أقف على سر إعجاب البسطاء بها وتعلق عدد
كبير من عامة الناس بأشخاصها سواء كان
أولئك الأشخاص حقيقة في التاريخ أو وهماً
من نسيج الخيال. حتى وصل هذا الإعجاب في
بعض مراحله إلى حد الهوس. وتلك حال كنا
نراها ونعيشها أو نسمع عنها. وهي تحدث في
المقاهي والتجمعات الشعبية حول -الحكواتي-
الذي يروي تلك السير ويقص تلك القصص.
ويعلم من اطلع على جانب من هذا الموروث أن
محركه الأول هو البطولة الفردية. أي
الإنسان النموذج الذي يحلم كل فرد أن يكون
فارساً. عاشقاً. شاعراً. حكماً. نبيلاً.
كريماً. إلى آخر هذه المواصفات التي تميز
الإنسان النموذج أو الإنسان الحلم عن
إنسان الواقع الذي تدور به رياح الظروف
فترهقه وترغمه على اتخاذ مواقف لا يريدها
وإن هو كابر في التظاهر بالرضى عنها. ومعظم
أحداث موروثنا الشعبي -وربما الموروث
الإنساني كله- هي التي تتحرك من حول الفرد
البطل وتعاطف عامة الناس أو البسطاء منهم
مع مواقف البطل هذا ربما هو نابع من
اعتقادهم بأن وجود صنوف لهذا البطل ينقذهم
من شظف العيش وبؤس الحياة ما دام قادراً
على اجتراح المعجزة وتحويل اللامعقول إلى
معقول.
وقد يكون التزيد والإضافات التي يحفل بها
القصص- الشعبي والسير ناتجاً عن حاجة
المتزيدين عبر العصور إلى نماذج من تلك
الأبطال الأسطورية تحول لهم الحياة بكل ما
فيها من تعب وبؤس إلى جنة وارفة الظلال.
وإذا كان الشعراء عبر تاريخنا فئة من
القادرين على ترجمة أحلام البسطاء من
الناس وتجسيد طموحاتهم في لغة أنقى وصيغة
أجمل. فإنهم هم الذين حملوا الخليفة الفرد
تلك المواصفات المثالية من الكرم
والفروسية والنبل والمحبة والقدرة. عبر
نماذج متفوقة من المديح. وهي النماذج التي
تخرج عن إطار التكثف في الشعر لتدخل في
نطاق إسقاط الحلم على الخليفة الفرد.
وكأي كاتب في هذا العالم قديمه وحديثه
راودتني فكرة استلهام هؤلاء الأبطال
العالقة صورهم في مخيلة الجماهير.
لأسقط شيئاً من الحلم وشيئاً من الأمل
عليهم. وليس بدعاً من راود الذهن وكبار
كتاب المسرح الشعري والنثري والعالم قد
فعلوا ذلك ووضعوا إبداعاهم ضمن خطين
متوازين:
الأول : إحياء القديم العظيم.
الثاني : تحميل هذا القديم زخم الحديث
وبأسه.
وقد تحققت المعادلة الصعبة لدى نفر من
الكتاب المبدعين فجددوا القديم ودفعوه
ليحيا من جديد ضمن شروط الإسقاط المعاصر
الذي يكون الهدف الرئيسي من العودة إلى
استحياء الماضي.
حتى لنستطيع الجزم بأنه ما من مسرحي شاهقة
قامته في تاريخ الإبداع إلا واستدار نحو
الماضي ليحمله من يهمه وما يضنيه وما يحلم
به. حتى لكأن عادة معالجة أحداث التاريخ
الحقيقية والأسطورة غدت سنة مؤكدة وعلى كل
كاتب أن يؤديها.
وتاريخنا كتاريخ أي أمة عريقة شاركت في
صنع الحضارة الإنسانية وأسهمت في بناء
الإنسان. مليء بالأساطير، مليء بالموروث
الشعبي، مليء بالأحداث الخارقة، مليء
بالحقيقة والوهم. وحمل للأجيال اللاحقة
الكثير من مواد العطاء والتي تصلح أسساً
لبناء الإبداع عندما يتوفر المبدعون.
* * *
في سيرة سيف بن ذي يزن الملك العربي
اليماني. عثرت على أكثر من هيكل إبداعي
بمستطاع الشاعر أو المسرحي أن يملأه
بالجدة والحداثة. مؤامرة أم سيف عليه
ومحاولتها قتله لحظة وضعته ليتسنى لها
البقاء ملكة على عرش اليمن بداية مهمة
لدراما عظيمة. حربه مع الفرس. قتاله
الأحباش. مغامراته مع الجن والعفاريت
والمردة تلك المخلوقات التي لا تزال لغزاً
محيراً لدى الإنسان. تعاطف العبيد مع سيف
لتشكيل جبهة تقوض الظلم وتفك طلاسم السحر
عن بعض المدن كل هذه هياكل مسرحية صالحة
لإسقاطاتنا المعاصرة. وقادرة طبيعة
المسرح، كما استطاعت طبيعة الشعر الحديث
على احتواء تلك الهياكل وإعادة صياغتها
متجددة معبرة عن همومنا المعاصرة. قومياً
وإنسانياً.
ولأن سيرة سيف بن ذي يزن طويلة متشعبة لا
يمكن احتواءها في عمل مسرحي واحد لأن
الغرض من التشكيل الدرامي المتركز على
التاريخ والتراث هو خدمة الطموحات
المعاصرة. ويكفي للمسرحي إذن أن يرتكز على
حدث معين من أحداث السيرة ليسقط همومه
وطموحه. وعثرت على ضالتي في لمحتين من
لمحات تلك السيرة الشعبية هما:
صراع سيف مع أمه بعد أن شب عن الطوق وعرف
أن أمه ربيبة الأحباش تضحي بكل شيء حتى
ولدها لتبقى على عرش الملك -مع الاحتفاظ

طبعاً- بكل المواصفات النموذجية للإنسان
العربي القادر على تغيير وجه الواقع.
ووضعت الخطوط الأولية لمسرحية شعرية
أسميتها "سيف بن ذي يزن يطرد العفاريت من
اليمن" وقطعت في كتابتها شوطاً لا بأس به.
أما اللمحة الثانية فهي جزء من حياة (دمر)
أحد أولاد الملك سيف. فقد أحب هذا الفتى أن
يخوض مغامرات أبيه. وسرق لأخيه عقداً
مسحوراً يقوم على حراسته جني يدعى شيهوب
وللجن قدرة -كما حدثنا الماضي- شبيهة
بالمستحيل وطلب من الجني أن يأخذه إلى
أجمل مدينة في الدنيا فطار به إلى دمشق.. ثم
طلب إليه أن يريه أجمل امرأة في الدنيا
فطار به إلى ابنة ملك دمشق في ذلك الحين
"المجهول تاريخياً" ويدعى جبرون وابنته
تدعى الجابيـة، وكانت تحب الشعر والشعراء
فطلب دمر من الجني أن يعلمه الشعر فعلمه
إياه وأحبته الجابيـة.
وعندما طلب يدها من أبيها الملك أراد
الملك تعجيزه لإبعاده عن الجابيـة فطلب
إليه أن يحفر نهراً يخترق دمشق ويملأه
بالماء خلال أسبوع واحد. فقام الجن بهذه
المهمة المستحيلة وتزوج دمر حبيبته
الجابيـة وبعد حين اكتشفت أن الجن هم
الذين يحققون الفعل وليس دمراً وأن العقد
المسحور لأخيه مصر وليس له. وأنه ليس
شاعراً بل الجن نفثوا فيه ومضات شعرية
محدودة. فتركته وهربت إلى فلسطين وهناك
صادفت أخ زوجها "مصر" فأحبته وتزوجته. وخبر
دمر فسافر إلى فلسطين وحارب أخاه حرباً
مضنية واقترحت الجابيـة أن تعتزل الحياة
وتبتعد عن الاثنين معاً. وفعلت.
في هذه الأحداث التي سردت سرداً ساذجاً في
سيرة الملك سيف وجدت مادة مسرحيتي الشعرية
"دمر عاشقاً" وقمت بتحويل وتبديل الأحداث
في صورتها السردية البسيطة إلى مسرح شعري
-وهذا من حقي بالطبع- كما أسقطت جزءاً من
تلك الأحداث لأحافظ على الخط الدرامي.
ما الذي أضفته إلى السيرة؟
بدأت الأحداث من اللحظة التي أحب فيها دمر
الجابيـة. ومن البداية أيضاً أسقطت عن الجن
دورهم الإنساني وحملتهم دوراً ثانوياً
للتأكيد على قدرة الإنسان مع ابتكار
شخصيات فاعلة ومحورية.
احتفظت بملامح الإنسان العربي في سرعة
حبه وقبوله التحدي وطموحه الذي لا يحد.
وأسقطت هذه الملامح على دمر بطل المسرحية
كما حولت الحب الشخصي الذي شغل دمر إلى حب
جماعي طرفه الآخر الجماهير العريضة. وركزت
على قضية هامة تشغل جزءاً من أحلامنا
المعاصرة وهي كيف أن ابن الشعب البار ينسى
مشاغله الشخصية أمام قضايا المجموع ويذوب
في مشاكلهم. كما أودعت حالتين في عملي
المسرحي: هما تضاؤل الطغيان أمام يقظة
الجماهير. وتضاؤل القوى الغيبية كذلك
المتمثلة في الجن عندما يتحقق الجمهور من
موقعه التاريخي. كما تجاهلت تماماً خلاف
مصر ودمر إمعاناً في كره التجزئة
الإقليمية المعاشة، ومحاولة للخلاص من
الانهيارات السياسية التي يعيشها وطننا
نتيجة التمحور الإقليمي البشع وأنهيت
الدراما الشعرية بمأساة انتحار الجابيـة
التي أحست بانخلاعها من قلب دمر حبيبها
الذي ذاب في حب الشعب وكاد أن ينساها.
وعرفت أيضاً أن مهرها لم يعد مهراً بل قضية
شعب بأكمله.
اخترت الصياغة الشعرية لمسرحيتي ولا
تهمني المصطلحات السائدة بكثير أو قليل.
ولم يكن خوض هذه المغامرة ارتجالاً هيناً
أو مجازفة أولية. فقد جربت المسرح النثري
وتركت حتى تاريخ بدء مسرحية "دمر" الشعرية
خمس مسرحيات نثرية بعد أن تركت عشرات
القصائد المركبة ذات النفس الدرامية،
والتي تعتمد أكثر من صوت. وهي التي أعتبرها
البداية لكتابة مسرح الشعر وكنت قد وفقت
ولزمن غير قصير على مجمل الأخطاء التي
ارتكبها المسرحيون العرب في نتاجهم
الشعري المسرحي. فحاولت تحاشيها جهد ما
أستطيع مفيداً قدر الإمكان من تجاربهم،
وتجارب كتاب المسرح العالميين الذي تمكنت
من قراءة نتاجهم.
وشعر التفعيلة أقل تعقيداً في الكتابة
المسرحية -تلك بديهة يعرفها من عانى- وفي
أكثر من دراسة منشورة لي ناديت كمجرب
بالاتجاه لكتابة المسرح الشعري..
بعد أن وصل جزء من شعرنا المعاصر إلى حالة
قطع الصلات تماماً مع الجماهير المعنية
بهذا الشعر. وكادت القصيدة المعاصرة أن
تتحول إلى مجموعة طلاسم ورموز لا يفهمها
إلا كاتبها بمفرده. وتمنيت أن يكون طريق
المسرح الشعري بداية تخلص شعرائنا من ركوب
الطرقات الوعرة. وتبعدهم عن التغلغل في
الغموض المعقد والإبهام المظلم. خاصة وإن
عدداً من شعرائنا قدموا نتاجاً مسرحياً
نثرياً. أي أنهم تمكنوا من فهم طبيعة
الكتابة المسرحية. وعالجوا همومهم
وأحلامهم شعراً. وإذا كان أستاذنا الخالد
طه حسين قد استصعب كتابة المسرح الشعري.
فإنما كان حكمه ذاك مسحوباً على النتاج
الذي عاصره وهو مجموع مسرحيات شوقي وعزيز

أباظة التي صيغت ضمن المفهوم التقليدي
للشعر العربي مما أبعدها عن الشعر وعن
المسرح في وقت معاً. ولا أعرف لو امتدت
الحياة لأستاذنا طه حسين، ليعيش الحركة
الشعرية الحديثة، هل كان يرفض المسرح
الشعري أو يشجعه؟.
* * *
وبعد أن عانيت ما عانيت. وظهرت "دمر
عاشقاً" العمل التوأم لمسرحيتي الشعرية
الأخرى: أسفار سيف بن ذي يزن، يطلع علينا
أحد المعلقين الصحفيين بتعليق يضحك
لطرافته. ويبكي لثقافة صاحبه يقول: إن
مسرحية دمر عاشقاً مأخوذة حرفياً عن
مسرحية ناظم حكمت "حكاية حب" وإن
المسرحيتين تلتقيان تمام اللقاء في
خطوطهما العريضة وفي تفصيلاتهما وكاد أن
يقول أن مسرحيتي مسروقة بنصها الحرفي عن
مسرحية ناظم حكمت. وحتى لا يفضح هذا المعلق
جهله توارى خلف أوراق الصحيفة بدون اسم.
واكتفى برشق الحجارة على المبدعين من وراء
الجدران متبعاً طريق الأشباح في حرب خاسرة.
وما أريد الآن أن أنادي بأني لم أقرأ
مسرحية ناظم حكمت لأن هذا لا يعفيني من
تبعة التقائي بأفكار مسرحيته- إن كان ما
قاله المعلق صحيحاً- بل أكتفي ببسط الأسس
التاريخية وإضاءة المصدر الذاتي الذي
بنيت مسرحيتي على أساسه. وإذا كنت ألتقي مع
ناظم حكمت -فعلاً- في مواقف مسرحيتي فذلك
مثار فخر.
أو مثار اعتزاز كبير أن تلتقي همومي
وطموحاتي مع شاعر عظيم كناظم حكمت.
ولقاؤنا يعني بل يؤكد بديهة لا تغيب عن أي
مثقف هي وجود القاسم المشترك بين الشعراء
المبدعين أينما وجدوا وأنى كتبوا. وإن
الهموم المطروحة والأحلام الصعبة في
بلدان العالم الثالث واحدة لا تتجزأ.
أما الإبداع الذي حمل الهم وترجم الحلم
وبسط مواقع الألم فليس بمقدور من يجهل
-تراث أمته- أن يفهمه. ويقيمه ويحكم على مدى
علوه أو انخفاضه. ذلك من اختصاص الذواقة
ومعاني الإبداع ومرهفي الحس. وليس من شأن
المتعيشين في صحافتنا أن يقوموا به.
هل يكون الشاعر مسؤولاً عن جهل الآخرين؟
سأقول كيف:
قبل أن تطبع مسرحيتي كان أحد هؤلاء
الطيبين قد طرح أمامها رأياً يقول فيه:
أنها مسرحية مرفوضة لأنها مبنية على أساس
البطولة الفردية، وبطلها لم يَتلاقَ مع
هموم الجماهير إلا من أجل تحقيق نزوة
غرامية. أي أنها تنتمي إلى الأدب الرجعي
وبعد أن طبعت المسرحية أصبحت تقدمية جداً
إلى حد اللصوق بأعمال ناظم حكمت. من يفسر
لنا ذلك؟
هل أكرر بأن الأول قرأها من اليسار إلى
اليمين؟
والثاني قرأها مبتورة عن أصولها
التراثية؟ لأن الأول لا يجيد القراءة
العربية، والثاني لا يعرف أن لأمته
تاريخاً؟ وعلى المثقف أن يطلع عليه أو على
جزء منه^(^^).
****
تلك هي الخطوة الأولى إذن لتتسارع الخطى.
ولأعمق صلة المودة والقربى بيني وبين
مقالع التراث العربي والإسلامي. من تاريخ
وأساطير وخرافات ومرويات شفهية. يأتي في
مقدمتها: ألف ليلة وليلة، النتاج الشعبي
العربي الذي ليس لـه مثيل في تاريخ آداب
العالم. وكانت مسرحية: «حصان الأبانوس»،
أول نتاج مسرحي شعري أستوحيه من إحدى قصص
ألف ليلة وليلة. بدون أن أبتعد عن الهم
القومي والوجع العربي الذي أسكنه كما يسكن
بي هاجساً لا أستطيع الفكاك من ربقته. وأي
قارئ لهذه المسرحية الشعرية يتخيل نفسه في
خضم الأحداث المعاصرة له. رغم إهابها
التراثي الماضي.
ومن ألف ليلة وليلة استوحيت مسرحية: «جودر
والكنز»، التي أفدت أي فائدة في صياغتها من
الخرج المسحور. ومن شبكة صيد السمك التي
سجلت حضوراً سحرياً متميزاً في حكايات ألف
ليلة وليلة، وبعد أن توطدت علاقة الأخذ
والعطاء بيني وبين عشرات حكايا ألف ليلة
وليلة، عرفت لماذا أكب توفيق الحكيم على
قراءة هذا الأثر الهائل ألف ليلة وليلة
بعد عودته من فرنسا- كما كتب في مذكراته-
وإذا كنت استوحيت عدداً من مسرحياتي
الشعرية من ذلك الكتاب الضخم. فعلي أن أوضح
إلى أي مدى كان ذلك الاستيحاء، ومتى أتوقف
عن الأخذ من هياكل تلك الحكايا. لأسقط الهم
والوجع والحلم في ثنايا الدرامة الشعرية
بعيداً عن الخطوط الأولى التي حكت منها
بدايات مسرحياتي. وهذا الإيضاح بين في
بناء الدرامة نفسها وأستطيع أن أضع: حصان
الأبانوس. وجودر والكنز. أنموذجين لذلك
التداخل الفني والفكري، بين الخرافة وبين
الزخم الفكري الذي تزودت به أصلاً، ليحدث
ذلك التمازج بينهما في بناء النص المسرحي
الشعري. إلى درجة تساؤل بعض النقاد: لا
نعرف إن كان البرادعي يسقط التراث على
هموم أمته المعاصرة. أم يحمل هذه الهموم
إلى مقالع التراث. فيصوغها شعراً درامياً

يجمع بتوازن دقيق بين الدرامة والشعرية.
وبين الأمس واليوم. وكأن الحكام والوسطاء
والأثرياء والفقراء والمثقفين الذين
حشدهم البرادعي في المسرحية يعيشون بيننا
الآن.
****
والتاريخ واحد من أهم المستودعات
الدرامية في حياة الأمة العربية. فتاريخنا
المدون بما فيه من منعطفات مشرقة، ومن
محبطات وانكسارات وارتكاسات محزنة.
يَغُصُّ بالأحداث الكبيرة التي يمكن أن
تتحول إلى أي عمل فني كتابي. رواية كان أو
قصة أو مسرحية. بإشارات عابرة إلى المواقع
التي تركت آثارها سلباً وإيجاباً على حياة
الأمة العربية عبر أحقاب التاريخ الطويل،
تكفي كدلالات للغنى الدرامي والروائي
والشعري.
فالصراع بين العرب والفرس قبل الإسلام
موقع. والصراع بين العرب والروم موقع.
والصراع بين الإسلام والوثنية موقع.
والصراع بين العرب والترك موقع. والصراع
بين العرب وقوى الاستعمار العالمي موقع.
إضافة إلى الصراع الطويل بين العرب
والصليبيين الذي استمر زهاء مائتي عام
حفلت بالأعاجيب أراه من أغنى وأخصب
المقالع الدرامية في حياة العرب. والذي
أعود إلى قراءة جزئياته باستمرار لأفيد
شعرياً ومسرحياً منه.
بدون أن ننسى الدور الحضاري الكبير الذي
مارسه العرب المسلمون في الأندلس،
والنهاية المأساوية المفجعة التي انتهى
إليها الوجود العربي الإسلامي في تلك
البقعة من العالم.
وكيفما قلب المبدع طرفه في أي ورقة من
أوراق الأحداث في تاريخنا، يجد أمامه متكأ
درامياً صالحاً للمعالجة الإبداعية.
لكن يظل السؤال الكبير الذي يطرحه المبدع
على نفسه وهو بين يدي التاريخ: إلى أي مدى
أغوص في الحدث التاريخي حتى لا تفلت خيوط
الحاضر من يدي؟ والسؤال الآخر هو: هل
المعالجة الفنية لأي حدث تاريخي تخرجه من
صرامة التوثيق التاريخي، وتحولـه إلى فن
روائي أو مسرحي؟ أرى الإجابة على السؤالين
هي النفي. لأن تحويل النص الكتابي من حال
السرد التاريخي إلى حال الحوار، يظل
تعاملاً جافاً مع الماضي. ما لم نتدخل نحن
إلى كسر هذا الجفاف، بإسقاط تشهياتنا،
ومواجعنا، وأحلامنا كذلك. حتى نصوغ التراث
صياغة جديدة معاصرة تضفي على الوجع
المعاصر غلالة من التشويق. كما تضفي على
جزئيات الماضي لوناً من المعايشة الحية
التي تخرجه من صمته وجموده، وتمنحه حياة
جديدة خاصة.
هذا الإستيحاء التاريخي، وهذا المزج بين
الماضي والحاضر، هذه المداخلة بين الهموم
الآنية وبين حدث مضى. هو ما فعلته في بعض
مسرحياتي الشعرية، وأشير إلى ثلاث منها
هي: المؤتمر الأخير لملوك الطوائف،
والسلام يحاصر قرطاجنة، ومكاشفات عائشة
بنت طلحة.
في هذه المسرحيات الشعرية كنت مزَوَّداً
أولاً بمواجع الإنسان العربي السياسية
والحضارية، والرؤى المستقبلية. كما كنت
مزَوَّداً بالأحداث التاريخية الحادة
التي رأيت فيها الزاد التراثي الدسم
والمتخم بالمنعطفات الدرامية الصالحة
للترجمة المعالجة، كما هي صالحة لإخراجها
من سكونها أو سباتها التاريخي لتحيا
مجدداً بلغة شعرية خاصة، وبنكهة حضارية
جديدة.
لكن مسرحية: الإمبراطور زمسكس هي الأقرب
لتأريخيتها من كافة مسرحياتي التي تشع
منها منارات التاريخ. لأن أحداثها
التاريخية درامة مثيرة. فقائد عسكري
انتهازي يتودد إلى الإمبراطور حتى يتسنم
أرفع المراكز. وعندما يصل إلى الذروة يغري
زوجة الإمبراطور التي تراوده عن نفسها.
وتصل العلاقة بينهما إلى عشق حقيقي.
ويتآمران على الإمبراطور الذي أوجد
كلاهما من العدم فيقتلانه غيلة وغدراً.
لتنتهي الأحداث بتسلط السلطة الكنسية على
القصر السياسي. أمام تعرية الخيانة
والانتهازية. وهذه المسرحية رآها
الكثيرون حدثاً درامياً مثيراً.
على أنني لمست في أحداث الأندلس ما هو
أكبر وأهم من أن تجمعه مسرحية شعرية أو نص
أدبي مهما كبر واتسع في نوعه وحجمه. وعدت
مجدداً لصياغة أحداث مسرحية المؤتمر
الأخير لملوك الطوائف ، صياغة درامية
تلفزيونية وستظهر في مسلسل يتجاوز عشرين
ساعة تلفزيونية بعنوان: الرحلة المغربية.
بعد وقبل عدة أعمال شعرية متفردة في نتاجي.
في بعض مسرحياتي توقفت أمام المناطق
الغامضة في التاريخ وتوسعت في ملئها بما
أراه ضرورة لإغناء المواقف الدرامية
وسأقدم مثلين على هذا .
أولاً : لا يعرف أحداً شيئاً عن حياة أبي
حيان التوحيدي الخاصة. لا عن أسرته؟ وهل
تزوج أم لا؟. فجعلت لـه زوجة جميلة حملتها
موقفاً درامياً متميزاً أغنى المسرحية

برمتها. وجعلت لـه أُمّاً حملت قسطاً من
إغناء المسرحية.
ثانياً : لم يحدثنا أحد من الفرس أو
الأجانب أو العرب عن الحياة الخاصة لأبي
القاسم الفردوسي مبدع ملحمة الفرس الكبرى
الشاهانامه. فلجأت إلى هذه النقطة الغامضة
في حياة الفردوسي لأملأها بزوج لـه وبنت
كان لها دور تثويري جميل ومهم في مسرحيتي:
الأيام السبعة الطوال في حياة أبي القاسم
الفردوسي.
****
وأمام حالة الإشباع التاريخي خاصة
والتراثي عامة. أرى نفسي باستمرار أسيراً
لمواقع وأحداث وفواصل تاريخية لا تمحى من
الذاكرة، لأنها تحولت بالأصل إلى نسيج
حضاري ودم ثقافي لا يفصل تحت ضغط أي ظرف عن
شخصيتي الأدبية. وانسجاماً مع هذه الحال،
وكما تتدفق أحياناً قصائدي مطعمة بالنكهة
التراثية. كذلك وجدت نفسي أقدم نصوصاً
مسرحية لا تستطيع أن تربطها بحدث تاريخي
معين. بل تستطيع أن تشم منها عبق الماضي
وترى في بنيتها الفنية كساراً من أحداث
التاريخ. ذلك ما فعلته على سبيل المثال في
مسرحيتي: العرش والعذراء. لكنك لا تستطيع
أن تحيل بناءها إلى حدث تاريخي معين أو إلى
حالة تراثية معروفة.
في هذه المسرحية لا يمكن لمتلقيها أن يحيل
أحداثها على حقبة تاريخية محددة، ولا أن
يتمكن من الوقوف على الحدث التاريخي الذي
يشكل خطوطها البيانية الأولى أو هيكلها
التراثي العام. لكن يخيل إليك أمام بعض
الأسماء، وأمام بعض الحوادث أنك في هيكل
التاريخ. والمسرحية في جملتها معالجة
درامية شعرية للحكم الدكتاتوري المتسلط
في بعض أقطار الوطن العربي. ورؤية وترجمة
لحالات القهر السياسي. والقمع اللاإنساني
اللذين يتعرض لهما الإنسان العربي، الذي
اعتاد أن يحيا حراً. ويسعى لانتزاع أنواع
حرياته التي تشكل شخصيته وهويته.
إضافة إلى المتح من كسار التاريخ بلا حدود
وبلا تحديد. وبدون التزام بقيود التأريخية.
لجأت على حالة تراثية أخرى رأيت في أحنائها
متسعاً وحرية لا حدود لهما لمعالجة بعض
المواجع والتطلعات الإنسانية التي دأبت
على ترجمتها في شعري وفي مسرحي. تلك
الحالة: الوهم التاريخي. أو التاريخ الذي
ليس لـه وجود. فأفترض حكاماً وأماكن
وأحداثاً وقعت ثم أقوم فنياً بمعالجتها
الدرامية الشعرية كما لو كانت واقعة فعلاً
في مسار التاريخ. من مسرحياتي التي تنحو
هذا المنحى مسرحية: جزيرة الطيور مثلاً.
والتي كتبتها من وحي الحرب الأهلية
اللبنانية التي ما زلنا نعيش مواجعها
ونضمد جراحها، ونلملم أشلاء الحزن من
أحداثها الدامية. ولا أستطيع تلخيص أي نص
مسرحي شعري كتبته. لأني قد أسيء إليه.
لكن أستطيع الإشارة إلى عنف التسلط
السياسي الذي يستبد بالحاكم أحياناً.
فيدمر القيم الإنسانية. ويحول الحياة إلى
لعبة عبثية مدمرة.
وجزيرة الطيور درامة شعرية أعتز بها
قليلاً. لأنها استطاعت أن تقنع النقاد
والمسرحيين بوجود أرضية تاريخية حقيقية
لها. من حيث أني أفترض تلك التاريخية
افتراضاً. لأعبر بمواجعي وهمومي السياسية
من فوقها إلى المتلقي. بدون أن أغفل واقعه
في المسرحية وهي مهمة لأنها تعمل على
تحويل الأحداث. وتشكل منعطفاً هاماً في
مسيرتها. استوحيها من حكاية من حكايا ألف
ليلة وليلة. والتي تحكي قصة الطيور التي
تهبط من الأعالي. وتتحول إلى عذارى جميلات
عندما تخلع الريش عنها. من هذه الإشارات
أوجدت (حورية) الطائر الذي يتحول إلى
عذراء، تظهر أمام البطل الحائر القلق،
وتساعده على سلوك سبيل الخير بحكم تكوينها
السماوي المليء بالخير. وتحول النهاية إلى
فرح ينتشر بأرجاء الجزيرة. علماً أن
الجزيرة التي تخلقت فوقها أحداث النص لا
وجود لها على ظهر الكوكب.
وكررت تجربة الوهم التاريخي، أو التاريخ
المفترض أكثر من مرة وفي أكثر من تجربة
تأتي في مقدمتها مسرحيتي الشعرية: وادي
العذارى. التي تتكون أحداثها فوق جزيرة
وهمية. ولجأت إلى توظيف عدد من المواقف
الأسطورية والخرافية في بنائها وتنمية
وتطوير أحداثها. مثل الرؤية الصوفية،
والكشف النوراني الذي يتمتع به العارفون،
والنبع المرصود الذي لا يتفجر ماؤه إلا
أمام إنسان معين. حتى جاءت «وادي العذارى»
لعبة شعرية درامية تتفاعل فيها المعتقدات
الشعبية البريئة. بقدر ما توحي إلى تعرية
السلطة السياسية التي تستهتر بقضايا
القوم وتسهر على ذاتها وتضخيم ذاتها.
وكأنَّ الشعب لا وجود له. وإذا وجد فمن
أجلها هي.
ولأدخل المتلقي في حالة الإقناع. وإيهامه
أن أحداث وادي العذارى أحداث حقيقية وأن
وادي العذارى مكان لـه وجود على هذا
الكوكب. لجأت إلى مخادعة فنية أظنها نجحت
في إقناع المتلقي. وتتمثل في هذه الإضاءة

التي توجت بها المسرحية:
-1-
قال الراوي:
بعد الحمد لله والصلاة على سيد رسله. إن
جزيرة قلب الماس أرض خضراء، تتوسطها مدينة
بيضاء، تبدو لمن يراها من بُعْدٍ لوحة من
لوحات السماء، بارك الله هذه الجزيرة،
فاخضرت تربتها بالربيع الدائم، وهدهدها
البحر من حولها وكأنها سرير عائم، يترنح
طرباً على الأمواج الرخية، ويسكر نشوة من
وشوشة النسائم. وأنبتَ اللهُ لأهل هذه
الجزيرة حبّاً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً
ونخلاً، وحدائق غلباً. وفاكهة وأبّاً.
متاعاً لأهلها الطيبين منذ أزمنة سحيقة.
يستوطن مياه هذه الجزيرة صنف نادر من
أصناف السمك. لا يقل حسناً ولذة ونكهة عن
كل ما في الجزيرة من طيورها وشجرها
وهوائها ونسائها. ولطراوة لحمه ولذة طعمه،
وكثرة فوائده أسميت الجزيرة باسمه: قلب
الماس. هو اسم السمك واسم الجزيرة.
ولأن هذا السمك قليل بطيء التوالد والنمو.
حُرَّمَ صيدُه إلا من أجل القصر وسلطانه،
ومن يرضى عنهم من أهله وأعوانه.
أجمل ما في جزيرة قلب الماس نساؤها فقد
لمستهن يد السماء بالأصابع التي لمست بها
التربة والأشجار، والزهر والأطيار فجئن
كعذارى الخيال، ممّا ترسمه شهوات الرجال.
بأحسن ما يمر بالبال، من تكوين الأجسام،
وتهذيب الألسنة، وحسن المعشر. والاستغراق
في الحب حتى الذوبان والامحاء، وما تستطيع
أن تتخيله خواطر الشعراء.
-2-
يحكم هذه الجزيرة سلطان اسمه السلطان
أحمد. لا أحد يعرف كيف وصل إلى العرش. لكن
مؤرخي عهده. والمشمولين بكرمه. ينفون عنه
صفة العنف. وينشرون بين الرعية أنه وصل إلى
عرشه باللطف. وأن نسبه الشريف ينتهي إلى
أنساب المعصومين. من الخلفاء والسلاطين.
الذي حكموا البلاد. وانحنت لهم رقاب
العباد. على امتداد الزمن بين الآزال
والآباد. هبة إلهية، وبيعة سرمدية، في
طاعة أبدية.
ومن أنعام هذا السلطان على رعيته. أنه
عزلهم عن العالم، وعزل الجزيرة عن بلاد
الله. فلا يسمح لأحد بالإبحار. ولا يغفل عن
تفقدهم في الليل ولا في النهار، وأحاط
البلد بحرسه السلطاني إحاطة المعصم
بالسوار.
-3-
ويبدو أن جمال الجزيرة. وصمت أهلها.
وعزلتها وهيبة سلطانها. أغرت الجن
والعفاريت بالتوجه صوبها، ليشاطروا
شعبها. ما ينعم به من دفء النساء، وغرابة
الأشياء، ونعم السماء وإخراج أهلها من
مسار التاريخ.
وألف أهل الجزيرة واقعة غريبة، لا يرونها
شاذة لأنهم لا يرون العالم. هي أن عفريتا
تعبأ بالشر. يزور الجزيرة في مطلع كل شهر،
فيرج البر، ويهيج البحر. ولا يغادرها إلا
إذا حاز عطية شهية، وقدمت إليه فدية أو
جزية أو هدية. وهي عذراء حسناء.
تقع القرعة عليها. فيزينها أهلها، وتزف
إلى العفريت بعد أن يبتعد عنها الآخرون.
فتذهب إلى كهف على ساحل البحر يقع في حضن
واد أسمي (وادي العذارى) وإذا أشرقت شمس
اليوم التالي يزورها الناس فيرونها مفتضة
وميتة.
-4-
وحدث أن أهل الجزيرة رفضوا مرة تقديم
عذراء للجني المارد، فهجم عليها هجوم
المنتقم الحاقد. فنفخ ينبوع الماء المتدفق
من بين الصخور فأطفأه. ليترك السلطان
والرعية ظمآنين منذ سنين يبحثون عن شربة
الماء بين الصخور وفي شقوق الأرض وتحول
الماء إلى هاجس أقلق الرعية، وشغل سلطانها
المؤيد بالهيبة الرحمانية والطاعة
البشرية. وهو الرجل الذي يأكل سمك "قلب
الماس" بشهية، ليتم رسالته الإنسانية،
بالزواج كل أسبوع من صبية.
وشغلت نسوة البلد بحمل الجرار والبحث عن
الماء منذ ذلك الحين.
-5-
وأنا العبد الفقير لوجه الله. لم أ كن
متشوقاً لمعرفة ما في الجزيرة من
الحسناوات. ولا لتذوق سمكها الذي يجترح
المعجزات ويلهب خاصية العشق لدى الرجال
والسيدات، على ذمة المغفور لـه ابن بطوطة.
الذي تزوج من نسائها أربعاً. وضم بضع جوار
أخريات وحسب. بل لأتعرف إلى شعب يمر الزمان
من حولـه. وتركض الأحداث وراء ظهره وهو
واقف بين السلطان وعفريت الجان. كما تركه
ابن بطوطة منذ ستة قرون. وأفرد لهذه
الجزيرة، سلسلة من الأسرار المثيرة، وحكى
عنها أطرف الأخبار. في كتابه الذي أسماه:
(تحفة النظار، في غرائب الأمصار، وعجائب
الأسفار).
ونسيت أن أخبركم أني من مدينة طنجة. التي
ولد فيها سلفي ابن بطوطة. واسمي أبو
البركات المغربي المولد. والمصري النشأة.
والشآمي الثقافة. والحجازي المقام.

-6-
ومع وصولي تسللا وخفية إلى قلب الماس.
بدأت بنقل ما رأيته، وما عايشته في ست
حكايا. بعد أن أتقنت التخفي والقدرة على
معايشة أناس البلد، بدءاً من حاشية
السلطان. وانتهاء بأبسط عباد الرحمن.
****
على أني في هذه المسيرة الطويلة، لم أنس
الزخم الدرامي الذي تحمله الحكايات
الشفهية التي ترويها الأمهات والجدات. فهي
على بساطة تركيبها، وعفوية سردها. تشكلت
عبر الزمن كمتنفسات وجودية للشعب،
ومتممات نفسية لإنسان هذه الأرض. يرويها
وينميها عبر الرواية كلما أحس بالقهر
وأحيط بالحصار السياسي والاقتصادي
والنفسي.
لهذا كنت حريصاً باستمرار على سماع هذه
القصص وتلك الحكايا النابعة من البيئة
التي تخلقت على أرضها. وبين يدي عدد منها
أقلبها في العين حيناً وفي الذاكرة حيناً
آخر. ووقفت سنوات أمام واحدة من تلك
الحكايا. واسمها حكاية الطرخون. والتي
ترويها سيدات دمشق. وظلت هذه الحكاية
تتفاعل في الذات عبر الوعي وربما اللاوعي
لأصوغ منها مسرحيتي الشعرية: «الزهرة
والسيف». والتي أنجزتها عام 1993. بعد أن
تقلبت بدهاليز الذاكرة أكثر من ثلاثين
سنة.
والطرخون نبات أخضر طيب الطعم زكي
الرائحة محبب النكهة يزرع في أرياف دمشق
وحدائقها. ويؤكل كالنعنع نيئاً ومقبلاً.
وقلما تخلو مائدة دمشقية من هذا النبات.
وخاصة في شهر رمضان. وعلى مائدة الإفطار.
هذا النبات الجميل لـه حكاية خرافية.
يتمنى المتتبع أن يعرفها بعد أن يسمع نداء
باعة الفواكه والخضراوات في دمشق. وخاصة
عندما يسمع عبارة: ابن الحرام يا طرخون.
وتسأل ماذا تعني هذه العبارة؟ فيجيبك
البائع: لأن الطرخون يزرع في أرض وينبت في
أرض أخرى. فترش أنت بذوره في حقلك. لتراها
تخرج نبات الطرخون في أرض جارك. وتسرح
مخيلة المرأة الدمشقية وراء هذه الأسطورة.
لتحدثك عن أخوين مسافرين على طريق موحش.
وصلا إلى غوطة دمشق وهما متعبان جائعان
ناعسان. ولأنهما غريبان عن المنطقة،
اقترحا أن ينام أحدهما، ليحرسه الآخر.
وهكذا يتبادلان النوم واليقظة باطمئنان.
وبينما كان الأخ الأصغر نائماً ظهرت امرأة
جميلة تتلوى بدلال أمام الأخ الأكبر.
وحاولت إغراءه حتى استسلم للشهوة والجمال.
وطلبت منه أن يقتل أخاه لتكون ملكاً له. لكن
الأخ الأكبر استل سيفه وحاول قتلها. وكاد
لولا أن أفلتت من يديه واختفت عن رؤيته.
تكررت الواقعة خلال نوم الأخ الأكبر.
وظهرت المرأة المغناج أمام الأخ الأصغر
الساهر الذي يحرس أخاه. وبالغت في إغرائه
واستنهاض شهيته حتى استسلم لها. وعندما هم
بها طلبت إليه أن يقتل أخاه لتكون هي ملكاً
لـه. وسرعان ما استل الشاب سيفه. ونحر أخاه
وهو في سكرات الشهوة والطيش. لكن المرأة
اختفت. والأخ الأكبر يتشحط بدمه. ونبت نبات
الطرخون في البقعة التي رويت من دم الأخ
الضحية.
هذه هي الحكاية الشفهية التي صغت من وحيها
مسرحية: الزهرة والسيف. بعد أن ظللت أقلبها
سنوات في ذاكرتي. وعلى رغم سريان هذه
الحكاية على ألسنة سيدات دمشق. لا أظن ولم
يصل إلى علمي أن أحداً استلهمها قصة أو
رواية أو درامة. مع أنها مقلع درامي متميز.
وقد تكون إحدى الرؤى الشعرية المتوهجة
والمثقلة بالفرادة. وقد أعود إليها
مستقبلاً لأستوحي منها عملاً شعرياً
خاصاً. وإن كنت نسجت قصيدة طويلة للفتيان
ضمن الحكايات الشعرية التي خصصتها
للفتيان وعنوانها: الطرخون وصغتها حكاية
كاملة.
ومن قبلها جاءت حكاية الأمير العربي
وابنته الجميلة جنان. والتي تقول أن جنانا
بنت الأمير الطيب أحبت شاعراً بعد عدد من
الداخل الحكائية. وبعد أن تقدم لخطبتها
أهم شباب الإمارة موقعاً وعلماً وتأثيراً
سياسياً. ولأن الشاعر فقير لا يملك إلا
شعره. طلبت إليه أن يسمعها عدداً من قصائد
الحب على امتداد عدد من الليالي. بدون أن
يراها. وفي الليلة الأخيرة التي سيستوفي
بها الشاعر شروط الأميرة العذراء. وتكون
قصائده مهراً لها. اختفى الشاعر. وإلى
الأبد. وعندما تأكدت الأميرة الجميلة أن
حبيبها قد مات. قتلت نفسها حزناً عليه.
ووفاء لوعد قطعته على نفسها، أن لا تخون
هذا الحبيب الذي هلك من أجلها.
هذه الحكاية استوحيتها قصيدة طويلة
أولاً. ثم صغتها حكاية شعرية هي حكاية
الأميرة جنان. ثم صغتها صياغة ثالثة في
مسرحية شعرية أسميتها النبوءة، صدرت في
مصر منذ سنين. لكن ظل البعد الكافي الذي
يفصل المسرحية عن الحكاية الشعرية. إلا في
اسم الأميرة وبعض الأسماء المشتركة بين
النَّصّيْنِ.
****

وفي المرويات الشعبية التي تحمل قدراً من
التاريخ قليلاً وكثيراً من الأحلام التي
يرسمها الخيال الجمعي للأمة. حتى لنقرأ أو
نسمع نصاً فلا نعرف إن كان رواية حدثت
فعلاً في الزمن الغابر. أم هو حلم وأمنية
أسقطها الشعب على زمن غابر.
فسيرة سيف بن ذي يزن تقع في هذا الموقع بين
التاريخ والأسطورة. وبين الحلم واليقظة.
وبين الجن والإنسان.
في هذا المكان الضبابي أنخت ركابي وأبدعت
مسرحيتي: أسفار سيف بن ذي يزن. بعد أن حولت
سيفاً هذا إلى مناضل ثوري عربي يمضي عمره
في جمع شتات الأمة العربية الممزقة.
مستعيناً بكافة الأدوات التي تحول الحدث
الماضي إلى فعل مسرحي يحدث الآن. ولم
أتخلَّ عن الجن كعنصر مشوق كما لم أتخل عن
السحر الذي ملأ السيرة بالأصل.
****
وفي التاريخ رجال. كما في أي تاريخ لأي
أمة. سجل حضورهم إشراقات إنسانية لا
يمحوها الزمان، على الصعيد السياسي أو على
الصعيد الفكري. فكانوا إما تيارات فكرية
لها خصوصياتها المميزة، وإما أحداثاً
غيرت وبدلت في مسيرة التاريخ ولن أنجرّْ
إلى الأفكار الحزبية والإيديولوجية التي
تملأ صحائف الإعلام بدور الشعوب، وعظمة
الشعوب، وقدرة الشعوب على تغيير مجريات
التاريخ. هذا كلام فيه كثير من التجاوز
والافتراء على التاريخ نفسه. فعجلات
التاريخ بجانبيه الفكري والسياسي، لا
يستطيع تحريكها إلا الأفراد العظام. وثمة
أسماء رموز تعيش في ذهني وذاكرتي كما تعيش
في ذاكرة الأمة العربي.
ولقد عالجت عدداً قليلاً من هذه الشخصيات
الرموز حتى الآن، والذاكرة تغص بالعدد
الأكبر من رموز ينتظرون المعالجة
الدرامية في مسرحيات شعرية ستظهر فيما
بعد.
أبو حيان التوحيدي رمز الفكر المقموع،
وشاهد لا يموت عن المفكرين الكبار الذين
يحالفهم سوء الحظ والبؤس والنحس، فيقدمون
لأممهم إنجازات فكرية تتحول إلى أجزاء من
نسيجها الحضاري، لكنهم يموتون ميتات
الكلاب. ولقيت حياة التوحيدي هوى صاخباً
في نفسي، لأحمله هموم ومواجع وخيبات
المبدعين المعاصرين، الذين يحترقون عطاء
وإبداعاً ويموتون ميتات الكلاب، وما
أكثرهم في هذا الوطن. فكتبت مسرحيتي
المعروفة: أبو حيان التوحيدي التي نصحت
وزارة التربية في سوريا بقراءتها. ونقلت
مشاهد منها إلى كتب النصوص الأدبية التي
تدرس في ثانويات سوريا. وكأني وبعد انقضاء
سنوات عشر على نشر هذه المسرحية، رأيت
فيها وفي حياة التوحيدي مادة درامية لم
تعالج. فعكفت مجدداً على كتابتها درامة
تلفزيونية، وقد تملكها تلفزيون دمشق وهي
الآن تخرج في سبع عشرة ساعة تلفزيونية.
وستعرض على الشاشة لكن لا أعلم متى.
ولمست في شخصية الشريف حسين بن علي شريف
مكة الذي قاد أول ثورة في تاريخ العرب
المعاصر، وأول من رفع لواء الحس القومي
مجسداً في فعل سياسي، وأول قائد تجتمع
حوله جحافل من المقاتلين العرب كافة من
مصر وبلاد الشام والحجاز ونجد واليمن
والعراق والمغرب العربي مطالبة بالإنفكاك
من ظلام العصور العثمانية. وإن تحالفت قوى
الاستعمار العالمي على تلك الثورة
العظيمة. وحاصرتها حصاراً صلباً فقلصت
حجمها وأنهت امتداداتها القومية لتحصرها
في منطقتي الحجاز وبعض بلاد الشام.
فالحسين بن علي رمز للقيادة المقموعة
والتوهج السياسي المقهور. وعشت زمناً بين
المصادر لأكتب مسرحيتي الشعرية الطويلة
ذات النفس الملحمي: الشجرة التي أورقت
سيوفاً. وبعد أن ظهرت هذه الدرامة الشعرية
الطويلة التي تنحو منحى السرد الملحمي كما
قلت، رأيتها من الكثافة الفكرية
والتاريخية في موقع إشكالي قد لا يستطيع
فهمه إلا المشبعون بالقراءة الشعرية.
فلجأت إلى صياغة أحداثها مجدداً في درامة
تلفزيونية طويلة جداً تتجاوز الخمسين
حلقة. تحت اسم: العربي والذئاب السبعة.
ومسرحيتي: عرس الشام تفجرت أحداثها من
خلال الصراع التركي الأوروبي على استعمار
بلاد الشام وتصوير درامي شعري للبطولة
الأسطورية التي حققها يوسف العظمة. على
أني عدت فيما بعد إلى معالجة حياة يوسف
العظمة الشهيد العظيم في ملحمتي: ميسلون
التي رفعت الأيام الأخيرة من حياة يوسف
العظمة على مستوى الأساطير وأظنني تمكنت
من أسطرة الحدث العادي ليصبح مؤبداً.
ولشدة التقارب الحضاري عبر أحقاب طويلة
من التاريخ بين العرب وبين الفرس. وخاصة في
الفترة التي ما كان يستطيع التمييز بين
العرب والفرس من أسماء العلماء والمفكرين
فيها. وازدحمت أسواق العلم والفكر والفن
بأسماء: الشيرازي. والأصفهاني. والطبري.
والنيسابوري، والبلخي، والطوسي، وغيرها.
مع أن طائفة كبيرة من أصحاب هذه الأسماء
تنحدر من أصول عربية أصيلة. والمثل الأوضح

هو أبو الفرج الأصفهاني الذي يتحدر من بني
أمية مثلاً.
أمام هذا التفاعل رأيت في حياة الشاعر
الفارسي الكبير أبي القاسم الفردوسي،
نموذجاً للشاعر المقموع الخائب المحاصر،
الذي أصيب بخيبة الأمل القاتلة بعد أن قدم
الشاهنامة إلى السلطان محمود الغزنوي.
وكاد يعقد أعرض الآمال، ويرسم أجمل
الأحلام لهذا اللقاء بين رجل السياسة وبين
رجل الشعر. ومات! قهراً وكمداً.
من هذه الحادثة المأساوية كتبت مسرحيتي
الشعرية التي أسميتها: الأيام السبعة
الطوال في حياة أبي القاسم الفردوسي والتي
نشرت في بيروت. وقد عتب علي بعض الأحبة منها
ومن نفس الموقف القومي الذي أنميه عبر ثلث
قرن من الكتابة والاحتراق، لأن الفردوسي
غربل اللغة الفارسية في إنجازه الضخم:
الشاهنامة. وأفرغها من الألفاظ العربية.
لكن موقف الفردوسي هذا عبث به العابثون،
وحولوه إلى موقف عدائي من العرب. ولم أجد
أثراً لهذا الموقف العدائي. لا في
الشاهنامة ولا في سلوك الفردوسي. ويكفي
أنه أنهى الشاهنامة بلحظة الفتح العربي
الإسلامي لبلاد فارس. في حياة الخليفة
العظيم عمر بن الخطاب. وقد حاول بعض
اللاحقين من الحاقدين على التاريخ العربي
أن يشوهوا وجه الفردوسي وينقلوه إلى العرب
بصورة عدو مبين. وقد أضأت هذا الجانب بهذه
المقدمة النثرية التي كتبتها لمسرحية
الأيام السبعة الطوال في حياة أبي القاسم
الفردوسي:
ـ 1 ـ
منذ القدم ظهرت حالة إخراج العظماء من
مجال التأريخ إلى رحاب الأساطير،
وإدخالهم في عوالم الخرافات وما ليس
معقولاً ليتحولوا إلى حكايا تملأ ذاكرة
الشعوب في أوقات الشدة، والحاجة إلى متنفس
يكون ترجمة لأحلامهم.
والمثقفون العرب مزودون بحكايا نسجها
الخيال الشعبي حول عشرات من الفرسان
والشعراء والأولياء والملوك والخلفاء.
بعد أن أخرجهم هذا الخيال من صرامة
التوثيق التاريخي، ليهبهم إلى لا نهاية
الخيال، ويعلقهم على أفلاك تشع بالخير
والبهاء، ليعيشوا بعد الموت بصورة أكثر
رسوخاً وأبعد إشراقاً في ضمير الأمة
وذاكرتها.
نذكر من هؤلاء: سيف بن ذي يزن.عنترة بن
شداد العبسي. حاتم الطائي. هارون الرشيد.
الحسن بن هانئ. ومن قبل هؤلاء أو بعضهم: عدي
بن ربيعة المعروف بأبي زيد المهلهل. وطائفة
اختارها الخيال الجماهيري تحول أفرادها
إلى رموز للكرم والحكمة والشجاعة والفداء.
فلماذا تتسمّر ذاكرة الشعب أمام أفراد
معينين؟ ببساطة نقول هو الحَظُّ وَيُمْنُ
الطالع، والأهم هو وجود طاقة خارقة في
حيوات أولئك الناس يكتشفها الخيال الشعبي
البريء، فينسج من حولها مآزر الخيال،
فينتقل أفرادها إلى سعة الحكاية دون أن
تفقد مواقعها في أحداث التاريخ.
ـ 2 ـ
أبو القاسم الفردوسي: الشاعر الملحمي
العملاق، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس،
وترك لقراء الفارسيةـ مع فارق النوع ـ ما
ترك المتنبي لقراء العربية، واحد من هؤلاء
الكبار الذين تحلقت من حولهم ذاكرة الشعب
الإيراني، ونسجت لـه هودجاً من نفيس
الحكايا.. تكاد تقارب الأساطير، فأخرجته
من صرامة التاريخ المدون والموثق،
وأطلقته في سماوات الخيال، ناسية مع فرحها
به وغبطتها بعظمته الكثير أو الأكثر من
الكثير مما سيفرح المقبلين من بعده لو
عرفوه.
فالفردوسي كتب واحدة من الملاحم الكونية
الكبرى، شغلت نقاد ومؤرخي الأدب الفارسي
على امتداد تسعة قرون. وهو الذي ارتبط اسمه
بالشاهنامة، والتي شغلت المستشرقين ونقاد
الأدب العالمي: دراسة ومقارنة وتوثيقاً
وترجمة كما شغلت الإيرانيين أنفسهم، حتى
بلغ الفرح والجنوح ببعض النقاد
الإيرانيين حداً اعتبروا الشاهنامة: قرآن
العجم.
لكن من هو أبو القاسم الفردوسي؟
أين ولد؟ كيف عاش؟ أين دفن؟ ما هو اسمه؟
ومن هي أسرته؟ لماذا لقب الفردوسي؟ لماذا
هرب من وجه السلطان السياسي؟
كل هذه الأسئلة أو التساؤلات ما زالت
معلقة في سقف التاريخ تسأل من يجيب عليها.
لنطرح سؤالاً جديداً يضاف إليها، وكلها
تصب في منهل تعظيم هذا الشاعر الملحمي
الكبير. سؤالنا: هل نسي التاريخ أبجديات
التعريف بالشاعر الفردوسي؟ ليظل لغزاً أو
طلمساً تزيد قيمته بمقدار جهل الآخرين
بحياته؟ ربما ولا يستطيع تمثاله الأبيض
الناصع والشاهق في إحدى ساحات مدينة طهران
أن يجيبك عن شيء، إلا بمقدار ما تجيبك خيوط
الماء المتفجرة من قلب الحشائش والأزهار
الملتفة حول قاعدة تمثاله الجميل.
ـ 3 ـ
يقول التاريخ: ولد أبو القاسم الفردوسي

حوالي عام 323 للهجرة وتوفي حوالي العام 414.
وإن كنيته أبو القاسم ويضيف تعريفاً آخر
هو: كانت لـه بنت واحدة. هكذا ويتركها بلا
اسم.
هذا هو كل التوثيق المرفق بحياة أكبر
شعراء اللغة الفارسية على امتداد
تاريخها، ليدخل كل ما تعلق بشخصه في
الغموض بدءاً من اسمه وانتهاءً بوفاته،
وما بينهما من أحداث.
أيكون الفردوسي قد عاش حياة مجهولة
بائسة؟ وأن معاصريه الرواة والنقاد
والمؤرخين، قد تجاهلوه وجحدوا قيمته
وتنكروا لعظمته؟ وبلغ تجاهلهم حدود نسيان
اسمه؟ ونسيان أفراد عائلته، ونسيان قبره،
ومن قبل نسيان ترحله ومراحل كتابته
الشاهنامة؟ وأن عظمته بدأت تترسخ من بعد
موته؟ ليس غريباً كل هذا. وأنا أؤيده
بالمقارنة. فأبو حيان التوحيدي واحد من
هؤلاء الكبار. الذين جهلهم معاصروهم،
وبدأوا يكبرون وهم رمم بالية.
وإذا عرفنا أن الشاهنامة عمل أكبر من
عصرها، وإبداع سابق للزمن الذي توالد فيه،
لا نستغرب أن يكون أبو القاسم الفردوسي
مجهولاً في حياته، ولو عُرف حقاً كما
يُعرف أي إنسان مرموق، كيف ينسى اسمهُ،
وينسى مكان ولادته، وتنسى رحلاته.؟
فلا يعرف أحد ـ إلا ظناً وتخميناً ـ لماذا
دُعي بالفردوسي. وما هو الاسم الذي ناداه
به أبواه: الحسن. أم أحمد، أم منصور. وفي
بقعة من مدينة طوس (مشهد) الآن في شمالي
شرقي إيران. أم حولها بعدت أم قربت كان
ميلاده. هكذا شاءت ظروف الفردوسي، أن تكون
حياته لغزاً محيراً، يفسره الآتون من بعده
كل وفق هواه وبما يتلاءم مع محبته له..
ـ 4 ـ
ارتبط اسم الفردوسي باسم السلطان محمود
الغزنوي، الذي يجيء الثالث في سلالة
الغزنويين الذين حكموا أفغانستان وخراسان
والبنجاب قرناً ونصف القرن من الزمان.
واتخذوا من غزنين أو غزنة حاضرة
لملكهم.وحكم السلطان محمود صاحب الفردوسي
ثلاثة وثلاثين عاماً امتدت من عام388 إلى
عام 421 للهجرة.
وعلى رغم ارتباط الفردوسي وشاهنامته
بالسلطان محمودالغزنوي وعرشه، لم يخل هذا
الارتباط من الغموض والحيرة، اللذين
حوّلا تلك العلاقة إلى متاهة يلعب بها
الخيال حتى يتعب. فقد جاء في الورقات
الأخيرة من الملحمة الخالدة، وعلى لسان
شاعرها الكبير الفردوسي: (وكم تعب تحملت،
وكم غصص تجرعت، حتى تسنى لي نظم هذا الكتاب
في مدة ثلاثين سنة، كان آخرها سنة أربع
وثمانين وثلاثمائة). أي إن الفردوسي أنهى
كتابة ملحمته قبل وصول محمود الغزنوي إلى
العرش بأربع سنوات.
ولأن الحكاية تتجاوز سطور التاريخ، وتفلت
من صرامته، يأبى القادمون من بعد الفردوسي
إلا أن يزينوا ارتباطه بالسلطان محمود
بأكثر من حكاية. منها: إن محمود الغزنوي
أفرد للفردوسي جناحاً في قصره.ومنها: إن
الفردوسي قدم الشاهنامة للسلطان بعد أن
وصل إلى العرش، وكان قد كتبها قبل ذلك. وإن
خلافاً مذهبياً فرق بين الشاعر والسلطان،
جعل الشاعر يهرب من وجه السلطان إلى
طبرستان في رواية، وإلى بغداد مستجيراً
بالخليفة العباسي من غضب محمود في رواية
أخرى…
ومنها : إن السلطان استخف بالشاعر
وبملحمته، ووهبه صلة سخيفة كسرت أحلام
الشاعر، وكان يمني نفسه بصلة تصل إلى ستين
ألف دينار أي عدد أبيات الشاهنامة..
ومنها: إن السلطان ندم على استخفافه
بالفردوسي فبعث إليه وهو في مدينته طوس
بمكافأة هائلة حملت على اثني عشر بعيراً.
لكن المكافأة وصلت إلى طوس لحظة كانت
جنازة الفردوسي تغادر المدينة. وأن ابنة
الشاعر الوحيدة ـ ولا اسم لهاـ رفضت هدية
السلطان، فأمر أن يبنى رباط بمالها.
ومنها: إن الفردوسي كان يطمح بمنصب سياسي
بعد أن قدم الشاهنامة إلى السلطان، لكن
السلطان قتل طموح الفردوسي وفجعه في حلمه.
ومن بين هؤلاء من يرى إن الفردوسي كان
رجلاً غنياً موسراً يمتلك ضياعاً يستغلها.
وهي ذات الجنى المتواصل من النخيل
والأعناب والرمان. وإن سعة يده هيأت لـه
الراحة والاستقرار ليكتب أعظم ملحمة في
تاريخ الفرس، وواحدة من أعظم ملاحم
الدنيا.
فهل كان الفردوسي الغني محتاجاً إلى
مكافأة السلطان؟ وإنه عندما استخف به
السلطان هرب من وجهه وهجاه؟..
أليست تلك الأقاصيص والحكايا، مما أسهم
بعظمة الفردوسي وساهم في خلوده بعد أن
خلدته ملحمته الكبرى..
كل شيء من حوله مثير. وكل ما روي ليملأ
الفراغ الذي خَلَّفَهُ معاصروه مثير…
ـ 5 ـ
وبعد أن وقفت أمام هذه المتشابكات. التي
تكونت كلها بعد موت الفردوسي بزمن بعيد،
تفجرت بين يدي هذه التراجيديا التي

أسميتها (الأيام السبعة الطوال في حياة
أبي القاسم الفردوسي).
وإذا جنحت في بعض الدلالات الفكرية عن صحة
التوثيق التاريخي، لأحول آخر الأيام في
حياة هذا الشاعر العظيم إلى تراجيديا،
فعذري أنني أمضيت ردحا من الزمن في شرنقة
الحكايا الطريفة والمؤثرة التي أحاطت
الفردوسي بظلالها حيناً وبأضوائها حيناً
آخر..
وأظنني مسهماً بتواضع جم، في إغناء
أسطورة الفردوسي الكبرى وإثرائها. هذا
الشاعر العظيم الذي رسخ أصول لغته وأضاف
الكثير إلى قواميسها،وغربلها من أي لفظ
عربي لا كرهاً باللغة العربية كما تصور
الآخرون، بل تعميقاً لخطوط هويته،
وتوضيحاً لصورة أمته وليس ذلك مكروهاً
مادام لا يعني عداء الآخرين، ولا يعزل
قومه عن الإنسانية..
وغموض حياة الفردوسي، وغياب أسماء بعض
ممن أحاطوا به، حالة سمحت لي بوضع أسماء،
وتخيل أحداث، ورسم مشاهد أسهمت كلها في
إغناء هذه التراجيديا فنياً ودرامياً..
ـ 6 ـ
قبل الوصول إلى أحداث التراجيديا، أجد في
نفسي توقاً لتوضيح حالة غامضة أراد لفيف
من الدارسين خلخلتها لتفسيرها وفق الهوى
الشخصي أو الشعوبي. هي: كره الفردوسي
للعرب. وأنه نقّى لغة الشاهنامة من
الألفاظ العربية لأنه شعوبي.ويكن للعرب
العداوة والبغضاء. هل هذا صحيح؟. سنرى..
أعظم ملوك الشاهنامة وأقربهم إلى الكمال،
بل وألصقهم بآفاق الأساطير، وقد أخرجه
الفردوسي من سطور التاريخ إلى عجائبية
التفرد الأسطوري هو (بهرام) الذي تحدر منه
كسرى أنو شروان العادل، جعله الفردوسي
عربياً باللبن الذي رضعه من أربع سيدات من
اليمن، وجعله عربياً بتربيته وبثقافته
يوم أرسله ينمو ويترعرع في الحيرة بين يدي
الملك العربي المنذر بن النعمان وابنه.
وجعله عربياً بثقافته ولغته وخطه يوم أبدع
لـه طائفة من المربين والمعلمين من عرب
الشآم، وجعله عربياً بجرأته وفروسيته يوم
هيأ لـه مجموعة من الفرسان العرب يعلمونه
ركوب الخيل، والرمي بالسهام، وتوجيه
الرمح والسيف.
إذا كان الفردوسي يكن بغضاً للعرب، لماذا
أبدع لأعظم ملوك الشاهنامة هذا الأساس
العربي، ثم صنع من هذا الملك العظيم
بهرام، أنموذجاً للعدل والعلم والحكمة
والشجاعة وحب الآخرين؟..
بيد أن طائفة من الشعوبيين الحاقدين على
العرب، وظفوا بعض شرائح الشاهنامة لصالح
العداء الفارسي للعرب. وأنا أعتقد جازماً
أنهم قهروا الفردوسي بتحميله ما لا يريد
وما لا يحب. فأسندوا (سيرة فيروز شاه)، ذات
المجلدات الأربعة إلى الشاهنامة، ليجيء
من بعدهم آخرون، فيقولون إن سيرة فيروز
شاه، تكملة نثرية للشاهنامة وهي مقتبسة
منها، أو هي تفسير موسع لها..
كما لا نشك بأن طائفة من النقاد ذوي
النزعات العنصرية والشوفينية، فسروا جانب
من الشاهنامة كما يحلو لهم، فدسوا
كراهيتهم للعرب، وحقدهم عليهم، ونقمتهم
العرقية الفجة في دراساتهم للشاهنامة،
وألقوها على ظهر الشاعر العالمي الكبير
أبي القاسم الفردوسي.
ـ 7 ـ
قبل كتابة هذه التراجيديا، كنت قد عدت إلى
العيش في مناخ الشاهنامة ونكهة الفردوسي
من داخله ومن حوله.
وسأشير إلى بعض هذه المكونات التاريخية
والأدبية التي أغنيت بها رؤياي
التراجيدية، وتزودت من خلالها بالخلفية
الفكرية، وهي موجودة في مكتبتي. لعل أهمها
على الإطلاق، الشاهنامة ذاتها والتي
ترجمها أبو الفتح البنداري في القرن
السابع الهجري، ونشرها بعد مراجعة أ صلها
الفارسي، المرحوم الدكتور عبد الوهاب
عزام، مع دراسة جليلة جميلة توجها بها
وكان المرحوم عزام يمتلك ناصية اللغة
الفارسية امتلاكه ناصية اللغة العربية..
ومنها: فنون الشعر الفارسي، الكتاب
النقدي المكتوب بلغة أكاديمية رصينة
لسيدة تخصصت بالأدب الفارسي وتدريسه
بلغته في جامعة عين شمس وهي الدكتورة
إسعاد عبد الهادي قنديل. ومنها: القصة في
الأدب الفارسي للدكتور أمين بدوي. و: تاريخ
الأدب في إيران من الفردوسي إلى السعدي
الذي كتبه الدكتور إدوارد براون الشديد
الإعجاب بالفردوسي والمخصص بالآداب
الشرقية ولغاتها. والذي نقله إلى العربية
الدكتور إبراهيم الشواربي. ومنها، كتاب:
دراسات في الأدب الإسلامي، الكتاب المتزن
الجميل الذي وضعه الأستاذ محمد خلف الله
أحمد. ومن المصادر الهامة: قصة الأدب في
العالم، الجزء المتعلق بالأدب الفارسي
والذي ترجمه وألفه العالمان: أحمد أمين،
والدكتور زكي نجيب محمود..
ومن مصادري كذلك: مثنوي جلال الدين الرومي
الذي قربني من مناخ الملحمة الفارسية،

والذي ترجمه ودرسه باستفاضة ووعي وقدم لـه
بكثير من الموضوعية في مجلدين ضخمين،
المتخصص باللغة الفارسية الدكتور عبد
السلام كفافي..
وكذلك: منطق الطير، لفريد الدين العطار.
الذي ترجمه متخصص آخر بالأدب الفارسي
ولغته هو الدكتور بديع محمد جمعة الذي
افتن في الجمع والاستقصاء والتحليل، قبل
ترجمة النص. وديوان العشق لحافظ الشيرازي
الذي احتلت ترجمته جزءاً من الكتاب الهام
الذي وضعه الدكتور صلاح الصاوي ونشره في
طهران. وترجع أهمية هذا الكتاب إلى ضلوع
مؤلفه باللغتين، وقدرته على تحليل
خصائصهما..
يضاف هذا إلى دراستين من أهم الدراسات
التي قرأتها في مجال الشاهنامة ولغتها
وفنيتها وتاريخها. وقد عثرت عليهما
منشورتين في مجال عالم الفكر في العدد
الأول من المجلد السادس عشر والمخصص
لدراسة الملاحم في العالم.
أولاهما: بعنوان: شاهنامة الفردوسي
للمتخصص في الأدب الفارسي الدكتور كمال
الدين حلمي..
وثانيتهما: بعنوان: سيرة فيروز شاه
وعلاقتها بالشاهنامة للأستاذ محمد رجب
النجار، وهو من المتخصصين بالأدب
الفارسي، والأدب العربي على السواء.. ^(^^).
****
يتردد أمامي سؤال في كل وسيلة توصيل
أقابلها. في التلفزة في الصحف: هل يصلح
المسرح الشعري لهذا العصر؟ أقول إن حالة
المسرح في الوطن العربي تختلف عنها في
العالم الغربي الذي تجتمع لديه عصور من
المسرح بدءاً من كتاب اليونان الأقدمين،
وانتهاء بكتاب الصرعات اللامعقولة، والتي
نشاهدها ونقرأ عنها في أوروبا وأمريكا.
نحن في هذا الزمن.لا نمتلك هذه الذخيرة
الزمنية من المسرح. والمسرح عندنا لا
يتجاوز قرناً ونصف القرن منذ بداياته التي
جاءت تقليداً ساذجاً للمسرح الأوروبي
أولاً.
وما زالت الصرخات النقدية تتوالى منذ نصف
قرن تقريباً عن إيجاد مسح عربي لـه
خصوصيته التي لا تعزلـه عن العالم لكنها
تحتفظ لـه ببصمة وهوية. ويظل هذا النداء
كدعوة جميلة مشروعاً وضرورة حتى لا يتحول
الفعل المسرحي العربي إلى جهد مبتلع ضائع
في زحام التقليد والتكرار.
من هذه الدعوة بالذات أرى في المسرح
الشعري الخطوة الصحيحة نحو مسرح عربي لـه
بصمته وهويته. فالعربي الإنسان شاعر
بطبعه. بتكوينه، بتاريخه، بحضارته. ويظل
الشعر أقرب إلى قلبه ونفسه من أي فن آخر.
هذا من جانب. أما الجانب الآخر الأهم فهو
قدرة الشعرية العربية على التأثير
بصاحبها. مما يبعده عن الانزلاق الخطير
الذي يواجهه المسرح العربي اليوم. مما
يشكل حالة التفرد وخطوط الهوية. وأظن ظن
اليقين أن حالة التناصّ والتأثُّر وما
يسمى بالإعداد لم تظهر إلا في المسرح
النثري الجاد والهابط والهازل.
عن المسرَح الشعري
-1-
بعد مرور أكثر من خمسة وعشرين قرناً على
مسيرة المسرح الغربي -الإغريقي ثم
الروماني ثم الأوربي، تململ المبدعون
هناك. وسئموا من قيود النظم ورتابة
الإيقاع وتكلف اللفظ وضجيج الأسلوب.
وفكروا في الجديد، وقد لا يكون كل جديد
جيداً بالطبع لكنها في الإنسان سنة. أول ما
ظنوه التجريب، فرشوا النثر في الحوار
إيماناً بالخلاص. أو هكذا اعتقدوا. لكن
[هنريك إبسن] لم يقنع بما يسمع ولم تستهوه
خطوة في التجريب كانت بين بين. فانتقل من
الضد إلى الضد "والضد يظهر حسنه الضد" وقفز
من شط إلى شط دون مسير في الوسط.
كان إبسن قد أبدع اثنتي عشرة مسرحية شعرية
وضعته في مصاف القمم. ليقول كلمة ظنها
الفصل، وأنه سيقلع عن نظم الشعر، فقوالبه
أضيق من الهموم وأوزانه أقصر من
الاهتمامات، وأن الأسلوب الإتباعي في
المسرح الشعري الذي عرفه إبسن بعيد عن
مشاكل إنسان عصره. وتلك لعمري أبشع عيوب
الإبداع. وقد صدق وعده. وقدم فيما بعد سبع
عشرة مسرحية نثرية بصمت لـه هيئته، ولون
موهبته في تراث المسرح العالمي. واختتم
آخر مسرحياته على آخر ورقة تطوى، في كتاب
القرن التاسع عشر.
وزحف النثر إلى المسرح، مع زحف القرن
العشرين، جارفاً معه أنماط فكر، وتيارات
إحساس، وبذور مذاهب، وأخلاطاً شتى. حتى
ليظن الناس آنذاك أن المسرح طلَّق الشعر
وإلى الأبد.
لكن هل هذا صحيح؟ وهل بمقدور الإنسان أن
يزيح طبعه عن طبعه، ويبعد ذاته عن ذاته؟
الشعر يقول: لا. والشعر موجود في الإنسان
كدمه جوهراً، وكشرايينه امتداداً. أليس
الشعر حلماً وتخيلاً وعاطفة وصوراً،
واستشفافاً، وبحثاً عن الجمل مما سوف
يأتي؟

أو يخلو الإنسان عبر العصور، وعبر تزاحم
الألوان وتشابك أو انسياب المعتقدات من
تلك الخصائص؟ الحلم، التخيل، العاطفة،
التصور، استشفاف الجميل مما سوف يأتي؟ فيم
المكابرة إذن ما دام الشعر فينا، إن هربنا
منه يظل هارباً في العمق من تكويننا.
إليوت الكبير الذي غير وبدل في مسيرة
الشعر الإنكليزي، وهز بساتين الرؤى في
وطنه، لتصل فيما بعد حركة الهزات إلينا
وإلى بعض شعرائنا المعاصرين، كما وصلت إلى
العالم، كان يهزأ من الذين بسطوا أمور
الإبداع المسرحي وهو قريب منهم. فطرحوها
على المسرح نثرا. وقدم اثنتين عملاقتين
بداية لتجديد ألق المسرح الشعري. كان يقول
إن الشعر لغة المسرح، لا لأنه هكذا ابتدأ.
بل لأن الشعر ينظم عمق الإنسان بما في ذلك
العمق من نبل وبراءة وحب وتطلع وسلام. وقد
شاركه في الرأي [لوركا القتيل] الذي ما قدر
لـه أن يتم ما بدأ. ومع ذلك قدم مسرحاً
شعرياً يحمل نكهة إسبانيا الأرض والإنسان
والتاريخ وجمال الأنوثة فيها. وعرف العالم
كله لوركا. من خلال إبداعه الشعري
والمسرحي.
إثنان هما. من قلة من معارضين، نظموا
الوجود في قلب الضجيج، لتظهر في الغرب
ردات فعل مؤرقة، وكان المعنيون منشقين مع
المسرح الشعري وضده. بعضهم اعتبر التيار
النثري تبسيطاً للمسرح، جَرّ الكثير من
كُتَّابه إلى التسطيح، وإخراج الفن من
فنيته، تحت عدد من الدعاوى، الطبيعية
والواقعية، وأن هذا اللون من الإبداع
النثري -حسب رأي مؤيديه- أكثر التصاقاً
بإنسان عصره، وأكثر جرأة على اقتحام أعماق
معاصريه، والحديث عن الظاهر والخفي من
الحزن والفرح والتطلع. وهو بهذا المعنى
أكثر صدقاً وواقعية من المسرح الشعري.
لكنه انتقال بلا تدريج وقفز من ضفة إلى
ضفة، لتضيع في الوسط وبين الضفتين
الجماليات الباعثة اللذة الأسمى، والتي
بدونها لا ضرورة للفن، إن كانت هناك ضرورة
للكتابة. واللذة السامية هي ملجأ الإنسان
في زمن الصخب والفوضى والضجيج.
وبعضهم. كتب أن نثرية المسرح أوقعت كتابه
في حمأة الثرثرة اللفظية. بعد أن تخلصوا من
قيود الشعر. فلا يكون -والحالة هذه- خلاص
بالانتقالَ إلى مصيبة من مصيبة.
وبعضهم. كتب أن اللغة في المسرح، جزء من
أجزاء. وعليها أن تتعامل مع تلك الأجزاء
اندماجاً. بمعنى أن لا قيمة للتعبير
اللغوي شعراً كان أم نثراً إن لم تستكمل
العملية المسرحية أشراطها. وهؤلاء
تهاونوا في فهم دور اللغة. من حيث اعتبروها
وسيطاً كسائر المؤثرات من موسيقى وزيان،
وإشارات ولحظات صمت. ونسوا أن ما تحمله
الكلمة بدلالاتها التاريخية والمعاصرة؛
لا تسمح لأي مؤثر أو وسيط، أن يَحُلَّ
مكانها ويعطي ما تعطيه من جزم وتحديد. ولا
يستطيع أي وسيط غير الكلمة أن يوازيها في
الفترة على نقل معنى أو دلالة.
وفي زخم هذه الحركة، التي حملت متاعب
القرن العشرين، غاب عن الأذهان أن الشعر
منبث في نسيج النثر المسرحي، حتى لدى
حاملي لواء معارضة الشعر نفسه.
فالذين عالجوا الأساطير استلهاماً، أو
أعادوا صياغاتها المسرحية بعد الإغريق،
كانوا يتحركون في مناخ الشعر وتكوينه.
والذين أسقطوا متاعبهم على المطلات
الخرافية، والحكايات الشعبية، كانوا
يسيرون تحت أهداب الشعر. والذين حولوا
الخرافة إلى مسرح كانوا يبدأون السير من
مقالع الشعر. والذين حركوا الأحلام،
وجسدوا نأمات الإحساس وزهر العاطفة،
كانوا يغوصون في لجة الشعر، بحثاً عن
المسرح، وهم لا يشعرون.
صحيح، أن الأسطورة، والخرافة، والحلم،
والصورة الذهنية، تكوينات شعرية، وظلت في
المسرح تكوينات شعرية، لكنها ليست شعراً
بمعيار النقد.. ولكن المسرح الغربي كله،
عبر أساطينه المجدين والمتفردين، لم
يستطع أن يفلت نهائياً من قبضة الشعر، فهل
مَرَّ على سجلات المسرح الغربي علم من
أعلامه، من غير أن يتناول واحدة من
ميثولوجيا الإغريق، أو ميثولوجيا أمته،
ويعالجها في عمل مسرحي؟ ألم أقل، أن الشعر
في الإنسان جوهر في دمه، وامتداد في
شرايينه؟
وغداً. عندما ينطفئ لهيب الحرائق، وتخمد
جيوش الغبار، وتهدأ نفوس فائرة. لا نعرف
ماذا يحدث، فقد يعود كتاب المسرح من جديد
إلى الاعتراف بمشروعية الشعر، كلغة
مثالية للحوار، بعد أن بلعت الفوضى كل
شيء، ونصبت الآلة من نفسها على الكائنات
إلَهاً. ولكنه شعر سهل سمح منفلت من القيود
الصارمة، ومنطلق من سلاسل التكلف والضجيج.
ليتحول الشعر والمسرح الشعري من جديد، إلى
معادلة تنظم ما بعثرته العواصف، وتعمر ما
دمرته الحروب، وما طحنته دواليب الآلات.
وتسقي الغرس الذي نبت بعد الحرائق، وتعيد
إلى الإنسان صلته بالآخرين. بعد أن تقطعت
حبال التواصل كافة بين الفرد والآخر. وبين

المرء وذاته. فالشعر هو تلك اللغة،
الحاملة براءة الإنسان ونبله.
هذا عن المسرح في الغرب. أما عندنا!
-2-
في أوائل هذا القرن. وعندما انتهى المسرح
الشعري في الغرب، عبر شكله الإبداعي الذي
نفر الأوربيون منه. بدأنا نحن تأسيس هذا
المسرح وتجاريب أكلها الزمن ونسيها
التاريخ. ونهض عدد من كتاب وشعراء الشام
لكتابة المسرح الشعري العربي من آل
البستاني وآل اليازجي وآل الحداد وخلَّف
شوقي عدداً من المسرحيات الشعرية يلجأ
إليها الدارسون كبداية منظمة. واكبه وتبعه
شاعر آخر هو عزيز أباظة الذي كتب عدداً
أكبر، ليأتي جيل آخر يفيد من الثغرات
السابقة والأخطاء السالفة وهنا سأقف.
هم قلة. أسماء ومنجزات، ربما لا يصل عدد
النصوص التي كتبوها بعد شوقي وأباظة إلى
الثلاثين نصاً، على أرض هذا الوطن، وعبر
ما يقارب نصف القرن من الزمان. بعضها اتخذ
مسرح شوقي مصباحاً يستضيء به لا يحيد،
وبعضها الآخر أفاد من تفجير القصيدة
واستخدام ما استخدمته القصيدة الحديثة
شكلاً، من طريقة الأداء، واستخدام اللغة
وكثافة الصور، وهدوء الإيقاع، والانفلات
من صرامة القيد، والابتعاد عن اللغة
الصاخبة، والخطابية المملة سأذكر لك
اثنين لا غير، استشهاداً لا حصراً، هما
صلاح عبد الصبور ومعين بسيسو. وتقرأ أو ترى
ما أبدعه كلاهما. فتحس بأنهما قد ابتعدا عن
الثقيل الممل من العبارة، والوزن
والبلاغة. وعمداً إلى تكثيف العبارة دون
تعتيم، وطرح الدلالة وراء الشفاف الآسر من
مآزر الشعر ورقيق الخيال. حتى لتحسب أن هذا
النسق من الشعر الذي اعتمدته القصيدة
الحديثة -وهي في أفضل حالاتها- قد خلق من
أجل المسرح ليس من أجل شحنة شعرية قصيرة
تطول لتصبح مركبة.
ولست أزعم أن اعتماد هذا النسق من الشعر
قد جاء للمسرح قانوناً لا يتبدل، حتى لا
يصبح المتحول ثابتاً في دوحة الفن، والفن
متحرك رجراج لا يعرف السكينة والثبات.
لكنها دعوة إلى نسق أظنه مسرحياً يحمل حجم
المرحلة.
وإذا رفض الغربيون المسرح الشعري. فليس في
مسرحنا ما يستحق أن يرفض، مازالت التجربة
في بدايتها، ومازال شعراء هذا اللون
يتنامى في زحام المدن، وإن كان شعراء
أجادوا، وآخرون احتملوا يقظة التيار
الشعري، واستبدلوا الشحنة بالتيار لإبداع
الطوال الجياد، من قصائد تبدو وكأنها تدور
على بوابات المسارح، فيها لفتات من حوار،
وفيها مسحات من قصة، وفيها جرأة الموقف
المسرحي، وبعض خصائصه.
واحد من مثقفي الجيل الماضي الكبار. هو طه
حسين الذي قال: لا. حيال المسرح الشعري.
وكان لـه منطقه، وكان لمنطقه الرافض
مشروعية القبول. فهو قرأ الاثنين السابقين
شوقي وأباظة. وفي مقدمة كتبها لإحدى
مسرحيات أباظة، قال إن هذا اللون من
المسرح قد هرب منه أهله، لثقل وقعه، وتكلف
لفظه، وضيق صدره، وصرامة قيوده، وابتعاده
عن مشاكل الناس. والنثر للمسرح أكثر
طواعية من الشعر، وأقدر على رسم الدقيق من
المشاعر. وهذا الذي قاله طه حسين صحيح كله،
لا اعتراض عليه. فهو يعارض كافة العقبات
والمعوقات التي تجنبها الجيل التالي
لشوقي. مثل صرامة القيود. وتكلف اللفظ،
وصخب الإيقاع والابتعاد عن مشاكل العصر.
لقد قلت منذ قليل، أن القصيدة الحديثة
قدَّمَتْ لشعراء المسرح، ليونة الحوار،
وسلاسة الأسلوب، وتطور اللغة، وشفافية
الصورة، وهدوء الإيقاع، وفجرت قدرة اللغة
على الوصول. ولو قدر لأستاذنا طه حسين أن
يقرأ مسرحية شعرية واحدة، مثل هذه التي
نكتبها، ما أظنه سيرفضها أو يقف ضد هذا
التيار المتجدد العطاء، وما أظنه ينادي
بملء فمه، أنه ليس كلفاً بالمسرح الذي
يعرض شعراً على الناس في هذه الأيام. لأن
معايير كبرى تغيرت، وحدوداً تجاوزت بين
مسرح شعري عرفه طه حسين، وبين هذا الذي
نكتبه. خاصة وأن طه حسين أحد الكبار الذين
فتحوا صدورهم لتيار الشعر الحديث، ولم
يعارض شعراً متحرراً من السلاسل والقيود.
والمسرح الشعري العربي المعاصر، في نصوصه
القليلة يتوكأ على التراث لإبراز زخم الهم
المعاصر، ولا يدخل الماضي، وينسى نفسه فيه
كما فعل شوقي عندما سيطرت عليه قدسية
التراث، فنسي فيه ذاته وخرج عن معادلات
عصره.
ونعرف الآن كما عرف سابقونا، أن العربي
شاعر في تعامله مع ذاته، شاعر في تعامله مع
الآخر، شاعر في تعامله مع الماضي، شاعر في
تعامله مع الكون، شاعر في تعامله مع
الزهرة والفراشة والمرأة والعصفور.
ليس العربي رافضاً للشعر، ولا عازفاً عنه
إذا دخل المسرح، والشعر في العربي قطرات
من السكينة تهدئ موج القلق، ولمحات من
الهدوء تراق على غليان الضجيج، ولفتات من
الإبصار في عماء الليل. والشعر للعربي مثل

قطرة الدواء تحت جفني العين الرمداء. فكيف
يكره المسرح الشعري إذن.
العربي يعلم أن الشعر ينظم حركة العقل،
ويلملم شاردات العواطف، ويطرِّي جفاف
اليأس، ويندي شفاه المسافرين تحت رمضاء
الموانئ، وهي كثيرة في عصرنا بين شرقي
وغربي وما ليس لـه اسم أو يضمه انتماء.
ويعلم العربي أن شعره -وهو قلب لغته ونقاء
براءته ومعيار ديمومة لسانه -هو أداة
الاهتداء، وضابط الاتجاه في عصر ترى الناس
فيه سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب التيه
لشديد.
ليست دعوة لإلغاء تيار النثر، ونمو تيار
الشعر. بل هي دعوة انضمام تيار إلى تيار.
فيكونُ لنا مجذافان بدل الواحد في لجي
البحار. وسفينتنا العربية تئن تحت سواعد
الرَّبابين وما أكثرهم. والقراصنة في
البحر كثر حتى تخمة البحر. ولو استطاعوا
شرب الأطلسي لفعلوا. لتتكسر سفينتنا ونمسي
لا شيء في الشعوب.
-3-
للنثر مسرحه، أو للمسرح نثره لا اعتراض.
وما أحلى أن نبصر ذواتنا وما تخفي الصدور،
والموجع من نازف الجراح، حواراً أو حركة
على المسرح وهو السائد في التيارات
الثلاثة: الشعر -النثر- اللهجات المحلية.
أما الثالث فالعجمة يعني والشتات. والذين
أراحوا أنفسهم من قدسي الانتماء،
وانخلعوا من الجذور، واستباحوا خصوصية
شخصيتهم للغربة، وفرحوا بلعبة الفكر
الأجنبي، هؤلاء يوهمون الناس بقول عجيب
حول اللغة. فهي كما يزعمون وسيط، أو أداة،
أو وسيلة لنقل المعنى، والدلالة هي الأصل،
والوسيط مشروع أنى جاء. حتى ولو همهمة
وعجمة. وهم اعتبروا اللهجات المحلية أسهل
توصيلاً وأكثر انتشاراً. فدعوا إلى
الكتابة بها إلى جانب طائفة تستخدمها.
إنهم كذابون فلا تصدقهم. ولسان الذي
يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عرب مبين.
وإذا ألحوا في المجادلة امتحنهم. لا تقل
لهم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتوا
بها من المغرب. بل أسألهم: هل يستطيع أستاذ
جامعي في شرقي هذا الوطن وغربيه أن يشرح
لمن يتتلمذون عليه كتاباً هو ألّفه بأي
لهجة محلية سيبهت المستعجمون العرب. وتعرف
أنت؟ أن اللهجات المحلية تثير الثرثرة
وتقتل المعنى ولا تكون قط هودجاً ينقل
الفن من ذات إلى ذات.
ويعلم هؤلاء الذين تصوروا الإنقاذ من
خارج العروبة يأتيهم. أن للأمة العربية
موقعاً تصغر الصعوبات أمامه. إنها أمة
يحاصرها الطغاة من أطرافها. وهي مشقَّقةٌ
في أواسطها. على التخوم أساطيل كانت
لهولاكو خيولاً. وصارت الخيول قاذفات فبدل
هولاكو اسمه. واعتمر القبعة واستبدل
الكرباج بالمسدسين. كان خيّالاً وصار راعي
بقر أو مغازل حديد. ومن حوله رعاة أوربا
وشعوب بها تتسلح بالحقد الصَّليبيّ
الدفين -إلا أقلة اعتصمت بحبل المنطق
فوقاها الله من التزوير- يفرحهم ما نحن فيه
من الضياع. وإلى ذلك يسعون. لا تسل عن
مواطنهم إنهم في المغرب والمشرق. ولهم
الصبا والدبور. وكأن الأمة العربية بأرضها
وتاريخها ومنجزاتها وأناسيها، خطأ في
الوضع، وخطأ في الصنع، وخطأ في الوقع،
وخطأ في المسير. ويريدون لذلك خلعها من
تضاريس الخرائط، وإنهاءها من حركة الوجود
أوليست الدولة المفتعلة التي تسمى
إسرائيل طرفاً في معادلة النزع والقلع
والإنهاء؟ يرفدهم في ابتكار المدى. أناس
منا. خلعوا جلودهم، ونزعوا أحلامهم من
تراب العروبة، ليزرعوها وراء البحار.
وهيهات هيهات. أن يَخْضَرَّ عود الحلم
خارج أرض أهله. ومناخ بلده.
ستقول: أي ربط بين حصار الأمة من أطرافها،
واستخدام اللهجات المحلية في إبداعها؟
فأقول: جوهر الربط هو، ومستقر الطامّة.
كما يفرح الطغاة لكثرة ملوك الطوائف
وتعدد الأعلام والرايات. وقيام حروب
النزوعات والاتجاهات. يفرحهم أكثر أن
تنقرض لغة أهل الجنة من عدنها. وهي
المستمسك الحي الباقي للمتمسكين بجذورهم.
فقتل اللغة لتَنْمُوَ فروعها المستعجمة
والمشبوهة. أمر يسهل عليهم البلع، ويهيء
لهم وسائل القلع والطريقان يلتقيان. ألم
أقل، أن الحصار في التخوم وحصار اللغة دون
التخوم، وجهان اثنان، لمصكوكة واحدة. هي
التي تتوهج على صدر هولاكو حامل المسدسين.
إننا محاصرون. وإن في الكون لحركة ينبع
الشر من مسامات أصابيعها، ويتفجر السم من
تحت أظافيرها. تحاول إنهاء العروبة
تاريخاً. وإنهاء العرب حاضراً. وإنهاء
المستعرب من الأحلام. وتصفية اللغة
إحساساً وانتماء. وإذا تم لهذه الحركة ما
تريد. فأي قلب للفصاحة يخشع. وأي سيف للعرب
يرفع، وأي مداد يرسم مقل الحب في أهداب
القراطيس. الخطر الأقرب، تعدد الثقافات..
وهي واحدة لا تعدد فيها. ملوك الطوائف
يفرحون فرح الطغاة، أمام تمدد اللهجات
المحلية لتحصد السنبل القومي والسنون

عجاف. واللهجة المحلية تجدد لكل مختار
حاكم، عمره السياسي. وتبعده عن أقرانه
المخاتير. وعلى المدى الأبعد، يصدق أكذوبة
كان يعرف زيفها عندما نصبته الحاشية
مختاراً ملكاً حاكماً. فيصنع من نفسه
معاوية وفي كل إقليم علي. من حيث لا ثأر ولا
دم ولا قميص لعثمان. ويستمر الزرع إقليمياً
من حيث يراد لـه أن يكون قومياً ذا شمول.
فاللهجات المحلية شريكة كفؤ في ترسيخ
التقسيم. وحارس أعمى يطفئ المصابيح بين
الأقاليم. ورسول سوء يحول الثقافة إلى
ثقافات. ومطية ركبها المستعمرون الأوائل.
فنفَّروا برغائها عرباً من عرب. وها هي
اليوم تطل لتستظل في عباءات ملوك الطوائف،
ويروج لها نفر من عرب مستعجمين، تحت اسم هل
تعرف ماهو؟ إنه "الأدب الشعبي". وكأن الأدب
مثل الملابس. رسمي وشعبي وثالث عسكري.
وبذلك ألصقوا فجاجة المصطلح السياسي على
إهاب الإبداع. إلصاقاً دون تفاعل. ولو قرأت
الآن عشرين قصيدة لعشرين شاعراً يتناثرون
على الأخضر والأغبر من سهل الوطن العربي
ووعره. فإنك مستدل منها على حالتين. حالة
الرفض. رفض كل ما هو قائم وسائد كل ما هو
قائم وسائد. وحالة القلق التي تتفتح نتيجة
الانهيارات السياسية والتخلف الحضاري. أي
أنك قائل لا محالة: أن الشعراء العشرين
تقدميون في مواقفهم. يبحثون عن الجميل في
ركام القبيح. ويعرون السيئ لحث المطايا
نحو الأمل الحلو والغد الأبلج.. وهو بعيد
بعيد. لكنك لن تستطيع من خلال شعر العشرين.
أن تستدل على منابتهم الاجتماعية أو
انتماءاتهم الحزبية. بل قل إنك تتحدى. أن
يستطيع باحث معاصر، معرفة منبت الشاعر أو
انتماءه الحزبي من خلال شعره فأين إذن ما
يدّعون؟ حول رسمية الأدب وشعبيته؟ وإذا
خذلهم أولياؤهم أمام تحديك. فقل لهم بهدوء:
هناك أدب أولاً. والمواهب تزهو وتثمر في
أعماق المبدع الجيد. وقد يكون ضابطاً أو
فلاحاً. أو ثائراً. أو كادحاً. أو طبيباً.
أو راهباً. أو شيخاً. أو زنديقاً. والتاريخ
يشهد..
ألم أقل، إن دعوة يتشبث بها الحُكَّامُ
الملعونون، إنما هي دعوة ظاهرها الرحمة
وفي باطنها العذاب؟
-4-
وسمعنا قولاً يتلى عجباً. ترجمته: أن
العربي في هذا العصر مصاب بالأرق، مبتلى
بالضياع، متغرب عن كل ما يصنع ويسمع ويرى.
وقد شرب من الصخب دهاق الكؤوس. لذلك هو
يعزف عن سماع الشعر في المسرح. فاللغة
العربية غنائية في حركاتها وفي سكناتها
وفي تركيبها وفي مخارج ألفاظها. والشعر
إذن هو غناء الغناء. فما للعربي القلق
المغترب الممزق، والغناء وغناء الغناء.
نبحث نحن عن الهامس من اللغة والرشيق
السهل من الأداء.
وأصحاب هذه الدعوة وقعوا في خلطين:
أولهما: حكم على المسرح الشعري من خلال
الاتباعي من الموزون المقفى، وترديدٌ
لرافضي المسرح الاتباعي في الغرب. ولو
قرأوا ما نكتب، لانخلعوا من دبق الخلط
الأول. وثانيهما إصدار حكم جماعي من خلال
نزعة فردية ورغبة ذاتية، وهي ما نسميها
مصادرة أذواق الآخرين. وبين هذا الخلط
وذاك. خلط ثالث حول غنائية اللغة. ولم
يعرفوا إن إنسان اللغة هو الذي يحول اللغة
إلى غنائية صاخبة أو هادئة هامة. بأسلوب
استِخْدامِهِ لها.
مصر. التي تتلمذنا على أساتذتها من كافة
المبدعين. والتي قدمت أجيالاً منهم، في
النقد والمسرح والرواية. رسخت فن المسرح.
وتنوع وتلون فيها. فكان الجد وكان الهزل،
وكان المترجم والمقتبس والمسروق، في ذلك
الخضم الهائل في الأذواق والمشارب
والتنويعات. عرف الناس مسرحيات لا طعم لها
تقدم لإضحاك الناس بصورة تهريج مبتذل.
وكأنها وجدت لتأكل الزمن بلا ثمن. هناك في
ذلك المناخ -وربما المؤهل لرفض المسرح
الشعري- نجح المسرح الشعري. وكافة النصوص
المسرحية الشعرية التي كتبت في مصر أو
وصلت إليها. قدمت على مسارحها. فأطرب الناس
مطربها. وأبكاهم محزنها. وآثارهم الجاد
منها. ولم يعترض في مصر معترض على مسرح
شعري.
هنا في هذا الجزء من الشام. قدمت فرقة
المسرح العسكري إحدى مسرحياتي الشعرية
منذ سنين سبع. وما كان المسرح العسكري
محترفاً ومع ذلك شاهد عروضها ثلاثون ألفاً
من الناس ولم يقل قائل منهم: أننا في عصر
غير العصر. ونتذوق مالم يخلق لنا من
الطعوم. والذين اعترضوا تقديمها وهاجموها
اثنان لا ثالث لهما: باحث عن الرزق وظفه
الوسطاء محرراً "أدبياً" في جريدة. ولأن
الجهل كل سلاحه لجأ إلى الشتيمة. وحاقد
حاول أن يكتب شيئاً ففشل، فجلس على
الأرصفة يشتم المارة وهو عاض على نواجذه.
اثنان شتامان. وما كان المبدع الذي ينتمي
إلى أُمَّةٍ رشت طيوب النبل في شوارع
الكون أن يقيم حواراً مع الشتيمة.
وإذا لم يُرْفض المسرح الشعري عبر ما كان

فلماذا نصادر على الآتي. ونظنه سيرفض عبر
ما سوف يكون؟
الذين استخدموا مصطلح "الجمهور" مشجباً
لتعليق الخطأ والقصور. هؤلاء سينكشف زيفهم
كلما قدم مبدع مسرحية شعرية. يقولون إن
الجمهور يرفض ما لم يكن جزءاً منه. لكنهم
وهنوا في الدفاع عن دعواتهم. وأفهموا
الناس أن كلمة الجمهور تعني الجهل.
التبسيط. التسطيح. وفهموا أو أفهموا
الآخرين أن الواقعية تعني الواقع. السائد.
المألوف وما هو كائن. والمحصلة من هذا
الاجتهاد العجيب، أن يكون المسرح جزءاً من
الواقع. بخطأه. وفوضاه. وخلطه. وسقوطه. فكان
التهريج وكان أن تحول المسرح إلى شارع فمن
يصدقهم أن عربي هذا العصر يدخل إلى المسرح
ليبصر ويسمع، ما يسمعه ويبصره في البيت أو
في الطريق، أو في ورشة العمل أو في الدائرة
الوظيفية؟ أيكون الفن عبر أي معيار نقدي،
أو مصطلح فكري -نقلاً- للأحداث كما حدثت
وتحدث؟ فأي ضرورة للفن ما دام كل شيء في
المجتمع فناً. وكل ما يدور في البيت
والطرقات وعلى الأسرة فن أيضاً.
إذا كانت حجة البعض أن الإنسان يدخل إلى
المسرح، ليبصر شريحة من الحياة، بما تتأمل
وتتوجع وتفكر وتفعل. ومثل هذا الأداء لا
يحمل إلا بلغة الناس -الآنية- فنقول: إن
التأمل والتوجع والفكر وصورة العمل، تنقل
كلها عبر مقال صحفي، حتى وأن كان مشوش
الأسلوب محطم اللغة. وتنقل تلك الحالات في
الحديث العادي الذي يدور بين اثنين. وما
دام عنصر التوصيل وأداة النقل يتوفران في
المقال الصحفي والحديث العادي ونشرة
الأخبار وثرثرة العجائز: فلماذا لا تستريح
الأمم كلها من الفن شعره ونثره، موسيقاه
وألوانه. مسرحه ورقصه. وكفى الله الناس "شر"
الإبداع؟
لكن. هل صحيح أن العربي المعاصر، يدخل إلى
المسرح، ليبصر على الخشبة ما كان قد رآه
قبل دقائق؟ في الطريق مثلاً؟ من حركات
عشوائية وملابس مل رؤيتها في بيته. وحديث
نشرته الجريدة صباح اليوم نفسه. وليسمع
الألف واواً أو ياءاً. والجيم كافاً أو
شيناً. والثاء تاءاً أو سنياً. وهمهمات
ولغطاً. ومزقاً من لغات شتى. تهرأت
أطرافها، واستعجمت أوساطها وأمست عبر هذا
الخليط "لغة الناس الواقعية"؟
أرى الإجابات كلها في الطرف الآخر. أي أنا
المواطن المشاهد القارئ القلق الذي يعيش
على الأرض العربية الآن. أبحث عما لا أراه.
وأسعى وراد مالا أملكه. وأحن إلى ما أفتقد
إليه. وأتطلع إلى واقع غير هذا المألوف.
وكل ذلك لا أتمكن من لمسه إلا في الإبداع.
ويكون الإبداع آنذاك مصباح طريق. وشريكاً
في تغيير الواقع. وإن لم يتمكن الإبداع من
إيصالي إلى ما أطمح. بل إن لم يتمكن
الإبداع من حمل هذه الرؤيا. فلا ضرورة لـه.
وفي جانب المسرح، لا يمكن أن تتحقق تلك
الرؤيا إلاّ من خلال المسرح الشعري^(^^).
***
فهل يستطيع ناقد أو متتبع مثلاً أن يرشدني
إلى نقاط التآثر في مسرحي بأي مسرح عالمي؟
إضافة إلى أنني من البدء وعيت مسألة
التفرد وقضية الهوية، فجاءت صياغة
الأحداث في مسرحي فعلاً يتم في مواقع
الأحداث نفسها. وليس على خشبة المسرح. وهذا
ما حرصت على تحقيقه منذ تجربتي الأولى: دمر
عاشقاً.
أما السؤال الثاني الذي أسمعه في كل
اللقاءات تقريباً، التي تكرمني بها!
الصحافة العربية. فهو: أن كل أحداث
مسرحياتي تجري في الزمن الماضي. من خلال
كونها تتشكل أصلاً في أحناء التراث الصحيح
والموهوم. ولماذا لا أعالج الحدث الدرامي
بصيغة الآن؟
الجواب: هل أستطيع إقناع المتلقي قارئاً
كان أم مشاهداً أم الاثنين معاً. بأن العرب
المعاصرين يتحاورون بلغة الشعر؟ والعرب
المعاصرون يعيشن في عصر الفوضى الثقافية
والتعددية اللغوية والعجمة؟ إذ إنَّ
اللجوء إلى صيغة الفعل الماضي في مسرحي
الشعري هو خدعة فنية لإقناع المتلقي. لكني
لم أفكر يوماً أني أعالج أحداثاً ماضية.
حتى عندما أعالج حدثاً معاصراً وما زالت
جزئياته ساخنة في حياتنا السياسية مثل
حادثة إقامة السلام مع إسرائيل مثلاً.
فإني أوظف مشاهد خيالية لا يمكن أن تحدث
على أرض الواقع كعودة الشهداء أحياء من
قبورهم. وكقدرة المرأة على الاختفاء
والظهور متى شاءت. لأكسب العمل الدرامي
حالة الإقناع الضرورية. وأن هذا الذي يحدث
إنما حدث في الماضي. والماضي وعاء سحري
يتسع لكل شيء. هذا ما فعلته على سبيل
المثال في مسرحية: أشباح سيناء. التي
كتبتها بعد واقعة كامب ديفيد وتحويل حرب
تشرين إلى هزيمة. وكانت نصراً مؤزراً.
****
معظم مسرحياتي الشعرية تكونت في الذهن
على مراحل بعد العثور على الرؤيا الأولى.
أو الخط الدرامي الذي تنسج أحداث المسرحية
من حوله حتى النهاية. لكن خاصية القلق التي

تبلع الكاتب. تستولي علي في البدء. فتتشكل
النواة الأولى للمسرحية قصيدة تعتمد
الحوار أو السرد أو تحتمل الحس الحكائي.
ومعظم مسرحياتي الشعرية العشرين تأسست
قصائد أولاً. ثم لا تلبث القصيدة أن تنسى
لأنها ليست قادرة على احتمال أحداث الفعل
الدرامي. لتبدأ مرحلة تأسيس الدرامة.
فمسرحية: المؤتمر الأخير لملوك الطوائف
مثلاً. بدأت أولاً قصيدة اسميتها: أوراق
مبعثرة من تاريخ الأندلس. ومسرحية:
مكاشفات عائشة بنت طلحة. بدأت في قصيدة
أسميتها: أوراق من مفكرة الحجاج. ومسرحية
العرش والعذراء. بدأت قصيدة أسميتها: زوار
الفجر يعتقلون ابن المقفع. ومسرحية أشباح
سيناء. بدأت قصيدة أسميتها: مصر تستبدل
ملابسها. ومسرحية النبوءة بدأت في قصيدة
اسمها: القصيدة الأربعون. وهي التي لخصت
حكايتها في هذا المقال.
يبقى أن أوضح أن القصائد التي ذكرتها
أعمالاً شعرية مستقلة لها خصائص القصائد
الطوال. ولا يمكن أن تعثر على أثر لها أي
أثر في المسرحيات التي تكونت منها.
وما أجدني مدفوعاً للاعتزاز به كإنجاز
تحقق في مسرحي وبصورة حادة هو دور المرأة
في نسيج الأحداث الدرامية. حيث نقلت
المرأة من أدوارها الزخرفية أو التزيينية
أو الشهوانية إلى أدوار المشاركة الفاعلة
في توتر الأحداث ومشهديات الصراع. فتحولت
إلى فاعل أساس في كل أحداث مسرحياتي.
القسم الخامس: نماذج من نـتاج المحتفى به
تداعيات أمام بوابات القدس
القصيدة التي فازت بجائزة الإمام الخميني
للإبداع في دورتها الرابعة عام 2004
أرأَيْـتِ ؟
لا صَـعـبٌ ولا مُتَـعَـذِّرُ
مَـرْقـى الْخُـلودِ وأنْتِ فيهِ
الْمِـنبرُ
ما كُنْتِ في التّـاريخِ
حـادثَةً مَـضَـتْ
بَلْ أنْـتِ أزْهـى بالْبَـقـاءِ
وأجْـدرُ
طـولُ الزّمـانِ
أمـامَ قَـدِّكِ ضَـيِّقٌ
ويَـدُ الْمَـدى
عندَ امْتِـدادِكِ تَقْـصُـرُ
وأمـامَكِ الرّاياتُ تَرسُـمُ في
الْعُـلا
خَمسينَ جُـرحاً..
تُسْـتَفَـزُّ وتُنْـشَــرُ
تَـرْوي حِكـايةَ أُمّــةٍ بِطـوائـفٍ
حَرْبُ الْبَسـوسِ لَها الْمِثـالُ
الْمُبـهِرُ
ووَراءَ كَ التّاريـخُ
زَفَّــةُ مَـوْسِـمٍ
بِيَدَيْـكَ يَزْهـو وهُوَ شَيْـخٌ
مُـنْـذِرُ
لِيَكـونَ هَوْدَجَـكِ الخُلـودُ
مُبـارَكـاً
تَتَـقَـدَّمُ الأَحْـداثُ أَوْ
تَتَـأَخَّــرُ
* * * *
مَهْما طَـغى عـاتٍ ..
وزَيَّـفَ شـاهِـدٌ
لِلـزُّورِ .. واشْـتَدَّتْ يَـدٌ
تَتَـجَـبَّرُ
تَبْقَـيْ كَـدُرِّيِّ الكَواكِـبِ
طَلْعَـةً
إِشْـراقُـهُ عَـبْرَ الـمَـدى
يَتَفَـجَّرُ
فَرَدَتْ عَلَيْـكِ الْحـادِثاتُ
ظِـلالَهـا
عَبْرَ القُـرونِ ..
فَـأَنْـتِ مَنْ يَتَصَـبَّرُ
أَوَلَسْـتِ مُنْجِبَـةٌ نَبِيّـاً في
الضُّـحى
وَرَسـولُ حُـبٍّ ..
حَـوْلَ عَرْشِـكَ يَسْـهَرُ ؟
أَوَما اصْطَفـاكَ الْمُصْـطَفى
لِصَـلاتِهِ
صِلَـةَ السَّــمـاءِ
وَطَـرْفُـهُ مُتَحَـيِّرُ ؟
أَسـرى إِلَيْـكِ
وَمِنْـكِ كـانَ بُراقُـهُ
بَيْنَ السَّمـاواتِ العُـلى
يَتَـبَخْـتَرُ ؟
حتّى إذا البَيْـتُ الحَـرامُ
تَخَضَّلَـتْ
أَرْكانُـهُ بِالذِّكْـرِ وهُـوَ
مُطَـهَّـرُ
أُسْـميـتِ :
أَولـى القِبْلَـتَيْنِ
وثالِـثَ الْحَرَمَيْنِ
والسَّـبَّـاقُ مَنْ يُتَخَـيَّرُ
وإِلَيْـكِ حَـجَّ الفاتِحـونَ
لِيَبْـدَأوا
بِغَسـيلِ وَجْـهِ الكَـوْنِ
يَـوْمَ تَطَـهَّـروا
وَرَسَخْتِ في الدُّنيـا رَحـى
أَحْـداثِها
ما دامَـتِ الدُّنيـا

تُـزارُ و تُـهْجَـرُ
* * * *
مَـرَّتْ بِكِ الأَحْـداثُ وَهِيَ
صَغـيرةٌ
وَبِكِ اسْـتَوَتْ خُطْـواً
وَفيكِ تُعَـمَّـرُ
تَتَضـاءَ لُ الأَسْـرارُ دونَـكِ
كُلَّمـا
لَمَّتْ يَـداكِ الكَـوْنَ .. وهُوَ
مُبَعْـثَرُ
مُـنْـذُ البـدايَـةِ
كُنْـتِ أَوَّلَ آيَـةٍ
بَيْضـاءَ .. عانَقَها الوُجـودُ
الأَخْـضَرُ
بِنْـتُ الْخُـلودِ
وأَنْـتِ في تَقْـويمِـهِ
أُمٌّ لـه .. تَـرْعـاهُ إِذْ هُـوَ
يَخْـطُرُ
وَظَلَلْـتِ رُغْـمَ دَسـائِسِ
الْحُسّـادِ
في عَلْيـاءِ هذا الكَـوْنِ
وَدْقـاً يَقْـطُـرُ
والأَنْبِيـاءُ علـى يَدَيْـكِ
رَسـائِـلٌ
إِنْ شـابَ سَطْـرٌ ..
شَـعَّ حَـوْلَكِ أَسْـطُـرُ
سِـعَةَ الزَّمـانِ وأَنْتِ مِنْ
حُـرَّاسِـهِ
لِيَسـيرَ مُتَّـزِنـاً .. كَأَنَّـكِ
مِحْـوَرُ
* * * *
فَإِذا ابْتُـلَيْتِ بِرِجْـسِ
فاجِـرَةٍ بَغَـتْ
ويَـدٍ سَـطَـتْ
يَلْطـو بِها الْمُسْـتَكْبِرُ
هَـلْ تَنْتَهـينَ كَما أَرادَ
كِـبارُهُـمْ ؟
أَمْ توقِظـينَ الكَـوْنَ إّذْ هُوَ
مُـدْبِـرُ ؟
وَإِذْا كَبَـوْتِ ..فَهَلْ هُـنَيْهَـةُ
راقِـدٍ
تُلْغـي الـرُّؤى ؟
والصُّـبْـحُ هَلْ يَتَـأَخَّـرُ ؟
كـانَ الصَّـليبيـونَ في غَـزْواتِهـمْ
أَقـوى .. وهولاكـو أَشَـرُّ وَأَغْـدَرُ
أَكَلـوا لُحـومَ النّـائِمـينَ
وَهَدَّمـوا نُـزُلاً
ثـوى فيها التُّقـى وَالقُصَّـرُ
وَاسْتَعْجَلـوا قَتْـلَ الْمَسـيحِ
بِقَتْلِ مَنْ
خَـدَمـوهُ عبّـاديـنَ مُنْذُ
تَنَصَّـروا
ذَهَبـوا جَميعـاً واسْـتَفَقْتِ مِنَ
الأَذى
أَصْـبى مِنَ العَـذْراءِ لَيْلَـةَ
تُمْـهَـرُ
أَرَأَيْـتِ كَيْفَ الْمُعْجِـزاتُ
تَكَـوَّنَتْ
بِظِـلالِ عُمْرِكِ إِذْ يَغيـبُ و
يَحْضُـرُ
فَالأَصْـلُ أَنْـتِ
وَمَنْ يَجيئُـكِ بـاغِيـاً
حَتمـاً عَلَيْـهِ ذِهـابُـهُ
الْمُتَصَـوَّرُ
وَحِكـايَـةُ الطَّـاغـوتِ
عَـبْرَ مَسـيرَةِ التّـاريـخِ
في تـابوتـهـا تَتَـأَطَّـرُ
* * * *
أَهْـلُ الظُّـنـونِ إِذّنْ بِأَنَّـكِ
كائِـنٌ
تَغْتـالُـهُ الـدٌّنيـا
وَقَـدْ لا يُـذْكَـرُ
خَسِـروا الرِّهـانَ
فَأَنْـتِ سِـرُّ وِلادَةٍ
وجَـديـدُ خَلْـقٍ واصْطِفـاءٌ
أَكْـبَرُ
تَهَبـينَ ما سَـكِرَ النَّدى
لِسَمـاعِـهِ
والْمَنْـحُ طَـبْعُكِ إّذْ جِـراحُكِ
تَنْغَـرُ
أَوَ ما صُلِبْـتِ ؟
وأَلْـفُ أَلْـفِ مُخَلِّـصٍ ..
حَمَلوا صَـليبَكِ يَوْمَ جُـنَّ
القَيْـصَرُ ؟
وَنَهَضْتِ بَعْدَ الصَّلْبِ ..
أَطْـوَلَ قـامَةً
وأَشَـدَّ خَلْـقـاً .. والْخَليقَـةُ
تَصْـغُرُ
فَشَغَلْـتِ آلِهَـةَ الْحَـديـدِ
وطاغِيـاً
بِيَـدَيْـهِ رابِيَـةُ اللّظـى
تَتَكَـسَّـرُ
وَغَدَتْ حِجـارَةُ مُفْتَـديكِ
صَـواعِقاً
تَـهْـوي
فَيَهـوي الـسَّـامِرِيُّ وَيَجْـأَرُ
يَوْمَ الصِّغـارُ اسْتَـبْسَلوا
..ووَراءَ هُـمْ
مُسْتَضْعَفـونَ لِوَعْـدِ رَبِّـكِ
بَكَّـروا

لَكَـأَنَّ سِـجّيـلاً يُـراشِـقُ
أَهْـلَهُ
غَـصَـصَ العَـذابِ
ومـا تَـأتَّـى الْمَحْـشَرُ
وَالْحامِلـونَ مَعَ الْهُـدى
أَكْفـانَهُـمْ
صَـوْبَ الْجَنـوبِ
ودَرْبُـكِ الْمُتَخَـيَّر
مِنْ جَحْفَـلِ الفَتْـحِ العَظـيمِ
بَقِيَّـةٌ
تَحْـيا على مَـرِّ العُصـورِ
..وتَكْـثُرُ
هُـمْ فِـتْيَـةٌ ..
لُغَـةُ الْجِهـادِ كِتـابُهُـمْ
واسْـتَصْـغَروا الدُّنيـا
فَطـابَ الْمَـعْـبَرُ
يَتَـدافَعـونَ إلى الشَّهـادَةِ إِنْ
نَـأَتْ
عَنْـهُمْ ..
ويُحْـزِنُهُـمْ إِذا تَتَـأَخَّـرُ
رَصَدوا الشَّهادةَ والْحُسَـيْنُ
إِمـامُهُمْ
وأَمامَهُـمْ شَيْـخٌ يُشـيرُ أَنِ
اصْـبِروا
الْمَـوْتُ يَهْـرُبُ مـِنْهُـمُ
خَـبَبـاً
ووَجْـهُ عَـدُوِّهِـمْ
بِـتُرابِهِـمْ يَتَـعَـفَّرُ
باعـوا النَّـبِيَّ مُـحَمَّـداً
أَرْواحَهُـمْ
فَرَبَـتْ تِجارَتُهُـمْ ونِعْـمَ
الْمَتْجَـرُ
وَاللّـهُ كَـرَّمَهُـمْ وَهُمْ مِنْ
حِـزْبِـهِ
بِشَهـادَةِ الشُّفَعـاءِ يَـوْمَ
اسْتَنْفَـروا
سُـبْحـانَ وَجْـهِـكِ
مِـنْ قَتيـلٍ عـابِـثٍ
بِالْمَـوْتِ لا يُثـنى ولا
يَتَقَـهْـقَـرُ
تَتَـأَلَّـقـينَ وَراءَ كُـلِّ
عَـظـيمـةٍ
وَإِذا سَـرَيْتِ فَلَـيْلُ دَرْبِـكِ
مُقْـمِر
ظَـنَّ الطُّـغـاةُ
بِأَنَّ عُمْـرَكِ حِقْـبَـةٌ ..
شالَتْ نَضـارَةَ مَوْسِمَـيْها
الأَعْـصُرُ
وَبِأَنَّ أَحْـداثـاً تَمُـرُّ
فَتَنْـطـوي .. أَثـوابُ عُـرْسِـكِ
ثُمَّ يَـبْلـى الْمِـئْـزَرُ
أَوْ أَنْتِ مِثْـلُ العـابِـرينَ
عَـشِـيَّـةً
تَطـويهِـمُ الدُّ نيـا بِمَـنْ
تَتَـخَـيَّرُ
حتّى فَجَـأْتِ الكَـوْنَ
بِـالْحَـدَثِ الأَجَـلِّ
وأَنَّـكِ الْخَلْـقُ الَّـذي لا
يُقْـهَـرُ
أَتْلَعْـتِ جيـدَكِ ..
والوُجـودُ مُـطَـأْطِـىءٌ
وأَضَـأْتِ ..
والدُّنيـا دُجـىً مُتَحَجِـرُ
وَخَطَـوْتِ رَيّـا
والْجِـهـاتُ ظَـميئَـةٌ ..
فَثَغـا لِخَطْـوِكِ كُلَّ يَـوْمٍ
كَـوْثَـرُ
وَزَرَعْـتِ ما هَتَكَ الْمُـواتُ
بُـذورَهُ
لِيَفيضَ في زَمَـنِ الْجَـفـافِ
البَيْـدَرُ
وَنَجَوْتِ مِنْ شُـحِّ الطَّـوائِفِ
بَعْدَمـا
خَذَلَـتْ مُـؤَمِّـلَها وجَـفَّتْ
أَنْهُـرُ
وَسَمَـوْتِ فَوْقَ سَفـائِفِ
الأَسْـلابِ
في زَمَنٍ يُجَـنُّ بِهِ الْكِـبارُ
فَيَصْغُـروا
حتّى جَبَـرْتِ كُسـورَ عَصْـرٍ
ظَـنَّها
مَنْ لَمْ يَعِـشْ لُغَـةَ الْهَوى لا
تُجْبَـرُ
تُفْـدى يَــدٌ مَنَحَـتْ
وأُخْـرى كَـفْكَـفَـتْ
دَمْعَ الزَّمـانِ .. وسِرُّ بَوْحِكِ
يَكْـبِرُ
مُحِـيَتْ كِـتابـاتُ الظُّنـونِ
وَأَوْرَقَـتْ
لُغَـةُ الْحِجـارَةِ كَـيْـفَما
تَتَـبَعْـثَرُ
وَالصُّبْـحُ مَـرَّ على الْجَـليـلِ
وَوَجْهُـهُ قَمَـرانِ
حــادٍ لِلْـرُؤى ..وَمُفَـسِّـرُ
رَأَيـا صَـلاحَ الدِّيـنِ بَيْنَ
غَمـامَـةٍ
حَلَّـتْ جَـدائِلَهـا
وأُخـرى تُمْـطِـرُ
يَـرْنـو إلى البَـيْـتِ الْحَـرامِ
بِدَمْعَتَـينِ .. وبَسْـمَةٍ خَضْـراءَ

وهُـوَ مُـشَـمِّـرُ
نادَيْـتُ مِـلْءَ الْجُـرْحِ :
يا قُـدْسُ اسْـمَعـي ..
صَـوْتاً يَصـومُ عَنِ النِّـداءِ
وَيُفْطِـرُ
-:لَوْ تَصْطَفي نوقُ الْحَجيجٍ حُـداءَ
ها
لَحَمَلْـتُ ما صَفَّى لِعِشْقِـكِ
عَبْـقَرُ
وَأَتَيْـتُ أَحْـدو لِلْحِجـارَةِ
حَجَّـها
قَلْـبـاً يَنِـزُّ ، ومُهْـجَـةً
تَتَفَـطَّرُ
مُتَـأَ بِّطاً تَعَـبَ الْفُتـوحِ
أَغـانيـاً
يَشْـدو بِها الْمَحْـزونُ
والْمُسْتَبْشِـرُ
طـوبـى
لِجـارِحَـةِ الْهـوانِ بِظُفْـرِها
والعَصْرُ مِنْ أَلَـقِ البُطـولَـةِ
مُقْفِـرُ
لِيَعـودَ مَنْ عـاشَ الوَقيعَـةَ
لاجِئـاً
خَمْسـينَ عامـاً يُـسْـتَذَلُّ وَ
يُقْـهَـرُ
ويَقـولُ لِلْـدُّنيـا :
اشْـهَـدي .. أَنَّ الْحِمـى
مُتَشَـوِّقٌ لِلْعـائِدينَ .. هيّـا
اعْبُـروا
فَوْقَ الْخِيـامِ وَفَوْقَ أَسْـلاكِ
الْخَـنى
قَـهْـراً وصَـبْـراً
والوُجـودُ مُهَـجَّـرُ
وَتَجـاوَزوا حُكْـمَ الطَّـوائِفِ
إِنَّـهُ
كَـفٌّ على وَجْـهِ الزَّمـانِ
مَسَـمَّرُ
لا يَعْـرِفُ الـتّـاريخُ أَنَّ لـه
يَـداً
في أَيِّ حـادِثَـةٍ تَـجِـدُّ
وتَعْـبُـرُ
مَنْ قـالَ لِلطِّـفْلِ الْمُجـاهِدِ
مَـرَّةً
: لا تَلْتَفِـتْ ..
إِنَّ الأَمـامَ الْمَعْـبَرُ ؟
في ظلال الضاد
وَلِسانُ أَحْمَدَ في رُبى بَطْحائِهِ
الضَادُ حَرِفُ الله في عَلْيائِهِ
في خَلْقِهِ الأَعْلَى وفي أَسْمائِهِ
وبهِ تُنودِيَ آدَمٌ يَوْمَ اِسْتَوى
في الأرضِ وَالآتونَ مِنْ خُلَفائِهِ
ليكونَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُ خَليفَةً
فَلآدَمَ التَّكْريمُ في إِرضائِهِ
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدوا
يَوْمَ ارْتقى الرَّحْمَنُ عَرْشَ
سَمائِهِ
وَبِهِ تَحاورتِ المَلائِكُ غِبْطَةً
يَسْمو وَكانَ الضَّوْءُ بَعْضَ
بِنائِهِ
وَالعَرْشُ فَوْقَ الماءِ مَوْكِبُ
عِزِّهِ
آياتُهُ العُظْمَى بِفَضْلِ عَطائِهِ
مِنْ بَعْدِ فَتْقِ الرِّتْقِ حَيْثُ
تَكَوَّنَتْ
بَدْءِ الْوجودِ فَهَبَّ مِنْ
ظَلْمائِهِ
وَالكَوْنُ قَبْضَةُ نورِهِ نُثِرَتْ
على
تَسْبيحَهُ مِنْ بَعْدِ صَمْتِ عَمائِهِ
مُتَلَمِّساً سِرَّ الْحياةِ وَبادِئاً
لِيَظَلَّ مَحفوظاً على أَضْوائِهِ
وَاللَّوْحُ مَحْفورٌ عَلَيْهِ ضِياؤُهُ
غَمَرَ النُّبُوَّةَ عِنْدَ غارِ
حِرائِهِ
وبهِ شَدا جِبْريلُ يَوْمَ المصْطَفى
يَرْنو لِوَجْهِ اللهِ في آلائِهِ
ناداهُ جِبْريلٌ فَأقْبَلَ باسِماً
لكِنَّ جِبْريلاً مَضى بِنِدائِهِ
إِقْرَأْ مُحَمَّدُ. قالَ: لَسْتُ
بِقاريءٍ
والضَّادُ سُلَّمُهُ إِلى قُرّائِهِ
لِيَخُطَّ بِاسْمِ اللهِ أَوَّلَ سورَةٍ
رَضِيَ إلالَهُ كَمالَها لِرِضائِهِ
وَبِهِ اهْتَدى طَهَ لِقِبْلتِهِ الَّتي
عُظْمى رَعاها اللهُ في نَعْمائِهِ
فَإذا مُحَمَّدُ وَالسَّماءُ بِوِحْدَةٍ
وَمَنارَةُ التَّنْزيلِ في إِلْقائِهِ
وَالضَّادُ بَيْنَهُما سَبيلُ
الْمُلْتَقى
***
في عَتْمَةِ الْماضي أَسيرَ فَنائِهِ
شاب الزَّمانُ وَأَلْفُ تاريخٍ هَوى
لِلْمَنْحِ مُنْشَدٌّ إلى خُيَلائِهِ
والضَّادُ في أَلَق الصِّبا مُتَجَدِّدٌ
حَتَّى سَقى الأزْمانَ كَوْثَرَ مائِهِ
في كُلِّ عَصْرٍ يُسْتَنارُ بِضَوئِهِ
في بُكْرِةِ التّاريخِ أَوْ إِمسائِهِ
وَعَجائِبُ التَّنْزيلِ توقِظُ مَنْ
سَها

في سِرِّهِ ظَنَّاً بِسِحْرِ بَهائِهِ
حارَ الرُّواةُ وَجَنَّحَتْ
أَوْهامُهُمْ
وحِكايَةُ الأَحْقابِ خَلْفَ بَقائِهِ
والجاحِدونَ أَساءَهُمْ تاريخُهُ
كَفَّ الزَّمانِ لِيَخْتَفي بِعفائِهِ
كَمْ مَرَّ عَصْرٌ بَعْدَ عَصْرٍ دافِعاً
رَسَمَ الْقَريضَ وَهَلَّ سِحْرُ
نَقائِهِ؟
هَلْ تَعْرِفُ الأَزْمَانُ حَرْفاً
قَبْلَهُ
ناجاهُ في فَرَحٍ وعِنْدَ رِثائِهِ؟
هَلْ وَاكَبَ الإِنسانُ حَرفاً قَبْلَهُ
وتَلَطَّفوا بالْعُذْرِ عَنْ إيذائِهِ
تَرَكوا التَّساؤُلَ في الْفَراغِ
مُعَلَّقاً
مِنْ طَعْمِ سُمٍّ يَرتَمونَ بِدائِهِ
وَتَرَسَّموا دَرْبَ الأَذى
لِشِفائِهِمْ
لِلضَّادِ سَبّاقاً إِلى إِنْشائِهِ
فَرَأوا بِوادي الظَّنِّ حَرْفاً
سابِقاً
في ظُلْمَةِ الأَزْمانِ مِنْ تِلقائِهِ
أَسْمُوهُ سَامِيًّا وَقالوا غائِباً
والدَّهْرُ لا يَقْوى على إِحيائِهِ
قالوا قَضى مَيْتاً كَأَيِّ خَليقَةٍ
كَذِبٍ يَسيلُ على جُيوبِ رِدائِهِ
وأَتوا بِبَعْضِ دَمٍ - كإخْوَةِ يوسُفٍ -
ماضٍ كَسابِقِهِ إلى قُرَنائِهِ
كَيْ يَقْنَعوا الدُّنْيا بأَنَّ
لِسانَهُمْ
بالأَعجَمِيِّ الْمُنْتمي لِفضائِهِ
وعلى الْعُروبَةِ أَنْ تُذيبَ لِسانَها
دَمَهُ وَهْمْ غَرْقَى بِسَيْلِ
دِمائِهِ
وَتَحاوَروا وَالْحِقْدُ يَنْزِفُ
بَيْنَهُمْ
كَالمُسْتَجيرِ بِهِمْ إلى إقْصائِهِ
وَالْهَاجِسُ الأَقْوَى يَخُضُّ
ضُلوعَهُمْ
***
لَنْ يُفْلِحَ التَّزْويرُ في
إِطْفائِهِ
خابوا فَحرْفُ الضَّادِ ضَوْءٌ في
الْمَدَى
فَوْقَ الْعُصورِ بِزَهْوِهِ وَجَلائِهِ
وَبِهِ مِنَ الأَسْرارِ ما يَسْمو بِهِ
حَمْلِ الرِّسالَةِ تائِهاً بِإبائِهِ
مُتَفَرِّداً بِالْقُدْرَةِ الْعُظْمى
عَلى
وَهُوَ الْمُجِدُّ لِحَمْلِها
بِحُدائِهِ
وَقَوافِلُ التَّاريخِ تَمْشي خَلْفَهُ
وَإِلى الْجَزيرةِ عائِدٌ بِصَفائِهِ
وَمِنَ الْجَزيرَةِ نَبْعُهُ
مُتَدَفِّقٌ
يبرود - سوريا 1/1/2004
السـيرة الذاتية للدكتور خالد محيي الدين
البرادعي
?
شاعر ، وناقد ، وكاتب مسرح ، ولد في بلدة
يبرود ( سوريا )، عاش بين سوريا ولبنان
والخليج العربي . ويقيم حالياً في يبرود . ?
شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1969
إلى جانب نخبة من المفكرين السوريين آنذاك
. ?
ترأس تحرير أكثر من مجلة أسبوعية في
الخليج العربي بين عامي 1972 ـ 1977. ?
ترأس جمعية المسرح في اتحاد الكتاب العرب
من عام 1989 إلى عام 1994 . ?
ترأس فرع ريف دمشق لاتحاد الكتاب العرب
عام 1998 حتى عام 2000 ثم اعتذرعن عدم
الاستمرار في المهمة للتفـرغ لإبداعه . ?
عضو الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة
العربية بدءاً من عام 1995 . ?
عضو مجمع البلاغة العالمية بدءاً من عام
1996 . ?
شارك في أكثر من ستين ندوة ومؤتمراً
أدبياً ولقاءاً فكرياً ومهرجاناً شعرياً
في سوريا والوطن العربي وبعض بلدان العالم
بدءاً من عام 1969 وما يزال ؛ وشغل عدة مهمات
منها :
- تسلمه القسم الأدبي في جريدة القبس
الكويتية منذ تأسيسها حتى عام 1972
- عمل مديراً لتحرير مجلة الرسالة
الأسبوعية من عام 1972 حتى عام 1977 حيث صدر
قرار سياسي بإبعاده عن الكويت ليعود إلى
سوريا في العام نفسه لتمسكه بالخط القومي
العربي في الكتابة .
* * *
?
حاضر وأحيا أمسيات شعرية ولقاءات فكرية
في الجامعات التالية :
جامعة البعث - جامعة الزهراء للبنات في
طهران - جامعة محمد الأول في وجدة (المغرب )
- جامعة محمد بن عبدالله في فاس ( المغرب ) -
جامعة القاضي عياض في مراكش ( المغرب ) -
جامعة السلطان قابوس في مسقط - جامعة صنعاء
اليمن- جامعة وهران ( الجزائر ) .
إضافة إلى استضافته من قبل عدد من المواقع

الثقافية في الوطن العربي مثل :
ندوة الثقافة والعلوم في دبي -اتحاد
الكتاب والأدباء في الإمارات -دار الثقافة
في الجزائر -خيمة الشعر في الشارقة -النادي
العربي في الشارقة -قاعة الملك فيصل في
الرياض -وعدة مهرجانات وأمسيات في ليبيا
-مهرجان الجنادرية في السعودية عدة مرات
-مهرجانات المربد في العراق خلال
السبعينات من القرن الماضي .
?
دعي للتحكيم في عدد من اللقاءات الفكرية
منها :
?
مهرجان قرطاج العالمي للمسـرح في تونس 1994
. ?
مهرجان المسرح الأول في اليمن 1990 . ?
مهرجان الفجـر العاشر للمسرح العالمي في
طهران 1992 . ?
مهرجان الشعر العماني الأول 2004 .
* * *
?
كُتِبَ عن شعره ومسرحه أكثر من أربعين
رسالة وأطروحة جامعية ورسالة تخرج وحلقات
بحث في جامعات سوريا والوطن العربي وبعض
جامعات العالم . وبالتحديد في : جامعة دمشق
ـ جامعة تشرين (اللاذقية) ـ جامعة حلب ـ
جامعة البعث في حمص ـ جامعة الإمام محمد بن
سعود (المملكة العربية السعودية) ـ جامعة
وجدة (المغرب) ـ جامعة مراكش (المغرب) ـ
جامعة مكناس ـ جامعة محمد الخامس الرباط -
جامعة موسكو . ?
تُرجم جانب من شعره ومسرحه إلى اللغات :
الفرنسية والإنكليزية والإسبانية
والفارسية والروسية والأوكرانية
والأندونيسية والتركية . ?
أبرز النقاد الذين كتبوا عن شعره ومسرحه :
د.عبد الكريم اليافي ، د. أسعد علي ، أنطون
المقدسي ، د.شاكر مصطفى ،أ.د. زكي نجيب
محمود ، د. محيي الدين صبحي ، د. رضوان
القضماني ، حنا عبود ، د. مصطفى الرمضاني ،
د. خليل الموسى ، د. فاطمة طحطح ، د. جعفر دك
الباب ، د.عبد الإله النبهان ، د.عبد الله
أبوهيف ، دريد يحيى الخواجه ، د. حورية حمو
، د. نذير العظمة ، د. عبد الرحمن بن زيدان ،
د. أحمد محمد عطية ، د. سمر روحي الفيصل ،
د.شاكرمطلق ، د. حمدي الموصللي و عدنان بن
ذريل ، وآخرون . ?
أجمع النقاد الذين تناولوا شعر البرادعي
ومسرحه على أنه مؤسس الحداثة في المسرح
الشعري العربي المعاصر ، وأبرز من دوَّن
هذا الرأي هو الدكتور مصطفى الرمضاني عبر
أطروحة الدكتوراه التي نالها من جامعة
وجدة في المغرب . وأن قصيدته تمتاز بالنزعة
السردية والحوار المسرحي والحس الدرامي ،
مما يوفر لها عضوية متماسكة ، وأنه تمكن من
المواءمة بين القيمة الفنية والقيمة
الأخلاقية في شعره ومسرحه ، فجاءت أعماله
كلها مزيجاً من التدفق العروبي والروح
الإسلامي مصوغة بجمالية متميزة ، واستطاع
أن يعيد صياغة بعض شرائح ورموز التراث
العربي والإسلامي لتحيا بصورة متجددة
ومعاصرة . وذلك في شعره ومسرحه الشعري على
السواء . وتحول جزء من قصائده الدرامية إلى
معالجات في الأطروحات الجامعية .
انفرد من بين شعراء عصره بكتابة الملحمة
والحكاية الشعرية .
* * *
?
فاز بجائزة البابطين الشعرية عن أفضل
ديوان شعر عام 1994 عن ديوان : عبد الله
والعالم في مدينة فاس في المغرب بدورتها
الرابعة . ?
فاز بجائزة الأوبريت الشعرية في إمارة
الشـارقة عام 1994 عن أوبريت : رائدات في
التـاريخ ؛ التي قدمتها فتيات أندية
الشارقة بإشراف الشيخة جواهر القاسـمي . ?
فاز بجائزة الشاعر محمد حسن فقي التي
أسسها الشيخ أحمد زكي اليماني . وذلك عن
ديوان قصائد للأرض قصائد للحبيبة في
دورتها الثانية في القاهرة عام 1996 . ?
فاز بجائزة الأمم المتحدة للطفولة (
اليونيسيف) عام 2002 عن ديوان : شجرة اللؤلؤ. ?
فاز بجائزة الإمـام الخمـيني عن أفضل
قصيدة كتبت عن القدس عام 2004 وهي بعنوان :
تداعيـات أمام بوابات القدس . ?
أُجريت معه لقاءات وحوارات وندوات
تلفزيونية في أكثر من عشرين قناة ،منها :
التلفزيون الكويتي - تلفزيون المغرب -
تلفزيون الجزائر - تلفزيون تونس - تلفزيون
ليبيا- تلفزيون بغداد - تلفزيون عَمّـان -
تلفزيون عُمـان - تلفزيون مصر (الأولى
والثقافية) - تلفزيون الرياض - تلفزيون دبي
- تلفزيون الشارقة - تلفزيون المستقبل
(لبنان) - تلفزيون صنعاء - تلفزيون طهران -
وتلفزيون دمشـق
?
له بضعة وخمسون كتاباً موزعة بين :دواوين
الشعر ،المسرحيات الشعرية ،الملحمة ،
الحكاية والنقد . منشورة في : دمشق ،بغداد
،الكويت ،بيروت ،القاهرة ،المملكة

العربية السعودية ، ليبيا ،تونس ، والمغرب
. إضافة إلى أطروحة الدكتوراه وهي بعنوان :
تعددية النمط في الشعر الجاهلي وظلاله
الطويلة . ?
أكرمته الجامعات العربية والأكاديميات .
ومجامع اللغة في مصر . وسوريا . والمغرب.
والمملكة العربية السعودية . بعدد من
ألقـاب التكـريم هي : شـاعر العروبة
والإسلام. شاعر العرب . شاعر الملاحم . شاعر
المسرح المتفرد . الشاعر الكبير . كتب عنه
نقاد المغرب أنه مؤسس الحداثة في المسرح
الشعري العربي . ?
حصل على درجة دكتوراه الإبداع عام 1995 من
جامعة أم اللغات التابعة للاتحاد العالمي
للمؤلفين عن أطروحته تعددية النمط في
الشعر الجاهلي وظلاله الطويلة بإشراف
الشيخ الدكتور أسعد علي . ?
قامت جامعة محمد الأول في وجدة مؤخراً
بجمع فصول من الأطروحات الجامعية التي
كتبت عن شعره ومسرحه . وطبعتها في كتاب من
ثلاثة مجلدات متوج بمقدمة ضافية للعلامة
عبد الكريم اليافي ،بعنوان ( خالد محيي
الدين البرادعي والجامعـات ) ?
قامت وزارة الثقافة في سوريا بطباعة
كتابه ( تعددية النمط في الشعر الجاهلي
وظلاله الطويلة ) في مجلدين عام 2005 . ?
له مسرحية تُدرَّس في أكادمية المسرح في
ليبيا كنموذج للنص المسـرحي المتكامل
عنوانها (الجــراد) . ?
يحضر حاليا لإصدار مؤلفاته الكاملة
كالتالي :
?
الشـعر في أربعة مجلدات . ?
المسـرح الشـعري في سبعة مجلدات . ?
الدراسات النقـدية والتراثية في خمسة
مجلدات . ?
أقيمت لـه حفلات تكريم في :
?
منتدى الأثنينية في جدة 1996 . ?
مدينة النـبك في سوريا 1998 . ?
مدينة يبرود ( منظمة حزب البعث ) عام 1998 . ?
رابطة الخريجين الجامعيين في حمص عام 1996 .
?
اتحاد الكتاب العرب عام 2004 .
المؤلفات الكاملة للشاعر الدكتور خالد
محيي الدين البرادعي
أناشيد للأنصار ـ شعر ـ الكويت 1969
?
بدءاً من حزيران ـ شعر ـ دمشق 1969 ?
صور على حائط المنفى ـ شعر ـ دار الطليعة ـ
بيروت 1972 ?
الرحيل نحو المستقبل ـ شعر ـ وزارة
الثقافة ـ دمشق 1973 ?
قصائد في النضال و الحب ـ شعر ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1973 ?
القبلة من شفة السيف ـ شعر ـ وزارة
الثقافة ـ دمشق 1974 ?
الغناء بين السفن التائهة ـ شعر ـ وزارة
الإعلام ـ بغداد 1974 ?
رسائل إلى امرأة غريبة ـ شعر ـ الدر
التونسية للنشر ـ تونس 1975 ?
تداعيات المتنبي بين يدي سيف الدولة ـ شعر
ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1976 ?
الوحش ـ مسرحية نثرية ـ اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 1976 ?
حكايات إلى امرأة من يبرود ـ شعر ـ دار
الرسالة ـ الكويت 1976 ?
الغناء الأبدي ـ دراسة ـ وزارة الثقافة ـ
دمشق 1977 ?
الجراد ـ مسرحية نثرية ـ الدار
الجماهيرية ـ ليبيا 1978 ?
السلام يحاصر قرطاجنة ـ مسرحية شعرية ـ
اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1978 ?
دمر عاشقاً ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 1978 ?
العرش والعذراء ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1980 ?
الحب لغتي ـ شعر ـ اتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق 1981 ?
حصان الأبانوس ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1982 ?
أبو حيان التوحيدي ـ مسرحية نثرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1983 ?
الشيخ بهلول وأفراد عائلته ـ مسرحيتان ـ
الدار الجماهيرية ـ ليبيا 1983 ?
الإبداع من الرؤيا القومية إلى المنظور
الإنساني ـ دراسة ـ الدار العربية للكتاب
ـ ليبيا / تونس 1983 ?
جودر والكنز ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1984 ?
حكاية الأميرة جنان ـ حكاية شعرية ـ دار
طلاس ـ دمشق 1985 ?
خصوصية المسرح العربي ـ دراسة ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1986 ?
المؤتمر الأخير لملوك الطوائف ـ مسرحية
شعرية ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1986 ?
قصائد للأرض قصائد للحبيبة ـ شعر ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1989 ?
الإمبراطور زمسكس ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1990 ?

جزيرة الطيور ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1991 ?
اختصار كتاب الزهرة ـ وزارة الثقافة ـ
دمشق 1992 ?
عبد الله والعالم ـ شعر ـ دار العرب ـ دمشق
ـ 1993 ?
مكاشفات عائشة بنت طلحة ـ مسرحية شعرية ـ
وزارة الثقافة ـ دمشق 1993 ?
وادي العذارى ـ مسرحية شعرية ـ وزارة
الثقافة ـ دمشق 1993 ?
الزهرة والسيف ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1996 ?
الصعود إلى عرش فاطمة ـ شعر ـ دار الذاكرة
ـ حمص 1996 ?
أوراق من هذا العصر ـ شعر ـ منشورات
الإثنينية ـ جدة 1996 . طبعة ثانية الهيئة
المصرية العامة للكتاب ـ مصر 1998 ?
ميسلون ـ ملحمة شعرية ـ اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 1998 ?
الأيام السبعة الطوال في حياة أبي القاسم
الفردوسي ـ مسرحية شعرية ـ مكتبة دار
الحياة ـ بيروت ـ لبنان 1998 ?
أسفار سيف بن ذي يزن ـ مسرحية شعرية ـ
الهيئة المصرية للكتاب ـ القاهرة 1999 ?
أغني لتنام سفانة ـ شعر ـ دار المبدعون ـ
يبرود 1999 ?
معلقات على بوابات القرن الحادي والعشرين
ـ دار المبدعون ـ يبرود 1999 ?
تلك القرية ـ مسرحية شعرية ـ نادي جدة
الأدبي ـ السعودية 1999 ?
النبوءة ـ مسرحية شعرية ـ الهيئة العامة
لقصور الثقافة ـ القاهرة 2000 ?
هذيل القبيلة في شعرها ـ دراسة ـ الدار
العربية للكتاب ـ ليبيا / تونس 2000 ?
شجرة اللؤلؤ ـ حكايات شعرية للفتيان ـ
اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2000 ?
أشباح سيناء ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 2001 ?
عرس الشام ـ مسرحية شعرية ـ اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 2001 ?
الطريق إلى العصر الحجري ـ مسرحية نثرية ـ
المبدعون ـ يبرود . ?
دراسات في الشعر العربي المعاصر ـ دراسة .
?
أسطورة الطفل المخلص ـ دراسة ـ المجلس
القومي للثقافة العربية ـ الرباط 2002 ?
مقالات في الوعي والانتماء ـ دراسات ـ دار
المبدعون ـ يبرود ?
الشجرة التي أورقت سيوفاً ـ مسرحية شعرية
ملحمية ـ الاتحاد العالمي للمؤلفين
باللغة العربية ـ دمشق 2002 ?
تعددية النمط في القصيدة الجاهلية ـ
دراسة ـ أطروحة دكتوراه ـ وزارة الثقافة ـ
دمشق 2003 ?
يوم غابت فاطمة ـ ديوان شعر ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 2003 ?
المهاجرة والمهاجرون ـ دراسة في شعر
المهجر ـ المبدعون ـ يبرود . ?
من هموم المسرح ( تحت الطبع ) . ?
وضع نشيد جامعة القلمون أول عام 2004
*****
العنوان الدائم:
سوريا ـ يبرود ـ ص.ب : 104
هاتف : 7810243 11 00963
جوال : 442709 093 00963
فاكس : 7812982 11 00963
البريد الإلكتروني : info@khaledbaradie.com
الموقع على الإنترنت : [LINK:
http://www.khaledbaradie.com] www.khaledbaradie.com
المحتوى
....
^* مديرة إدارة فروع اتحاد الكتاب، عضو
المكتب التنفيذي.
^(^^) أبو حيان التوحيدي: مسرحية نثرية،
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1983م.
^(^^) ميسلون: ملحمة شعرية، دمشق: اتحاد
الكتاب العرب، 1998م.
^(^^) الوحش: مسرحية نثرية، دمشق: اتحاد
الكتاب العرب، 1976م.
^(^^) جريدة تشرين السورية، 10 تموز عام 1977م.
^(^^) عدد /18891/ من جريدة البعث السورية، 1992م.
^(^^) الرحيل نحو المستقبل، دمشق: وزارة
الثقافة السورية، 1973م.
^(^^) نقلاً عن دراسة وردت في المجلد الأول
من كتاب (خالد محيي الدين البرادعي
والجامعات)، وجدة، المملكة المغربية: ط1،
2003، ص41
^(^^) ديوان معلقات على بوابات القرن الحادي
والعشرين، يبرود: دار المبدعون، 1999م، ص124 ـ
125.
^* رئيس فرع ريف دمشق لاتحاد الكتاب العرب .
^(^^) من قصيدة ـ صلاة الغائب ـ التي ألقاها
الشاعر في مهرجان الشعر العربي الثالث عشر
الذي أقيم في طرابلس في الجماهيرية
الليبية في أيلول 1977، مترافقاً مع المؤتمر
الحادي عشر للأدباء العرب.
^* مقرر الجمعية.
^* باحث - جامعة دمشق.
^(^^) خالد محيي الدين البرادعي والجامعات ـ
1/36 ـ 37 ـ جامعة محمد الأول ـ وَجْدة ـ

المملكة المغربية ـ ط1 ـ 2003م.
^(^^) التراث والمسرح العربي في سورية ـ ص82 ـ
مجلة الموقف الأدبي ـ اتحاد الكتاب العرب
بدمشق ـ العددان ـ 175 ـ 178 ـ 1986م.
^(^^) انظر خالد محيي الدين البرادعي
والجامعات 1/165 ـ 171 وفي أماكن أخرى.
^(^^) خصوصية المسرح العربي ـ ص80 ـ خالد محيي
الدين البرادعي ـ اتحاد الكتاب العرب
بدمشق ـ 1986م وخالد محيي الدين البرادعي
والجامعات 1/262.
^(^^) مجلة المعرفة السورية ـ دمشق ـ وزارة
الثقافة ـ العدد 459/ك1 ـ 2001م؛ وانظر خالد
محيي الدين البرادعي والجامعات 1/127.
^(^^) انظر خالد محيي الدين البرادعي
والجامعات 1/133.
^* مقرر جمعية المسرح.
^(^^) Monroe K. Sears, Dionysus and city: Mondernism in Twentieth poetry
(New York).
^(^^) راجع عالم الفكر ـ العدد الثاني 1991،
الحداثة والمسرح ص 47.
^(^^) أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، جامعة
السوربون، جامعة دمشق، مجمع اللغة
العربية في سورية.
^* قسم اللغة العربية - جامعة البعث.
^* كاتب من المغرب ـ جامعة محمد الأول ـ
وجدة ـ أستاذ التعليم العالي ـ تخصص مسرح.
^(^^) من حوار أجراه معه وحيد تاجا ـ مجلة
العالم (لندن) ع 351 ـ 13 ـ 11 ـ 1990 ص 50.
^(^^) انظر أديب عزت ـ مسرحيات ودراسات
مسرحية ـ الموقف الأدبي (السورية) عدد 1 ـ 178
ـ 179 سنة 15 ـ 1986 ـ ص 297.
^(^^) خالد محيي الدين البرادعي ـ (السلام
يحاصر قرطاجنة) ـ منشورات اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 19/1979 ـ ص 274.
^(^^) العرش والعذراء: منشورات اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 1980 ـ ص 236.
^(^^) نفسها ـ ص 22.
^(^^) الحكاية موجودة في المجلد الثاني من
كتاب "ألف ليلة وليلة" ـ انظر الليلة
الثالثة والثمانين بعد الثلاثمائة ـ دار
الهدى الوطنية ـ بيروت ـ ص 341.
^(^^) منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ
1981.
^(^^) جودر والكنز ـ منشورات اتحاد الكتاب
العرب ـ دمشق 1984 ـ ص 173 ـ 174.
^(^^) عبد الله أبو هيف ـ الإنجاز والمعاناة
ـ حاضر المسرح العربي في سورية ـ منشورات
اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 1988 ـ ص 314.
^(^^) انظر أديب عزت ـ مسرحيات ودراسة
مسرحية ـ ص 302.
^(^^) المؤتمر الأخير لملوك الطوائف ـ
منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 1986 ـ
ص 204.
^(^^) نفسها ـ ص 205.
^(^^) نفسها ـ ص 206.
^(^^) نفسها ـ ص 144.
^(^^) إسماعيل مروة ـ المادة التاريخية في
النص المسرحي ـ جريدة الثورة (السورية) ـ ع
8147 ـ بتاريخ 03/01/1990 ـ ص 4.
^(^^) المسرحية ـ ص 210.
^(^^) أبو حيان التوحيدي "منشورات اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق ـ ط 1983 ـ انظر مثلاً ص
176 ـ واللوحة الأخيرة في المسرحية".
^(^^) نفسها ـ ص288.
^(^^) نفسها ـ ص 9.
^(^^) ربما كان ديوانه الذي يحمل عنوان
"حكاية الأمير جنان" أحسن نموذج لذلك.
ولهذا الغرض فضل وصفه بالحكاية الشعرية
بدلاً من الديوان الشعري. دار طلاس ـ دمشق
ـ ط1 ـ 1985.
^(^^) عبد الله أبو هيف ـ الإنجاز والمعاناة
حاضر المسرح العربي في سورية ـ منشورات
اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ ط 1988 ـ ص 301.
^* شاعر من سورية.
^* ناقد وباحث من سورية.
^(^^) خالد محيي الدين البرادعي، ميسلون
(ملحمة شعرية)، اتحاد الكتّاب العرب. دمشق
1999.
^(^^) وضع البرادعي أكثر من عشرين مسرحية
شعرية حتى تاريخ كتابة هذا النص.
^* أستاذة النقد الأدبي في جامعة تشرين
وكلية البنات في أبها السعودية.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
العرش والعذراء، اتحاد الكتاب العرب،
دمشق 1980.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، الهيئة المصرية
العامة،1999.
^(^^) ينظر، د. حمود، حورية، تأصيل المسرح
العربي بين التنظير والتطبيق في سورية
ومصر اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، من ص
230 إلى 238.
^(^^) ينظر، المرجع السابق، ص 248.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، غلاف المسرحية.
^(^^) ينظر، عبد الحكيم شوقي، موسوعة
الفلوكور والأساطير العربية، ص 410. وينظر
الموسوعة العربية الميسرة. ص 1049 وينظر ابن
هشام السيرة النبوية.
^(^^) ينظر، البرادعي، خالد محيي الدين،

مسرحية أسفار بن ذي يزن، ص 18.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 11 ـ 12.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 99.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 99.
^(^^) المصدر السابق، ص 101.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 117.
^(^^) المصدر السابق، ص 118.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
سيف بن ذي يزن، ص 118.
^(^^) ينظر المصدر السابق، ص 119.
^(^^) المصدر السابق، ص 125.
^(^^) ينظر، المصدر السابق، ص 139.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 143.
^(^^) المصدر السابق، ص 150.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 171.
^(^^) المصدر السابق، ص 187.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 190.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 12.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 15 ـ 16.
^(^^) المصدر السابق، ص 17.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 30 ـ 31.
^(^^) المصدر السابق، ص 124 ـ 125.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 42 ـ 43.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 60.
^(^^) المصدر السابق، ص 128 ـ 129.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 96.
^(^^) نذكر قراءنا بأن إحدى الطالبات في
المغرب قدمت أطروحة جامعية حول دور المرأة
في مسرح البرادعي الشعري. ونشرت الأطروحة
في كتاب صدر عن دار الذاكرة بحمص سورية،
عام 1992.
^(^^) المصدر السابق، ص 107.
^(^^) ينظر، خورشيد، فاروق، الجذور الشعبية
للمسرح العربي، الهيئة المصرية العامة،
1991، ص 126.
^(^^) ينظر، المرجع السابق، ص 122.
^(^^) ينظر البرادعي، خالد محيي الدين،
مسرحية أسفار بن ذي يزن، ص 129.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 95 حتى ص 104.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 116.
^(^^) دمر عاشقاً مسرحية شعرية للبرادعي
صدرت عام 1978 عن اتحاد الكتاب العرب، كما
فعل في مسرحية: دمر عاشقاً مثلاً(2).
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 151 ـ 152.
^(^^) ينظر، المصدر السابق، ص 156.
^(^^) ونوس، سعد الله، إيضاحات الملك هو
الملك، دار الآداب، بيروت، ط 4، 1983، ص 117.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 11.
^(^^) المصدر السابق، ص 86.
^(^^) المصدر السابق، ص 11 ـ 12.
^(^^) المصدر السابق، ص 11.
^(^^) المصدر السابق، ص 124.
^(^^) المصدر السابق، ص 124.
^(^^) البرادعي، خالد محيي الدين، مسرحية
أسفار سيف بن ذي يزن، ص 120.
^(^^) المصدر السابق، ص 190.
^* الجامعة الروسية للصداقة- موسكو- 2003،
وأستاذ في جامعة حمص.
^(^^) انظر كتاب خالد محيي الدين البرادعي،
خصوصية المسرح العربي. اتحاد الكتاب العرب
دمشق 1967. وانظر أيضاً دراستنا عن الكتاب
المذكور: "دراسة في (خصوصية المسرح العربي"
المنشور في مجلة (الملتقى الأدبي "الصادرة
عن "مسرح رأس الخيمة الوطني"، العددان 4 و5
ديسمبر 1991 ـ مارس 1992.
^(^^) انظر د. فاخر عاقل (الإبداع وتربيته)
بيروت دار العلم للملايين 1983 ص 78.
^(^^) طه وادي، جماليات القصيدة المعاصرة.
دار المعارف. القاهرة 1982. ص 23.
^(^^) د. سعد عبد الحسين العتابي. الملحمة في
الرواية العربية المعاصرة. دار الشؤون
الثقافية العامة. بغداد 2001. ص 18. وقد استقي
المرجع المذكور تعريفه للملحمة من معجم
المصطلحات في اللغة والأدب لمجدي وهي
وكامل المهندس، بيروت ط1. ص 220، ومن: النقد
الأدبي لعلي جواد الطاهر بيروت 1979 ص 73 ـ 78.
وكذلك من:
ـ الأنواع الأدبية: مذاهب ومدارس. شفيق
البقاعي بيروت ط1، 1979، ص 365.
ـ نظرية الأنواع الأدبية. فنسنت.
الإسكندرية ط1، 1954 ص 22.
^(^^) أرسطو طاليس. فن الشعر. ترجمة د. عبد
الرحمن بدويز دار الثقافة بيروت 1983، ص 71.

^(^^) أرسطو طاليس. نفسه. ص 26.
^(^^) أرسطو طاليس. نفسه. ص 28.
^(^^) أرسطو طاليس. نفسه. ص 52.
^(^^) أسس النقد الحديث. تأليف مجموعة من
النقاد. ترجمة هيفاء هاشم وزارة الثقافة
دمشق 1966، ص 128.
^* ناقد وباحث ومحقق - جامعة الكويت.
^(^^) خالد محيي الدين البرادعي ، تداعيات
المتنبي بين يدي سيف الدولة، اتحاد
الكتّاب العرب، دمشق 1976. ط1.
^(^^) تداعيات المتنبي بين يدي سيف الدولة،
اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1976. ط1. ص: 37.
^(^^) يوسف البديعي ، الصبح المنبي عن حيثية
المتنبي، تحقيق مصطفى الشعار، محمد شتا ،
عبده عبده، دار المعارف بمصر 1963م ، ص: 71.
^(^^) البديعي، الصبح المنبي ، ص 87- 92.
^(^^) البديعي، الصبح المنبي، ص 128- 130.
^(^^) تداعيات، ص: 34.
^(^^) تداعيات، ص 38.
^(^^) شوقي شعث، حلب تاريخها ومعالمها
الأثرية، جامعة حلب 1991. ص 40.
^(^^) شارل ديل، بيزنطة عظمتها وانحلالها.
ترجمة حسين مؤنس ومحمود يوسف زايد ، الدار
القومية للطباعة والنشر، القاهرة د.ت.،
ص431- 345 (ضمن كتاب : الأمبراطورية
البيزنطية، نورمان بينز)
^(^^) نورمان بينز، بيزنطة والإسلام ، ترجمة
حسين مؤنس ومحمود يوسف زايد ص 392 (ضمن كتاب
الأمبراطورية البيزنطية).
^(^^) تداعيات ، ص32، 44.
^(^^) النار اليونانية ، نوع من القذائف
الحارقة، مركبة من النفط والكبريت والقار
ومواد ملتهبة أخرى، استخدمها اليونان في
حروبـهم وإليهم يعزى اختراعها، واستخدمها
القائد البيزنطي نقفور فوكاس في حروبه مع
الأمير العربي العظيم سيف الدولة.
هذا التعليق للشاعر البرادعي في الديوان.
^(^^) تداعيات، ص 21، 26.
^(^^) تداعيات، ص 32.
^(^^) تداعيات ، ص 33.
^(^^) المصدر السابق.
^(^^) تداعيات، ص 40.
^(^^) المصدر السابق، ص 46.
^(^^) المصدر السابق، ص 23.
^(^^) تداعيات ، ص 32.
^(^^) تداعيات ، ص 48.
^(^^) تداعيات ، ص 5- 6. وهذه القصيدة القصيرة
المشعة هي أول قصائد الديوان. أو
افتتاحيته.
^(^^) المصدر السابق، ص 116.
^(^^) المفاتيح الدلالية مستمدَّة من
الديوان (تداعيات).
^(^^) تداعيات ، ص 65.
^(^^) المفاتيح مستمدة من الديوان (تداعيات).
^(^^) المفاتيح مستمدة من الديوان(تداعيات).
^(^^) تداعيات، ص 11.
^(^^) المفاتيح مستمدة من الديوان (تداعيات).
^(^^) المصدر السابق.
^(^^) تداعيات ، ص 14.
^* شاعر وكاتب مسرح وناقد، جامعة
الإسكندرية - المجلس الأعلى للثقافة.
^(^^) من ديوان قصائد للأرض قصائد للحبيبة،
اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1989.
^(^^) من ديوان قصائد للأرض قصائد للحبيبة،
اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1989.
^(^^) منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1991.
^(^^) حسن طلب، ديوان الزبرجد 1990.
^(^^) قصيدة : امرأة من لينيغراد، ديوان :
قصائد للأرض قصائد للحبيبة.
^(^^) من ديوان عبد الله والعالم، دار
العربي ، دمشق.
^(^^)من ديوان عبد الله والعالم، دار العربي
، دمشق.
^(^^)نفس المصدر السابق.
^(^^) الشاعر العربي يبحر إلى المستقبل،
مجلة إبداع، القاهرة عدد أكتوبر 1993.
^(^^) نشر هذا المقال تحت عنوان: الأصول
التاريخية لدمر عاشقاً جريدة البعث 15/5/1978.
^(^^) يبرود ـ 9/شوال/1412هـ. - 11/نيسان/ 1992
^(^^) سوريا -يبرود- 1985-
- 6 -
- 5 -


/ 99