أخـافُ أن يدركَــني الصبــاح
تصميم الغلاف للفنان : شادي العيسميعدنان كنفاني
* قصــص *
من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001 الإهـــداء
إلى الذين مهروا جباههم وجراحهم بمشكاةالنور..
وسطّروا بالأحمر القاني وثيقة خلودنا..
إلى شعب أضاف مفردة الانتفاضة إلى قاموس
الكلام
فأضاءت وهجاً "ليس كمثله شيء"..
إلى رجال ونساء وأطفال
يصنعون لنا ألق المستقبل.
أهدي كل خفقات اليراعات..
عدنان كنفاني
أخاف أن يدركَني الصبـــــاح
مهداةُ إلى صديقي "أبو عرب" الذي ما زال في
الأسر..
هل كان الأمرُ يستحق كلََّ هذا العناء.؟
تحدّثي عنّي يا شهرزاد، فأنا الحكاية..!
أذكر أمي وأغنياتها المخنوقة، تطوي قنباز
أبي المقصّب عند عودته قبيل كل مساء،
وتسجّيه برفق كأنه قطعة من حكاياتك، فوق
صندوق خشبي محدّب.
ثم تغسل حطتّه البيضاء الحريرية، وتبقى
واقفةً على عتبة باب الدار تنفضها في وجه
الريح حتى تجّف، تعلقُّها على المسمار..
فتنصبّ برّاقةً مثل شفرة سيف مسرور..
تفعلُ كذلك كل مساء..
يجلس والدي على حجر أسود عريض، مزروع منذ
قرون في مكانه خارج باب الدار..
يصفق بيديه، فتهبط رفوف حمامِ، تملأ
ألوانها الزاهية الساحة الترابية، ينثرُ
حبوب الذرة.. ويبدأ صراعُ حميم بين الطيور
الأليفة، ويضّج الفضاء بصوت الهديل..
نخرج متراكضين وراء بعضِنا يأخُذنا حماسُ
اللعب، فتفزعُ الطيورُ إلى حين، تقفزُ
مرتفعةً، تدركُ أن الأمر لا يستحق، تحطُ
ثانيةَ بين يديه..
يتبعنا صوتُه الأجش..
- اقلب تقلب ترضع..
فنتوارى بين أشجار الخروب البعيدة حتى
نرى شبحه المسربل بالأبيض يغيب داخل
الدار، ندركُ أنه سيدخل المضافة، يحمّص
القهوة، ويستعدُ لاستقبالِ الرجال..
يحمل بين يديه أخي سعيد وسنوات عمره
الثلاث، يسجّيه على فراش رقيق، يحرصُ أن
يستقبلَ وجهه الجنوب، ويهيل على جسده
حطّتَهُ البيضاء، يغلق باب الغرفة
الأخيرة بالمفتاح، تلحقه أمي تضرب على
صدرها، يمسكها، يكتم صوتها بكفّ يده
الكبيرة..
- إذا سمعتُ صرخةً واحدةً.. أنت طالق..
كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد..
كأنني ثور "أبو حسن" الذي جنَّ فجأة، وراح
يطعن بقرنيه كل عابر سبيل..
يومها شدّوا قوائمه بقيد واحد. أربعة
أساور من حديد، تجمعها جنازير قصيرة.
مطويّ على صندوق أمي المحدّب..
أطرافي الأربعة تتوجّع، وتبصقُ دماً
وصديداً أصفر اللون..
كنت مثل قطّة.. أنطوي تحت نافذة غرفة أمي..
يتسرّب لهاثها إلى أذنيّ، أسمع أنينها
المكبوت، وتلفحُني بين الفينة والأخرى
أنفاسُها الحرّة..
تهمس ولا تجرؤ حتى على الحزن..
- سعيد مات يمّا.. بدال ما يحضروا طهوره،
يحضروا جنازته..
وتنهال على صفحة وجهها دموع ما رأيت مثل
غزارتها كلَّ عمري.. شممتُ رائحََها
ممسّكةً تنبعث سخيّةً من "مناسف" البرغل
والرز..
يومها لم أبكِ..
بقيت صاحياً.. لم أنم، وحين شقَّ صوت
المؤذن حلكة العتمة، يفسح الطريق أمام زحف
فجر جديد، أدركتُ أن الشمس ستستبيح
بأشعتها الصفراء الساحات والدور والبيادر
كما في كلِّ صباح..
صوته يضرب أذنيّ في اللحظات الحالكات..
- البكا للنسوان يابا..
لو قلتُ آه واحدة، أعطيه انتصاراً ليس له
مثيل..
صدّقيني، لقد ضاقت سبل المعركة، ولم
يتبقَّ في ساحتِها إلا أنا وهو.. أنا أو هو..
كنت أحمل بارودة، أعلّق على ماسورتها
صبوتي، وتحدّثُني كما حكاياتِك، تركّبُ
انتصاري ليلة إثر ليلة فأراه بارقاً
مشعّاً.. وتحمل همّي وحُلمي..
اليوم أحملُ قيدي..
تحسستُ أطرافي فوجدت فيها بقيةَ من حياة،
تقول لي:
- ما زلت هنا، وما زال هنا، والمعركة
مفتوحة..
عيناه الزرقاوان الغائرتان، وفمُه
الصغير الصارم الخالي من الشفتين كأنه
يرجوني، يقسم علي لو أقول آهِ واحدة،
ليخلصّني من العذاب..