• عدد المراجعات :
  • 7646
  • 7/1/2006
  • تاريخ :

الاسرة المسلمة والتحولات الحضارية الجديدة

الاسرة بحكم تكوينها ووظيفتها، عرضة للتقلبات والصراعات الخطيرة التي تحدث في المجتمع،فالحروب مثلا، تحدث اضطرابات وهزات عنيفة في العلاقات الاجتماعية والقيم الانسانية في الاسرة، وبذلك تنعكس الاحداث الخارجية على العلاقات الداخلية للاسرة.

بل إن ذلك يتعدى الى تركيبتها العامة ووظائفها الاجتماعية، ولهذا يصعب فصل الاسرة كمؤسسة اجتماعية، ورصد مساراتها المستقبلية دون الاخذ بنظر الاعتبار، النظم الاجتماعية الاخرى.

فالاسرة ذات ارتباط وظيفي  ببقية مؤسسات المجتمع لانها خلية اجتماعية لها وظائف ذاتية خاصة بها، ووظائف اخرى ضمن اطار المنظومة الاجتماعية.

وبذلك تكون هذه الخلية مؤثرة في سير المجتمع من ناحية، وتتلقى التأثير من نواحي أخرى، تبرز في مقدماتها العوامل الثقافية والاقتصادية.

والتغيير في الاسرة ليس عملية ذات ابعاد قصيرة وانما هي مرتبطة بتغيرات سياسية وعقائدية واقتصادية كبرى تعكس واقعها على الاسرة، تركيبا ووظيفة، ولهذا فان المدى الزمني لتوقعات مستقبل الاسرة يجب أن يمتد الى عدة اجيال قادمة لنرى صحة بعض التوقعات المستقبلية، كما ترصد في الحاضر.

ان موضوع دراسة مستقبل الاسرة المسلمة من الاتساع بمكان بحيث يصعب معه تحديد عناصره، ورصد واقعه، ومعرفة المؤثرات الداخلة في تفاعله.

فالاسرة المسلمة الممتدة من الشرق الى الغرب، تتفاوت مستويات معيشتها، كما تتباين ظروفها السياسية والثقافية الى حد التعارض والتناقض.


الاسرة والبناء الحضاري

تعتبر الاسرة من أهم المؤسسات الاجتماعية نظرا لعلاقاتها الوثيقة بالفرد والمجتمع، والتي تتجسد في الوظائف الجوهرية التي تقدمها للمجتمع الكبير من خلال قيامها برعاية الفرد، والسهر على تلبية ما يحتاج اليه من خدمات وعناية واشراف.

وتأتي أهمية دراسة الاسرة في المجتمعات النامية من كونها أهم النظم الاساسية التي تؤثر في تشكيل البناء الاجتماعي واستمراره وفاعليته. فهي منطلق التنشئة الاجتماعية و اساس النماذج الحسنة في المجتمع، ومسار الاتجاهات الفكرية والثقافية والسلوكية في الاطار الاجتماعي العام.

ان التطلع الى بناء الانسان المسلم المعاصر يتطلب المحافظة على اصالة ذلك الانسان وعصرنته. وهذا يأتي من خلال الاسرة، فهي الوحدة الاساسية في تثبيت السمات الجوهرية للمؤسسات البنيوية المادية وغير المادية التي تتعامل مع الانسان وتتفاعل مع معطيات حياته.

وهذا يعني أن مساهمة الاسرة في عملية البناء الحضاري، في المجتمعات الاسلامية المعاصرة، مساهمة لها وزنها الكبير ودورها الخطير.

والاسرة كذلك، هي المؤسسة الاجتماعية ذات الاهمية الكبرى في غرس القيم الاسلامية، وتحديد نماذج الاقتداء، الالتزام بالمبادىء، وممارسة الابداع الذهني في اجواء من السكينة والاطمئنان والامن المادي والمعنوي. وتبرز اهمية الاسرة في البناء الحضاري، والمساهمة في تحقيق مستلزمات الاسلام ومقتضيات العصر من كون الاسرة، القناة الاولى التي يلتقي منها الفرد، المفاهيم الاسلامية والقيم الدينية، ومعايير السلوك وأهداف المجتمع وغاياته، في عملية تفاعل صادق نحو تشكيل الشخصية النموذجية وتكوينها عن الانسان، والتي تعبر عن شخصية المجتمع الكلي واخلاقه.

لكن عملية تنشئة الفرد لم تعد مسؤولية الاسرة وحدها في هذا العصر، ولكنها أصبحت حاصل جميع المؤثرات والمثيرات التي تحدثها وتنتجها بقية المؤسسات الاجتماعية والاعلامية والسياسية والاقتصادية، فتعمل على تشكيل الانسان وصقل شخصيته.


الاسرة والتغيرات المستقبلية

يدرك الباحث أو الباحثة عند استشفاف مستقبل الاسرة المسلمة، تعدد الانماط الاسرية في العالم الاسلامي. فهناك الاسرة المستقرة، والمتحولة، وهناك الاسرة الحضرية والريفية والبدوية.

ان محاولات رصد الاسرة المسلمة، مرتبط بمعرفة تلك العوامل المؤثرة في وظيفة الاسرة وانشطتها وانواع العلاقات الرابطة بين افرادها، وننطلق من الماضي والحاضر الى ذلك المستقبل في محاولة لاستكشاف محاور التغيير في الاسرة المسلمة.

ان العوامل المؤثرة في تغييرات الاسرة كثيرة ومتعددة، منها: العوامل الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية. ولكل عامل من هذه العوامل أثره البارز في احداث تغييرات واضحة في الاسرة المسلمة.

۱_ العوامل الاجتماعية

العقود القادمة ستشهد تحولا تدريجيا في مستويات تركيب الاسرة ووظائفها، نتيجة الهجرات الواسعة من حياة الريف الى المدن.وقد يكون هذا الامر قد بدأ فعلا في بعض البلدان الاسلامية، لكن الحديث عن العالم الاسلامي بعمومه وليس عن دولة خاصة، ولا نلك هنا ونحن نتحدث في مستقبل الاسرة الا ان ننوّه باهمية التخطيط في عملية التحول من البداوة الى المناطق المدنية، بالنقلة المفاجئة القسرية ستشهد خلخلة في القيم الدينية وتحللا في العلاقات الاجتماعية، مما ينعكس على نفسية الفرد ويقلل من انتاجيته ومساهماته.

۲- العوامل السياسية

الاسرة وحدة اجتماعية ذات علاقة قوية ببقية مؤسسات تتأثر بتحولاته، وتؤثر في بعض جوانبه. وهي الحصن التربوي الاول، الذي يتشرب منه الاطفال القيم وانماط السلوك المختلقة ومعايير القبول في المجتمع. والاساس في الاسرة هو استقرار احوالها المعيشية، ومعتقداتها الدينية او منطلقاتها الفكرية، وأي تغييرات في تلك الابعاد سينعكس على وظيفة الاسرة في المجتمع حتما.

وتأتي العوامل السياسية في مقدمة تلك المؤثرات في حياة الاسرة، فالتغيير في النظام الاساسي، واحداث تحولات سياسية سينعكس على الاسرة سلبا وايجابا. ويمكن ملاحظة ذلك في بعض المجتمعات الاسلامية التي حدثت فيها انقلابات عسكرية او ثورات شعبية حيث تغير كثير من قيم المجتمع التي كانت سائدة قبل الثورة، واستبدلت بهم قيم جديدة دخلت الى الاسرة، وأثرت في مجريات حياتها.

وقد يمثل التغيير السياسي بالغزو الخارجي الذي يدفع الاسرة كثيرا الى الهجرة، مما يترتب عليه زيادة في التكلف، وقلة في أداء الوظائف المختلفة.

وقد تتمثل العوامل السياسية بفرض هيمنة خارجية على المجتمعات الاسلامية، ومن ثم تبدأ التحولات في نطاق الاسرة، وهذا ما تدل عليه بعض المؤشرات الحاضرة، ويمكن في هذا المجال أن نضع بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن تكون مؤشرات دالة على صورة المستقبل.

يتعرض العالم الاسلامي لاشد أنواع الصراعات، حتى أصبحت مجتمعاته ميدان تجارب لشتى انواع الاسلحة وادوات الدمار، يبعثها الاعداء نحو الدول الاسلامية، لزعزعة البناء الحضاري، واستنفاد الثروات، واستمرار الهدم والتقهقر، وهذا مظهر من مظاهر التردي في العالم الاسلامي يشهده المسلم المعاصر.

وكذلك يترك آثاره على استقرار الاسرة وتأدية وظائفها الاساسية، وتكون العلاقات بين افرادها متوترة في حالة استمرار الحروب والتقلبات السياسية، وتزداد حالات القلق والاكتئاب والخوف وبعض الامراض النفسية نتيجة لتلك الاحداث الخارجية.

ان المستقبل من منطلق العوامل السياسية، فيه كثير من عوامل الزعزعة لكيان المجتمع والاسرة واشاعة حالات الرعب بين افرادها، والبديل لذلك، نظرات الامل التي تعطي بعض الخطوط المضيئة لوحدة الشعوب الاسلامية، مما سيكون له اثره في اعادة كيان الاسرة، واستقرار علاقاتها، واداء وطائفها. والاسلام بحدّ ذاته مبني على الامل والاطمئنان.

۳- العوامل الاقتصادية:

يعتبر العامل الاقتصادي من اكثر العوامل استخداما في نظريات التغيير الاجتماعي، فطبيعة العمل ومصدر الدخل وامكانية الحصول على السلع هي التي تحكم العلاقات الاقتصادية بين الناس، وهي التي تشكل محور اهتمام الاسرة،

وعلى الرغم من أهمية هذا العامل فان وضعه -كعامل وحيد في احداث التغييرات الاجتماعية- فيه كثير من المبالغة.

ان استشفاف مستقبل العوامل الاقتصادية، يوحي بوضع مأساوي تعيشه المجتمعات الاسلامية مستقبلا في ظل الفوارق المعيشية الصارخة بين أبنائها، فالاسرة التي تعيش في وفرة مادية في عصرنا الحاضر ستميل الى الانماط الاستهلاكية، واستيراد المواد الكمالية، الوفرة المادية صعوبة بالغة، وسيتضح ميل هذه الاسر الى تقليد النموذج الغربي في العلاقات الاسرية، وفي العادات الاجتماعية ومعايير السلوك غير المتزن، وبذلك نتوقع أن يكون الميزان في مستقبله راحجا لصالح تلك المجتمعات التي لا تملك المجتمعات اكثر تماسكا، واوضح في تحديد الهوية الاسلامية في سلوكها وأنماط علاقاتها.

ويمكننا توقع مستقبل الاسرة المسلمة في المجتمعات ذات الوفرة المادية عند عدم وجود خطط واعية لتلك الاسرة، فان وجدت البرامج الاعلامية للتوعية بين الناس في مجال تحديد الهوية، والابتعاد عن الانماط السلوكية الغربية والتحرر من سمات الاستهلاك والحث على الانتاج كقيمة حياتية، حيث سيؤثر ذلك التحول حتما على مسلك الاسرة المسلمة في المستقبل المنظور.

ومستقبل العالم الاسلامي يوحي بإمكانية التحرر الاقتصادي من واقع التبعية للأخرين، فالشعوب المسلمة في حاضرها ما تزال عاجزة عن استغلال ثرواتها، واستخدام طاقاتها الذاتية، بل لا تزال مرتبطة ارتباطا تختلف قوته من بلد الى بلد مع قوى الاستكبار العالمي التي تتحكم في الثروة تارة، وتوجه الشعوب عن طريق الاعلانات تارة اخرى، ولكن ذلك لا يخفي تلك الانجازات الماثلة في بعض الدول الاسلامية والشاهدة على استمرارية شعوبها ومحاولاتها نحو الحرية الحقيقية في عالم الصراع المعاصر.

وهذه الشواهد مؤشرات على استشفاف مستقبل أفضل للشعوب المسلمة مع وضع شرط الاستقرار السياسي والخارجي، ووقف الحروب بين شعوبها، وهذا سيكون له انعكاس على استقرار الاسرة وتدعيم وظائفها، وتوضيح علاقاتها ببقية مؤسسات المجتمع.

وأي رخاء اقتصادي متوقع في المجتمعات المسلمة الفقيرة، يعقبه تحسّن في الخدمات الصحية، مما يترك أثره في استقرار الاسرة وسعادة أفرادها. اذ ان انخفاض مستوى الدخل في كثير من المجتمعات الاسلامية قد أدىّ الى تقليص في مستوى الخدمات الترفيهية، لان الجانب الترفيهي له الدور المعلوم في ترابط الاسرة الصغيرة.

سعيد كاظم

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)