• عدد المراجعات :
  • 1538
  • 11/9/2008
  • تاريخ :

الوجوه المتبدلة للاسلام السياسي
الاسلام السياسي

الإسلام والسياسة

الإسلام السياسي والغرب

ترويض الإسلامويين من خلال إشراكهم بالحياة السياسية

رؤية سوسيولوجية في الإسلام السياسي

الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي

لغة الإسلام السياسي

 

لن تكون المواعظ التي يطلقها زعماء الغرب داعين فيها الى التمييز بين الاسلام والإرهاب كافية لتنقية النفوس. ويزداد بقوة خطر تنامي العنصرية، الواعية او اللاواعية، وسط رأي عام مرتعب ولا حول له. ويسود شعور بأن "الغرب" و"الديموقراطيات المتمدنة" تخوض "حربا" (إن لم تكن حرباً صليبية) ضد "مسلمين متعصبين" و"توتاليتاريين". وما يزيد في توهم صحة هذه النظرة ان الارهابيين قد دعوا الى "الجهاد" ضد "الصليبيين الكفرة" الذين يسعون الى إخضاع أمة الاسلام.

هذا التوازي المقلق بين النظرتين يعمق الهوة بين حضارتين وعالمين، بين المنعّمين والمتروكين لأمرهم فريسة حالات الحرمان والحقد المتراكم.

ففي الغرب مسؤولون سياسيون ووسائل إعلام، مع بعض الاستثناءات البارزة، يساهمون في عملية الفرز هذه بطريقتين، أولاً بتغاضيهم عن الدوافع السياسية للارهابيين والتركيز على انتمائهم الديني، وثانياً باستخدام عبارات تثير كل أشكال الخلط التي يدّعون تجنبها. فاستخدام بعض المفردات كيفما كان، وكأنها تؤدي المعنى نفسه، مثل الاسلام والتعصب والارهاب والاصولية والتطرف والاسلامية، يولد الالتباس في أحسن الأحوال والعنصرية المعادية للاسلام في أسوأها. وهكذا نجد أن كل فرنسي من اثنين يقر انه يخلط ما بين التعصب والاسلام، وذلك بحسب إحصاء أجرته مؤسسة "إيفوب"  .

لا يمكن تفادي الوقوع في تعاكس المعنى المؤذي عندما يكون الحديث عن "الأصولية" و"التطرف"، وهما ظاهرتان غريبتان عن الاسلام، فالأولى ذات جوهر بروتستانتي والثانية كاثوليكية، أو حتى عندما يلجأ الى كلمة الاسلامية التي اعتمدها بعض دارسي الاسلام كافضل حل، فيما آخرون ممن توخوا الدقة فضلوا مفهوم "الاسلام السياسي". وفي الواقع يعود الى البروز ذلك اللبس المفضي الى الخلط عندما يتم الوقوع في التعميمات في موضوع الحركات او الأحزاب الاسلامية. والحال، أن هذه الحركات والأحزاب متفاوتة النظرة الى حد بعيد وما من شيء مشترك بينها سوى ان مرجعها هو ديانة النبي التي يؤولونها اساساً في أشكال متباينة أو متناقضة الى درجة أنها تنبسط في المشهد السياسي من أقصى اليمين الى اليسار.

فإيران توفر مرقباً نموذجياً للصراعات الاسلامية الداخلية. ذلك أن المعارضة الأشرس التي واجهها الإمام الخميني بعد قليل من تبوئه السلطة في العام 1979، لم تتشكل من الأحزاب العلمانية وإنما من فرق إسلامية، بعضها كان ذا نزعة ليبيرالية (يؤيدها بعض آيات الله) والبعض الآخر استوحى التوجه الاشتراكي الديموقراطي أو الماركسي. وبعدما جرت تصفية خصوم الخمينية، تركز الصراع في السنوات الأخيرة بين نزعتين، إحداهما توتاليتارية (وهي أقلية الى اقصى حد) تتمثل بآية الله خامنئي، المرشد الأعلى، والأخرى غالبية يقودها رئيس الجمهورية محمد خاتمي وهي ذات نزعة ديموقراطية علمانية  . أما رجال الدين الإيرانيون، وهم صورة عن المجتمع، فمنقسمون بقوة بين محافظين وإصلاحيين، وكلاهما يستند الى قراءات متناقضة للكتب المقدسة.

أما في تركيا، البلد الاسلامي الآخر غير العربي، فالحركة الاسلامية، الموجودة على الساحة السياسية منذ خمسين سنة تحت تسميات متعددة، والتي تقر بشرعية نظام أتاتورك، منخرطة في علمنة الدولة، لكنها تأخذ عليها في الوقت نفسه أنها لا تراعي مبدأ حيادية الدولة كما هو الأمر في فرنسا أو في الولايات المتحدة. فـ "الاسلاميون الديموقراطيون"، كما يسمونهم أحياناً في تركيا، تيمناً بالمسيحيين الديموقراطيين الأوروبيين، يتمثلون بقوة في البرلمان وفي المجالس البلدية، وقد شاركوا في العديد من الحكومات اليمينية او اليسارية، وتولى زعيمهم التاريخي، نجم الدين إربكان رئاسة الوزراء في حكومة ائتلافية في العامين 1996- 1997 قبل أن يجرد من حقوقه المدنية. وللمفارقة أنهم إذ يعتبرون أنفسهم عرضة للتمييز يخوضون معركة طليعية من أجل إقامة الديموقراطية في الجمهورية التركية آملين في انضمامها الى الاتحاد الأوروبي، كما من أجل الدفاع عن حقوق الانسان...

أما من جهة مصر فان فيها العديد من المنظمات الاسلامية المتفاوتة التوجهات والأهداف، وهي باستثناء واحدة أو اثنتين منها تنادي بإجراء اصلاحات بالوسائل السلمية، كما هي حال "جماعة الاخوان المسلمين"، الأقدم والأهم بينها، التي تدين العنف و"الديكتاتورية" الاسلامية في السودان مثل إدانتها "جرائم" الميليشيات الاسلامية في الجزائر. وهذا لم يمنع أن بعض "كادرات" الاخوان قد اعتبروا ان هذه المنظمة محافظة جداً فانشقوا عنها لتأسيس حزب "الوسط"  . وهم يناضلون من اجل فرض التعددية السياسية وحقوق الانسان. وتضم لجنتهم القيادية امرأة، ورجلاً من الأقباط المسيحيين وذلك تعبيراً عن تمايزهم. وبالعكس فان "منظمة الجهاد الاسلامي" بزعامة الدكتور أيمن الظواهري انضمت الى تنظيم "القاعدة"، المنظمة الارهابية التابعة لأسامة بن لادن.

وفي الامكان الاستشهاد بالكثير من الأمثلة الأخرى التي تبين تنوع الاسلام السياسي في البلاد العربية الاسلامية من المحيط الى الخليج. كما أن مسار الحركة الاسلامية عرف تطورات ملحوظة وحتى بعض التحولات ، منذ ان تأسست في مصر عام 1928 "الاخوان المسلمون" الذين انتشروا في المنطقة قبل أن يفقدوا تفوقهم. وقد شكلت الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو عام 1967 منطعفاً مهماً بعد انهيار الاحزاب الوطنية والاشتراكية التي حُمّلت مسؤولية الهزيمة. وإذا بالشعوب التي أصيبت بالذل والاحباط والضياع لا تجد أمامها ملجأ في أزمتها سوى الايمان.

وإذ كانت معظم الانظمة العربية قد دفعت الإسلاميين الى العمل في الخفاء فانهم استخدموا المساجد كمنابر والجماعات العاملة في جمعياتها الخيرية والتعاونية قناة لنشر رسالتها.

وقد اعتمدت هذه الجماعات، عن اقتناع أو عن انتهازية، الخطاب السياسي لمنافسيها الذين غابوا عن الساحة. فوظفت البلاغة الاسلامية، أداة التجييش، كغلاف خارجي نوعاً ما لمحتوى وطني معاد للامبريالية، إنما أيضاً لمحتوى اجتماعي اتخذ شكل استنكار المظالم والفساد واستبداد الاقليات الحاكمة، وبذلك أصبح الاسلام السياسي إحدى القنوات القليلة المتوافرة للاحتجاج والمطالبة. فلو ان تصريحات الامام الخميني مثلا جردت من إرجاعاتها الدينية، لجاءت تشبه حتى التطابق تصريحات زعيم من العالم الثالث مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وهكذا احتل زعيم الثورة الايرانية الساحة التي تركها له الشاه بعدما أخلاها من أحزاب المعارضة الديموقراطية اليمينية كما اليسارية.

وكان من البديهي أن يترك برنامج الاسلاميين السياسي والاجتماعي، وإن يكن ديماغوجياً، أثراً في الرأي العام أعمق من دعوتهم الدينية المتصفة غالباً في مجال الأخلاقيات بالرجعية وباحتقار المرأة وبالقمعية. وهذا دون غيره يفسر النهضة التي حققها الاسلاميون بعد تحولهم منافحين عن القضية الوطنية، وليس قبل ذلك. فصحيح ان هؤلاء استفادوا من المساعدات المتعددة الأشكال، والمالية تحديداً، من الدول التي تعتبر نفسها إسلامية، مثل السعودية وبعض دول الخليج التي اعتقدت انها بذلك تثبت مواقعها بعد سقوط الانظمة المعادية لها، لكن، كما سنتبين لاحقاً، لم يرد لهم الجميل إذ فاتهم أن الاسلام السياسي في صيغته الجديدة، لم يكن حكماً يوافقها.

وقد حاولت الانظمة العربية، في وجه التهديد الذي كانت تواجهه، ان تحيّد الاسلاميين، فلاحقهم البعض بوحشية لا مثيل لها غالباً، فيما استلحقهم البعض الآخر داخل المؤسسات الدولتية محتفظاً بالقدرة على تحويلهم أداة له. ومن الدول التي استتبع الاسلاميون فيها بنجاح، لبنان والاردن والكويت واليمن، حيث باتوا ممثلين في البرلمانات، وفي بعض الحالات في الحكومات. وفي المقابل، تعرضوا للابادة في سوريا بعد مجازر رهيبة، وفي تونس والعراق عبر عملية قمع لا هوادة فيها، في حين أن الساعين في الجزائر الى "استئصالهم" ويعملون للقضاء عليهم، لم ينجحوا الا في تأبيد نزاع مغرق في الدماء.

من الخطأ الاعتقاد أن المواجهات بين الانظمة القائمة والاسلاميين تقوم بين مؤيدي العلمنة ورافضيها، فبعض الدول المعادية للاسلام السياسي أرست لنفسها دساتير وتشريعات مستمدة من تعاليم الكتب المقدسة، وبعضها الآخر زايد بحماسة على خصومه كي يضفي على نفسه طابعاً اسلامياً شبيهاً بأطروحاتهم. وفي هذا المجال يعتبر الوضع في السعودية أو في مصر نموذجياً. وما عدا بعض الاستثناءات النادرة فان حكومات المنطقة تحالفت في ظروف متفاوتة مع الاسلاميين بغية استخدامهم في وجه خصوم لها اكثر خطورة. فالرئيس أنور السادات احتضنهم في السبعينات من أجل القضاء على اليسار الناصري وعلى الشيوعيين، وذلك، يا لسخرية القدر، قبل ان يغتاله أحدهم في العام 1981. أما خلفه السيد حسني مبارك، فاوقف الملاحقات ضدهم عندما انخرط في الحملة ضد التدخل السوفياتي في أفغانستان، قبل ان يتعرض هو بدوره لمحاولة اغتيال على يدهم في العام 1995. كما ان الملك حسين في الاردن اعتمد دائماً عليهم من أجل مواجهة الأحزاب المعارضة لسلطته، والرئيس اليمني عبد الله الصالح ضمن تعاونهم في معركته ضد الماركسيين في اليمن الجنوبية، وهذا ما فعله الرئيس السوداني السابق جعفر النميري من أجل القضاء على مقاومة الاحزاب السياسية المعادية لنظامه الاستبدادي، كما على الثوار الانفصاليين، المسيحيين أو الأحيائيين، في المقاطعات الجنوبية من البلاد.

ويكاد الوضع لا يختلف في إسرائيل، فالحكومات المتعاقبة في الدولة اليهودية ساندت على الدوام "الاخوان المسلمين" سراً في الأراضي المحتلة يوم لم يكن هؤلاء يناصبون العداء الا لمنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات إذ كانوا يعتبرونها تجمعاً من خونة الاسلام بقومييها وماركسييها معاً. وقد أدرك الزعماء الاسرائيليون قصر نظرهم حين انبثقت عن "الاخوان" في العام 1987، في بداية الانتفاضة الأولى، منظمة "حماس" الحالية التي تأخذ على عاتقها تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح.

ولم تشذ الولايات المتحدة عن إسرائيل والدول العربية، فقد نظرت واشنطن على الدوام الى الاسلاميين على أنهم شركاء طبيعيون، وكان من المتوقع منهم، كما كان يظن في واشنطن، أن ينضموا الى دائرة "العالم الحر" على أساس انهم أعداء شرسون لـ"الملحدين الشيوعيين"، ومؤيدون ثابتون لاقتصاد السوق. من هنا كان تساهل او تغاضي "دولة العم سام" عنهم. والتحالف بين أميركا والسعودية، موطن الوهابية المتشددة، لم يفتر قط منذ الحرب العالمية، وفي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الدول الاسلامية والحركات الاسلامية تناضل جنباً الى جنب مع المعسكر الأميركي ضد الناصرية وضد "امبراطورية الشر" السوفياتية. في اختصار كانت "معركة الخير ضد الشر"، في طبعتها الأولى.

ثم وقعت احداث ثلاثة متتالية غيّرت المعطيات كلياً: طرد الجيش الأحمر من أفغانستان وحرب الخليج وسقوط الامبراطورية السوفياتية. وهذه كلها وفرت مقومات قيام تشكيلات إسلامية جديدة فرخت في جبال أفغانستان. فالمجاهدون لم يعتبروا انفسهم من الاتباع المألوفين للولايات المتحدة، فقد كانوا متأكدين، كما السيد أسامة بن لادن وأنصاره في ما بعد، أنهم حرروا أرضاً إسلامية بفضل معركتهم العظيمة وتضحياتهم والشهادة التي ارتضاها بعضهم. وقد جاءت خيبتهم غداة النصر على قدر الفكرة التي كوّنوها عن دورهم. فإذ كان معظمهم من دون عمل أو موارد لم يقابلوا بأي عرفان أو مكافأة او تعويض، وإذا كانت الولايات المتحدة مرغمة على الاعتراف بذلك إلا أنها مارست ضغوطاً سرية على بعض الحكومات المتحفظة كي تعيد الى البلاد اولئك الذين سوف يلجأون لدى عودتهم الى أعمال العنف في الجزائر أو كشمير أو فلسطين أو لبنان أو مصر قبل أن يشاركوا في ذلك في البوسنة والشيشان. وإزاء تشبث مصر برفضها استقبال الشيخ عمر عبد الرحمن الذي كان تورط في اغتيال الرئيس أنور السادات، فقد منحته الحكومة الأميركية في العام 1991 اللجوء السياسي، وبعد سنتين كان الشيخ الأعمى يدير الاعتداء الأول على "مركز التجارة العالمي" ليواجه بذلك عقوبة بالسجن لمدة عشرات السنين...

ثم جاءت حرب الخليج في العامين 1990 - 1991 لتثير موجة من التظاهرات والاحتجاجات في العالم العربي الاسلامي، وذلك، كما كتب عن ذلك من قبل، ليس تعاطفاً مع السيد صدام حسين، بل اعتراضاً على انحياز واشنطن وسياستها التي وصفت بأنها "ذات مكيالين ومعيارين". فقد عبرت وسائل الاعلام الاسلامية والقومية بالاجماع عن سخطها متسائلة لماذا يعاقب العراق وحده بسبب اعتدائه على الكويت، فيما اسرائيل تحتل منذ عشرات السنين اراضي عربية من دون ان تلقى أي محاسبة؟ وما هو المنطق الداعي الى الحصار على مدى سنوات وقد أودى بحياة مئات الآلاف من الأطفال العراقيين؟ ولماذا كان على الأميركيين ان يقيموا غداة الحرب قواعد عسكرية في العديد من بلدان الخليج، وتحديداً في السعودية، الأرض المقدسة دون غيرها، إن لم يكن من اجل حماية الانظمة اللاشعبية والمتزعزعة أحياناً؟ هكذا تحولت القوة العظمى الوحيدة في العالم، التي كانت تعلن انبثاق نظام دولي جديد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي هدفاً مميزاً للاسلاميين من مختلف النزعات ومن ضمنهم اولئك الذين انضووا تحت لواء أسامة بن لادن.

فهل هي "كراهية فطرية للأميركيين"؟ ليس العداء لسياسة واشنطن الخارجية شعوراً غريزياً في العالم العربي الاسلامي كما يحلو للبعض ان يوحي به، فيما مشاعر الغيظ إزاءها، وقد باتت كونية، تنتشر في إفريقيا وفي أميركا اللاتينية كما في آسيا أو في أوروبا سواء في أوساط الشعوب المسلمة أم لا. كما ان هذا الرفض ليس راسخاً، فقد عرفت الولايات المتحدة مراحل في التاريخ الحديث بلغت فيها شعبيتها الذروة في العالم العربي، حين وعد الرئيس ولسون غداة الحرب العالمية الأولى بتحرير جميع الشعوب الخاضعة للاستعمار، وحين تعهد الرئيس روزفلت غداة الحرب العالمية الثانية في العام 1944 لملك السعودية ابن سعود بتسوية القضية الفلسطينية بمشاركة الدول العربية، وذلك حين كان ينظر الى الولايات المتحدة على انها عدوة الاستعمار البريطاني والفرنسي، وحين اجبر الرئيس ايزنهاور في العام 1956 بريطانيا وفرنسا واسرائيل على وقف هجومها على مصر وسحب قواتها فوراً. في تلك الأزمنة لم يكن من سبب لبروز رجل مثل ابن لادن.

السجن

وهل الارهاب صفة ملازمة للاسلام؟ هذا الموضوع أثارته بعض وسائل الاعلام من دون ان تتردد في العودة الى القرن الحادي عشر للتذكير بالاعمال الاجرامية التي ارتكبها أصحاب احد المذاهب: "الحشاشون". لكن لا يصعب على اي مؤرخ يتوخى الدقة أن يبين الطابع الماكر في موازاتها بمشروع السيد أسامة بن لادن. ففي الواقع أن موجة الارهاب هي ظاهرة عالمية مورست في كل مكان وفي دول لا يجمع بينها شيء مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا والأرجنتين واليونان. وقبل ان يبرز الارهاب أخيراً في طابعه المسمى إسلامياً، مورس على التوالي او بالتزامن على الصعيد الفلسطيني أو الاسرائيلي أو المصري او اليمني، في شكل مستمر أو ظرفياً وفي صفة فردية او قومية او دولية، مستهدفاً في الغالب السكان الأصليين.

وإرهاب تنظيم "القاعدة" الذي أسسه أسامة بن لادن إثر الحرب ضد السوفيات في افغانستان، هو من نوع آخر لا سابق له في التاريخ. إذ يستهدف حصرياً تقريباً المصالح الاميركية، وهو يخترق الحدود الدولية في تجنيده وفي هويته كونه ينشط باسم "الأمة"، "أمة المسلمين" المنتشرة في القارات الخمس، وهو "معولم" كونه ينبسط عبر الكرة الأرضية في ما يزيد على 50 دولة بحسب الادارة الأميركية، ويعتمد وسائل وتكنولوجيات انتجها نظام العولمة. وأتباعه مجندون من أوساط الطبقات المتوسطة التي تتغذى غالباً من الثقافة الغربية ومنضوون في زمرٍ تنشط بطريقة شبه مستقلة حتى عندما يتلقون التوجيهات من "المركز"، وهذه المجموعات "الخفية" ليست أداة في يد أي دولة ولا تعتمد، في شؤونها التمويلية واللوجستية، الا على مساهمات خاصة، وعلى الجمعيات الخيرية او على بعض الممولين الأثرياء، وأخيراً، وبعكس الارهابيين الأوائل الذين كانوا يعملون باسم منظمات كانت تمارس في موازاة ذلك نشاطات سياسية لا عنف فيها، فان اتباع ابن لادن بحسب ما هو معروف لا ينتظمون في اي قاعدة شعبية. إنهم في شكل ما بعض المنبوذين الذين يزعمون انهم يعملون بالنيابة عما يزيد على مليار مسلم من مختلف الانتماءات.

والحال، فإن ارفع السلطات الاسلامية، وبعكس ما زعمت بعض وسائل الاعلام، استنكرت في شبه إجماع، السنة والشيعة معاً، العمليات الانتحارية في 11 أيلول/سبتمبر، من دون ان ينقل صداها في شكل ملحوظ في وسائل الاعلام الغربية. فقد ادانت في تصريحات علنية ومن على مآذن المساجد المجزرة التي اصابت الأبرياء كونها تناقض رسالة وروحية الكتب المقدسة كما أدانت العمليات الانتحارية التي تحظرها رسمياً الديانات الموحدة الثلاث. فأي قيمة يبقى بعدها لـ"الفتاوى" الداعية الى الجهاد الصادرة عن ابن لادن ورفاقه، وسلطتهم الدينية مشكوك فيها إن لم تكن معدومة؟ وماذا يقال ايضاً في سلوك قراصنة الجو الذي لا يمت الى الاسلام بصلة وقد شوهد إثنان منهم يحتسيان الخمرة في أحد بارات فلوريدا قبل قليل من ارتكابهما الجريمة؟

لم تلزم الصمت الحركات الاسلامية هي أيضاً، رغم بعض الاستثناءات. ومنها حزب "النهضة" التونسي (السري) بزعامة السيد راشد الغنوشي الذي أصدر بياناً "يدين الارهاب دون تحفظ (...) وهذه الأعمال البربرية التي ليس لها ما يبررها" والتي "لا تمت الى الاسلام بصلة". وهناك بعض المنظمات الإسلامية لم تكن بهذا الوضوح وإنما كانت جازمة من ناحية المبدأ، ففضلت استنكار "جميع اعمال العنف أياً كان مصدرها".

وبالنتيجة، بدلاً من التركيز على الاسلام وعلاقاته المفترضة بالتعصب والارهاب، ألا يكون من الانسب في هذه الظروف البحث في التوازن العقلي لمنفذي الاعتداء في 11 أيلول/سبتمبر؟ او التساؤل حول الاغترار بالموت الذي يغذيه السيد ابن لادن على غرار تلك البدع المشؤومة الذكر في أوروبا او في الولايات المتحدة وحول هذا الابتهاج المرَضي الذي يبديه منفذو الاعتداءات الانتحارية؟

ويبدو ان السيد ابن لادن، الذي تنصل منه الاسلاميون والسلطات الدينية معاً، والذي ينظر اليه على انه صاحب بدعة، يحظى ببعض التساهل أو التعاطف في أوساط بعض الشعوب المسلمة او غيرها. غير ان المفارقة ظاهرية وحسب، فالشعوب التي أهملتها العولمة والمتعطشة الى العدالة والاعتبار، والتي تعتبر نفسها ضحية هيمنة السلطة الأميركية المتعجرفة، لا تؤيد على الأرجح السفسطة الدينية والوسائل الوحشية الفاضحة لتنظيم "القاعدة"، وإنما هي تتأثر بخطابها السياسي، وهذا بالضبط ما قرر تجاهله القائمون بعملية "الاستئصال" في الحملة العسكرية "الحرية الراسخة"، مجازفين بتأكيد الفرضية القائلة بأنها حرب ديانات.           

المصدر:ايريكرولو/العالم الدبلوماسي و مفهوم

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)