• عدد المراجعات :
  • 1743
  • 1/30/2008
  • تاريخ :

فصول من أيام الثورة وتأريخها 5

 الإمام الخميني (ره)

فصول من أيام الثورة وتأريخها 1

فصول من أيام الثورة وتأريخها 2

فصول من أيام الثورة وتأريخها 3

فصول من أيام الثورة وتأريخها 4

 

بداية العدّ العكسي للمغادرة

أعطاني الإمام جواز سفره وجواز سفر السيد أحمد وطلب منّي انجاز المقدمات الرسمية اللازمة للمغادرة، وقد كان الإمام راغباً بالانتقال إلى سوريا، بيد أنَّ التعارض القائم بين البلدين، كان يمكن ان يدفع العراقيين لمنع الإمام من السفر إلى سوريا، لذلك عزم سماحته على السفر إلى الكويت أولاً، ومنها ينتقل إلى سوريا.

اتصلنا بالمرحوم السيد المهري وكيل الإمام في الكويت، فدبَّر لنا دعوة رسمية (طلبية) لدخول الكويت وبعثها لنا باسم روح اللّه مصطفى مصطفوي، وهذا هو اسم الإمام في الجنسية حيث لا محل للقب الخميني، وبهذا الاُسلوب فات على السلطات المسؤولة في الكويت ان حامل الدعوة هو الإمام الخميني، وكذلك لم تنتبه السلطات العراقية لذلك أيضاً.

لقد كان من مسؤوليتي في النجف أن أنجز الأعمال التي تتصل بتمديد اقامة الإمام والمحيطين به، وأخذ اذونات السفر لهم عند الحاجة. على أساس هذه المسؤولية ولكثرة تردّدي إلى مديرية السفر والجنسية في النجف، كانت علاقتي قد توطدت بهم، خصوصاً واني كنت اُقدم بعض الهدايا لهم أحياناً.

على خلفية علاقة الودّ فيما بيننا كانوا يتعاونون معي ويسهّلون لي انجاز المعاملات الرسمية، بل كنت أحياناً أمهر الجوازات بتأشيرة الخروج بنفسي! كما كنت استفيد من أجواء الثقة التي تربطني بموظفي هذه الدائرة لتيسير المعاملات المعوقة لأصحابنا في النجف.

في ضوء هذه العلاقة الوطيدة أردت ان أحصل للإمام ونجله السيد أحمد على اذن الخروج من دون ان ينتبه مدير السفر والجنسية لذلك. وقد تم هذا الأمر لي بلطائف الحيل. وهكذا لم يكن أحد في النجف كلها يعلم بعزم الإمام على السفر حتى الليلة الأخيرة، سواي والسيد أحمد. وقد استمر هذا التكتم على سفر الإمام للكويت إلى قبل نصف ساعة من الغروب. في الليلة الأخيرة تشاورت أنا والسيد أحمد في الأمر، وفيما إذا كان من الصلاح ان نلتزم حالة التكتم هذه حتى النهاية، أم نقوم بإعلام الجهات المسؤولة بسفر الإمام؟ النتيجة التي انتهينا إليها، أنّ الإمام إذا تعرض لأيّ حادث، فانَّ السلطات ستلومنا وتأخذ علينا عدم اعلامها بالسفر، ثم رأينا انَّ الواجب الأخلاقي يفرض علينا ـ ربما ـ أن لا نغادر البلد من دون ان نُعلم السلطات المسؤولة.

لذلك كلّه قررنا أن نتصل بهم ونضعهم في الصورة.

في الساعة التاسعة من مساء تلك الليلة اتصلت هاتفياً بمديرية أمن النجف وذكرت لهم ان سماحة الإمام عازم على مغادرة العراق فجر اليوم التالي.

سألوني بدهشة: وهل حصل على تأشيرة الخروج؟

أجبت: أجل.

سألوا: متى؟

أجبت: اليوم!

سألوا: وإلى أين سيغادر؟

أجبت: إلى الكويت

قالوا: وماذا عن تأشيرة الدخول للكويت؟

قلت: حصل الإمام على دعوة تأذن له بالدخول.

لقد اتضح بعدئذ، أنَّ هناك خلافاً في وجهات النظر نشَبَ بين النظامين العراقي والإيراني؛ فالنظام في إيران كان يصر على أن يبقى الإمام في العراق، ولا يغادر إلى بلد آخر، حيث لا يمكن الضغط عليه، في حين كان العراق يريد أن يغادر الإمام البلد برغبته لكي يتخلص من موقفه الحرج مع إيران.

في صباح اليوم التالي، حضرت مجموعة من السيارات التابعة للدوائر الأمنية في النجف، فتحركنا نحو الكويت بمعية الإمام والسيد أحمد وعدد آخر من الأصدقاء، تُرافقنا قافلة من سيارات الأمن، حيث كانوا يتابعون حركتنا بأجهزة اللاسلكي لحظة بلحظة إلى ان وصلنا الحدود الكويتية.

كانت لحظة صعبة، هي لحظة وداع الإمام وفراقه، وقد قلت له عند التوديع: ولا جعله اللّه آخر العهد مني لزيارتكم، فدعا لي ثم افترقنا.

انتظرنا برهة من الوقت إلى ان اطمأننا إلى أنّ الإمام قد غادر النقطة الحدودية العراقية نحو الكويت، ثم قفلنا عائدين إلى النجف. وفي النجف كانت المفاجأة المذهلة عندما أخبرنا الشيخ رضواني بحزن انَّ الإمام لم يدخل الكويت، وهو اليوم في أحد فنادق البصرة.

كنت متعباً جداً مصاباً بالارهاق الشديد حين عدت إلى بيتي فرأيت رجال الأمن هناك، إذ أخبروني انَّ أبا سعد مدير أمن النجف يطلبني لأمرٍ فوري، فذهبنا إلى داره فوراً، فقال: تبلغك السلطات في بغداد بأنَّ آية اللّه الخميني في أحد فنادق البصرة الآن، وهو عازم على المجيء إلى بغداد في اليوم التالي، وأنت شخصياً تتعهد ان تبلغه رسمياً بأنه إذا رام العودة إلى النجف، فان ذلك مشروط بامتناعه عن اللقاءات العامة وعليه أن يلزم البيت.

قلت لأبي سعد: من خلال معرفتي بالإمام، لا أحسب انه يوافق على هذا الاقتراح، وفي الوقت نفسه لا أظن أنه يريد البقاء في العراق.

دار بيننا حديث آخر لا مجال لذكره الآن. ولكني في اليوم الثاني سـافرت إلى بغداد مبكراً وذهبـت إلـى المطار، إلى أن وصل الإمام، تقدمت إليه فقبلت يديه، فتبسم وقال: لقد اُستُجيبَ دعاؤك إذ ذلك في اشارة من سماحته لقولي له اثناء التوديع: ولا جعله اللّه آخر العهد مني لزيارتكم.

نقلتُ إليه ما أبلغتني به السلطات الأمنية، فقال لي، أنا عازم على السفر إلى باريس، ولأن الرحلة إلى باريس لا تتم قبل الغد، فأنا سنمضي الليلة في بغداد.

قام العراقيون باسكان الإمام تلك الليلة في واحدٍ من أضخم فنادق بغداد اسمه “دار السلام” وقد أخلوا له ولمرافقيه طبقة كاملة.

حملت هذه الليلة ذكريات جميلة كثيرة سواء في الفندق حيث أقام الإمام أو أثناء زيارته لحرم الإمامين الكاظم والجواد في الكاظمية لا مجال لتسجيلها الآن. ولكن الذي حصل في اليوم التالي اننا ذهبنا مع الإمام إلى مطار بغداد، فأخذوا بالإمام إلى قاعة التشريفات الرسمية، وفي هذه الأثناء قلت لمعاون أمن بغداد الذي كان يرافقنا: عندما قدم الإمام إلى العراق في عهد عبدالرحمن عارف، بعث الأخير لاستقباله في المطار وزير الشباب ليمثل الحكومة العراقية رسمياً، وكانت تلك التفاتة حسنة.

واقتراحي الآن: أرى من المفيد أن تودّعوا الإمام رسمياً لكي لا يقال انَّ البعثيين وجهوا اهانة للإمام.

كنت أهدف من هذا الاقتراح تحقيق أمرين، الأول: ان أوجّه بهذه الخطوة ـ لو حصلت ـ ضربة إلى نظام الشاه. الثاني: كنت اُريد أن تتدهور العلاقة أكثر بين النظامين.

قال لي معاون مدير الأمن العام، سأخبر السلطات المسؤولة باقتراحك وانتظر جوابها.

ذهب ثم عاد وهو يقول: اقتراحك ليس عملي، ولكن لدينا رسالة عليك أن تبلغها لآية اللّه الخميني في آخر لحظة قبل اقلاع الطائرة. سألته: وما هي الرسالة؟

أجاب: تبلغه ان لا يعود إلى العراق مجدداً إذا رفضت فرنسا استقباله.

قلت له: ليست هذه هدية لائقة تقدموها للمسافر في اللحظات الأخيرة من سفره. ثم أضفت: لا أرغب ان اُبلغ الإمام هذه الرسالة بحكم علاقتي الوطيدة به، ولا اُريد أن اوجّه له اهانة وأزيد من معاناته، لذلك اقترح عليكم أن اُبلغها لولده السيد أحمد.

ذهب معاون مدير الأمن العام، ثم عاد وقال: يجب ان تبلغ الرسالة لشخص آية اللّه مباشرة. ذكرت القصة للسيد أحمد، وقلت له اني لست على استعداد لابلاغ الإمام فحوى الرسالة.

اتفق السيد أحمد معي بالرأي، ثم قلت له: سأقول للإمام كلاماً في اللحظات الأخيرة يبعث على إطلاق البسمة بين شفتيه، فيظن من يراقب المشهد، انّ سماحته لم يعبأ بالرسالة.

تقدمت في اللحظات الأخيرة صوب الكرسي الذي يجلس عليه في الطائرة، قبلت يديه، ثم قلت له بحزن أقول لك مرةً اُخرى “ولا جعله اللّه آخر العهد مني لزيارتكم”.

عندما سمع الإمام دعائي هذا تبسّم ثم دعا لي.

عندما قفلت راجعاً، سألني معاون مدير الأمن العام، فيما إذا كنت قد أبلغت الإمام الرسالة، فأجبته: أجل.

سألني: وماذا قال؟

أجبت: ضحك!

ثم طار الإمام إلى باريس.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)