• عدد المراجعات :
  • 1133
  • 11/26/2007
  • تاريخ :

البعد العرفاني والتربوي والعبادي للحج

عرفان الحج

أعتقد أنّ أي بُعد من هذه الأبعاد يحتاج إلى حديث مستقل ، ولذلك سأحاول إثارة بعض الأفكار في هذا الموضوع ، من خلال عدة نقاط :

- النظرة التجزيئية ... المشكلة :

النقطة الأولى : إن مشكلة الإسلام ، في تجارب المفكّرين المسلمين ، هي النظرة التجزيئية التي حاولت أن تنظر إلى كل جزء في الإسلام بعيداً عن الأجزاء الأخرى ، فنقرأ عن البعد الروحي ، وعن البعد الاجتماعي ، وعن البعد السياسي ، وعن البعد الاقتصادي ، كما لو كان كل واحد منها موضوعاً مستقلا .. في طبيعته ، مما أدى إلى بعض الانعكاسات السلبية على واقع التصوّر الإسلامي ، والممارسة العملية للإنسان المسلم في التزامه ببعض الجوانب من دون بعض آخر. وإننا نلاحظ في هذا المجال ، أن هذه النظرة تبعدنا عن الفهم الشمولي للإسلام ، لأنه يختزن في كل جانب من جوانبه ، الجوانب الأخرى .. فنحن مثلا عندما ندرس الناحية الاقتصادية في الإسلام ، فإننا لا نجد فيها جوّاً مادياً يتحدّث عن العلاقات الاقتصادية ، وطريقة تحركها في علاقات الانتاج والتوزيع ، وما إلى ذلك فقط ، بل نجد ـ إلى جانب ذلك ـ عمقاً روحياً ومنهجاً أخلاقياً ، وحركةً اجتماعيةً وسياسةً في نطاق حركة الفرد والمجتمع ، يوحي لنا بأن هذه الأبعاد كلها تتكامل لتكوّن البعد الاقتصادي في المنهج ، وفي النظرية .. وفي ضوء ذلك فإننا لا نستطيع أن نفصل الجانب الذاتي عن الجانب الموضوعي في المسألة الاقتصادية .

وإذا أردنا أن ندرس البعد الأخلاقي في الإسلام ، فإنك لن تستطيع دراسته في نطاق النظرية الأخلاقية من الجانب الفلسفي ، بل لابد لك من استحضار المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة ، حتى نقف على الجانب العبادي ، لتجد الخطوط الأخلاقية تمتد إليها من جهة ، وتنطلق منها من جهة أخرى .وهكذا لن تجد الجانب الروحي مفصولا عن الجانب المادي ، بل تجد هنا لوناً من التزاوج الواقعي والعملي ، والتفاعل النظري بينهما على مستوى التصور في تركيز النظرية الإسلامية في تفسير الكون والحياة والإنسان .

إننا ندعو إلى دراسة هذه المسألة بعمق ; لنصل إلى النتيجة الحاسمة التي نخرج منها بالفكرة القائلة : إن الإسلام كيان فكري وتشريعي عملي تتغذى جوانبه تماماً كما هو الجسد الذي يتكامل ويتغذى من كل أجهزته ، فلا يستطيع أيّ جهاز ، أن يعطي الحياة الإنسانية شيئاً إلّا من خلال الطاقة التي تمدها بقية الأجهزة بالحيويّة ، فيما تحمل من عناصر القوّة والحياة .

وعلى هذا الأساس ، نستطيع أن ندخل إلى الواقع الإسلامي للإنسان المسلم من خلال الحالة التكاملية ، لنوجّه السلوك العملي إلى مواجهة المسألة من هذا الموقع ، لنتخلص من كثير من الخطط التي أثارها الكفر في وعي الأمة ، وحركها الاستعمار في حياتها عندما فصل الإسلام عن الواقع ، من خلال الفصل بين أجزاء الواقع ومفرداته ، فجعل القضية المطروحة ، هي أن هناك ديناً ودنيا ، وأن للدين دائرته ، وللدنيا دائرتها ، فآفاق الدين هي آفاق الغيب والروح والمثال ، التي تنطلق معها العبادة في أجواء الصلاة والصوم والحج والدعاء والابتهال والتصوف وغيبوبة الذات عن الواقع . أمّا آفاق الدنيا فهي آفاق الحياة العامة والخاصة في أجوائها المادية ، في اجتماعياتها وذاتياتها ، وسياستها واقتصادها ، وحربها وسلمها ، وشهواتها وملذاتها . فللدين ربّه ، وللدنيا ربّها .. والله هو ربّ الدين ، وقيصر هو ربّ الدنيا ، فليس لله أن يتدخل في صلاحيات القيصر وشؤونه وليس للقيصر أن يدخل إلى ملكوت الله وساحته .. وهكذا دخل الإسلام هذه الدائرة .. وبقيت الدوائر الأخرى تنتظر الفكر الآخر ، والقوّة الأخرى التي لا مكان فيها للإسلام .

وقد نلاحظ أن عصور التخلف التقليدية استطاعت أن تهيّيء الأرضية الصالحة لمثل هذا الاتجاه في الذهنية الإسلامية ، وذلك فيما لاحظناه من الأبحاث العبادية التي عاشتها التجارب الإسلامية الفكرية والفقهية التي حاولت أن تعتبر العبادات كياناً مستقلا مفصولا عن الجوانب الأخرى .. فنشأت عندنا شخصية الإنسان المسلم العابد الذي يستغرق في عبادته فينسى كل ماحوله ، ومَن حوله ..

حتى « العرفان » الذي انطلق في الدائرة الروحية الإسلامية ، كفكر وممارسة من أجل أن يكون أسلوباً متقدماً في صنع الشخصية الإسلامية المتحررة من كل القيود ، فتنتقل حركتها في سبيل الأهداف الكبيرة .. ليرتبط الإنسان بالحياة من خلال الحرية الداخلية المنفتحة على الله ، المتحركة في الحياة

من خلاله ، ليكون إنسان الحياة ، الحرّ في فكره وفي إرادته .. وفي حركة الحياة من حوله . حتى العرفان هذا ، دخلت فيه الفلسفة اليونانية والهندية وغيرهما ، فجعلت منه ـ في وعي الكثيرين في الساحة الإسلامية ـ فكراً منفصلا عن الحياة بحيث يستغرق فيه الإنسان ـ في الأجواء الإلـهية التي يعيش فيها ـ الاستغراق في هواجسه وتأملاته وابتهالاته مع الله ، من دون أن ينفتح من خلال ذلك على الحياة .

وقد رأينا ـ في تاريخنا وفي حاضرنا ـ الكثيرين ممن أخذوا بالعرفان كفلسفة ، وكسلوك ، وكاتجاه ، قد ابتعدوا عن الحياة ، وعن قضاياها وهمومها ومشاكلها وحركتها في ساحة الصراع ، واستغرقوا في الفكرة الانعزالية التي تعتبر ذلك كله شأناً مادياً لا يتناسب مع الانطلاقة الروحية المجرّدة التي يعيشها العارف ; لأنها تشغله عن الله ..

وقد لاحظنا في بعض هؤلاء ، أنهم لا يدققون في قضايا الشرع فيما يمارسونه من أساليب الرياضة الروحية وفيما يفعلون ، وفيما يتركون ، ممّا قد يعيش الإنسان فيه الابتعاد عن التكليف الشرعي فيما يحلّ الله وفيما يحرّمه ، وربما وصل ذلك بالبعض الى اعتبار الشرع حالة في الظاهر لا ترفع إلى مستوى العرفان ، الذي هو عمق الوعي الروحي في الباطن .

ولكننا نعرف أن «العرفان الإسلامي» قد انطلق من خلال مفاهيم القرآن ، التي تلحظ في الإنسان ارتباطه بالله ، الذي يطلّ به على مسؤوليته في الحياة عن الحياة كلّها ، وعن الإنسان كله ، في المنهج الفكري الذي أقامه الإسلام للحياة ، وفي الخط التشريعي الذي أراد للناس أن يسيروا عليه ، وفي الأجواء العامة التي وجّههم إلى أن يعيشوا في داخلها وفي ساحاتها .. وبذلك كان يمثل الإعداد الفكري والعملي للدخول إلى ساحة الإسلام في الحياة من خلال الله .

فليست هناك خلفيّة فلسفيّة يمكن للعرفان أن ينتمي اليها ، أو ينطلق منها بعيداً عن المفاهيم القرآنية الإسلامية ، التي أكدت أن يكون الإنسان المسلم إنساناً يتحرك في الحياة ; ليكون خليفة الله في الأرض ، ليبني الكون في دائرة قدرته ، على النهج الذي يحب الله له أن يكون فيه ، بعيداً عن كل ما يثقله ; ليكون الإنسان الحرّ من الداخل ، من أجل أن يؤكد حريته في الخارج .

 

- الأبعاد العبادية في انفتاحها على الأبعاد السياسية :

النقطة الثانية : إننا نريد ـ من خلال شمولية النظرة الإسلامية إلى الحياة ـ أن نقترب من الأبعاد العبادية التي تنفتح على الأبعاد السياسية والاجتماعية في الحج ، كما نفهم ذلك من خلال كل عباداتنا ; لنصل إلى تأكيد فكرتنا في تكامل الإسلام في كل مفرداته .. فنجد أن العبادة تلتقي بالسياسة في مفهومها الواسع ، كما تطلّ على ساحة الحياة الاجتماعية .. وبذلك تدخل قلب الحياة ، بدلا من أن تنفصل عنه .

فإذا دققنا في الصلاة ، في كلماتها وفي أفعالها ، وفي إيحاءاتها .. وإذا درسنا الصوم فيما يثيره من أجواء نفسية ، وفيما يؤكده من قوّة حركية ، ولاحظنا ما في الحج من معطيات ومؤثرات وأجواء ونتائج .. فإننا نجد أنها تلتقي في ارتفاعها بالإنسان إلى صفاء إنسانيته ، وفي توجيهه إلى ما يحقق توازن حركته الإنسانية في الحياة .. لأن سرّ المشكلة الإنسانية هو هذا الاستغراق فيما حوله من الحياة الدنيا ، بعيداً عن كل هدف كبير ينطلق من مواقع القيم الخيّرة في حركة الرسالات .. إنها مسألة القضايا الكبيرة التي تأكلها أو تستنزف طاقاتها القضايا الصغيرة ، التي تطوف بالإنسان في دائرة شهواته وملذاته وأطماعه الذاتية .

وكانت الفكرة الإسلامية تتحرك على أساس أن يجعل الإنسان دنياه آخرةً ، وأن تكون آخرته منطلقةً من حركة مسؤوليته في بناء الدنيا على النهج الذي يحبه الله .. فلا تمثل الآخرة ـ في هذه النظرة ـ منطقة مستقلة عن الدنيا ، بل الآخرة تمثل أهدف الدنيا الكبيرة التي تخضع لها حركتها الصاعدة إلى الله ..

فإذا أردت أن تفكر ، كمسلم ، يريد أن يمارس دوره في الدنيا .. فكِّر ما هو هدفك منها .. لا مانع من أن تنطلق معها ، وتتحرك في داخلها .. وتحتوي مواقعها ومصادرها ومواردها ، لكن .. فكّر لنفسك بالسؤال التالي .. ما هو هدفك منها ؟

 ان الآية الكريمة تقول لك : ( وابتغ فيما أتاك اللهُ الدارَ الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسن الله اليك ولا تبغِ الفساد في الأرض انّ الله لا يُحبّ المفسدين )، ( القصص : 77)..

اِجعل الدار الآخرة هدفاً لكل ما أعطاك الله من علم أو من مال أو من قوّة .. ولكل ما أعطاك من الحياة .. وعش حياتك من خلال حاجاتك الجسديّة .. وأحسن إلى الآخرين ، فقد أعطاك الله النموذج الأكمل للإحسان فيما أحسن الله إليك .. لتعرف كيف تحسن إلى الآخرين .. ولا تبغ الفساد في الأرض في كل المفردات التي تملكها مما تستطيع أن تستخدمه في طريق الفساد ، كما تستطيع أن تستخدمه في طريق الصلاح والإصلاح .. لأن الله لا يحب المفسدين .

وهكذا نجد أن العبادة يمكن أن تكون نافذةً واسعةً تطلّ على كل ما في الدنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان ، من حيث هي نافذة تتحرك في آفاق الغيب ، مع الله ، وفي نتائج المسؤولية في الدار الآخرة .

- في إيحاءات الحجّ المختلفة :

النقطة الثالثة : إننا نستطيع ـ من خلال ما أثرناه في النقطة الثانية ـ أن نقترب من هذه الأجواء ، لنفكر فيما حشده التشريع الإسلامي في تشريعه ، في الحج من عدة جوانب ، تتفرّع في شكلها وفي طبيعتها ، وفي ايحاءاتها ، فإذا وقفنا في أجواء الإحرام ، فإننا نشعر بأن هناك نوعاً من أنواع التدريب على أن يتحرر الإنسان من كل ما يعيق حركته من الارتباط بكل الأشياء التي يمارسها في عاداته ، أو في أجواء الترف التي يحبها ، أو في أجواء الحياة الاجتماعية التي يعيش في داخلها .

ثم بعد ذلك ـ نجد كلمات التلبية ـ فيما توحي به في معان واسعة ـ تعني التزاماً أمام الله سبحانه ، بطريقة مؤكّدة مضافة بالاستجابة لكل نداءات الله .. ليس ـ فقط ـ ما يقوله بعض المفسرين والمحلّلين ، أنّ كلمة آ« لبيك آ» يراد بها الاستجابة لنداء إبراهيم (عليه السلام) فيما أمره الله به ، من أن يؤذن للناس بالحج ليدعوهم إلى الإقبال عليه ، فيما تحدث به القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق * ليشهدوا منافع لهم ... )، ( الحج : 26 - 27) .

فنحن نرى أن المسألة أكثر شمولا في ذلك ; لتكون استجابةً لكل نداءات الله في كتابه وفي رسالته فيما وجهه للناس ، بعنوان ( يا أيها الناس ) وفيما وجهه للمؤمنين من خلال الإيمان بعنوان ( يا أيها الذين آمنوا .. ) .

إن كلمة «لبيك » تعني .. إننا يا رب نلتزم في موقفنا هذا ، بكل نداءاتك بالإسلام كله ، في عباداته ، وفي أخلاقه ، وفي جهاده ، وفي سياسته واقتصاده .. وفي مواجهة كل التحديات التي يواجهها الإنسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه ، أو من الشيطان الخارجي في عمق واقعه وفيما يحيط بحياته ..

إنها الحركة الصارخة ، في النداء الذي تنطلق به كل حناجر الحجاج ، لتؤكد موقفهم الذي يريد أن يلتزم بالإسلام من جديد ، في مسيرتهم إلى مركز الدعوة الإسلامية الأولى في مكّة .. ، لتكون مسيرة الحجاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول : ـ من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة ـ يا رب .. إذا كان الناس قد تركوا الإسلام ، فلم يؤمنوا به ، ولم يرتبطوا به .. وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطه ، وتركوا الكثير من تعاليمه ، وانتموا إلى الاتجاهات الأخرى التي تختلف عن خطه المستقيم .. إذا كان الواقع هو ذلك .. فها نحن قادمون إلى بيتك المحرّم .. ، لنقول لك ، من كل قلوبنا ، ومن كل عقولنا ، ومن كل مواقعنا ومواقفنا وتطلعاتنا .. « لبيك اللهم لبيك » . فقد جعلت الإسلام لنا ـ بكل عمقه وامتداده ـ .. رسالة الحياة ، ونحن نريد أن ننطلق إلى الحياة ، من خلاله ..

ومن هنا قد نفهم كيف أن التشريع لم يقتصر على كلمة « لبيك » ولكنه أضاف كلمة « وحدك لا شريك لك » ، ليؤكد الإنسان فيها أن التلبية التي تتوجه إلى الله سبحانه ، لا يمكن أن تتوجه لأيّ انسان آخر ، فنحن في الحياة عندما نريد أن نستجيب لنداء من أيّ مناد ، أو لكل مبدإ أو قانون من أيّ مشرّع أو مفكّر ، أو لأيّة علاقة بالناس ، فلابد من أن يكون ذلك منطلقاً من استجابتنا لله ، وعلاقتنا به ، لتكون علاقاتنا بالحياة كلها منطلقةً من ذلك .. فلا شيء .. ولا حد .. مع الله .. فهو وحده الذي نتوجه إليه بكل ما في قلوبنا من محبة وإخلاص وعبودية .. فلا نتوجه لأي شخص معه .. بل إن علاقتنا بالناس منطلقة من علاقتنا بالله ، من خلال باب الله الذي يدخل منه الجميع .. حتى علاقتنا برسول الله ، وبكل رسل الله لا ترتبط بهم كأشخاص ، بل بصفة أنهم رسل الله ، والمبلغون عنه .. وهكذا هي علاقتنا بالأئمة والأولياء ، من خلال أنهم عباد الله الذين أطاعوه بما يجب ، وعبدوه كما يريد ..

« لبيك لا شريك لك .. » لن نجيب غيرك ، ولن نستمع إلى أيّ نداء سواءٌ انطلق من حاكم ، أو من حكومة ، أو من حزب ، أو من محور إقليميّ أو دوليّ .. فأنت وحدك ، المحور الذي نتحرك في ساحته ; لأن ذلك هو الذي يجعلنا ننسجم مع عقيدتنا إذا أجبناك ..

« لبيك لا شريك لك » .. وتعود الكلمة من جديد ; لتتضاعف ، ولتعمِّق المشاعر في نفس الإنسان .. ، ثم لتطلّ على الحياة كلها ، لِتطلّ على كل ما في الحياة من ملوك وجبابرة وطغاة ، وما تحتويه من نِعم وثروات ، فلا نجد المدّاحين الذين يمدحون هذا ، ويحمدون ذاك ، ليؤكد الإنسان في موقف الحج .. أن الملك لله وحده ، وأن الحمد له وحده ، وأن النعمة له وحده ، فكل حمد مستمدٌّ من حمده ، وكل نعمة مستمدّةٌ من نعمته ، وكل ملك فهو ظلّ لملكه ، فليس هناك محمودون ممدوحون ، وليس هناك منعِمون في ذاتهم ، فهو وحده صاحب الحمد والملك والنعمة .. وبذلك يحسُّ الإنسان هناك ـ أمام الله وحده ـ أنه بعيدٌ عن كل أحد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ .. ومن خلال ذلك يتأكد معنى العبودية المطلقة لله .. بأن تكون عبداً بكلّك ، وبفكرك ، وشعورك ، وضميرك .. وحركتك .. وكل خطواتك العملية في الحياة .. وفي جميع مشاريعك على كل صعيد .. أن تكون الإنسان الذي يعيش العبودية لله .. ، لتنطلق حريتك أمام العالم .. وأمام الأشياء من خلال ذلك .. وبهذا تلتقي الحرية والعبودية في عمق الإنسان .. فتتعمق حريتك بمقدار ما تتعمق عبوديتك لله .. فأنت من موقع عبوديتك لله تأخذ حريتك .. أما الآخرون فإنهم يمارسون عبوديتهم للناس وللشهوات وللمطامع من موقع حريتهم المطلقة أمام الله ..

ثمّ ننطلق في بعض ايحاءات الحج ، لنصل إلى البيت الحرام ، لنتساءل .. ماذا يعني البيت ، وماذا يعني الطواف حوله .. هل هي الأحجار التي يتألف منها .. نقدّسها ..

إنها ليست حتميّة جديدة تتخذ الأحجار الثابتة بدلا من الأحجار المتحركة بل هي التمرد على الصنمية .. ولكنها .. الرمز .. الرمز الذي يُراد من خلاله تربية الإنسان على طريقة جديدة في مواجهة حركة الإسلام في صعيد الواقع .. فكيف نفهم ذلك؟

إننا ـ كمسلمين ـ قد نصنع لله بيتاً في مدننا وقُرانا .. فهذا مسجد للقبيلة ، وهذا مسجدٌ للمحلة ، وهذا مسجد البلد .. وتتنوع الصفات المحدودة لتدخل فيها دوائرنا العائلية والقبلية ، فهذا مسجد آل فلان وذاك مسجد تلك القبيلة .. ودوائرنا القومية ، فهذا مسجد العرب ، وهذا مسجد العجم .. وهكذا نحاول في مساجدنا أن نحافظ على كل الحدود التي تفصلنا عن بعضنا البعض ، وتبعدنا عن ساحتنا الإنسانية الواسعة ; لنؤكد فيها عصبياتنا العائلية والإقليمية والقومية ..

أو لنبقى في الدائرة الضيّقة المحدودة التي تحجب عنا رؤية الدائرة الواسعة للحياة وللإنسان ، فكانت الكعبة ـ البيت الحرام ـ التي جعلها الله قياماً للناس .. كل الناس بعيداً عن كل صفاتهم اللونية والعرفية والجغرافية ، ليكون بيتاً لله في حجم العالم .. البيت الإلهيّ العالميّ ، ليشعر كل مسلم .. أنه بيته .. ورمزه ومنطلقه .. ولهذا أراد الله لهم أن يتوجهوا إليه أينما كانوا ... ( .. فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره .. )، ( البقرة : 144 .) ولا يتوجهون إلى غيره ، ليكون قاعدة وحدتهم ، ومنطلق عالميتهم .. وموقع إنسانيتهم .

ثم قد نفهم جانباً آخر من الصورة .. في الطواف حول البيت كعبادة ، فنحن نعبد الله بحسب الحالة الطبيعية أفراداً .. في بيوتنا ومواقعنا الفردية .. ثم نمارس العبادة ـ بعد ذلك ـ جماعة في صلاة جماعة محدودة ، قد تتسع في أفرادها ، وقد تضيق ، تبعاً للموقع وللإمام وللمناسبة .. وتبقى العبادة في حدودها الفردية والاجتماعية الضيّقة .. فلا نعيش فيها الانفتاح في عبادتنا لله على مستوى حجم الأمة كلها ، تبعاً للتنوع الواسع في النطاق العالمي .. الإنساني .

وهنا تأتي عبادة الطواف .. ; لتكون العبادة حول البيت الإلهي العالمي في حجم الأمة كلّها .. عندما يشترك المسلمون ـ من سائر أقطار العالم ـ ليعبدوا الله كأُمّة ، يتمثل فيها العربي والفارسي والهندي والامريكي والافريقي والاوروبي ، وما إلى ذلك ; لينطلق الجميع في عبادة إسلامية عامّة كأُمّة ، ليعيشوا الأفق الواسع في العبادة ، وليتفاعلوا بهذه الشخصية الجديدة التي تؤكد في داخلهم معنى الامتداد الإنساني الشعوري في روحية العبادة بين يدي الله ... ويتخلصوا بذلك عما اعتادوه في حياتهم ; لأن الناس إذا مارسوا فكرهم وعبادتهم ومسؤولياتهم في النطاق الضيّق ، فإن ذلك يتحول إلى حالة نفسية ضيّقة مخنوقة في الدائرة المحدودة .. فينسون صفتهم كجزء من الأمة الواسعة .. بينما توحي العبادة في داخل التنوع الإنساني للأمة المسلمة بالبعد العالمي للشخصية ، وهي بين يدي الله رب العالمين ..; ليتمثل من خلال ذلك الهدف التربوي للحج ، وهو صنع الإنسان المسلم العالمي ، الذي يتحرر من ذاتيته وعائليته وإقليميته وقوميته عندما يطوف بالبيت العالمي لله ..

 وتلك هي القضية التي قد نحتاج إلى أن نتمثلها ونعيشها في واقعنا الاجتماعي والسياسي .. ، لندخل في نشاطاتنا في دور جيد ، وساحة جديدة ; لأن من مشاكلنا الإسلامية أن المسلمين قد يغلب عليهم الاهتمام بقضاياهم الخاصة ، التي قد تتطور من الحالة الذاتية إلى حالة البلد الذي ينتمي اليه الإنسان المسلم ، فيرى أن قضايا بلده الإسلامي هي المحور الذي يجب أن يدور حوله كل النشاط الإسلامي ، سواءً كان نشاطه ، أو نشاط الناس من حوله .. مما يجعله يصرف كل طاقاته في هذا الموقع ، ويعمل على أن يستخدم كل قضايا العالم من أجله .. من دون أن يفكر بأن عليه أن يستفيد من بلده لخدمة قضايا العالم الإسلامي الأخرى .. الأمر الذي قد يتحول إلى شعور داخليّ بالانفصال عن قضايا العالم ..

وهكذا لاحظنا أن الواقع السياسي الذي يعيشه المسلمون في بلدانهم ; هو أن قضيةً إقليمية إسلامية في هذا البلد ، وأن هناك قضيةً قوميةً في هذا المحيط الجغرافي .. وأن المسلمين يتحركون في حجم هذه القضايا تبعاً لمواقعهم المحلية ، ولا يحاولون الاهتمام بقضايا الآخرين إلا من خلال علاقتها بهذه القضية ، كما لو كانت قضيةً أجنبيةً يلامسونها كما يلامسون أيّة قضية بعيدة عن ساحتهم .. وقد يسجلون على الآخرين نقطة سوداء إذا انشغلوا عن هذه القضية بقضيتهم .. حتى لو كانت قضيةً إسلامية .

وقد يقول البعض ، إنني أهتم بهذه القضية الخاصة ; لأنها قضية إسلامية ، ولأنَّ طبيعة الموقع الذي أمثله في هذه الساحة يفرض عليّ الحركة في هذه الدائرة ،لأني أعرف منها ما لا يعرفه الآخرون ، ولأني أملك من مواقعها ما لا يملكه الآخرون ، في نوعية الحركة ، وفي طبيعة النتائج ; ولأن قيمتها قد تفوق قيمة كثير من القضايا الإسلامية الأخرى ، بالنظر إلى أهميتها السياسية ، وقيمتها الإستراتجيّة فيما هو الواقع الإسلامي في حركة الصراع .

وقد يكون هذا الكلام معقولا ومقبولا ، ولكنّ هناك نقطةً مهمّة ، وهي .. إن العقلية الإسلامية الشاملة تفرض على الإنسان المسلم الذي يتحرك في قضية بلده أو منطقته ـ كقضية إسلامية ـ أن يدرس موقعها من المسألة الإسلامية في العالم من حيث طبيعتها السياسية أوالاقتصادية أو الأمنية ; لتعرف كيف يكون حجم حركتك وكيف يكون موقفك من هذا الوضع أو ذاك في هذا البلد ، أو في ذلك البلد ، فهناك فرق بين أن تفكر بأن تنتصر قضية بلدك حتى لو انهزمت كل قضايا الإسلام في العالم ، وبين أن تفكر ببلدك كجزء من قضايا الإسلام الكبرى ..

إننا نقول ، لا تتحمسوا لقضاياكم الخاصّة .. ، لتقولوا بأن المسلمين في هذا البلد يهتمون بقضاياهم ، لأنهم لا يجدون أحداً من المسلمين الآخرين قادراً على حمايتها .. كما أن المسلمين في البلد الآخر يقولون نفس القول .. لكنّ هناك نقطةً مهمّةً لا بدّ من ملاحظتها بدقة وهي ; إننا نهتمّ بقضايانا على أساس أنها جزءٌ من كلٍّ ، لا على أساس أنها قضيّةٌ منفصلةٌ عن الجسم الإسلامي .

- إننا ندعو ـ من خلال الحجّ ـ إلى أن نصوغ شخصية الإنسان المسلم العالمي من جديد ، الذي يفكر في الإسلام بحجم العالم من خلال قدراته وإمكاناته ، وليطوِّر نفسه بحيث يستطيع أن يكون مفيداً للمسلمين في كل منطقة من مناطق الأرض .. فلا تتجمد طموحاتنا في الزوايا الضيّقة والمواقع المحدودة ، ولا تتساقط مواقفنا عند الحواجز الذاتية الخاصة ..

- إننا إذا استطعنا الوصول إلى هذا الهدف الكبير في صنع الشخصية الإسلامية العالمية ; فإننا نستطيع أن نعتبر أنفسنا في الموقع الصحيح للبداية الحاسمة ; التي نتحول فيها إلى أمّة بدلا من أن نبقى أفراداً متناثرين ، أو جماعات متفرّقة . وهذا هو ما نستوحيه من معنى الطواف حول البيت .

ثم ننتقل إلى السعي بين الصفا والمروة ، الذي يمثل حركة الإنسان من بداية معينة إلى نهاية معينة ، في أشواط .. من أجل أن نتعبد لله في ذلك لأنه أمرنا به .. فكان السعي حركةً في معنى الطاعة ، وسرّ العبادة .. ، لتكون انطلاقةً ايجابية تربويةً في بدايات ونهايات أخرى في حركة الإنسان في طلب العلم ، أو في تحصيل القوّة ، أو في مواجهةِ التحديات التي يفرضها المستكبرون ، أو في إطلاق المواقف المتحدية ضدهم ، أو في قضاء حوائج الناس .. ، لأن الله طلب منك السعي من أجل هذه الأمور ، كما طلب منك السعي في هذا المكان ..

إن الله يريد منك أن تجعل الحياة حركةً من أجل الله في خط المسؤولية ; لتحوّلها إلى ساحة تبتعد عن كل الفئات الطاغية والكافرة والمستكبرة ; ليكون سعيك بدايةً ونقطة انطلاق إلى كل الساحات في العالم فيما أرادنا الله أن نتحرك فيه من ساحات .

ثم نعيش ـ في الحج ـ الوقفات ، في عرفة ، وفي المزدلفة ، وفي منى التي نعيش لياليها في لحظات تأمّل وتفكير .. إننا نشعر بأن إيحاءاتها ، وبأن الإنسان عندما يندمج في أجواء الحركة في الحياة ، في أيّ موقع من مواقعها ، وفي أيّ اتجاه من اتجاهاتها في العلم والسياسة ، والحرب والسلم ، لا بدّ له من أن يقف ليفكر ، وليتأمل ، وليحسب حساب الأرباح والخسائر ; ليكتشف فيما يمكن أن يكون قد وقع فيه من انحراف في خط السير ، لئلا تؤدي بك الغفلة في اندفاع الحركة إلى الشعور بالغرور ، الذي يوحي لك بضخامة معينة في شخصيتك لا وجود لها في الواقع ، فيخيّل إليك بأنك لا يمكن أن تخطئ ! لأن الحق معك ، فيما تملكه من وضوح الرؤية للأشياء ، ومستوى المعرفة في عقلك وتجربتك .

إن هذه الوقفات توحي لك ـ من موقع الرمز ـ بأن عليك أن تخفف من سرعة اندفاعاتك ; لتقف وتفكر بما قلته أو فعلته ، لتكتشف احتمالات الخطأ والصواب فيه ; لتنقد نفسك نقداً موضوعياً في كل ذلك .. لتفهم نفسك جيّداً .

إن الموقف في عرفات والمزدلفة ومنى ـ أمام الله ـ هو موقفٌ نقديّ تأمليٌّ لتذكر نفسك ، وتذكر ربك ، وتفكر في موقعك منه وفي موقفه منك .. وفيما يجب أن تتحرك فيه نحو المستقبل من أعمال ومشاريع ونتائج .. ولا سيّما في منى ، التي توحي إليك لياليها بأنك في الموقع الأخير من الحج .. فكيف كنت .. وكيف أنت الآن ، وماذا تريد أن تفعل غداً .. وما هي طموحاتك الجديدة ؟ .. هل هي قصة الدنيا في الإخلاد إلى الأرض ، أو هي قصة الآخرة والدنيا في عملية الاندماج بينهما ، فيما هي الفكرة ، وفيما هي الروح ، وفيما هو الهدف الكبير في ابتغاء رضوان الله .. كما يريد الله لنا أن نعيش المسألة هناك في الابتهال إليه . ( ... فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا ... ) ، ( البقرة : 200 ـ 202) . وبذلك فإن الحجّ لا يفصلك عن الدنيا ، بل يريد أن يربطك بالآخرة إلى جانب الدنيا في عملية تكامل وامتداد .

وأخيراً .. إن الحجّ يُطلّ بنا على فكرة الصراع ضد الشيطان ، من خلال الإيحاء الحسي في عملية رجم الشيطان ، بطريقة رمزية لا تبتعد عن الواقع ، فيما تتحرك به الحياة .. إنك لم تستحضر شيطاناً خفيّاً يعيش في زوايا نفسك من دون أن تعرف طبيعته ، بل إنك تستحضر في داخل وعيك الذاتي كل الشياطين ، من خلال طبيعة فكر الشيطان ، لا من خلال حجمه ..

إنك تتطلع لتجد الشيطان في نفسك وفي واقعك ; لتبصر وتحدّق جيداً أين هو الشيطان في داخل ذاتك ، وأين هو في حياتك الاجتماعية .. وفي حياتك السياسية .. وما هو حجمه فيما يتمثل به من أحجام القوّة في مواقع السلطة .. بين حجم كبير وصغير ، وأكبر .. أو متوسّط ؟

وهذا هو معنى نهاية الحجّ .. في عملية رجم الشيطان .. أيها الإنسان المسلم الحاج .. لقد انتهيت من عملية التدريب فيما هي التجربة على مستوى الحركة الذاتية في العبادة ، في المواقع التي لا تمثل التحدي الصارخ في ساحة الصراع .. وها أنت تقف لترجم الشيطان .. ; لترى أمامك كل شياطين الكفر والظلم والاستكبار في مواقع القوّة في العالم .. وها أنت قد انتهيت من الحج إلى ساحة العمل ; لتنطلق في الحياة كلها بكل أصنامها ومواقفها ومشاكلها وشياطينها ووسائلها وغاياتها .. إنها عملية النجاح ، في الحج .. بعد ذلك ، لا في نهاية الحج ، بل في نهاية الحياة عندما يقوم الناس لرب العالمين .

- هل انتهى الحجّ .. بانتهاء أعماله ؟

إنه لم ينته بل بدأ الآن ، ليكون الحجّ إلى الحياة الإسلامية التي تنتظر أكثر من حج ، إلى الساحات الملتهبة في الواقع الإسلامي في كل أنحاء العالم .. ; ليكون الدين كله لله .. وتكون الحياة في خدمة الله ..

وتلك هي قصة الإنسان عندما يعبد ربه من موقع إحساسه بالإيمان المسؤول ، والهدف المسؤول .. لا من موقع إحساسه بالفراغ . وذلك هو البعد الحقيقي للحج .. إنه صناعة الإنسان المسلم الذي يحب الله ويحب الإنسان والحياة من خلال هذا الحبّ الواعي الخاشع المسؤول .أدنى الحِلِّ « مواقيت العمرة المفردة لمن كان بمكّة »، حسن الجواهري،إن المقصود بأدنى الحِلِّ : هو أقرب الأماكن الى حدود الحرم من خارج الحدود ، ولهذا تعرف المنطقة التي تقع داخل حدود الحرم بـ (الحرم) ، لما لها من أحكام خاصة تقديساً لمكّة . وتعرف المنطقة التي تقع خارج الحدود بـ (الحِل) لأن الله تعالى حلّل فيها ممارسة ما حرم داخل الحدود .  وقد انعكس ذكر (الحل والحرم) في الشعر العربي ، كما ورد في قول الفرزدق مادحاً الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) ، (عليه السلام)فقال :

                                            هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفه والحلّ والحرمُ

وقد جعل الشارع المقدّس أدنى الحِلِّ ميقاتاً للعمرة المفردة على نحو الرخصة بالتفصيل الآتي :

لقد ذكر الفقهاء (رضوان الله عليهم) أن القارن أو المفرِد أو المتمتع بعد إتمام حجّة التمتع ، أو مَنْ كان بمكّة ليس بحاج أو مَنْ تعدَّى المواقيت (التي وقَّتَها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)للإحرام وأراد الدخول الى مكّة) إذا أراد اتيان العمرة المفردة فميقاته أدنى الحِل بلا خلاف في ذلك ، ومعنى ذلك هو أن يخرج المعتمر مثلا الى خارج حدود الحرم المحدّد في الروايات بأنه : « بريد في بريد آ» فيحرم منه . وقد ذكر الفقهاء استحباب أن يحرم المعتمر من الجعرانة أو الحديبيّة أو التنعيم ، للتصريح بها في الروايات ، وللتأسي ، فمن الروايات :

1 ـ ما عن معاوية بن عمار في الصحيح عن الإمام الصّادق (عليه السلام) قال : « اِعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ثلاث عمر متفرقات : عمرة ذي القعدة ، أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية ، وعمرة أهلّ من الجحفة وهي عمرة القضاء ، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين » .

وقد نقل عن طريق أبناء السنة عن ابن عباس : « أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)اِعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة والرابعة التي مع حجته » .

أقول : وظاهر الروايتين جواز الإحرام من عسفان ، وهو يبعد عن مكة مرحلتين (48 كيلومتراً) تقريباً ، وهو ليس ميقاتاً ، وليس من أدنى الحِل .

ولكن الإمام الخوئي (رحمه الله) ذكر ما يلي : « إن الذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين ، وإنما عبّر في الصحيحة المتقدمة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها ، ولكن المشركين منعوه من الدخول الى مكّة ، فرجع (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما صالحهم في الحديبية ، واعتمر في السنة اللاحقة قضاءً عما فات عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أصحابه فسُميت بعمرة القضاء ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : « اِعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة » .

وفي صحيحة صفوان أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أحرم من الجعرانة .فالذي يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار : أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ، ورفع صوته بالتلبية من عسفان (وهو معنى أهلّ) وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول الى مكة وصالحهم في الحديبيّة ، ورجع من دون إتيان مناسك العمرة ، ثم في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة ، وأهلّ ورفع صوته بالتلبية من الجحفة فسُميت بعمرة القضاء ، وأما الجعرانة فالظاهر من الصحيحة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرم منها لظهور قوله « وعمرة الجعرانة » في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة ، لا أنه أحرم قبل ذلك ، ورفع صوته بالتلبية من الجعرانة ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان المتقدمة . فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه ، كما يجوز الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولكن يختص ذلك بمن بدى له العمرة في الأثناء .

أقول : وعلى هذا الذي تقدم ، فستكون هذه الرواية دليلا على جواز الإحرام من الجعرانة ، التي هي أقرب الحلِّ الى الحرم فقط .

2 ـ ما عن جميل بن دراج في الصحيح قال : « سألت الإمام الصادق (عليه السلام) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ؟ قال (عليه السلام): تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة » .

وكان صنع عائشة كما ذكره ابن ادريس في آخر السرائر نقلا من كتاب معاوية بن عمار فقال : « ... إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزلها (البطحاء) ، حين بعث عائشة مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم ، فاعتمرت لمكان العلّة التي أصابتها  لأنها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً ، وأرجع بحجّة ؟ ، فأرسل بها عند ذلك ... » .

3 ـ روى ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الإمام الصّادق (عليه السلام): « مَنْ أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر فليعتمر من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما » . وهذه الرواية تشمل جميع مواضع الحرم لقوله (عليه السلام): أو ما أشبههما ، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحجّ أم لا فحينئذ لا ينبغي الريب في هذا الحكم .أقول : تبين من هذه الروايات : أن ثلاثة مواقيت قد فضِّلت في إحرام العمرة المفردة على بقية نقاط أدنى الحِل وهي :

1 ـ الحديبية .

2 ـ الجعرانة .

3 ـ التنعيم .

أما الجحفة فهي ميقات أبعد من أدنى الحِلّ بكثير ، يمرّ بها ـ الآن ـ حجاج البحر القادمون عن طريق ميناء ينبع من مصر وغيرها ، وحجاج البرّ القادمون من الأردن عن طريق العقبة . وقد رأينا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أهلَّ منها ، وكذا عسفان التي تبعد عن مكة مرحلتين . ولا بأس بالإشارة الى أن هذه المواقيت الثلاثة هي رخصة لا عزيمة كما ذكر ذلك صريحاً شيخ الطائفة وصاحب الجواهر (قدس سرهما) .

وبهذا يكون من الجائز الخروج الى أحد المواقيت كالجحفة ويلملم والعقيق وغيرها للإحرام منها ، وذلك للروايات الدالة على أن هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها ، فقد روى صفوان بن يحيى في الصحيح عن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)فكتب : « ... إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقَّت المواقيت لأهلها ، ومن أتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا تجاوز الميقات إلا من علّة » . والذي نريد أن نبحثه الآن هو تفصيل المواقيت الثلاثة ، وهي : (الحديبية ، الجعرانة ، التنعيم) ، وما أشكل على موضع التنعيم من كونه أبعد من موضعه الحالي والجواب عنه ، فنقول :

1 ـ الحديبية :

« بضم الحاء المهملة ، ففتح الدال المهملة ثم ياء مثناة تحتانية ساكنة ، ثم باء موحدة ، ثم ياء مثناة تحتانية ثم تاء التأنيث : وهي في الأصل اسم بئر خارج الحرم على طريق جدّة عند مسجد الشجرة ، التي كانت عندها بيعة الرضوان » التي نزل فيها القرآن : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ... ) .

وقال الخطابي في أماليه : سُميت بالحديبية لشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع ، وبين الحديبية ومكة مرحلة : آ« وفي الحديث : إنها بئر آ» وبعض الحديبية في الحِل وبعضها في الحرم وهو أبعد الحلّ من البيت ... وعند مالك بن أنس انها جميعها من الحرم .

ضبط الكلمة :

فقد استعملت الياء المثناة المفتوحة بالتخفيف والتشديد ، وفي كشف اللثام ، قال السهيلي : « والتخفيف أعرف عند أهل العربية ، وقال أحمد بن يحيى : لا يجوز فيها غيرُه وكذا عن الشافعي » . وقال أبو جعفر النحاس : « سألت كل من لقيت ممن أثق بعلميته من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة . وقيل : إن التثقيل لم يُسمع من فصيح » .

وقال في الحدائق الناضرة : « قال ابن ادريس في السرائر : الحديبية اسم بئر خارج الحرم يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العطار النوهي ، فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد » . وفي تهذيب الأسماء عن مطالع الأنوار : « ضبطناها بالتخفيف عن المتقنين وأما عامة الفقهاء والمحدثين فيشددونها » .   وتعرف منطقة الحديبية ـ اليوم بـ «الشميسي» بالتصغير ، وتقع غربي مكة المكرمة في الحِل على طريق مكة ـ جدة القديم ، بينها وبين علمي الحرم المكي مسافة قليلة ، وبين العلمين ومكة حوالي اثنين وعشرين كيلو متراً .

2 ـ الجعرانة :

 ضبطها « بكسر الجيم وإسكان العين المهملة وتشديد الراء المهملة المفتوحة » كما عن الجمهرة . وعن الأصمعي والشافعي : « بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء . قيل العراقيون يثقلونه والحجازيون يخففونه » وحكي عن ابن ادريس : بفتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضاً ، فالراء فيها تخفف وتشدّد لاستعمالين موثقين .

وهي موضع بين مكّة والطائف من الحِلِّ ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلا على ما ذكره الباجي ، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة ، وفيها علما الحدّ ، ومنها أحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات ، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه ، عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لذلك ، ولوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى . وبالقرب من مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بئر واسعة عذب ماؤها . وهي اليوم قرية صغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً ، وفيها المسجد الذي أقامته الحكومة السعودية محرماً ، شرقي أرض المسجد القديم دونما فصل بينهما .. ولكن مؤلف معجم معالم الحجاز ذكر عن الجعرانة : « ومن قال : إنها (الجعرانة) بين مكة والطائف فقد أخطأ ، فهي شمال مكة ، مع ميل إلى الشرق ولا لزوم في ذكر الطائف في تحديدها أبداً ، إذ هي لا تبعد عن مكة بأزيد من (29) كيلو متراً » .

الجعرانة و موقعها الجغرافي :

ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكّة التاريخية أن « جبل الستار يقع قُرب الجعرانة من الجنوب ، وهو الجبل الذي يُشرف على علمي طريق نجد من الشمال ، والذاهب من مكة الى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب ، والجعرانة ـ اليوم ـ قرية صغيرة في صدر وادي سَرِف » .

3 ـ التنعيم :

بفتح التاء الفوقانية المثناة « بلفظ المصدر ، سُمي به موضع على ثلاثة أميال من مكة أو أربعة ... به مسجد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)ومسجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) و مسجد أم المؤمنين عائشة ، وسمي بالتنعيم ، لأن جبلا اسمه نعيم يقع عن يمينه ، وعن شماله يقع جبل آخر اسمه ناعم ، واسم الوادي نعمان ، وهو أقرب أطراف الحِلّ الى مكة كما هو واضح الآن » .

والتنعيم يقع في الشمال الغربي لمكّة المكرّمة ، بينها وبين سَرِف (الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) على طريق مكة ـ المدينة المارِّ بوادي فاطمة (المعروف قديماً بمرِّ الظهران) .

وقد ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكة التاريخيّة موقع التنعيم فقال : « واد ينحدر شمالا بين جبال بشم شرقاً ، وجبل الشهيد جنوباً ، فيصب في وادي ياج وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكيين ، وتسمى عمرته : عمرة التنعيم ، أي مكان الاعتمار وذلك أقول : سيأتي ان جبل نعيم جنوب شرق التنعيم (مسجد العمرة) وجبل ناعم يكون من ناحية الشرق .

تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة ، وكان يسمى نعمان ، قال محمد بن عبد الله النميري :

 

فلم تر عيني مثل سرب رأيتهُ
خرجنَ من التنعيم معتمرات
مررنَ بفخٍّ ثمّ رحْنَ عشية
يلبين للرحمن مؤتجرات
تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت
به زينبٌ في نسوة عطرات

 

وقد ذكر في المختصر المتقدّم « وقد توهم البعض أن نعمان الوارد هنا هو نعمان الأراك وهذا خطأ ، إذ إن من يعتمر قاصداً المسجد الحرام ليس قريباً من نعمان الأراك » .

أقول : لا ينبغي الريب في أن نعمان الذي يكون بعد الاعتمار من مسجد التنعيم لا ارتباط له بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات ، وذلك : لأن التنعيم يقع شمال غربي مكّة ، فالمعتمر منه الذي يريد مكة لا يمرّ بنعمان الأراك الذي يكون جنوب عرفات ، والذي حدده البلادي بأنه « واد فحل من أودية الحجاز التهامية ... ينحدر غرباً ، فيمرّ جنوب عرفات عن قرب ، ثم يجتمع بعُرنة فيطلق عليه اسم عُرَنة ، يمرّ بين جبلي كُساب وحَبَشي جنوب مكة على أحد عشر كيلو متراً ، ويكون هناك حدود الحرم الشريف ، ويتسع الوادي بين كبكب والقرضة فيسمى خبت نعمان لفياحه وسعته » .

ثم إنه يُعرف موضع الإحرام من التنعيم اليوم بـ «العمرة» ، وفيه مسجد يعرف بـ «مسجد عائشة» نسبة الى أمّ المؤمنين عائشة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن أخاها عبد الرحمن أحرم بها للعمرة من التنعيم اِمتثالا لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عندما أمره بذلك ، كما ذكرت ذلك الرواية المتقدّمة ، وقد شيدت الحكومة السعودية مسجداً جنوبي علمي الحرم المكّي ، الماثلين حالياً وقريباً من موقع المسجد ، الذي كان قبله في هذا الموضع ، وقد أصبح المكان اليوم حيّاً من أحياء مكّة السكنيّة يُعرف بحيّ العمرة ، يبعد عن المسجد الحرام أو مكّة القديمة (6) كيلومترات .

- التشكيك في ميقات التنعيم الحالي:

هذا وقد وجدت كلمات لبعض المؤرخين الجغرافيين تلمح الى أن التنعيم الذي هو موضع الإحرام هو في غير الموضع المعروف حاليّاً بالعمرة ، واليك بعض الكلمات في ذلك :

1 ـ قال أبو إسحاق الحربي الخراساني (ت285) في كتابه المناسك ص 467 : « والتنعيم وراء القبر (قبر ميمونة) بثلاثة أميال ، قبل مسجد عائشة ، وهو موضع الشجرة ، وفيه مسجد وأبيات ، ومنه يحرم مَنْ أراد أن يحرم » . والشجرة التي أشار اليها هي شجرة هليلجة كانت في المسجد المعروف بمسجد الهليلجة ثمّ سقطت .  وهذا الكلام يتنافى مع ما هو واقع اليوم ، من أن التنعيم بين مكة وسَرِف الذي فيه قبر ميمونة ، ويتنافى مع كون التنعيم هو مسجد عائشة ، التي أحرمت منه بأمر الرسول الكريم حيث يقول المؤرخ : « بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وقبل مسجد عائشة» .

ثم قال أبو اسحاق الحربي الخراساني : « عن مالك بن دينار عن القاسم عن عائشة : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أعمرها من التنعيم ، ثم مسجد عائشة بعده بنحو ميلين دون مكة بأربعة أميال » . وهذا الكلام ـ أيضاً ـ يغاير ما هو المعروف ـ اليوم ـ من أن المسافة الى علمي التنعيم القائمين حالياً لا يزيد على ستة كيلومترات أي أربعة أميال .

2 ـ وجاء في كتاب « وفاء الوفاء » للسمهودي (ت911 هـ) : « قال الأسدي : والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وهو موضع الشجرة وفيه مسجدٌ لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وفيه آبار ، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر ، ثمّ قال : ميقات أهل مكّة بالإحرام مسجد عائشة ، وهو بعد الشجرة بميلين ، وهو دون مكة بأربعة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة » .وهذا النص ـ أيضاً ـ يصرِّح بأن التنعيم الذي يحرم منه للعمرة ليس هو ما يكون ماثلا اليوم ، إذ يكون التنعيم بعد قبر ميمونة بثلاثة أميال ، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة .

3 ـ وقال أحمد بن عبد الحميد العباسي من مؤرخي القرن العاشر الهجري في كتابه « عمدة الأخبار » ص 144 : « والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال » .

4 ـ وقال المقدم عاتق بن غيث البلادي (مؤرخ الحجاز المعاصر) في كتابه (على طريق الهجرة : ص 10) : « ويقال : إن العمرة كانت في هذا المكان (يعني عند قبر ميمونة) وإن المكيين يعتقدون أنه حدود الحرم ، ثمّ غيّرت العمرة عندما اختل الأمن خوفاً على الحجاج والمعتمرين » .

أقول : إن هذه النصوص المتقدمة كلها قد اتفقت على أن التنعيم الذي أجيز للمعتمر أن يحرم منه هو : إمّا أن يكون عند قبر ميمونة كما في النص الأخير وإمّا أن يكون أبعد منه بثلاثة أميال أو ميلين ، وبهذا تكون هذه النصوص قد خالفت موقع مسجد التنعيم اليوم من كونه بين مكة وسَرِف (الذي فيه قبر ميمونة) الذي يبعد عن المسجد أو مكة القديمة ستة كيلومترات تقريباً .

وهناك نصوص اُخرى صرحت بأنّ التنعيم هو أبعد من أدنى الحلِّ الى مكة بقليل ، منها :

1 ـ ما ذكره المحب الطبري المكي (ت694 هـ) فيما حكاه عنه محقق أخبار مكة للأزرقي رشدي ملحِسي بهامش الكتاب المذكور ، 2 : 130 : والتنعيم « أبعد من أدنى الحلِّ بقليل وليس بطرف الحلِّ » .

2 ـ وقال أبو الطيب الفاسي المكي في شفاء الغرام ، 1 : 289 : « الثّاني التنعيم المذكور في حدِّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة وهو أمام أدنى الحلِّ كما ذكره المحب الطبري ، قال : « وليس بطرف الحلِّ » ومَنْ فسّره بذلك تجوَّز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه ، وأدنى الحلِّ إنما هو من جهته ، وليس موضع في الحلِّ أقرب إلى الحرم منه ، وهو على ثلاثة أميال من مكّة ، والتنعيم أمامه قليلا » .  وهناك نص ثالث يقول : بأنَّ التنعيم يبعد عن مكّة فرسخين فقد قال الفاسي : « وقال صاحب المطالع : والتنعيم من الحلّ بين مكة وسَرِف على فرسخين من مكّة ، وقيل على أربعة أميال » .

موقع فخ :

ومما يزيد في التشكيك : « موقع فخ » الذي يقع غربي مكة ، على طريق مكة ـ التنعيم ـ المدينة و بينه و بين مكة ثلاثة أميال أي حوالي ستة كيلومترات . وفخ بفتح الفاء الموحدة فتشديد الخاء المعجمة بئر معروف على نحو فرسخ من مكة كما قيل ، وفي القاموس : آ« موضع بمكّة دفن فيه ابن عمر آ» وفي نهاية ابن الأثير : « موضع عند مكة ، وقيل واد دفن فيه عبد الله بن عمر » . وفي السرائر لابن إدريس الحلّي : آ« إنّه موضع على رأس فرسخ من مكّة ، قتل فيه الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين (عليه السلام)على ما حكاه صاحب كشف اللثام .

وعلى كلّ حال : فإن الموقع واضح ، وهذه المعرِّفات قد تكون كلها صحيحة ، فهو واد دفن فيه ابن عمر وفيه بئر ، وقد وقعت فيه معركة فخ التي ذكروا بأنها من الشدّة بحيث لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجعَ من فخّ .

وفخ قد اختلف فقهاء الإماميّة في كونها ميقاتاً للصبيان على قولين :

الأوّل : ذهب جمع من فقهاء الإماميّة (رضوان الله عليهم) الى كون فخ ميقاتاً للصبيان ، بمعنى جواز تأخير إحرامهم الى هذا المكان من دون تعيّن ذلك عليهم ، واستدلوا لذلك بصحيح أيوب بن الحر قال : « سُئل الإمام الصادق (عليه السلام)عن الصبيان : من أين يجرّد الصبيان ؟ قال (عليه السلام): كان أبي يجرّدهم من فخ » هذا إذا مرّوا من طريق المدينة ، أمّا إذا مرّوا من طريق آخر فيحرمون من الميقات الذي مرّوا عليه . فقد ذكر جماعة : أن في الرواية كناية عن جواز إحرامهم من فخ (بل ربما نسب الى الأكثر ، بل في الروضة يظهر من آخر عدم الخلاف فيه) .

الثّاني : ذهب آخرون الى أن إحرام الصبيان من الميقات ، ولكن رُخص لهم في لبس المخيط الى فخ ، فإذا وصلوا الى فخ جرّدوا منه ، استناداً الى ظاهر الصحيح المتقدم في حمله على الحقيقة ، وظاهر الروايات المقتضية لزوم الإحرام من الميقات .

وإذا كان إحرام الصبيان من الميقات مطلقاً في حجّ أو عمرة ، وكان مطلقا حتى لمن كان من أهل مكة وأراد العمرة المفردة ، كما هو ظاهر إطلاقهم ذلك ، فحينئذ على القول الثاني يكون إحرام المعتمر من التنعيم الحالي البالغ بعده ستة كيلومترات ، مع أن الصبي يحرم من الميقات ، ولكن يجرّد من فخّ الذي يبعد ستة كيلومترات أيضاً ، وهذا فيه بعد عرفي واضح ; يكون الصبي في هذا الحكم أشد حالا من البالغ ، أمّا بالنسبة إلى القول الأول فإنّ الصبي والبالغ في هذا الحكم سيّان ، مع أن العرف يرى لابديّة أن يكون إحرام الصبي أسهلَ من البالغ إذا أردنا الإرفاق به .

- جواب التشكيك :

 ولنا في الجواب على هذا التشكيك عدّة مسالك نستعرضها إن شاء الله تعالى :

1 ـ جواب التشكيك من الناحيةالفقهية :

نقول : إن الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم وإن كانت مختلفة اختلافاً غير يسير ، إلا أن هذا الاختلاف بين المؤرخين والجغرافيين لا يجيز لنا رفع اليد عن موضع الإحرام في التنعيم الحالي وذلك لعدم حجيّة هذه الأقوال في أنفسها ، إذ هي إما أخبار آحاد غير معتبرة وإمّا متعارضة ، وحتى إذا كانت أقوال ذوي الخبرة فهي ساقطة بالتعارض ، فتبقى السيرة المتلقاة من المسلمين في الإحرام من مسجد التنعيم الحالي الذي يبعد 6 كيلومترات عن المسجد أو حدود مكة القديمة ، وهذا خير دليل على بطلان التشكيك المتقدم ، فإن هذه السيرة المتلقاة يداً بيد ممن يلتزم الشريعة الغراء نهجاً في حياته ، وفي زمن المعصومين (عليهم السلام) تفيد العلم في معرفة ميقات التنعيم ، الذي وقّته رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو كان هناك أيّ تغيير في الميقات في أي زمان لنقل الينا بصورة واضحة ، إذ إن التغيير في العبادات وأماكنها التي شرعها وسنّها رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مما يوجب اعتراض المسلمين قاطبة ، ونقل ذلك التغيير والاعتراض لغيرهم ، مع إننا لم نجد في الروايات التي بين أيدينا أيّ تغيير في ميقات التنعيم ، نعم نقل عن بعض المؤرخين المعاصرين « تغير موضع العمرة عندما اختل الأمنُ خوفاً على الحجّاج والمعتمرين » بقوله ويقال ، وهذا الكلام لا يعتدّ به لأنه لم يعتقد به حتى هذا المؤرخ المعاصر كما تقدم ، فهو عبارة عن كلام غير معتبر تردّه السيرةُ القائمة على تعيين موضع الإحرام للعمرة من مسجد التنعيم الحالي من قبل كلّ المسلمين .

هذا وقد ذكر غيرُ واحد من الأصحاب هنا الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، ولعلّه لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق (عليه السلام): « يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك » . ومعنى ذلك أن الشياع الموجود عند المسلمين هو المرجع في تحديد الميقات ، لا قول المؤرخ أو الجغرافي ، خصوصاً مع التعارض والاختلاف .

2 ـ جواب التشكيك من الناحية الرياضية :

إن الأقوال المتقدمة في تقدير المسافة الى موضع الإحرام في التنعيم تتمثل في المسافة التالية : « 3 ميل / 4 ميل / 6 ميل / 1 فرسخ / 2 فرسخ / 6 كم / 12 كم » تقريباً . فهل يمكن أن نرجع هذا الاختلاف في المسافة الى اختلاف أسباب العدّ مع كون الموضع الذي يحرم منه هو الموضع الحالي ؟

الجواب : نعم يمكننا ذلك ; لأن تقدير المسافة يختلف لأسباب متعددة منها

(أ) الاختلاف في تقدير الذراع المستعمل في العدّ ، فإنّه على ثلاثة أوجه :

- الأوّل : ذراع اليد الذي هو مختلف بين عدّه (52 سم) أو (50 سم) أو (48 سم) وذلك : لأن الذراع ـ كما ذكر أهل اللغة (كمجمع البحرين) ـ « من المرفق الى أطراف الأصابع ، والذراع ست قبضات ، والقبضة أربع أصابع » وبما أن الأصبع يختلف قدره من شخص الى شخص في الإنسان المتعارف ، فبذلك يختلف العدّ بين الأرقام الثلاثة المتقدّمة .

- الثّاني : الذراع الحديدي يساوي (58 سم تقريباً) .

- الثّالث : الذراع المعماري الذي يساوي (75 سم تقريباً) .

(ب) الاختلاف في تقدير الميل بالذراع ، فقد قُدر الميل بالنسبة لذراع اليد بتقديرات مختلفة .

 - الأوّل : 2000 ذراع يد .

- الثاني : 3500 ذراع يد .

- الثالث : 4000 ذراع يد .

- الرابع : 6000 ذراع يد .

ولهذا الاختلاف في تقدير الميل بالذراع يفهم الاختلاف في تقدير المسافة بالأميال ، ومنه يفهم اختلاف تقدير المسافة بالفرسخ أو الكيلومتر

(ج) أضف الى ذلك الاختلاف في مبدإ العدّ ، فإن مبدأ العدِّ قد يكون باب المسجد ، كما قد يكون سور مكة .

(د) الاختلاف في تقدير الطريق المعدود الذي يختلف باختلاف الانحناءات في أزمان مختلفة ، فقد يكون طريق فيه تعرجات كثيرة يستوجب كثرة المسافة المطوية في زمان ، وفي زمان آخر يتبدل الطريق بإزالة هذه التعرجات أو اختصارها بما يستوجب قلة المسافة .

3 ـ جواب التشكيك من ناحية تعيين موضع التنعيم بالوصف :

 فان الموضع الحالي للتنعيم هو بين مكة وسَرِف (الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحينئذ يمكن أن تكون العبارات القائلة : بأن التنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال متفقة مع الوصف الأولي ، إلا أن الوصف الأولي يكون للموضع لمن كان في مكة وأراد السير إلى الموضع ، أمّا الوصف الثاني فهو ناظر إلى الموضع لمن كان خارج مكّة أو بعيداً عنها ، فالموضع هو نفسه بين مكة والقبر لمن أراد الإتيان إليه من مكة ، وهو بعد القبر لمن أراد الوصول إليه ، وهو خارج مكة ، والله تعالى هو العالم بحقائق الأمور .

ولعلّ مما يحسم الخلاف والتشكيك ما وجدته في خريطة مكة المكرمة (المرفقة بكتاب مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي ، وهو دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية) من وجود ثلاث مناطق للتنعيم :

- الأولى : منطقة العمرة التي هي شمال غربي جبل نعيم وغربي جبل ناعم ، وهو مكان العمرة الحالي .

- الثانية : التنعيم التي تقع شمال منطقة العمرة .

-الثالثة : منطقة التنعيم التي تقع شمال جبل الواتد وجنوب منطقة الغزالة وجبل الغبير .

وحينئذ فإن الخلاف في بُعد التنعيم عن المسجد الحرام أو مكة قد يكون منشؤه هذه المناطق الثلاث فالذي يصح منه الإحرام هو منطقة العمرة التي هي أقرب مناطق التنعيم للحرم .

 هل يشكِّل الجمع بين حدود الحرم الحالية ومواقيت أدنى الحلّ مشكلة ؟

إن الشارع المقدّس قد حدّد الحرم المكّي كما في موثق زرارة قال : سمعتُ الإمام الباقر (عليه السلام)يقول : حرّم الله حرمه بريداً في بريد ... » ، « الذي هو عبارة عما يقارب ثلاثة وعشرين كيلومتراً » .

فهل بإمكاننا أن نوفق بين هذا التحديد الإجمالي وما هو متلقى من تعيين الحدود ومعرفتها بالعلامات والنصب الموجودة الآن ، المأخوذة يداً بيد من زمن المعصومين (عليهم السلام)بحيث يكون التنعيم الحالي خارج حدود الحرم ، والى جنبه النصب الموجودة حاليّاً ؟

نقول : إننا إذا نظرنا الى الأدلة القائلة بأن المزدلفة هي من الحرم ; بقرينة جواز التقاط حصى الجمار منها ، وبأن الجعرانة والتنعيم والحديبية هي خارجة عن حدود الحرم ; لجواز الإحرام للعمرة المفردة منها ، للنصوص المتقدمة ، بل جواز الإحرام من أشباه الجعرانة والحديبية كما في الصحيح المتقدم الذي يدلّ على جواز الإحرام من كلّ مكان خارج الحرم ، فيلزمنا أن نفسر حدود الحرم الواردة في الموثق بما يكون بين هذه المواقيت ، بحيث تدخل المزدلفة فيه ، وبهذا فسوف يكون الحرم مختلفة أبعاده بالنسبة الى مكة ، فمن ناحية التنعيم (الشمال الغربي) يكون الحرم قبل مسجد التنعيم الحالي كما هي علامات الحرم بالنصب الموجودة حاليّاً ، وهي لا تبعد إلا ستة كيلومترات وأما من ناحية الجنوب فقد ذكروا أن اضاءة لبين (لبن) هي حدود الحرم من الناحية الجنوبية ، وهي لا تبعد أكثر من (18) كم وبهذا فسوف يكون البريد ما بين علمي التنعيم وعلمي اضاءة لبين (لبن) متحققاً .

امّا الجعرانة : (التي هي ميقات للإحرام من ناحية الشمال الشرقي) .

وعرنة : (وهي حدود الحرم من الناحية الشرقية) .

والحديبية : (وهي ميقات من ناحية الغرب) .

فهي خارجة عن الحرم وهي تبعد ما بين 20 ـ 23 كم .

وحينئذ لا يمكن تطبيق البريد في البريد ما بين هذه الأماكن الثلاثة ، ولكن لنا أن نقول : إن الفقهاء قد ذكروا استحباب الإحرام من الجعرانة والحديبية ، وجوّزوا الإحرام من أدنى

الحلّ ، فإذا عرفنا أدنى الحلّ بصورة قطعية كما فيما بعد المزدلفة ، جاز لنا الإحرام منه ، وإذا شككنا في حدود الحرم من جهة من الجهات ، فالاحتياط يقتضي أن نحرم من منطقة تبعد عن الحرم كما في الجعرانة والحديبية وأمثالهما .

وبهذا فسوف تكون حدود الحرم ، التي هي بريد في بريد ، ليس على نسق واحد في جميع الأطراف ، كما توجد اشارة الى ذلك في بعض الأخبار .

وعلى كلّ حال فإن تحديد الحرم بكونه بريداً في بريد غير مثير للإشكال في موضع التنعيم الحالي ، فإن ما ذكر من كونه ميقاتاً بفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كالحديبية والجعرانة ، إنما هو على نحو الاستحباب ; للتأسي بفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولما فيه من البعد عن مكة ، وليست هي أقرب الأماكن إلى الحرم ، وحينئذ ما قطعنا من كونه من الحرم تطبق عليه أحكام الحرم ، وما لم نقطع فيه أنه من الحرم لا نطبق فيه أحكام الحرم ، ولكن يلزمنا ـ أيضاً ـ الإحرام من المكان الذي نقطع فيه بأنه خارج عن حدود الحرم ، والله سبحانه هو الموفق .

محمد حسين فضل الله

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)