• عدد المراجعات :
  • 1975
  • 11/20/2007
  • تاريخ :

أسواق مكّة و المدينة

مكّة

 

المقدمة :

لبلاد العرب موقع جغرافي متوسط بين بلاد أعظم الدول ، وأقدم الحضارات، فإلى شمالها الشرقي بلاد فارس ، وإلى شمالها الغربي بلاد الروم ومصر ، وإلى غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة ، وفي جنوبها البحر الهندي الذي يفصلها عن بلاد الهند.

ولا نكون مغالين إذا قلنا إنّ معظم تجارات العالم منذ القديم ، حتى القرون الوسطى هي بين هذه البلاد التي عددنا، فالدولتان العظيمتان اللتان تنازعتا على السيادة في العالم، وهما دولتا فارس والروم، كانتا على علاقات تجارية وسياسية حسنة مع بلاد العرب في الشمال والجنوب ، وأقل من تلك العلاقات علاقة الحبشة والهند باليمن وعمان والبحرين.

 وكان للموصلات التجارية في جزيرة العرب طريقان :

- أحدهما : شرقي، يصل عمان بالعراق ، وينقل بضائع اليمن والهند وفارس برّاً ، ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام،

- والطريق الثاني : وهو الأهم غربي، يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد الحجاز، ناقلاً أيضاً، بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام، وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدّر إلى الحبشة وإلى لهند في البحر، فكأنّ من المعقول أن يمارس كثير من العرب التجارة رجالاً ونساءً ، وخاصة الذين تقع بلادهم قريبة من أحد هذين الطريقين ، ومن لم يتاجر منهم أفاد من التجارة بالواسطة، فعمل في هذه القوافل إما سائقاً وإما منتظماً في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها.

قد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ والمعينين ، المراكز الممتازة في تجارة الشرق ، حتى ذكرتهم التوراة ووصفت ثروتهم وتجارتهم، وحمل أهل تدمر في القديم إلى مصر وجنوب أوربا صادرات بلاد العرب والعراق والهند، وكانت النفائس التي يحملها التدمريون من بلاد الشرق أثمن ما يتغالى به الملوك القياصرة.

وفوق هذا كله، كان لهؤلاء العرب ذوي الملكة التجارية الراقية اهتمام بما حولهم من الأقطار التي يتاجرون فيها وإليها ومراقبة لما يجري هناك من أحداث ، وقد دفعتهم إلى ذلك طبيعة التجارة وما تتطلب من درس وإلمام بالأسواق وأمنها وأحوال المسيطرين على شعوبها، وأنت تعرف ذلك من الحرب، التي كانت بين الفرس والروم في مشارف الشام، قبل الهجرة بست سنين وكيف كان مشركو مكة فرحين بانتصار الفرس إذا كانوا مثلهم غير ذوي كتاب، وقد شمتوا بهزيمة الروم اذ كانوا كالمسلمين أتباع كتاب سماوي، وقد سجّل القرآن الكريم هذه الظاهرة، ظاهرة اهتمام المكّيين بما يجري حولهم من شؤون الفرس والروم في الآية الكريمة : ( الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين... )

هذا هو مجمل ما أردت أن أعرض له من بيان إهتمام العرب بالتجارة وإليك أيها القارئ أهم الأسواق وسياستها التجارية في مكة و المدينة :

أسواق مكة و المدينة

أولاً : سوق عُكاظ

عكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر ، فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القِباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف.

وحول هذه القِباب الرواة والشعراء من الأقطار العربية عامة، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة، فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، تلهج بها الألسن في البوادي والحواضر، يحمل إلى هذه السوق التهامي، والحجازي، والنجدي، والعراقي، واليمامي، واليمني، والعماني، كل ألفاظ حيّة ولغة قطرة، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلاً واصطفاءً حتى يتبقى الأنسب الأرشق ويطرح المجفوّ الثقيل.

وعكاظ هي السوق التجارية الكبرى عامة، يحمل إليها من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه ، فإليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصرى، والسمن من البوادي ويرد إليها من اليمن البرود الموشاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح، ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلى مكة، ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزووسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري.

و يبيع فيها كلُّ غاز ما سلبه وكثيراً ما يكون هذا البيع سبباً في قتل صاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجال ليثأر منه.

و تصل من تجارة فارس أشياء إلى عكا ، فإنّ النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق عكاظ كل عام لطيحة (وهي في الأصل العير المحملّة مسكاً) في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له ويحميها من كل معتد حتى تصل سالمة إلى عكاظ ، فتباع هناك ويشري بثمنها ما يحتاج إليه من أدم (جلود) الطائف وسائر المتاع إلى عكا ، من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلّة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، (1) ، بل إنّ عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتى قالوا : «أديم عكاظ » نسبة إليها.

حتى البضائع المجهولة الأصل المعروضة في عكاظ تجد من شرائع القوم واعرافهم التي التزموها ما يجعلها كاسدة لايرغب فيها أحد، فهذا بعض لصوص العرب آ«قربّ إبلاً للبيع في سوق عكاظ وكان أغار عليها من كل وجه، فلما عرضها قيل له :« ما نارك؟ » (أي ماسمة إبلك؟ وكانوا يعرفون علامة كل قوم التي يسمّون إبلهم بها ويعرفون كرمها من لؤمها) فلما كثر ذلك عليه أنشأ يقول  :

 

يسألني الباعة أين نارها
اذ زعزعتها فسمت أبصارها
كل بخار إبل بخارها
وكل نار العالمين نارها،(2)

 

وهي معرض لكثير في عادات العرب وأحوالهم الاجتماعية  :

فها هنا (قيس بن ساعدة) يخطب الناس، بذكر الخالق ويعظهم بمن كان قبلهم ويأمرهم بالخير (3) ، وهناك خالد بن أرطاة الكلبي تتعبه قبيلته وقد جاء لينافر جرير بن عبدالله الجبلي ومع هذا حيّه أيضاً وقد ساق كل منهما مالاً عظيماً ينافر عليه، وعرضا الحكومة على رجالات قريش فأبوا أن يحكموا خوف الفتنة بين الحييّن، فالرجلان في عكاظ ينتظران الأقرع بن حابس ليقوم بهذه الحكومة وقد ساق الرهَن فوضعوها عند عتبة بن ربيعة ، (4) ، دون جميع من شهد على ذلك المشهد، وهيهنا عمر بن الخطاب في الجاهلية يصارع، (5)، وثمة كاهن وعراف وعائف وقائف، وقرد، وغنم، وصحيفة وكاتب، وهناك أناس من غواة الشهرة : هذا يمد رجله وينشد شعراً ويقول : آ« من كان أعز العرب فليقطع رجلي آ» وآخر يأتي عكاظ ببناته ترويجاً لزواجهن، وأناس قدموها ليختاروا من يتزوجون إليه.

قال المرزوقي :

«كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب : كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيّد، والحلّة الحسنة، والركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه : «ليأخذه أعز العرب» يرد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته».

و كان كسرى يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق وينادي مناديه : «إنّ هذا بعثه الملك إلى سيد العرب» فلا يأخذه إلاّ من أذعنت له العرب جميعاً بالسؤدد فكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، « وكان كسرى يريد بذلك معرفة ساداتهم ليعتمد عليهم في أمور العرب فيكونوا عوناً له على اعزاز ملكه وحمايته من العرب...»، (6).

و هي ندوة سياسية عامة، تقضى فيها أُمور كثيرة بين القبائل : فمن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءُوه بها، ومن أراد تخليد نصر لحيه فعل فعل عمروبن كلثوم فرحل إلى عكاظ وخلده فيها شعراً، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ ، حتى يسمع الناس عامة ومن أراد اعلان الحرب على قوم أعلنه في عكا ،حتى (جمعية الأمم) أو(هيئة الأمم المتحدة) وما قامتا به من مجهود (رسمي) في سبيل السلم الخاص، كان لها صورة مصغرة تشبهها بحسب الظاهر (لا في الحقيقة، لأنّ عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف)، فقد روى الأصفهاني أنه : «اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخيّل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتوافقوا ألاّ يتفاوروا حتى يخصب الناس! »، (7).

ولا يخفى علينا أنه كانت تكون في عكاظ « وقائع مرة بعد مرة » ، (8).

وكانت هذه السوق تقوم في العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه، وقد تقدم آنفاً شيء من ذلك في أمر الجوار وأخبار الحروب.

و خير ما يعطينا صورة واضحة عن عكاظ أن نعرض لأهم الأحداث التي جرت فيها، فنتمثل بوساطتها أحوال العرب في هذه السوق الكبرى، في بيعهم وشرائهم وتخاصمهم وتفاخرهم وحربهم وسلمهم.

و أشد ما يثير الاستغراب، هذا الشبه الكبير بين عكاظ ومعارض هذا العصر، بل إن عكاظ لأوسع مدى فيما يعرض، فإنه لا يقتصر على مواد التجارة والصناعة بل يتعداهما إلى الأدب والشعر والحرب والسلم، والعادات... فإذا أنا أفضت في وصف عكاظ وما فيها، فانّ ذلك إفاضة في وصف سائر أسواق العرب أيضاً، فليس فيهن سوق تساميها، وما جرى في عكاظ جرى قريب منه في بقية الأسواق مع مراعاة صغرها واقتصارها أحياناً على اهل ناحية واحدة، فليكن تاريخ عكاظ إذاً تاريخاً لكل أسواق العرب، وتاريخاً لكثير من عاداتهم الاجتماعية أيضاً.

الموقع الجغرافي لعكاظ  :

عكاظ نخل في واد بين مكة والطائف على مرحلتين من مكة ومرحلة من الطائف، وموقعها جنوب مكة إلى الشرق . هذا زبدة ما يستخلص من تعاريفهم المتضاربة في عكاظ ، (9) . وتقوم السوق في مكان منه يعرف بالأثيداء، فيه مياه ونخل، وهو مستو لا علم فيه ولا جبل إلاّ مكان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء البدن كالأرحاء العظام ، (10) ، كانوا يطوفون حول صخور فيها، وربما كان ذلك شعيرة من شعائرهم فقد ذكروا أنهم كانوا يحجّون إليها وبالأثيداء كانت أيام الفِجار.

و الظاهر أنّ ما يطلق عليه (عكاظ) في الأرض متسع فسيح فيه حرار وفيه أرضون مسقية ذات نخيل، ولا شك أنّ أرضاً اتسعت بعض أجزائها لمعارك عدة، أرض فسيحة واسعة، وبذلك نفهم كيف كانت السوق تتنقل في عكاظ فلا تلازم بقعة واحدة لاتحيد عنها يميناً ولا شمالاً على مدى السنين المتطاولة.

وهي وما جاورها ديار قيس عيلان وهوازن منهم خاصة.

معنى عكاظ  :

أما اشتقاق عكاظ ، ولِمَ سميت بهذا الاسم؟ فقد ذهب اللغويون فيه مذاهب، قلبوا الكلمة علي معانيها المختلفة : فالقهر والحبس وردّ الفخر والتجادل والتحاج... كلّ هذه معان للعكظ وكلها صالحة، لأن يعلل بها التسمية، فيقول قوم : سميت عكا، لأنّ العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضاً في المفاخرة أي يقهره ويعركه، وقال آخرون إنها من تعكّظ القوم إذا تحبّسوا لينظروا في أمورهم، وذهب غيرهم إلى أنها من التعاكظ ; بمعنى التفاخر.

مواعيد عكاظ:

تقوم هذه السوق في ذي القعدة، وللعلماء بعدُ خلاف في تعيين أيامها من هذا الشهر، فالمرزوقي يجعلها تبدأ من نصفه حتى آخره، و آخرون يجعلون وقتها في شوال ، (11)، إلاّ أنّ الأكثرين على أنها تبدأ من أول ذي القعدة، وتستمر حتى العشرين منه، إذ تبدأ سوق مجنة فيرتحل إليها الناس وهي أقرب من مكة، فإذا أهل ذوالحجة أنقشع الناس إلى مجنة إلى ذي المجاز قرب عرفه وبقوا فيها حتى يوم التروية فيبدأ الحج.

ويمكن جمع الأقوال المتقدمة بأن عكاظاً قد تحفل بالناس في شوال ويتم تقاطرهم إليها في ذي القعدة : الزمن الرسمي للسوق وحين تذهب جماعاتهم إلى مجنة في العشرين من ذي القعدة يتخلف كثير ممن لم يكن أنهى بيعه وشراءَه ، فلا يخلوا السوق تماماً إلاّ في غرّة ذي الحجة عند اقتراب الحج ، (12).

و خلال هذه الأيام في عكاظ يتهيء العرب للحج، و يتبايعون، و يتناشدون، و يتفاخرون، و يتقارعون، و يتنافرون، و يتعاظمون.

و لم يكن هناك مجمع للعرب أحفل من عكا1 فكانوا يضربون بكثرة أهلها المثل، وبقيت لها هذه الشهرة بعد الإِسلام، فقد جاء في الأمالي : أنّ عبد الرحمن ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب(عليه السلام) لما سئل عن قتله عليّاً قال : «ضربته ضربة لو كانت بأهل عكاظ لقتلهم» ، (13)، وكان يقوم بأمر الحكومة عامّة فيها بنو تميم14. كانت الحكومة في الشعر للنابغة الذبياني.

ثانياً : سوق مجنة 

مجنّة موضع وقيل بلد قرب مكة على أميال منها، تقع بمر الظهران، قرب جبل يقال له الأصفر وهو أسفل مكة على قدر بريد منها، ميمها بالفتح و تكسر ، (15). والظاهر أنها من المواطن التي لا ينساها أهل مكة لبعض جمال فيها ولأنها ذات مياه، فقد جاء في كتب السيرة : أنّ بلالاً لما هاجر إلى المدينة وأصيب بالحمى، تشوّق إلى مكة و مواطنها وتغنّى بقوله :

 

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بفخ ( بواد ) وحولي إذخر وجليلُ؟
وهل أردن يوماً مياه مجنّة؟
وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل، (16)؟

 

 هذه السوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة، تقوم في الشعر الأواخر من ذي القعدة ويقصدها العرب بقضهم وقضيضهم بعد أن تنقض سوق عكا ، تممّون فيها ما قصدوا له من تجارة وفداء وتفاخر... على شبه التفصيل المتقدم في عكاظ ، ويجلب إليها ما يجلب إلى تلك من متاع وعروض، ولم تكن الخمرة لتقل فيها شأناً عن بقية الأسواق، فقد كانت تحمل إليها مِن معادنها من الشام، ومن بصرى وغزة حتى صار يشيد بذكرها الشعراء، قال أبو ذؤيب الهذلي :

 

سلافة راح ضمنتها إداوة
 مقيّرة رِدف لمؤخرة الرحل
تزودها من أهل بُصرى وغزة
على جسرة مرفوعة الذيل والكفل
فوافى بها عُسفان ثم أتى بها
«مجنة» تصفو في القلال ولاتغلي

 

ومجنة، وعكا وذوالمجاز تستوي في نظر المحرمين من العرب وتتمتع منهم جميعاً باحترام واحد حتى إنّ بعضهم لا يردها إلاّ محرماً.

قال الأزرقي :

« كانت قريش وغيرها من العرب تقول :آ«لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلاّ محرمين بالحج، وكانوا يعظّمون أن يأتوا شيئاً من المحارم أويعدوبعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم »، (17) .

ومجنة ـ وإن قرنت في أغلب الأحيان مع عكاظ وذي المجاز ـ دون هاتين السوقين شأناً حتى إنّ المرزوقي لم يذكرها مستقلة كما ذكر غيرها بل اكتفى بقوله :« وزاد بعضهم في الأسواق المجنة، وهو قريب من ذي المجاز».

ثالثاً : سوق ذي المجاز

لهم في تحديدها قولان :

الأول: أنها على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات خلف ظهر الإِمام إذا وقف، ذكره ياقوت وغيره، وهو أحد قولين نقلهما الزبيدي.

والثاني: أنها موضع بمنى، ومنى بين مكة وعرفات في نصف الطريق تقريباً، والذين نقلوا الأول أكثر عدداً وإن كان القول الثاني أدنى إلى القبول، وسمّى ذا المجاز، لأن إجازة الحاج كانت منه، ولعل السوق أحياناً تمتد، أوينتقل الناس فيها : يقتربون ويتعدون حتى تشتغل هذه المسافة. و ذوالمجاز من ديار هذيل، هم أهلها وجيرانها الأدنون.

يكثر ورود ذي المجاز في شعر العرب ولاسيما شعراء هذيل، لأنها من أسواقهم الكبرى، ومن المواسم أيضاً، قال أبو ذؤيب الهذلي :

 

وراج بها من ذي المجاز عشية
يبادر أولى السابقات إلى الحبل

 

وقال الليثي :

 

للغانيات بذي المجاز رسوم
في بطن مكة عهدهنّ قديم

 

   أما التي ذكرها الحارث بن حلّزة في معلّقته :

واذكروا حلف ذي المجاز وما
قدم فيه العهود والكفلاء

 

فالغالب أنها التي في شمال الجزيرة، لأنّ مقام قبيلته والأحداث بينها وبين غيرها كانت هناك.

إذا انقشع الناس عن مجنّة حين يهّل ذوالحجة، ساروا بأجمعهم إلى هذه السوق، وأقاموا بها حتى اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء ويملئون أوعيتهم لما بعده إذ لا ماء بعرفة، وإلى هذه السوق تتقاطر وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق قبلها، أولم يشهدها، وأتى للحج خاصة، إذ إنّ ذاالمجاز من مواسم الحج عندهم.

تحفل ذوالمجاز لوقوعها أيام الحج بجموع العرب وتجارتهم وأشرافهم، وهي تلي عكاظ في الشأن، ويجري فيها ما يجري في هذه من تبايف وتناشد، وتفاخر، وفداء أسرى، وطلب ثأر...إلى آخره، يقصدها صاحب الثأر ليعرف فيها واتره، فيتربص به بعد انقضاء الشهر الحرام إن كان من المحرمين وإلاّ عاجله، فأخذ بثأره وإليك بعض أحداثها :

روى الأصفهاني : « أن قيس بن الخطيم لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم حتى ظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلاّ رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا قاتل عدي (جدّ القيس) فإذا هو واقف على راحته في السوق، فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استمر. فأراده رهط الرجل فحالت بنو عامر دونه...إلى آخره ».

ويروي الجاحظ أنّ حالف أبو الأزيهر الدوسي وكان عظيم الشأن في الأزد أبا سفيان بن حرب عظيم بني أمية، وكان بين أبي الأزيهر هذا وبني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة، فإنّ أبا الأزيهر لقاعد في مقعد أبي سفيان بسوق ذي المجاز إذ جاء هشام بن الوليد فضرب عنقه في مقعده ذاك بذي المجاز وانتظر الناس أن يأخذ ابو سفيان بثأر حليفه من هشام فلم يفعل ولم يدرك به عقلاً ولا قوداً من بني المغيرة، وتحدث بذلك أهل السوق من قبائل العرب وراجت في الناس حتى عيّروا بها أبا سفيان، وحتى قال حسان بن ثابت فيها :

غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة
وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدوا
كساك هشام بن الوليد ثيابه
فأبل وأخلق مثلها جدداً بعدُ (18)

 

هذه الأسواق الثلاث : عكاظ ومجنّة، وذوالمجاز التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء ، والمفاخرة، والانشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الاسلامية محمد(صلى الله عليه وآله) وابتلعت تلك الأسواق بضجيجها وما كانت تعجّ به من حوادث، صوت الدعوة الإِسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الرغاء، والصخب والزحام، فلقد مكث الرسول(صلى الله عليه وآله) بمكة مستخفياً ثلاث سنين ثم أعلن في الرابعة، ودعا الناس إلى الإِسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات به، فلا يجد أحداً ينصره أويجبيه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون له : «قومك أعلم بك»، (19).

كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج، موزّع السمع بين داع إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإِجازة أوحمالة، وداع إلى عصبية، وآمر بمنكر، فيجد شيئاً معروفاً قد ألفه منذ عقل وأبصرالدنيا، لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قء ولا سمع بمثله  : رجلاً كهلاً وضيئاً عليه سمات الوقار والخير، يسئل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة : هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم، وعبس، وهنا بنو نصر، وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة...إلى آخره.

يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله، وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك ، ويجبهه ذلك، ويحقره آخر... فيلقى من الصد ألواناً يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متّئداً حزيناً إلى قبيلة أخرى وشريف آخر يعرض نفسه عليهم ويقول : « هل من رجل يحملني إلى قومه، فإنّ قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي » فلا يجد مجيباً، حتى تدارك الله نبيّه بوفد الأنصار.

هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أنّ تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى الخير، فقد تردّد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة، ولئن صدف عنه الناس وازوروا في أسواق الجاهلية، لقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبّق الخافقين بآثاره التي بثّها في العالمين رحمةً وعدلاً وعلماً وانسانية وسعادة ومُثلاً عليا، وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأروبا وأمريكا صدّ عنه قديماً أحلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمرُ المتحضرين من كل عالم، ومخترف ومصلح، وأديب، وسياسي، ومفكر يستضيء بعلمه، وفكره الملايين من الخلائق.

فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحتفظ بهذا الدرس، فإنّ الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قويّاً صائلاً، لا بدّ من أنه ظافر في النهاية عليه. ولنعلم أنّ اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلاً إلى قلب المؤمن، و أنه : ( إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون ).

رابعاً : سوق دومة الجندل 

دوُمة الجندل ويقال (دوماء الجندل) كلاهما بالضم ، (20) ، بلد يقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، أقرب إلى المدينة من الشام والخليج الفارسي.

وهي في غائط من الأرض طوله خمسة فراسخ وفيها حصن آ«ماردآ» المشهور وإلى غربها عين تثج فتسقي ما به من النخيل والزرف وكانت خربة، وروى ابن سعد نقلاً عن بعض أهل الحيرة في سبب بنائها :

« أن أكيدر صاحبها واخوته كانوا ينزلون دومة الحيرة، وكانوا يزورون أخوالهم من كلب، فيتغربون عندهم، فإنهم لمعهم وقد خرجوا للصيد إذ رفعت لهم مدينة متهدّمة لم يبق إلاّ بعض حيطانها وكانت مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا فيها الزيتون وغيره وسمّوها دومة الجندل تفرقةً بينها وبين دومة الحيرة » ، (21) .

و قال ياقوت «كان فيها قديماً حصن مارد، وسميت دومة الجندل لأنّ حصنها مبني بالجندل، وقريب منها جبلا طيء، وكانت بهذا الحصن بنو كنانة من كلب ».

وكان أُكَيدر يبعث بمن يتعرض قوافل التجارة الذاهبة بين المدينة والشام ويظلم من يمرّ بهم من الضافطة (الذين يجلبون الميرة والطعام) ثم قوي شرهم حتى شاع أنّ في عزمهم الدنوّ من المدينة، وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة، فندب رسول الله(صلى الله عليه وآله) الناس، واستخلف على المدينة، وخرج في ألف من المسلمين يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عذرة حتى بلغوا الجندل، فتفرقوا وألقي الرعب في قلوبهم، وأخذ من نعمهم وشاتهم ورجع ولم يلق كيداً.

   والظاهر أنّ شرهم لم ينقطع عن تجار المدينة حتى اضطر الرسول(صلى الله عليه وآله) أن يرسل إليهم سرية عليها عبد الرحمن بن عوف، وأوصاه حين دفع إليه اللواء بقوله : « خذه ، (22)  يابن عوف، فاغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم...»   وقال له : «إن استجابوا لك فتزوج بنت ملكهم ».

سار عبد الرحمن حتى بلغ دومة الجندل فدعا أهلها إلى الإِسلام فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمروالكلبي، وأسلم معه ناس كثير من قومه وتزويج عبد الرحمن ابنته (تماضر) وبقي على الجزية هو ومن معه.

تنزل قبائل العرب في الجاهلية هذه السوق في أول يوم من ربيع الأول للبيع والشراء وكان بيعهم فيها بيع الحصاة. ويجاور هذه السوق من قبائل العرب قبيلتا كلب وجديلة طيء. وكانت كلب أكثر العرب قناً، فكانوا يفتحون في هذه السوق حوانيت من شعر يجعلون فيها عبيدهم وإماءَهم، وكانوا ـ على عادة بعض العرب ـ يكرهون فيها فتياتهم على البغاء، ويأخذون لأنفسهم كسب أولئك البغايا من إمائهم.

فلما كان الإِسلام وحرّم الله هذه العادة القبيحة بقوله تعالى : ( و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ) ، (23).تنزه العرب عن هذه التجارة التي كانوا عليها في الجاهلية وتجاوز الله عما كان منهم قبل الإِسلام.

يشرف على هذا الموسم أمراء من العرب وكان روءَساء السوق غالباً إما من كلب وإما من غسان، أي الحيين غلب خضع له الآخر، وكان مكس هذه السوق لمن يشرف عليها. ويدور نشاط هذه السوق حتى منتصف ربيع الأول، وتغص بمن يؤمها من أطراف الشام والعراق وسائر الجزيرة، وهي من الأسواق الكبرى للعرب حتى إنهم ليلقون فيها سيرهم نصباً كبيراً لوعورة الطريق والتعرض للأخطار وفقدان الأمن، ولا يحملهم على ذلك كله إلاّ ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة، ثم تفتر هذه السوق بحركتها، وتأخذ بالاضمحلال حتى آخر الشهر، إذ يفترق أهلها وموعدهم إليها في القابل من شهر ربيع الأول ، (24).

خامساً : سوق نطاة خيبر

خيبر قرية شمالي المدينة، بينها وبين تبوك، وهي عدة حصون لليهود، وفيها مياه ومزارف ونطاة اسم حصن بها واسم عين أيضاً، وقيل هي خيبر نفسها، وحول القرية نخيل كثير يسقى بعين فيها والبلدة وبئة معروفة في العرب بحمّاها. أهلها يهود استوطنوا الحجاز منذ القديم واشتغلوا بالزراعة والتجارة ، (25).

ونظراً لوقوع هذه القرية على الطرق التجارية الكبرى بين اليمن والشام أسهم أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدى محطات القوافل التجارية في سفرها إلى الشام، ونجح أهلها في متاجرهم حتى أفادوا منها غنىً واسعاً واستفاضت لهم ثروات طائلة ونشأت فيهم رؤوس الأموال الضخمة، ولا نبعد إذا قلنا : إنّ خيبر مصرف الجزيرة المالي، ولما فتحها الرسول(صلى الله عليه وآله) صالح أهلها على الشطر من الثمر والحب، و يذكر أصحاب السيرة غنائم خيبر وما وجدوا فيها من كنوز، فيذكرون أموالاً جمة ودنيا عريضة، بني اليهود فيها حصوناً عديدة جعلوا فيها أموالهم ومسيرتهم من طعام وحب وتمر، وهم في الجملة أهل بأس وشكيمة قاوموا كثيراً قبل أن يفتح المسلمون حصونهم، ثم غلبوا على أمرهم فافتتح المسلمون حصن ناعم، ثم القموص، ثم حصن الصعب ابن معاذ، وهو أعظم حصونها غناء وأكثرها طعاماً وودكاً، ثم الوطيح، ثم السلالم، ثم الشق، وكان في الغنائم ذهب كثير وفضة كثيرة، فجعل الصحابة يتبادلونها حتى نهى الرسول(صلى الله عليه وآله)أن يبتاع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وبين تلك الحصون حصن الشق، وحصن نطاة، وحصن الكتيبة، ولكل حصن خازن يخبئ الأموال لأهله، وكان كنانة بن الربيع عنده كنز بني النضير، فلما أسر سئل عنه فانكر فاهتدى الفاتحون إليه فوجدوا أموالاً طائلة.

اتسعت تجارات اليهود في خيبر وغيرها حتى استطاع الرجل الواحد منهم كأبي رافع الخيبري أن يسيّر قوافل تجارية لحسابه إلى الشام، وهم الذين نشروا في الجزيرة التعامل بالربا وأثروا ضخماً، وكلما مرت عير لقريش، أولطيمة من لطائم النعمان، قامت لها سوق في خيبر، وقد جعل المرزوقي زمنها بعد زمن سوق ذي المجاز، أي بعد أشهر الحج، وقبل أن تبتدئ سوق حجر.

التقييم الاقتصادي لمكة و المدينة :

كان المسلمون يجهزون العير إلى الشام كما في الجاهلية فتذهب بأموالهم ومتاعهم فتباع هناك ثم تحمل إلى الحجاز فتأتي المدينة، وكانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق ; فرحاً بها، فذكر المفسرون أنّ دحية بن خليفة الكلبي رجع مرة بتجارة زيت وطعام من الشام، و النبي(صلى الله عليه وآله) يخطب يوم الجمعة على منبر مسجد المدينة، فاستقبلها الناس كعادتهم بالفرح، والطبول، والتصفيق، وخشي المصلّون أن يسبقوا إلى العير، فيفوتهم الربح، فتركوا الرسول(صلى الله عليه وآله) يخطب، وبادروا إليها في البقيف ولم يبق مع الرسول(صلى الله عليه وآله) إلاّ إثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى في ذلك : (وإذا رأوا تجارةً أولهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً )، (26) .

وفي القرآن الكريم إشارة إلى فاصل تاريخي في حياة مكة التجارية، وذلك حين نزل قول الله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إنّ الله عليم حكيم ) ، (27) .

فلما حرم دخول مكة على المشركين سنة تسع للهجرة، خشي الناس الفقر بسبب انقطاع تجارة المشركين عنهم في المواسم، فوعدهم الله بغنى عن غير طريق التجارة، فكان العوض ـ على ما ذكر المفسرون ـ في المغانم، والفتوح العاجلة.

وكان لا بدّ من أن تدخل أحوال العرب التجارية، ولاسيما في مكة والمدينة في طور جديد، فاهتم الاسلام بأمر تجارتها، وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه، وطفح الحديث الشريف بأحكام البيع والشراء والاحتكار والديون والربا... إلى آخره... وعني الخلفاء بعد الرسول عناية خاصة بالتجارة بعد أن هدأت مشاغل الفتوح أيام أبي بكر وعمر وعثمان، ولنلاحظ أنّ الفتوح نفسها لم تكن لتخلوا من الاتجار حتى عمال الخليفة أنفسهم، وهذا خير ما يفسر لنا حرص القوم على حرفتهم، ومن حسن الاتفاق أنّ الخلفاء الثلاثة الأولين كانوا تجاراً، فأبوبكر وعثمان كانا بزازين، وعمر تجر في الجاهلية واستغنى في غزة، وكان مُبرطشاً ( يكتري للناس الإِبل والحمير ويأخذ عليه جُعلاً ) ، (28) .

أما أميرالمؤمنين(عليه السلام) فلم نعرف أنه تجر وقد ظهر الإِسلام و هو صبي، ومع هذا فقد كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) على علم من التجارة وأحوالها، لأنها مهنة قومه، ولما ولي الخلافة لم يكن يجهل خطر التجارة وقيمتها، ومن الطريف حقاً أنّ ننقل بهذه المناسبة مرسوماً أصدره إلى عامله الأشتر في التجار والصناف فإنه يدّل على احاطته بأسرار التجارة، وأخلاق التجار، ويعلمنا من جهة ثانية منزلة هذه الطبقة من بين بقية الطبقات، وما كان يعلق عليها من مهام، قال :

( ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافف وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح، في برك، وبحرك، وسهلك، وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترؤون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تُخشى غائلته... إلى آخره) ، (29).

ولنا أن نستأنس بشيء آخر له خطره في الدلالة على ما شغلت التجارة من حياة العرب، وأفكارهم، واهتمامهم، وذلك هو اللغة والأشعار والأمثال، فإنها تكشف لنا إلى حد بعيد ما كان عليه القوم من عادات وأحوال : وأول ما نلاحظ في هذا الباب غنى اللغة بالألفاظ التي تتعلق بالأسفار، وما إليها من حط وترحال ونزول على الماء، ووصف لدواب السفر، وضروب سيرها، ولسنا مبالغين اذا قلنا : إنّ أكثر القصائد في الجاهلية والإِسلام يفتتحها صاحبها بذكر رحلته، وما لاقى فيها هو وراحلته من التعب والشقاء، والضيق والعطش والجوف عدا ما هناك من ألفاظ كثيرة تتعلق بالبيع والشراء والصفقة الرابحة والخاسرة.

وأما الأمثال التي تتعلق بأمورهم التجارية، وأحوالهم فيها فكثيرة وإليك طائفة منها تمثل لنا شيئاً من تجارتهم وأحوالهم في أسفارهم :

عند الصباح يحمد القوم السُرى ـ لا تدرك الراحة إلاّ بالتعب ـ قتل أرضاً عالمها وقتلت أرض جاهلها ـ أن ترد الماء بماء أكيس ـ لا يرحل رحلك من ليس معك ـ إن يدم أظللُك30 فقد نقب ـ وإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى... إلى آخره31.

هذا مجمل ما أردت أن أعرض له، في بيان اهتمام العرب في التجارة، ولم أقصد فيه إلى شيء من التطويل، وإنما نريد التأكيد على أسواق العرب في مكة والمدينة، ولما لها من أهمية بالغة في حياة العرب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.

-----------------------------------------------------------------

الهوامش  :

1 ـ أنظر تفصيل هذا الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر : 414 415.

2 ـ بلوغ الأرب 2 : 163.

3 ـ مجلة المشرق السنة 35 : 84.

4 ـ رسائل الجاح0: 102 بلوغ الأرب 1 : 301 305.

5 ـ طبقات ابن سعد 1 : 235.

6 ـ مثير العزم الساكن في فضائل البقاع والأماكن لأبن الجوزي، كراس الخامس عشر.

7 ـ الأغاني 11 : 37.

8 ـ بلوغ الأرب 1 : 368.

9 ـ من حسن الحظ أن ذهب فتحرى موضعها بنفسه باحث عربي فوصفه لنا. وهو السيد خير الدين الزركلي الشاعر في كتابه (ما رأيت وما سمعت) ص79. قال : آ«على مرحلتين من مكة الذاهب إلى الطائف في طريق السيل يميل قاصد عكاظ نحو اليمين ، قيسير نحو نصف ساعة فأذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب يسمونها (القانس بالكاف المعقودة) وهي موضع سوق عكاظ.

10 ـ معجم ما استعجم للكبرى  : 660 ومراصد الأطلاع وياقوت الحموي.

11 ـ ذكره الياقوت.

12 ـ هناك من نقول  : أن لعكاظ غير تلك السوق السنوية التي تجتمع بها القبائل، لها أيضاً سوق أسبوعية تقوم كل يوم أحد للبيع والشراء... أنظر : (مدينة العرب في الجاهلية والإسلام) لرشدي : 59.

13 ـ الأمالي 2 : 256.

14 ـ كتاب (المحبر) : 182.

15 ـ لقد جاء في تاج العروس المجنة كثيرة الجن، وفي الصحاح ذات الجن.

16 ـ أخبار مكة اللازرقي  : 131.

17 ـ أخبار مكة  : 132.

18 ـ رسائل الجاحظ (جمع السندوبي) : 76 بتصرف يسير.

19 ـ شرح المواهب 1 : 309 تهذيب تايخ ابن عساكر ج4 : 415.

20 ـ ونقل بالفتح فيها صاحب النهاية، وفي الصحاح أن أصحاب اللغة يضمون وأصحاب الحديث يفتحون.

21 ـ طبقات ابن سعد : 61.

22 ـ سيرة ابن هشام 3 : 443.

23 ـ النور : 33.

24 ـ الأزمنة والأمكنة 2 : 161.

25 ـ أسواق العرب الأفغاني  : 356.

26 ـ الجمعة  : 11.

27 ـ التوبة  : 28.

28 ـ أنظر مادة برطش في (تاج العروس).

29 ـ نهج البلاغة.

30 ـ الأظل  : ما تحت منسم البعير والمعنى  : أشكو من مثل ما تشكو.

31 ـ الذي يجد في سيره حتى ينقطع أخيراً عن أصحابه في السفر.


أسماء مكّة

الحجّ الإبراهيمي والحجّ الجاهلي

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)