• عدد المراجعات :
  • 1139
  • 9/10/2006
  • تاريخ :

11/9: عالـم أقل أمناً

ها هي خمس سنوات مضت منذ أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة. أحداث قلبت الإحساس الأميركي التقليدي بالأمن رأسا على عقب وتعاطف خلالها العالم كله مع الشعب الأميركي باعتبارها أعمالا ارهابية شريرة. وحينما جعلت جريدة «لوموند الفرنسية» افتتاحيتها بعنوان «كلنا أميركيون» كانت تلخص في الواقع رد الفعل الإنساني الطبيعي باتساع العالم كله. ومع أن معاهدة حلف شمال الأطلسي تحصر نطاقها الإقليمي في المسرح الأوربي الا أن دول الحلف جميعا وافقت بلا مناقشة على الطلب الأميركي باعتبار ماجرى على الأرض الأميركية عدوانا على دول الحلف جميعا.

تماما في توصيف الأحداث بأنها إرهاب أعمى يستهدف مدنيين أبرياء وهو ما يفرض علينا جميعا التضامن مع الشعب الأميركي وتفهم رد فعله الغاضب بصرف النظر عن رؤيتنا للسياسات الأميركية التي نحن تاريخيا من ضحاياها. في الجانب الآخر أبديت تحفظي وقلقي من المعلومات الأولية غير الرسمية التي تداولها الإعلام الأميركي من الساعات الأولى تلميحا وليس تصريحا. من ذلك مثلا القول بأن كتابا باللغة العربية عن أصول قيادة الطائرات المدنية جرى ضبطه داخل سيارة بيضاء اللون في ساحة الإنتظار أمام أحد المطارات التي انطلقت منها إحدى الطائرات المختطفة في ايحاء ضمني بجنسية المختطفين، بالرغم من حقيقة أن اللغة العربية غير مستخدمة أصلا في التدريب على قيادة الطائرات المدنية، فما بالنا بقيادة طرازات متطورة تكنولوجيا مثل البوينج تحتاج الى سنوات من التدريب وليس مجرد قراءة كتاب.

ما بدا تلميحا تحول تاليا الى تصريح بل تأكيد على 19 شخصا محددا كلهم عرب وكلهم أصبحوا هم المذنبون أميركيا قبل أي تحقيق أو أدلة أو مراجعة تتناسب مع هول الحداث. بل ان مسؤولا أميركيا متقاعدا سبق له العمل كسفير في دول عربية بادر بالتحدث الى السفراء العرب في واشنطن في اليوم التالي مباشرة لأحداث 11/9/2001 لكي يقترح عليهم نشر صفحة اعلانية في الصحف الأميركية الكبرى يقدمون فيها اعتذارهم الى الشعب الأميركي عما جرى. وحسب رواية هذا المسؤول الأميركي السابق فإن السفراء العرب تحججوا بأن ميزانيات سفاراتهم لاتسمح بتمويل مثل هذا الإعلان، فاعتبر هو أن هذا نموذج عربي في عدم التفاعل مع الأحداث، بغير أن تطرف له عين من هول المعنى الضمني الذي يعبر عنه اقتراحه. فحتى بافتراض صحة الإشتباه الأميركي في 19 شخصا محددا من جنسيات عربية فإن هذا لايجعل دولهم بالمرة مسئولة عن افعالهم أو تحمل وزر ما ارتكبوه.

كان اعتراضي المبدئي هو حصر الإتهام الأميركي من اللحظة الأولى في اتجاه واحد دون غيره والإصرار على مصادرة الإحتمالات المعقولة الأخرى بل ومنع مناقشتها أصلا. وما زال هذا مستمرا حتى الآن برغم مرور خمس سنوات. لقد جرى بعدها ما جرى وتلاحقت الأحداث والتطورات بما جعل الإدارة الأميركية تنطلق من أحداث 11/9/2001 لكي تعلن أنها تخوض حربا عالمية ضد الإرهاب وأنه من تلك اللحظة فصاعدا فإن «من ليس معنا فهو مع الإرهاب» وأن أسامه بن لادن مطلوب حيا أو ميتا باعتباره زعيم تنظيم القاعدة الذي تقوم برعايته واحتضانه منظمة طالبان الحاكمة في افغانستان. هكذا انطلقت أميركا في غزو واحتلال أفغانستان ساحبة خلفها حلف شمال الأطلسي. بعدها أعلنت عن وجود «محور للشر» يضم العراق وايران وكوريا الشمالية.

في البداية قال الرئيس الأميركي جورج بوش ان أميركا تخوض حربا صليبية جديدة لكن التعبير جرى التعتيم عليه تاليا باعتباره موحيا بدلالات دينية لا تقصدها أميركا. لكن مع السنة الخامسة من أحداث 11/9/2001 ارتفع الصوت الأميركي الرسمي من جديد ليتحدث عن الحرب ضد «الفاشية الإسلامية» تارة أو الراديكالية الإسلامية تارة أخرى. في ما بين الإثنين أعاد الرئيس جورج بوش الى الحياة تعبيرات محددة مستعارة من قاموس الحرب الباردة، متحدثا مثلا عن أن الإرهاب الجديد موجه ضد «العالم الحر» أو ضد «العالم المتحضر» ولم يبق سوى استعادة الحديث عن دول «ما وراء الستار الحديدي» الذي جرى به توصيف الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية في ذروة سنوات الحرب الباردة.

بعيدا عن الدعاية والإعلام كانت كوندوليزا رايس ابان عملها مستشارا للأمن القومي في الإدارة الأولى لجورج بوش هي التي قالت في اجتماع أكاديمي ضيق ان السياسة الخارجية الأميركية الآن (2002) تمر بمرحلة تحول جذري شبيهة بما جرى سنة 1947. في تلك السنة تحديدا (1947) جرى الإنقلاب الجذري في السياسة الخارجية الأميركية بالتحول من التعامل مع الاتحاد السوفياتي كحليف انتهت الحاجة اليه بعد سقوط النازية والفاشية الى عدو مستجد على الساحة الدولية يجب احاطته بالأحلاف والقواعد العسكرية ومحاصرته بسياسة الإحتواء واعادة تعبئة الرأي العام الأميركي في الإتجاه الجديد من خلال تبني الحملة التي شنها جوزيف مكارثي عضو مجلس الشيوخ الأميركي وأطاحت بعشرات الآلاف من الأميركيين بتهمة التعاطف السابق مع الشيوعيين أو حتى مجرد السخرية من مظالم الرأسمالية الأميركية كما كان شارلي شابلن يفعل فاضطر هو نفسه الى مغادرة أميركا مع كثيرين غيره من فنانين وأدباء.

شيء قريب من ذلك جرى داخل الولايات المتحدة بعد أحداث 11/9/2001 حيث صدر قانون الوطنية الذي يعطي للحكومة الأميركية سلطات شبه مطلقة في الرقابة والإعتقال بلا محاكمة والمحاكمة بغير أدلة والرقابة على المحامين أنفسهم وتطهير الجامعات من الأساتذة الإنتقاديين لسياسات الحكومة والزام المكتبات بسجلات عن زبائنها ونوعيات الكتب التي يشترونها أو يستعيرونها... وباختصار: اعتبار «الحرب على الإرهاب» تفويضا بالتضييق على الحريات المدنية للأميركيين. والأهم من ذلك اشاعة مناخ من الخوف في الحياة العامة الأميركية يسمح بتمرير كل ما هو استثنائي. لعلنا نتذكر هنا ما جرى في خريف 2001 من الإغلاق المؤقت لمبنى الكونغرس الأميركي وهيئات حكومية في واشنطن وخارجها تحت عنوان الخطر من استخدام الإرهابيين لمسحوق الإنثراكس القاتل في رسائل بريدية. لكن بمجرد تمرير التشريعات الاستثنائية المطلوبة من الكونغرس اختفى الحديث عن الإنثراكس ولم يعرف أحد مطلقا من هم الفاعلون أو حتى المشتبه بهم.

في السنوات الخمس التي مضت منذ أحداث 11/9/2001 وجدنا دخانا في كل اتجاه دعائي وإعلامي لكننا في أرض الواقع وجدنا برنامجا امبراطوريا متتابع الحلقات. فبعد أفغانستان وجدنا غزوا واحتلالا للعراق بحجج ثبت تاليا أنها ملفقة ثم تهديدات على مدار الساعة لإيران بينما السكوت كامل عن كوريا الشمالية التي قيل سابقا انها جزء من محور الشر. وجدنا أيضا تحركات أميركية محمومة لإحاطة الصين بثلاث عشرة قاعدة عسكرية أميركية جديدة واختراقات أميركية متتالية لكل الدول الخارجة من عباءة الاتحاد السوفياتي السابق واستراتيجية أميركية جديدة للأمن القومي تعلن فيها أميركا صراحة أنها لن تسمح حاليا أو مستقبلا لدولة أو مجموعة من الدول بمزاحمتها في عرش القوة العسكرية أو الإقتصادية، وأنها في سبيل ذلك تعطي لنفسها الحق في شن الحروب الوقائية والاستباقية ضد من تراهم أميركا مناوئين لمصالحها باتساع العالم.

من ناحية كان الحديث الدعائي الأميركي يتناول منظمات إرهابية متناثرة ومبعثرة في نحو ستين دولة حسب التقدير الأميركي بينما الزيادات المتتالية وصلت بالميزانية العسكرية الأميركية الى 520 مليار دولار سنويا بما يتجاوز الإنفاق العسكري لكل دول العالم مجتمعة. والأهم من ذلك التوجه الأميركي لإقامة نظام صاروخي جديد أكثر تطورا، وتطوير قنابل نووية تكتيكية صغيرة جاهزة للاستخدام لأول مرة... وكل هذا، وغيره، هو نظم تسليحية لمواجهة دول بأكثر مما هي لمواجهة شبكات ارهابية متناثرة.

وجدنا أيضا، باسم مكافحة الإرهاب، تطفلا أميركيا على النظم والتبادلات المالية الدولية بما يعطي لأميركا سلطة التفتيش على التحويلات المالية عابرة الدول وأحيانا داخل الدولة الواحدة. ووجدنا كذلك أساطيل بحرية أميركية تعطي لنفسها الحق في تفتيش السفن بالمياه الدولية واحتجاز السفن ذاتها بمن وما عليها. ولأول مرة منذ سنة 1955 تسعى أميركا بكل همة لمنع حصول دول عربية على أسلحة ولو دفاعية، ابتداء من المنبع أي من روسيا أو الصين أو أي دولة منافسة للمجمع العسكري الأميركي. فوق هذا وذاك أصبحت أميركا تستخدم مجلس الأمن الدولي سوطا تلهب به ظهور الدول التي تستجد لأميركا مصالح فيها... من لبنان الى السودان ومن ايران الى سورية. وفي الحالات التي يستعصي فيها مجلس الأمن نجد التصرف الأميركي المنفرد من خلال تقارير الكونغرس وتشريعاته، بل وانشاء «مكتب الحريات الدينية الدولية» داخل وزارة الخارجية الأميركية ومهمته الرئيسية التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت عنوان حماية الحريات الدينية... وهو تنويع لما سبق للإمبراطورية البريطانية أن انتحلته لنفسها في سنوات سطوتها من شعار «حماية الأقليات». وفي الحالتين البريطانية سابقا والأميركية لاحقا لايمثل الشعار أكثر من غطاء لستر مصالح ونهب ثروات وابتزاز دول.

بعد خمس سنوات من أحداث 11/9/2001 وممارسات السياسة الإمبراطورية الأميركية من الحرب على الإرهاب الى الحرب على الفاشية الإسلامية يحق لنا أن نتساءل: هل أصبح العالم الآن أكثر أو أقل أمنا؟ في أفغانستان تضاعفت تجارة المخدرات والحكومة في السلطة لا تحكم على مايتجاوز العاصمة. وفي العراق تقر وزارة الدفاع الأميركية (ولها هناك 140 ألف جندي أميركي) بأن كل مقومات وعناصر الحرب الأهلية أصبحت موجودة واقليم كردستان يمنع رفع العلم العراقي بعد أن جعل الكردية لغة رسمية. وفي لبنان ضمنت أميركا لإسرائيل 33 يوما من الحرب المتوحشة ومائة ألف قنبلة عنقودية ألقتها اسرائيل ضد المدنيين اللبنانيين في الأيام الثلاثة الأخيرة من الحرب مع دراسة أميركية لمنح اسرائيل ملياري دولار كمساعدة وتعويض عن تكاليف الحرب، بغير أن نتكلم عن حصار بحري وجوي للبنان تتولاه اسرائيل الى أن تقوم عنها بالمهمة ألمانيا وفرنسا ودول أخرى. وفي فلسطين تبخر شعار جورج بوش، الباهت أصلاً، عن اقامة دولة فلسطينية وأصبحت ورقة الاعتماد الجديدة المطلوبة هي أن تتولى منظمة فتح تخليص اسرائيل من منظمة حماس. وفي السودان تقرر أميركا أن القوات الدولية ستذهب الى دارفور شاءت حكومة السودان أو لم تشأ، علما بأن سحب تلك القوات مستقبلا لن يتم الا بقرار من مجلس الأمن حيث يوجد الفيتو الأميركي. وبعد هذا كله تبلور أميركا لنفسها مؤخرا إقامة قيادة عسكرية أميركية منفصلة تكون مسؤولة عن افريقيا لأول مرة، وهي القارة التي لم تهتم بها أميركا سابقا أو تركتها مناطق نفوذ لبعض حلفائها.

أما في داخل أميركا ذاتها فحينما تسلم جورج بوش الرئاسة لأول مرة في سنة 2001 كان هناك مائتا مليار دولار فائضا سنويا في الميزانية مقرر له الاستمرار بالتزايد في السنوات التالية. ومع بداية السنة الجارية تحول الفائض الى أربعمائة مليار دولار عجزا سنويا مستمرا في الزيادة. لكن الأكثر أهمية هو تزايد القيود على الحريات المدنية الى درجة وجود برنامج كامل وشامل للتنصت على مكالمات ومراسلات المواطنين الأميركيين، وهو ما يعجز الكونغرس الأميركي عن التصدي له حتى الآن.

الأميركيون أحرار في رئيسهم وادارتهم. لكن ما ليس لإدارتهم الحق فيه فهو اشاعة مناخ عالمي ضد العرب والمسلمين من حيث هم عرب ومسلمون. وفي الأسبوع الأخير تابعنا مثلا استطلاع للرأي أجرته صحيفة لندنية يكشف عن أنه في بريطانيا يوجد شخص من بين كل ستة في لندن يستبدل مقعدا في المواصلات العامة لتجنب الجلوس الى جوار راكب يعتقد أنه مسلم. ويضيف الاستطلاع إن خمسة وثلاثين في المئة من ركاب المترو في العاصمة البريطانية اعترفوا بأنهم كانوا يشعرون خلال العام الماضي بالضيق والتوتر عند رؤية شخص ينحدر من أصول آسيوية أو شمال افريقية يصعد الى العربة التي يستقلونها.

شيء مثل هذا نجده باتساع العالم... من بريطانيا الى استراليا ومن ألمانيا الى كندا، وهو شيء جديد بالمرة على تلك المجتمعات، وعلى العرب والمسلمين أيضا، ويجعلنا نعيش الآن عالما أقل أمنا، وكله في سبيل مشروع امبراطوري أميركي مستجد، ولن يكون قابلا للحياة.

المصدر :الحياة

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)