• عدد المراجعات :
  • 1871
  • 7/26/2006
  • تاريخ :

المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن

القرآن الکريم

يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة هود: ( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأَصَمّ والبَصِيْرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثلا أفلا تَذَكَّرُونَ ) .

تصوير البحث

يقارن الله العظيم في هذا المثل بين الكافرين والمؤمنين، ويشبِّه أحد الفريقين بالأعمى والأصم والآخر بالبصير والسميع، وذلك لأنَّ الايمان والتقوى يورثان السمع والبصر، أما اللجاجة والتعصب والكفر فيحجبان عن هذين الموهبتين الالهيتين.

إشارة إلى الآيات ما قبل آية المثل

الآيات التي تسبق آية المثل هذه تبيّن أحوال المؤمنين والكفار، ومن الضروري إلقاء نظرة عليها لكي نتمكن من شرح الآيات وتفسيرها ببصيرة أكثر.

سيرة الكافرين

شرحت الآية 19 من سورة هود أحوال الكافرين حيث قالت: ( الَّذِيْنَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَيْبغُونَها عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) .

لقد بيّنت الآية ثلاثاً من خصال الكفّار:

1 - الكفار يمنعون عن سبيل الله ويحولون دون دخول الآخرين في هذا السبيل.

2 - الكفار يبغون الأعوجاج عن طريق الحق، أو أنَّهم يريدون إظهاره معوجّاً، مع أنه - حسب سورة الحمد - طريق مستقيم ولا إعوجاج ولا افراط ولا تفريط فيه بل هو متعادل ومتوازن.

3 - الكفار ينكرون المعاد والحياة بعد الموت. ويبدو أن هذه القضية هي السبب الأساس في انحطاطهم; وذلك لأنَّهم عندما أنكروا المعاد سعوا في اظهار طريق الحق معوجاً ومنعوا من اهتداء الآخرين إلى هذا الطريق.

ثم يقول الله في الآية 22 من نفس السورة: ( لاَ جَرَم أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ ) .

أي أنَّ الكفار الذين منعوا من اهتداء الناس إلى طريق الحق، وأظهروه وكأنّه معوجاً، وفي النهاية أنكروا المعاد، إنّهم في المعاد أخسر من الجميع.

سيرة المؤمنين

الآية 23 من سورد هود همّت بدراسة الفريق الثاني (المؤمنين) وقالت: ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

بيّنت الآية الشريفة ثلاث خصال للمؤمنين:

1 و 2 - الإيمان والعمل الصالح، إنّ هذين الخصلتين ذكرتا معاً في كثير من الآيات القرآنية، فهما لازم وملزوم ولا يمكن تفكيكهما،(1) ولهذا كان إدعاء الإيمان بالنسبة للذين لا يعملون إدعاء خواء، وهم غير مؤمنين في الواقع. ومن جانب آخر، أنَّ الصادقين الذين يعملون صالحاً من دون إدعاء، هم المؤمنون الحقيقيون; وذلك لأنّهم - كما أشرنا سابقاً - بمثابة الغصون والاوراق لشجرة واحدة.

3 - الخصلة الثالثة التي يحملها المؤمنون هي خصلة (الاخبات). إنَّ (الاخبات) جمع (خبت) والاخيرة تعني - في الاصل - الصحراء الواسعة والمستوية، وقد اُطلقت بعد ذلك على بعض خصائص الإنسان، نشير هنا إلى ثلاث حالات منها:

الف - تستخدم في الإنسان ذي الروح المتواضعة، فكما أنَّ الصحراء المستوية تتواضع أمام الماء وتسمح له بالسير في جميع بقاعها، كذلك روح الإنسان المتواضع فإنَّها تستسلم للحق ببساطة.

باء - أنَّ مفردة (مخبتْ) كما تُطلق على الإنسان المتواضع تطلق كذلك على من سلّم نفسه لله تعالى، أي كما أنَّ الأرض المستوية مستسلمة، كذلك روح الإنسان المؤمن.

جيم - تطلق هذه المفردة على من اطمئنَّ بالله تعالى. الإنسان عموماً عندما يخطو في الصحراء يخطو باطمئان ومن دون خوف وذعر، عكس ما لو كان يمشي في جبال وأراض وعرة، فإنَّ خطاه ستقترن بالخوف والذعر، وخطى الإنسان المؤمن في طريق العبودية تقترن بالاطمئنان.

وعلى هذا، فالمؤمنون الذين يحملون هذه الصفات (الايمان والعمل الصالح والاخبات) هم اصحاب الجنة خالدين فيها ويتمتعون بنعمها.

الشرح والتفسير

( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأصمِّ والبَصِيْرِ والسَّمِيع ) بعد أن بيّن الله خصائص الفريقين في الآيات السابقة نعت هنا كلا من الفريقين بصفات فقال: إن الكافر مثل الأعمى والأصمّ، والمؤمن مثل البصير والسميع.

( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) والسؤال هنا استنكاري أي أنَّ الفريقين لا يستويان فالأعمى ليس كالبصير والأصم ليس كالسميع; كذلك المؤمن فهو غير الكافر وليس مثله.

المفروض بهذه المقارنة أن تثير مخاطبي الآية وتذكّرهم، أليس كذلك؟!

لأجل الوقوف على عمق هذا المطلب واستيعاب آثار الايمان والقدرة اللامتناهية لرب العالمين، نقوم في البداية بدراسة أهمية العين والاذن ودورهما في جسم الإنسان.

العين من أعظم آيات الله

لا شك أنَّ العين من أعظم الآيات الإلهية، بل يمكننا القول: إنها أعجب آيات الله سخرها تعالى في خدمتنا. إنّ العين ذات بناء معقد جداً، والأعجب من ذلك أن البناء يتشكل من مواد بسيطة جداً، فهي تتكون من مقدار قليل من الشحوم والعضلات ومقدار بسيط من السوائل.

إنَّ هذا يكفي للكشف عن قدرة الله تعالى، فهو يستطيع بناء وسيلة معقدة من مواد بسيطة جداً.

للعين سبع طبقات ممتازة ومجزّأة، وهي مستقلة عن بعضها البعض بالكامل وقد رتّبت بشكل لطيف جداً، كما أنه تعالى جعل لكل طبقة وظائف خاصة.

لا يوجد في الدنيا كاميرا يمكنها التصوير تلقائياً مثل ما تعمل العين، فهي تعمل دون حاجة إلى منظّم لعدستها، فهي تنظم نفسها لتصوير أدنى وأقصى نقطة في أقل زمن ممكن. مع أن تنظيم العدسة للاماكن البعيدة في كاميرات التصوير يحتاج إلى وقت غير قصير نسبياً، وقد يستدعي هذا الأمر ساعة من الزمن إذا أُريد تصوير لقطة حساسة.

كذلك الأمر بالنسبة لتنظيم النور، فاذا كنا - مثلا - في محيط مضيء ثم انطفأت الكهرباء فيه وساد الظلام، فإنَّ بؤبؤة العين توسع نفسها لتتكيف مع المحيط وتتمكن من الرؤية.

وفي العين يوجد عضلات تتحرك في ست جهات تمكنها من الحركة إلى الأمام والخلف اضافة إلى الحركات الاربع أي اليمين واليسار والفوق والتحت.

ومن عجائب العين الاخرى هو السائل الذي يترشح منها ويسمى الدمع. إنَّ الدمع غذاء للعين كما أنَّه سائل لغسلها ولتطهير هذا البناء الدقيق والظريف من أي تعفن يحتمل حصوله.

من خصائص العين أنَّها هي بنفسها تقوم بترميم ما يطرأ عليها من اشكالات ونواقص.

هل هناك شيءٌ من مصنوعات الإنسان يحضى بهذه الخصائص؟ لننصف ونرى لو لم يكن هناك دليل وآية على اثبات الخالق غير هذه العين أليس ذلك بكاف؟(2) كيف يمكن تصديق أن الطبيعة الفاقدة للأحاسيس والشعور يمكنها خلق جهاز بهذه العظمة؟

الاُذن آية الله الاخرى

رغم أنَّ بناء الاذن قياساً للعين ليس بنفس الدرجة من حيث التعقد والظرافة، إلاّ أنَّه يحكي كما هو حال العين عن قدرة الله تعالى. إنَّ الاذن تتكون من الجزء الخارجي والداخلي والوسط. والاقسام تقع في مناطق متجزءة عن بعضها الآخر، ولكلٍّ وظائف خاصة ومستقلة. هناك عظام يشبه عملها عمل المضرب، كما أنَّ هناك طبلة ترتعش بضربات المضرب، والارتعاشات هذه عندما تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب تُفسَّر هناك. والعجيب في هذا كله أنَّ الاذن يمكنها تعيين جهة الصوت.

إنَّ العين والاذن نعمتان إلهيتان أنعمهما الله علينا، وهما عجيبتان جداً، وفي توصيفهما كتبت كتب كثيرة، ولكلّ منهما من حيث الطبابة مختصون، بل انَّ في العين لوحدها عدة تخصصات.

العين والاذن وسيلتان مهمتان للمعرفة

إنَّ أهمّ وسائل المعرفة عند الإنسان هي العين والاذن. إنّ الإنسان عندما يولد يكون خلواً من أي علم ( وَاللهُ أخْرَجَكُم مِنَ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) .(3) والإنسان يحصل على العلوم بعد أن تنمو عنده حاسة السمع والبصر.

إنَّ العلوم التجريبية تنتقل للإنسان عبر حاسة البصر، فالإنسان يبلغ النتائج المختلفة في المختبرات بعدما يراها بعينه، ورؤيته هذه هي التي تنقل النتائج إلى الذهن. أما العلوم النقلية - وبخاصة العلوم التي قدمت من الوحي الالهي - فهي تنتقل عبر حاسة السمع (الاذن). بالطبع أن العلوم العقلية تعتمد في الأساس على العلوم الحسية أي أنَّ الأشياء ما لم تر أ و لم تسمع فلا يتمكن العقل من إداركها، وذلك لأنَّ أساس العلوم العقلية هو (تجريد) و (تعميم) المحسوسات، ولهذا اذا كان هناك إنسان بالغ أصم وأعمى - وهو بالنتيجة أخرس - فان مستوى فهمه سيكون بمستوى فهم طفل عمره خمس سنوات حتى لو كان يحضى بدماغ بمستوى دماغ ابن سيناء; لأنَّ هكذا انسان يكون فاقداً لعمودين أساسيين من أعمدة العلوم العقلية وهما البصر والسمع.

الكافر يفتقد وسائل المعرفة

وفقاً لما ذكرت الآية، أنّ الكافر أعمى وأصم، أي أنَّه يفقد وسائل المعرفة أو أنَّ هذه الوسائل مسلوبة منه، لذلك لا يدرك شيئاً من نور الأيمان. أما المؤمن فهو - بفضل نور الإيمان - يتمتع بحاسة السمع والبصر بشكل كامل، ويفيد من العلوم، ووسائل المعرفة.

لماذا كان الكافر أعمى وأصم؟

الوصف المستخدم في الآية يفيد أنّ العمى والصم هما بسبب حاجب الكفر الذي يحول دون السمع والنظر ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أبْصَارِهْم غِشَاوَةٌ ).(4)

إنَّ اللجاجة مع الله وعدم التسليم له والصفات الرذيلة الاخرى سببت عدم إدراك الكفار للحقائق.

يقول

الإمام السجاد(عليه السلام) في دعائه العرفاني (أبو حمزة الثمالي): «إنّك لا تُحْجَب عن خلقك إلاّ أن تحجبه الأعمالُ دونك».

وعلى أساس هذا الدعاء، فإنَّ أعمال الناس هي التي تحجب الإنسان عن الله. وفي بعض نسخ هذا الدعاء ذكرت مفردة (آمال) مكان أعمال، وعلى هذه النسخة، فإنَّ الآمال هي التي تحجب الإنسان عن الحقائق والمعارف الإلهية.

الإيمان عندما يظهر في الإنسان فإنَّ حجب التعصب والجهل والغرور والكبرياء والأنانية تتلاشى لوحدها، ويتضح للإنسان بعد ذلك كل شيء، بل الله نفسه يهديه من الظلمات إلى نور الإيمان، لذلك قال الله في الآية 257 من سورة البقرة: ( اللهُ

وَلىُّ الِّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُورِ والّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّوْرِ إلَى الظُّلُماتِ أُوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ) .

كيف يمكن إزالة الحجب؟

كيف يمكن أن يكون لنا عين واُذن قرآنية؟ كيف يمكن أن يكون لنا عين ترى الحقيقة؟ وفقاً لما أقرَّته الآية الشريفة فإنَّ هذه الحجب تزال إذا أزلنا عن أنفسنا ستار الجهل والتعصب واللجاجة لنرى ما يرى أولياء الله.

ما علينا هو أن نكون مؤمنين.

لقد ذكرت علامات للمؤمن في روايات  أهل البيت(عليهم السلام)، ولأجل الاطلاع نأتي بنموذجين هنا:

علامات المؤمن

1 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا يؤمن عبدٌ حتّى يحب للناس ما يُحب لنفسه».(5)

2 - في رواية اخرى يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك».(6)

وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقيقة والصدق من علائم المؤمن، وهي تحمل في طيّاتها خطاباً للأحزاب والتكتلات السياسية في البلد بأن يقوم نشاطهم على الصدق والحقيقة وتجنّب الزيف. إنهم إذا بلغوا مرحلة يرجّحون فيها حديث عنصرهم الطالح على حديث العنصر الصالح للتكتل المنافس فذلك يعني أنّهم لم يدركوا حقيقة الايمان، ودعواهم الايمان زيف لا أكثر.

اللهم ارزق جميع المسلمين الايمان الكامل.

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش

1. ذكرا معاً في ما يقارب من سبعين آية.

2. للمزيد راجع الأمثل 20: 198- 200.

3. النحل: 78.

4. البقرة: 7.

5. ميزان الحكمة 1: 193.

6. بحار الانوار 67: 106.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)