• عدد المراجعات :
  • 1380
  • 7/9/2006
  • تاريخ :

المثل الخامس عشر: البلد الطيّب

القرآن الکريم

يقول الله في مثله الخامس العشر، في الآية 58 من سورة الاعراف: ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) .

تصوير البحث

إنَّ هَذه الآية الشريفة التي جاءت مباشرة بعد المثل الرابع عشر هي في الواقع استمرار لبحث المعاد وجواب عن سؤال مقدّر قد تتداعى معانيه في أذهان البعض، وسنأتي به في الصفحات المقبلة.

إشارة للمثل السابق

في المثل الرابع عشر (الآية 57 من سورة الاعراف) جاء القرآن في بيان جميل ببرهان على المبدأ وأصل التوحيد، كما استدل على المعاد وعالم الاخرة.

إنّ حركة الرياح واجتماع الغيوم الثقيلة ونزول المطر وإحياء الأرض بعد مماتها، وتوفّر الثمار المتنوّعة والأزهار والنباتات والاشجار المختلفة كلها أدلة قاطعة على التوحيد، وهي أدلة لو لم يكن غيرها لكانت كافية في إثبات المراد.

مِمَّا لا شك فيه أنَّ آثار موت تبدو على البستان كله بحلول فصل الشتاء بحيث تصبح الاشجار وكأنها مهمومة وجرداء من الروح، لكن بعد فترة من الزمن أي بعد حلول فصل الربيع تبدأ الحياة الجديدة تنبض في البستان، فتخضرّ الاشجار و تتفتح الزهور وتنمو النباتات المختلفة وتثمر الاشجار فواكه حامضة وحلوة بألوان متنوّعة بحيث تضفي طراوة على روح الإنسان.

هذه الطبيعة المدهشة دليل قاطع على وجود الله القادر المطلق، واذا ما فكّر الإنسان بورقة خضراء فقط لكان ذلك كافياً لمعرفة الحق.

إنَّ هذه الورقة - كما يقول العلماء - إذا قصت من العرض فيبدو فيها سبع طبقات، كل طبقة منها تحضى ببناء خاص ومهام خاصة، إذا دققنا قليلا نجد خطوطاً رَفِيعة على هذه الورقة الظريفة وكأنها تشبه تأسيسات الماء في مدينة، وهي تتكفل بايصال الأغذية والماء إلى الاقسام المختلفة من الورقة. مَن الذي خلق هذه الطبقات الظريفة والجميلة؟! يا له من خالق حكيم صمَّم هذه الشبكة العظيمة والدقيقة. إنَّ الورقة وما فيها يُعدُّ كتاباً لمعرفة الخالق لمن كان أهلا للعلم المعرفة.

إذن، صدر الآية يدل على التوحيد، أما ذيلها ( كَذِلك نُخْرِجُ المَوْتَى ) فيدل على مسألة المعاد ويرشدنا إليها.

الشرح والتفسير

كما قلنا سابقاً: إنّ الآية الشريفة جواب لسؤال مقدّر يمكن أن يتداعى في ذهن الذي يلتفت إلى الآية السابقة، وهو: إذا كان الماء واحداً والهواء واحداً والتراب واحداً فلماذا تنبت الزهور والنباتات في بعض البقاع، وتنبت الأدغال والأشواك في البعض الآخر؟ وإذا كان وابل الرحمة الإلهية يصبُّ على القلوب جميعاً بشكل متساو، فكيف أنَّ بعض القلوب تهتدي وتكون مصداقاً للبلد الطيّب وبعضها الآخر يكون مصداقاً للبلد الخبيث; لأنها ظلّت ولم تهتدِ؟

إنّ الآية في صدد الأجابة على هذا السؤال، حيث تقول: ( وَالبَلَدُ الطَّيِّبَ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بإذنِ رَبِّهِ ) فإنَّ التربة الطاهرة وغير المالحة تكون مناسبة ولائقة وتُخرج باذن الله نباتات مناسبة وجيّدة، كذلك القلوب المستعدة والطاهرة ينمو فيها الثمار الحلو من الاخلاص والصفاء، ذلك كله بوحي من الله.

( والَّذي خَبُثَ لا يَخْرِجُ إلاَّ نَكِداً ) فإنَّ الأرض غير المناسبة لا تنبت إلاّ النكد. والنكد يعني الإنسان البخيل، ويُطلق على النباتات غير المفيدة التي تنمو في الأراضي المالحة. فكما أنَّ البخيل لا يصل نفعه إلى غيره، كذلك الأراضي المالحة لا يخرج منها الشيء المفيد ولا ينتفع بها أحد.

( كَذَلك نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ ) أي أنا نبيّن آيات الله للناس بعبارات وأمثله بسيطة ليستفيدوا منها ويشكروا ربّهم عليها. وعلى هذا، فلا اشكال على وابل الرحمة الإلهيّة ولا على الوحي السماوي; وذلك لأنَّ هذين الرحمتين تنزلان على القلوب كلها بشكل متساو، واذا كان هناك قصور أو تقصير فمن نفس القلوب والأراضي ذاتها، فإنَّ بعض الأراضي غير مستعدة وغير مؤهّلة لنمّو النباتات فتنمو فيها الأشواك والأدغال فحسب، كذلك بعض القلوب فإنَّها غير مؤهلة للهداية وترى نفسها في غنى عن الوحي الإلهي.

لِمَن هذا المثل؟

هناك بحث في هذا المجال بين المفسرين، فالكثير منهم يعتقد أنَّ الآية جاءت في الكفار والمؤمنين، أي شُبِّه الوحي الإلهي هنا بالغيث، باعتباره ينزل على جميع القلوب، لكن لا يفيد منه إلاّ ذلك البعض الذي يكون مصداقاً للبلد الطيّب، أي يحضى بقلب طاهر، وتكون ثمار هذه الاراضي الطاهرة هي الاخلاق الحسنة والايمان القوي والشوق إلى أولياء الله، والاخلاص في العمل، والعمل بما تستدعيه الوظيفة و... وفي مقابل هؤلاء هم الكفّار الذين قلوبهم تشبه الأراضي الملوّثة التي لا تستفيد من المطر شيئاً.

خطابات الآية

1- فاعلية الفاعل وقابلية القابل كلاهما ضروريان

إنَّ الآية الشريفة وكذا آيات أخرى تشير إلى مطلب مهم، وهو: ضرورة توافر شيئين لبلوغ الكمال:

الف - فاعلية الفاعل.

باء - قابلية القابل.

لأجل بلوغ الكمال والرقي ينبغي توافر العوامل كما ينبغي توفير الأرضية. وعلى هذا، ففاعلية الفاعل (الغيث) ليس كافياً، بل ينبغي أنْ يَكُون القابل قابلا (استعداد الأرض وشأنها) فإنَّ المطر لو هطل مدة مأة عام على الأرض المالحة لما أنبتت هذه الأرض ولا زهرة واحدة.

إنَّ الرسول(صلى الله عليه وآله) كما دعى سلمان وأبا ذر والمسلمين الآخرين للإسلام كذلك دعى أبا جهل وأبا لهب وباقي الكفار، فالقلب الطاهر لسلمان أنبت الإيمان، لكنّ الدعوة لم تنبت في قلوب أبي جهل وأبي لهب إلاَّ البخل والبغض.

2 - مردودات القرآن والوحي على الكافر عكسية

آيات القرآن في بعض الأحيان لا أنها لا تكون هادية فحسب، بل قد تكون ضالة لأولئك الذين ساءت طينتهم من الكفار، فإنّهم بسماعهم للآيات يزدادون ضلالة.

إنّ هذا الأمر بيّنته آيات من القرآن، منها الآية 124 و 125 من سورة التوبة: ( وإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ أيُّكُم زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً فأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزَادَتْهُم إيْمَاناً وَهُم يَسْتَبْشِرُونَ وأمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُم رِجْسًاً إلى رِجْسِهِم وَمَاتُوا وَهُم كَافِرُونَ ) .

سؤال: كيف يمكن للآيات القرآنية المنيرة أن تكون سبباً لضلال البعض؟

الجواب: أنّ القرآن المجيد بمثابة المصباح الذي اذا وقع بيد أحد العلماء أفاد منه لأجل العلم والاكتشاف والاختراع والتقدّم، وهو بذاته اذا وقع بيد لصّ أفاد منه لأجل سرقة أشياء ثمينة، وبذلك تزداد ذنوبه وآثامه.

الإشكال هنا ليس من المصباح ذاته، بل من قابلية القابل، كذا الحال بالنسبة للغيث حيث إنتاجه يتوقف على نوعية الأرض، فاذا كانت جيدة نبتت فيها الزهور والنباتات الصالحة واذا كانت مالحة وغير مؤهلة نبت فيها الأدغال والأشواك.

( فَزَادَتْهُم رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ) فإنَّ الآية اذا نزلت فزعوا للمخالفة والعناد والعداوة، لذلك لا عجب إذا قلنا: إنَّ آيات القرآن قد تسبب للضالين ضلالة أكثر.

الناس ثلاثة أصناف

لإِيضاح هذا المطلب (الذي يتناول قابليات الناس المختلفة) نأتي بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)مخاطباً فيه كميل بن زياد بعد ما دعاه إلى المقبرة، وعند بلوغهما الصحراء قال الإمام له بعد أن تأوّه: «يا كميل بن زياد إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها».

وكمثال نقول:

إنَّ الناس يختلفون في إفادتهم من المطر، واحد منهم يفيد من المطر بمقدار بحيرة ماء، وذلك لسعة ظرفيته والآخر يفيد منه بمقدار كأس صغير، وذلك لأنه لا يستوعب أكثر من ذلك. وقد يكون هناك شخص لا يفيد من المطر أبداً، لأنه قد قلب إناءه على ظهره. والمثال يوضح أنَّ الإشكال ليس من جانب الله بل من جانب الأوعية التي تُهيّئ للافادة من ماء المطر.. ثمّ يخاطب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) كميل قائلا: «فاحفظ عنّي ما أقول لك النّاس ثلاثة: فعالم ربّاني ومتعلم على سبيل نجاة وهمجٌ رُعاعٌ» أي أنَّ الناس ثلاثة أصناف:

1 - الصنف الأول هو صنف العلماء الذين طووا طريق الحق والحقيقة ويسعون لارشاد الناس وتربيتهم.

2 - والثاني هم الذين يفقدون العلم لكنهم يسعون في سبيل تحصيله العلم وكسب المعرفة.

3 - والثالث هم الحمقى من الناس الذين لا يعلمون ولا يسعون لأن يعلموا ولا يسألون أهل الطريق لإرشادهم إليه.

يوضح الإمام خصال الصنف الثالث في أربع:

الف - أتباع كلّ ناعق، أي يتّبعون أصحاب الرايات المختلفة دون علم وبصيرة.

باء - يميلون مع كلّ ريح، فهم كالريح تهزّهم الدعوات المختلفة وتميلهم إلى جنبها، ومثلهم كمثل الذين قاتلوا تحت راية الرسول في عصره، وقاتلوا تحت راية معاوية بعد وفاته، ولو كان الأجل يسمح لهم لقاتلوا تحت راية يزيد كذلك; وذلك كله لأجل أن الريح آنذاك كان بهذا الاتجاه.

جيم - لم يستضيئوا بنور العلم، فهم المستضعفون المحرومون من العلم.

دال - لم يلجؤوا إلى رُكن وثيق، أي لا أنهم يفقدون العلم فحسب، بل لا يعتمدون على أعمدته المحكمة،(1)

إنَّ الصنف الثالث وهم ذووا الأوعية الصغيرة أشخاص خطرون، كما أنَّهم مصداق للآية الشريفة ( والَّذي خَبُثَ )، إلاّ أنَّ الصنف الأوّل والثاني مصاديق للآية الشريفة: ( البَلَدُ الطيَّبُ ) .

الفاعلية اكتسابية أم جبرية؟

قابلية القابل - التي هي شرط الكمال - اكتسابيه أم جبرية؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ الله خلق بعضاً بقابلية ضخمة وخلق آخرين مع قابلية ضعيفة؟ إنّ قابلية القابل اكتسابية لا جبريّة; وذلك لأنّ القول بجبريتها يعني عدم ترتب الذنب على الشخص الذي ينبت قلبه الرياء بدل الاخلاص، وما عليه من عقاب، كما أنّه لا فائدة في بعثة الأنبياء.

من هنا نقول: إن الإنسان كلّما سعى لكسب التقوى والمعرفة الإلهية أكثر، كلّما استعدّ قلبه أكثر لقبول الوحي الإلهي والآيات القرآنية.

إنّ القرآن يُوكّد على كون الإنسان مخلوقاً بأفضل شكل وصورة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَن تَقْوِيم )،(2) ووفقاً لهذه الآية فانه لا فرق في خلق الناس، والهداية والضلالة يتوقفان على الإنسان ذاته. وحتى الشيطان لم يُخلق خبيثاً، ولذلك كان في صفوف الملائكة وعبد الله ستة آلاف عاماً.32)

نعم، انَّ الناس يختلفون عن بعضهم البعض، ليس بمعنى أنَّ بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر خلق سيئاً، بل في أن بعضهم خلق حسناً وبعضهم الآخر أحسن، لذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الناس معادن كمعان الذهب والفضة».43)

في النتيجة لم يخلق إنسان شقياً أو خبيثاً، وقابلية القابل اكتسابية لا جبرية. إنَّ المطر يهطل شفافاً وزلالا لكنّه يتسخ عندما يلتقي بالأرض الوسخة، لكنه يبقى نظيفاً عندما يقع على الأرضي النظيفة، فيبقى على فطرته وطهارته.

إنّ البيئة الموبوئة والكتب المنحرفة والمفاهيم الفاسدة والأصدقاء السيئين والعائلة غير السليمة هذه كلها بمثابة الأرض الملوّثة، تلوّث قلب الإنسان الطاهر وفطرته النقية.

أيُّها الشباب الاعزة! يا أمل الإسلام والثورة والوطن!

إن الله خلقكم كقطرة المطر الشفافة الطاهرة، إسعوا للحفاظ على هذه الطهارة، واحذروا معاشرة صديق السوء، لأن هذا الصديق قد يغيّر مستقبل الإنسان بالكامل.

من وجهة نظر الإسلام، ليس أداء الذنب لوحده معصية، بل الحضور في مجلس يرتكب فيه الذنب يُعدُّ محرماً ومعصية. أي إذا حضر الإنسان في مجلس يُعصى فيه الله فإنَّ حضوره في هذا المجلس يُعدُّ معصية كذلك، رغم أنّه لم يفعل الذنب الذي اقترف في المجلس، وذلك لأنَّ المحيط الملوّث يؤدي إلى التلوث تدريجياً، ويفقد الذنب آنذاك قبحه تدريجياً الأمر الذي قد يؤدي إلى اقتراف الذنب في المستقبل. إنَّ المتعاطين للمخدرات تعاطوها بهذا الشكل وبهذا الاسلوب.

وعلى هذا، ينبغي السعي لأجل الحفاظ على نقاء الباطن، وتهيئة أرض القلب وإعدادها للافادة من وابل الرحمة اقصى إفادة.

---------------------------------------------------

الهوامش

1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

2. سورة التين الآية 4.

3. ميزان الحكمة، الباب 2005، الحديث 9365.

4. بحار الأنوار 58: 65.


المثل الرابع عشر: المبدأ والمعاد

المثل الثالث عشر: شرح الصدر

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)