• عدد المراجعات :
  • 3203
  • 5/1/2006
  • تاريخ :

المحكم والمتشابه في القرآن

المحكم والمتشابه في القرآن

المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي

أ - المحكم :

قال في القاموس (احكمه اتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد كحكمه حكماً وعن الامر رجعه فحكم منعه مما يريد كحكمه)(1). وقال في لسان العرب (احكمت الشيء فاستحكم صار محكماً واحتكم الامر واستحكم وثق. ونقل عن الازهري - ان حكمت تأتي بمعني احكمت)(2) وبملاحظة هذين النصين اللغويين نحصل علي النتائج الثلاث التالية في شأن هذه المادة.

1 - ان (محكم) مشتق من احكم وحكم.

2 - ان (حكم) تأتي بمعني وثق واتقن. فهي ذات معني وجودي ايجابي.

3 - ان (حكم) تأتي بمعني منع فهي ذات معني عدمي سلبي.

و قد حاول بعض الباحثين في علوم القرآن ان يرجع مادة الاحكام بمشتقاتها المتعددة كالحكم والحكمة وحكم وأحكم وغيرها الي معني واحد يجمعها وهو المنع، ولكن المتبادر من مادة الاحكام معني وجودي ايجابي هو الاتقان والوثوق كما يشير الي ذلك تصريح اهل اللغة في تفسير اصل المادة. والمنع يمكن ان يكون من مستلزمات هذا المعني الايجابي الامر الذي صحح استعمال المادة فيه ايضاً.

ب - المتشابه : هو التشابه والتماثل.

قال في القاموس - الشِّبَه بالكسر والتحريك.. المثل جمعه : اشباه وشابَهَه وأشبهه مائلهُ وتشابها واشتبها : اشبه كل منها الآخر حتي التبسا وامور مشتبهة ومشبَّهة كمعظّمة، مشكّلة. والشبهة بالضم - الالتباس والمثل. وشبه عليه الامر تشبيهاً لبّس عليه وفي القرآن المحكم والمتشابه(3). وقال في لسان العرب الشِّبهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ المِثلُ والجَمعُ اشباه. واشبه الشيءُ الشيءَ : ماثله وأَشبَهتُ فلاناً وشابَهتُهُ واشتَبَهَ علَيَّ وتشابهَ الشيئان واشتبَها : أَشبَهَ كلُّ واحدٍ منها صاحِبَه والمُشتبهاتُ من الأمور : المشكلاتُ، والمتشابهاتُ : المتماثلاتُ والتشبيه : التمثيل. والشُّبهَة : الالتباس واُمور مُشتَبهة ومُشَبِّهة ومُشَبِّهة : مشكلة يُشبِهُ بعضُها بعضاً. وشَبَّهَ عليه : خَلَّطَ عليه الأمرَ حتّي اِشتبَهَ بِغَيرِهِ(4).

وبملاحظة هذين النصين نجد :

1 - ان شابهه واشبهه بمعني مائلهُ. وكذا تشابه واشتبه ولكنهما يدلان علي وجود الوصف في الطرفين فهو من قبيل المفاعلة.

2 - ان الشبه يأتي بمعني المثل فهو معني وجودي ذو طابع موضوعي ولكنه قد يطلق في نفس الوقت علي ما يستلزمه احياناً من (الالتباس) الذي

(3) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي. التفسير الكبير 7/179 والزرقاني مناهل العرفان 2/166 ورشيد رضا. تفسير المنار 3/163.

هو من المعاني ذات الطابع الذاتي القائم في عالم النفس. بل قد تطلق المادة ويراد منها خصوص المماثلة المؤدية : الي الالتباس كما قد يرمي الي ذلك صاحب القاموس في قوله الآنف (وتشابها واشتبها اشبه كل منهما الآخر حتي التبسا). وهذا النوع من الاستعمال نجده في كل مادة تطلق علي معني يقبل الشدة والضعف حيث قد يكون احد مصاديق المعني مستلزماً لوجود شيء آخر.

القرآن محكم ومتشابه

لقد جاء في التنزيل وصف جميع القرآن الكريم بانه كتاب محكم (

الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت) ، هود : 1. وقال بعضهم في قوله تعالي ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم) ، يونس : 1، ان حكيم هنا بمعني محكم(5) كما جاء في التنزيل ايضاً وصف جميع القرآن بانه كتاب متشابه (الله انزل احسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني) ، الزمر.

وفي مقابل هذا الاستعمال الشامل لهذين الوصفين نجد التنزيل يطلقهما بشكل يجعل الاحكام مختصاً ببعض الآيات القرآنية. ويجعل التشابه مختصاً ببعض آخر منها كما جاء ذلك في قوله تعالي (

هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وَاُخرَ متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولو الالباب) ،  آل عمران : 7. ويكاد الباحثون في علوم القرآن يتفقون في تعيين معني كل من الوصفين في استعمالهما الشامل حيث يجدون ان العلاقة التي صححت اطلاق وصف الاحكام علي الآيات القرآنية كلها هي : ما في القرآن من أحكام النظم واتقانه وما فيه من التماسك والانسجام في الافكار والمفاهيم والانظمة والقوانين. كما يجدون ان العلاقة التي صححت اطلاق وصف المتشابه عليه هي محض التماثل والتشابه بين بعضه والبعض الآخر في الاسلوب والهدف وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف (ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، النساء : 82. ولكنهم اختلفوا منذ البداية حين حاولوا ان يحددوا المعني المراد من هذين الوصفين (المحكم والمتشابه) في الآية السابعة من آل عمران الامر الذي أدي الي ولادة علم من علوم القرآن سمي بالمحكم والمتشابه. ومن الواضح ان البحث حين يدور حول فهم المعني القرآني المراد من كلمتي المحكم والمتشابه في هذه الآية الكريمة لا يكون بحثاً اصطلاحياً ولا شبيهاً بالمعني الاصطلاحي كما هو الحال في البحث عن المراد بالمكي والمدني لانه يحاول ان يحقق غاية موضوعية وهي معرفة ما اراده اللّه سبحانه من هاتين الكلمتين(6). وقد تعددت الاتجاهات والآراء في معني المحكم والمتشابه المراد من هذه الآية نظراً لاستمرار البحث فيها منذ العصور الاولي للتفسير ولأهميتها من ناحية مذهبية حتي ان بعض الباحثين ذكر ستة عشر رأياً في حقيقة المحكم والمتشابه. وسوف نكتفي في بحثنا هذا بدراسة الاتجاهات الرئيسية الهامة منها.

مختارنا في المحكم والمتشابه

وتفرض علينا طبيعة البحث ان نذكر الرأي الصواب في تحديد معني هاتين الكلمتين ليتضح علي ضوئه مدي صحة بقية الاتجاهات وانسجامها مع المدلول اللغوي والمحتوي الفكري للآية الكريمة. وبهذا الصدد يجدر بنا ان نستذكر تقسيماً تعرضنا له في بحوثنا السابقة وهو ان التفسير تارة يكون للّفظ وذلك بتحديد مفهومه اللغوي العام الذي وضع له اللفظ واخري يكون للمعني وذلك بتجسيد ذلك المعني في صورة معينة ومصداق خاص.

وعلي اساس هذا التقسيم نتصور التشابه المقصود في الآية الكريمة ضمن نطاق التشابه في تجسيد صورة المعني وتحديد مصداقه الواقعي الموضوعي لا في نطاق التشابه في العلاقة بين اللفظ ومفهومه اللغوي  (المعني) سواء في هذا النفي التشابه الذي يكون بسبب الشك في اصل وجود العلاقة بين اللفظ والمفهوم اللغوي (المعني) كما اذا تردد اللفظ في استعماله بين المعني الحقيقي والمعني المجازي.

وهذا التفسير للتشابه لانتبناه علي أساس عدم صلاحية كلمة التشابه بحدودها اللغوية لاستيعاب هذا اللون من التشابه اللغوي. وانما نقرر ذلك علي أساس وجود قرينة خاصة في الآية الكريمة تأبي الانفتاح علي هذا اللون من التشابه وهذه القرينة هي ما نستفيده من قوله تعالي (

فيتبعون ما تشابه منه) فان هذا الاتباع لا يكون الا في حالة ما اذا كان للفظ مفهوم لغوي يكون العمل به اتباعاً له. اذ ليس من اتباع الكلام - أي كلام - ان نأخذ بأحد معانيه المشتركة وانما يكون هذا العمل من اتباع الهوي والرأي الشخصي.

وحين نلاحظ استعمال كلمة الاتباع في مجال آخر نجد هذا الاستنتاج أمراً واضحاً فنحن نعرف وجود نصوص كثيرة تأمرنا بضرورة اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية والتمسك بهما. فهل نتوهم فيمن يأخذ باحد المعاني المشتركة للفظ خاص ورد في الكتاب الكريم او في السنة النبوية انه متبع للكتاب والسنة. او لابد لانطباق هذا المفهوم في حقه من الاخذ بالنصوص التي لها ظهور في معان معينة. ولا شك بتعيين الشق الثاني اذن فالتشابه المقصود في الآية الكريمة نوع خاص لابد فيه ان يكون قابلاً للاتباع وهذه القابلية تنشأ من عامل وجود مفهوم لغوي معين للفظ يكون العمل به اتباعاً له.

فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي لاننا فرضنا ان يكون للفظ مفهوم لغوي معين وانما ينشأ من ناحية اخري وهو الاختلاط والتردد في تجسيد الصورة الواقعية لهذا المفهوم اللغوي المعين وتحديد مصداقه في الذهن من ناحية خارجية.

فحين نأتي الي قوله تعالي (الرحمن علي العرش استوي) نجد للفظ الاستواء مفهوماً لغوياً معيناً اختص به وهو الاستقامة والاعتدال مثلاً. وليس هناك أي تشابه بينه وبين معني آخر في علاقته باللفظ فهو كلام قرآني قابل للاتباع ولكنه متشابه لما يوجد فيه من الاختلاط والتردد في تحديد صورة هذا الاستواء من ناحية واقعية وتجسيد مصداقه الخارجي بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن الخالق الذي ليس كمثله شيء.

وحين نفهم المتشابه بهذا اللون الخاص لابد لنا ان نفهم المحكم علي اساس هذا اللون الخاص ايضاً. وهذا شيء تفرضه طبيعة جعل المحكم في الآية مقابلاً للمتشابه فليس المحكم ما يكون في دلالته اللغوية متعين المعني والمفهوم فحسب بل لابد فيه من التعيين في تجسيد صورته الواقعية وتحديد مصداقه الخارجي ففي قوله تعالي (

ليس كمثله شيء) نجد الصورة الواقعية لهذا المفهوم متعينة فهو ليس كالانسان ولا كالسماء ولا كالارض ولا كالجبال.

فالمحكم من الآيات ما يدل علي مفهوم معين لا نجد صعوبة او تردداً في تجسيد صورته او تشخيصه في مصداق معين. والمتشابه ما يدل علي مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي.

الاتجاهات الرئيسية في المحكم والمتشابه

أ - اتجاه الفخر الرازي :

الاتجاه الاول - ان المحكم هو ما يسمي في عرف الاصوليين بالمبين والمتشابه ما يسمي في عرفهم بالمجمل. وقد جاءت صياغة هذا الاتجاه بأساليب مختلفة ولعل ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير هو اوضح صياغة واوفاها بالمقصود قال :

(اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعني. فاما ان يكون محتملاً لغير ذلك المعني وأما ان لا يكون فاذا كان اللفظ موضوعاً لمعني ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص. واما ان كان محتملاً لغيره فلا يخلو. اما ان يكون احتماله لاحدهما راجحاً علي الآخر. واما ان لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما علي السواء. فان كان احتماله لاحدهما راجحاً علي الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة الي الراجح ظاهراً وبالنسبة الي المرجوح مؤولاً. واما ان كان احتماله لها علي السوية كان اللفظ بالنسبة اليهما معاً مشتركاً وبالنسبة الي كل واحد منهما علي التعيين مجملاً. فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه ان اللفظ اما ان يكون نصاً او ظاهراً او مؤولاً او مشتركاً او مجملاً.

اما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح الا ان النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع من الغير فهذا القدر المشترك هو المسمي بالمحكم. واما المجمل والمؤول فهما مشتركان في ان دلالة اللفظ عليه غير راجحة وان لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح. والمؤول مع انه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد فهذا القدر المشترك هو المسمي بالمتشابه لان عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً. وقد بينا ان ذلك يسمي متشابهاً اما لان الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للاثبات في الذهن واما لاجل ان الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فاطلق لفظ المتشابه علي ما لا يعلم اطلاقاً لاسم السبب علي المسبب(7). ويمكن ان نلخص رأي الرازي بالشكل التالي :

اللفظ بحسب دلالته علي المعني ينقسم الي اربعة اقسام.

أ - النص - وهو ما كانت دلالته علي المعني بالشكل الذي لا تفسح مجالاً لاحتمال معني آخر.

ب - الظاهر - وهو ما كانت دلالته علي المعني بشكل راجح مع احتمال معني آخر.

ج - المشترك (المجمل) وهو ما كان دالاً علي معنيين بشكل متساو.

د - المؤول - وهو ما كان دالاً علي المعني بشكل مرجوح فهو عكس الظاهر.

والمحكم: ما كانت دلالته علي المعني من القسم الاول والثاني لوجود الترجيح فيهما.

والمتشابه : ما كانت دلالته علي المعني من القسم الثالث والرابع لاشتراكهما في ان دلالة اللفظ فيهما غير راجحة. وانما سميا متشابهاً لعدم حصول فهم المعني فيهما. ويمكن أن نلاحظ علي هذا الاتجاه بالملاحظتين التاليتين :

1 - اننا انتهينا من دراستنا للآية الكريمة الي ضرورة الالتزام بان المتشابه المقصود فيها هو التشابه في تجسيد صورة المعني وتحديد مصداقه لا التشابه في علاقة اللفظ بالمعني بقرينة اخذ مفهوم الاتباع في المتشابه وهو لا يتحقق في موارد الاجمال اللغوي.

2 - وحين نساير الفخر الرازي ونتصور التشابه بسبب علاقة اللفظ بالمعني لا نجد هناك ما يبرر حصر نطاق التشابه في هذه العلاقة بل يمكننا ان نتصور سبباً آخر للتشابه وهو التشابه بسبب تجسيد صورة المعني وتحديد مصداقه والفخر الرازي بتقسيمه السابق يحاول ان يغلق علينا هذا الطريق حيث لا يتصور التشابه الا من زاوية علاقة اللفظ بالمعني.

ب - اتجاه الراغب الاصفهاني

الاتجاه الثاني - ان المتشابه ما اشكل تفسيره لمشابهته بغيره سواء كان الاشكال من جهة اللفظ او من جهة المعني. وقد ذكر الراغب تفاصيل طويلة في شرح هذا الاتجاه(8) ويلاحظ علي هذا الاتجاه بالملاحظة الاولي التي ذكرناها في مناقشة الاتجاه الاول ولكنه يتفادي الملاحظة الثانية حيث ينفتح علي تصور التشابه بسبب المعني بغض النظر عن اللفظ وعلاقته بالمعني.

ج - اتجاه الاصم

الاتجاه الثالث - المحكم من الآيات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة. والمتشابهات ما يحتاج في معرفتها الي تأمل وتدبر. وقد نسب الفخر الرازي هذا الاتجاه الي الاصم(9). 

ويلاحظ علي هذا الاتجاه : انه يرجع الاحكام والتشابه الي عامل خارجي لا ينبع من نفس الكتاب الكريم. وهذا العامل الخارجي هو مدي وضوح الدليل وخفائه علي متبنيات القرآن الكريم ومفاهيمه في الوقت الذي تدل الآية الكريمة علي ان الاحكام والتشابه ينشآن من عامل داخلي يرتبط بالكتاب نفسه. ولذلك ينفتح مجال استغلال اتباع المتشابه في الفتنة. وحين يكون الدليل علي احدي دعاوي القرآن الكريم غير واضح علي سبيل الفرض. لا يكون استغلاله اتباعاً للقرآن ابتغاء الفتنة وانما يكون نقداً للقرآن الكريم نفسه.

اضف الي ذلك انه علي اساس هذا التفسير للمحكم لا يمكننا ان نفهم المحكم علي ام الكتاب بعد ان كان الدليل الخارجي هو العامل في الاتقان والوثوق لانفس الآية الكريمة.

د - اتجاه ابن عباس

الاتجاه الرابع - ان المحكم ما يؤمن به ويعمل به. والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به. وقد صيغ هذا التجاه باساليب مختلفة نسب بعضها الي ابن عباس وبعضها الي ابن تيمية(10).

ولعل هذا الاتجاه يقوم علي اساس فهم حرمة العمل بالمتشابه من الآية الكريمة ولزوم الايمان به فحسب بخلاف المحكم فانه مما يؤمن به ويعمل به ايضاً.

وقد لاحظ

العلامة الطباطبائي علي هذا الاتجاه بانه لا يقوم بتحديد معني المحكم.

والمتشابه - كما هو المقصود - انّما يبين حكماً من احكامهما، وهو لزوم الايمان والعمل معاً بالمحكم والايمان فقط بالمتشابه. ونحن بحاجة الي تعيين معني كل واحد من المحكم والمتشابه لنعمل بالاول ونكتفي بالايمان بالثاني(11).

ويمكن ان نضيف الي ذلك. ان الآية الكريمة لا تمنع من العمل بالمتشابه وانما تحرم اتباع المتشابه بقصد الفتنة والتأويل دون العمل به بعد ارجاعه الي المحكم.

ه - اتجاه ابن تيمية

الاتجاه الخامس - ان المتشابه هو آيات الصفات خاصة اعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير. وصفات انبيائه كقوله تعالي في عيسي ابن مريم عليهما السلام (وكلمته القاها الي مريم وروح منه) النساء 171. وما يشبه ذلك(12).

ويكاد ينهج الاتجاه الخامس المنهج الذي سار عليه الاتجاه الرابع حيث لا يعطينا تحديداً معيناً للمحكم والمتشابه. وانما يعرفنا علي المتشابه من خلال ذكر بعض مصاديقه وامثلته كالصفات.

اضف الي ذلك انه لا مبرر لحصر المتشابه في الصفات دون غيرها في الوقت الذي نجد ان اكثر المفاهيم التي تتحدث عن عوالم يوم القيامة تشترك مع الصفات في بعض المفاهيم التي تتحدث عن عالم الغيب بشكل عام. مع انها ليست من الصفات في شيء. علي ان التشابه في صفات الانبياء انما كان بسبب اضافة هذه الصفة الي الله سبحانه كما في الآية الكريمة. واما صفة النبي باعتباره انساناً فليس فيها تشابه.

ز - اتجاه العلامة الطباطبائي.

الاتجاه السادس - ما تبناه السيد الطباطبائي في تفسيره (الميزان) بعد أن ناقش الاتجاهات المختلفة في تحديد معني المحكم والمتشابه قال :

(ان الذي تعطيه الآية في معني المتشابه ان تكون الآية - مع حفظ كونها آية - دالة علي معني مريب مردد. لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند اهل اللسان كإرجاع العام والمطلق الي المخصص والمقيد ونحو ذلك. بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعني آية اخري لا ريب فيها تبين حال المتشابه)، (13).

وقال في موضع آخر (ان المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معني ومعني حتي يرجع الي محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة والآية محكمة في نفسها)، (14).

ويمكننا ان نوضح رأي العلامة الطباطبائي في هذا البحث بالنقاط التالية : -

1 - ان التشابه لا ينشأ من دلالة اللفظ علي المعني حيث يجب ان تكون الآية المتشابهة دالة علي معني معين عرفي.

ويستند هذا الالتزام الي ان التشابه في الآية الكريمة اخذ بالشكل الذي يمكن استغلاله في مجال الفتنة. واذا لم يكن اللفظ له ظهور في معني معين لا يمكن استغلاله في مجال الفتنة حيث (جري دأب اهل اللسان في ظرف التفاهم ان لا يتبعوا ما هذا شأنه من الالفاظ. فلم يقدم علي مثله اهل اللسان سواء في ذلك اهل الزيغ منهم والراسخون في العلم)، (15).

2 - ان تكون الآية المتشابهة دالة علي معني يتعارض مع مدلول آية اخري غير مريب وهي الآية المحكمة. ويستند هذا الالتزام الي ان الآيات المحكمة هي ام الكتاب وتعني الامومة هذه حل التشابه عند الرجوع الي المحكمات بالشكل الذي يتعين به مدلول الآية المتشابهة علي ضوء مدلول الآية الاخري المحكمة. وهذا لا يتحقق اذا لم يكن تعارض بين الآيتين، (16). 

3 - ان يكون المعني المدلول للآية المتشابهة مردداً ومريباً.

ويستند هذا الشرط الي ضرورة وجود المقياس الذي نرجع اليه في معرفة الآية المحكمة الأمّ من الآية المتشابهة التي نرجع اليها بعد وجود التعارض بينهما وهذا المقياس هو ريب المعني في المتشابه واستقراره في المحكم.

4 - ان ظاهر الآية السابعة من آل عمران هو انقسام الآيات القرآنية بشكل استيعابي الي المحكم والمتشابه بحيث تنعدم الواسطة(17).

ويمكننا ان نلاحظ علي هذا الاتجاه بعدة ملاحظات :

فأولاً - نجد هذا الاتجاه غير قادر علي تحديد الموقف تجاه الآيات التي تكون دالة علي معني مردد بين معني مريب ومعني غير مريب. لان هذه الآيات لا تكون واجدة لميزان المتشابه لفقدانها الظهور اللفظي كما انها غير محكمة لما فيها من التردد في الدلالة علي المعني.

وحين يعجز الاتجاه عن تحديد موقفه من هذه الآيات نجد النقطة الرابعة غير واردة في المحكم والمتشابه. وقد يتشبث هذا الاتجاه بالمذهب الذي يقول بضرورة ان تكون جميع الآيات القرآنية ظاهرة في معان معينة علي اساس ان القرآن الكريم كتاب هدي ونور مبين وحينئذ فلا يبقي مجال لمثل هذه الفرضية في آيات القرآن الكريم.

ولكن هذه الضرورة القرآنية انما يلتزم بها في الحدود التي تقول بعدم وجود آية قرآنية غامضة بشكل مطلق بحيث لا يوجد في القرآن ما يوضحها ويفسرها والا فمن الممكن الالتزام بوجود آيات قرآنية مجملة الدلالة من ناحية مفهومها اللغوي مع الالتزام بوجود ما يوضحها في القرآن الكريم نفسه. وهذا الالتزام لا يزيد عن الالتزام - من حيث الروح - عن الالتزام الذي آمن به هذا الاتجاه بان يكون اللفظ ظاهراً في معني مريب يفسره المحكم.

وبعد هذا لا مجال لادعاء ان الآية المتشابهة لا بد وان تكون ظاهرة في معني اذ يكتشف هذا عن التزام غريب من القرآن الكريم يتلخص في انه كلما اراد معني غير مريب من لفظ غير ظاهر فيه يستعمل لفظاً ظاهراً في معني مريب ويكشف عن ارادته للمعني غير المريب بواسطة المحكم، دون ان يستعمل اللفظ في معني مردد بين المريب وغير المريب ويكشف عن هذا التردد بواسطة المحكم.

وثانياً - ان هذا الاتجاه يلتزم بضرورة قيام الآية المحكمة بدور احكام الآية المتشابهة بعد ارجاعها اليها. مع ان الآية المحكمة لا تقوم الا بدور تضييق نطاق تصور المعني في الآية المتشابهة علي ضوء ما تعطيه الآية المحكمة من معني لا ان تجعل من الآية المتشابهة آية محكمة بشكل يتحدد صورة معناها ويتجسد مصداقه.

اذ يكفي في صدق مفهوم الاحكام علي الآية ان تقوم بدور الوقاية من تسرب صور ومصاديق المعاني الباطلة الي المعني المتشابه. وهذا يكون في بعض الاحيان نتيجة طبيعية لتصورنا للمحكم والمتشابه حيث اخذناه علي اساس التشابه في تحديد صورة المعني ومصداقه لا في تحديد مدلول اللفظ ومعناه. وبهذا نجد الفرق بين احكام القرينة اللفظية لذي القرينة بشكل يجعله مختصاً بمعني خاص وبين احكام الآية المحكمة للآية المتشابهة. مع اننا نتصور هذا الشيء في القرينة اللفظية ايضاً.

وثالثاً - ان هذا الاتجاه يلتزم بضرورة التعارض المفهومي بين المحكم والمتشابه كما جاء في النقطة الثانية في الوقت الذي عرفنا ان الآية المتشابهة لا تدل علي مفهوم لغوي باطل ليلتزم بتعارضه مع المفهوم اللغوي للآية المحكمة. وانما ينشأ الزيغ من محاولة تأويل الآية المتشابهة الذي يعني تجسيدها في مصداق معين وصورة محددة الامر الذي يفرض علينا الرجوع الي المحكم في محاولة تحديده وتجسيده. وهذا الشيء هو الذي يستفاد من معني الآية الكريمة حيث ان الآية المتشابهة لو كانت دالة بحسب ظهورها علي معني باطل لكان مجرد اتباعه زيغاً دون محاولة تأويله مع ان الآية تقول انهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

ونخلص من مجموعة هذه الآراء والمناقشات الي تلخيص الرأي المختار بالنقاط التالية : -

1 - ان الآية المتشابهة لا بد وان تكون ذات ظهور خاص في معني لغوي معين بقرينة قوله تعالي (فيتبعون).

2 - ان المعني الذي تدل عليه الآية المتشابهة لا يكون بمفهومه اللغوي باطلاً وانما يكون صحيحاً والفتنة والزيغ انما يكونان بمحاولة تجسيده في صورة ومصداق باطلين.

3 - ان التشابه انما يكون في المعني نفسه وذلك بتحديد صورة المعني وتجسيد مصداقه لا في علاقة المعني باللفظ والاحكام ما يكون في قبال هذا التشابه بان تكون صورة المعني المحكم محددة ومصداقه الواقعي مجسداً بشكل يستقر اليه القلب ولا يتردد فيه.

فأي معني قرآني اذا لاحظناه فان كنا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه فهو معني متشابه والآية التي تتضمنه آية متشابهة. وان كنا لا نتردد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه وانما يركن القلب والعقل الي صورة واضحة ومصداق معين فهو معني محكم والآية التي تتضمنه آية محكمة.

الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم

لقد تعرض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث وذكروا لاثارته سببين.

الاول - ان القرآن الكريم كتاب هداية ونور مبين ووجود المتشابه فيه لا يتفق مع هذه الحقيقة لان المتشابه لا يعلمه الا الله والراسخون في العلم.

الثاني - ما اشار اليه الفخر الرازي ونسبه الي الملاحدة - ان وجود المتشابه في القرآن كان سبباً لاختلاف المذاهب والآراء وتمسك كل واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع مذهبهم. وهذا يناقض الاهداف التي جاء من اجلها القرآن الكريم.

ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن علي استكشاف وجوه الحكمة في المتشابهات في القرآن. وعلي هذا الاساس ذكرت وجوه متعددة ومختلفة تتأرجح بين الضعف وغاية القوة والمتانة(18).

وسوف نشير في بحثنا الي بعضها مع مناقشة ما يستحق النقد منها.

الاول - ما ذكره الشيخ محمد عبده - ان الله سبحانه انزل التشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فانه لو كان كل ما ورد في الكتاب واضحاً لا شبهة فيه عند احد من الاذكياء ولا من البلداء لما كان في الايمان به شيء من معني الخضوع لما انزل الله تعالي والتسليم لما جاءت به رسوله(19).

وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بأن الخضوع هو انفعال معين وتأثر خاص من قبل الضعيف في مقابل القوي. ولا يكون ذلك من الانسان الا لما يدرك عظمته او لشيء لا يتمكن من ادراكه لعظمته وكبره كقدرة اللّه وعظمته وسائر صفاته التي اذا واجهها العقل رجع القهقري لعجزه عن الاحاطة به. وهذان الأمران عبر واردين في المتشابه لانه وان كان من الامور التي لا يدركها العقل ولا ينالها ولكنه يغتر باعتقاده لادراكها وحينئذ لا معني لخضوعه لها(20).

ولكن هذه المناقشة لا يمكن الالتزام بها وذلك لان معني الامتحان بالمتشابه هو وضعه كمقياس بين المؤمن وغيره. فالمؤمن من آمن به استسلاماً منه للمتشابه وان لم يدرك كنهه دون محاولة تأويله. والذي زاغ قلبه يغتر به ويدعي معرفة تأويله والانسان في حالة غروره وان لم يكن خاضعاً ولكنه غير مؤمن لان الخضوع لا يكون الا من المؤمن وهو لا يكون مغتراً.

وبعبارة اخري ان المتشابه لا يكون بطبيعته مورداً لاغترار العقل وانما قد يزيغ الانسان فيغتر بادراكه لكنهه. ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابه. فاذا صدّق الانسان به واستسلم له فهو قد ثبت علي الايمان واذا اغتر به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه. وهذا ما اشار اليه القرآن الكريم حيث قال (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) فهو شيء تمحص به القلوب. فمن كان في قلبه مرض وزيغ اتبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

الثاني - ما ذكره الشيخ محمد عبده ايضاً ان وجود المتشابه في القرآن كان حافزاً لعقل المؤمن الي النظر كيلا يضعف فيموت فان السهل الجلي جداً لا عمل للعقل فيه والعقل اعز القوي الانسانية التي يجب تربيتها والدين أعز شيء علي الانسان فاذا لم يجد العقل مجالاً للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه واذا مات فيه لا يكون حياً بغيره(21).

وقد ناقشه العلامة الطباطبائي ان القرآن الكريم اهتم بالعقل وتربيته اهتماماً بالغاً. فأمر باستعمال العقل في الآيات الآفاقية والأنفسية اجمالاً في بعض الموارد كما فصل ذلك في موارد اخري كالامر بالتدبر في خلق السموات والارض والجبال والشجر والدواب والانسان واختلاف الالسنة والالوان. كما حث علي التفكير والسير في الارض والنظر في احوال الماضين وحرض العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي كل ذلك ما يغني عن سلوك طريق آخر هو انزال المتشابهات الذي يكون مزلقة للاقدام ومصرعاً للعقل(22).

الثالث - ما ذكره الشيخ محمد عبده ايضاً. ان الانبياء بعثوا الي جميع الاصناف من عامة الناس وخاصتهم وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد. وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع علي السواء وانما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الامر فيه الي الله تعالي والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه علي قدر استعداده(23).

وقد ناقشه العلامة الطباطبائي بان الكتاب الكريم كما يشتمل علي المتشابهات كذلك يشتمل علي المحكمات التي تبين هذه المتشابهات عند الرجوع اليها ولازم ذلك ان لا تتضمن المتشابهات من المعاني ما هو ازيد مما تكشف عنه المحكمات وعند ذلك يبقي سؤالنا. ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ؟ واي حاجة اليها مع وجود المحكمات ؟ علي حاله.

والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمد عبده انه اخذ المعاني نوعين متباينين - الاول - معاني يفهمهما جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات. الثاني - معاني حقيقتها بحيث لا يدركها الا الخاصة ولا يتلقاها غيرهم وهي المعارف الالهية والحكم الدقيقة فكان من نتيجته ان من المتشابهات ما لا ترجع معانيها الي المحكمات. وقد مر ان ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة علي ان القرآن يفسر بعضه بعضاً وغير ذلك(24). 

وهذه المناقشة لا تقوم علي اساس منطقي. اذ ما هو الشيء الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني.

اذا كان المانع من ذلك هو ما يشير اليه العلامة الطباطبائي من امومة المحكمات للمتشابهات.. فقد عرفنا ان هذه الامومة لا تعني اكثر من وضع حدود خاصة معينة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن. وهذا لا يعني تجسيد الصورة الحقيقية للمعني المتشابه وتعيينها في مصداق خاص حتي تختفي الفائدة منه.

فقوله تعالي (ليس كمثله شيء) محكم يسقط من الحساب جميع التجسيدات التي تشبه الاشياء كمفهوم الاستواء علي العرش في قوله تعالي (الرحمن علي العرش استوي) ولكنه لا يعطينا الصورة الواقعية والمصداق المجسد لهذا الاستواء فهو معني مستقل لا يمكن ان نفهمه عن ذلك المحكم (ليس كمثله شيء).

واذا عرفنا دور المحكم تجاه المتشابه امكننا ان نتصور بسهولة ان بعض المعاني لا يدركها الا الراسخون في العلم دون العامة. خصوصاً المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية كجريان الشمس (الشمس تجري لمستقر لها) او تلقيح الرياح (وجعلنا الرياح لواقح) او جعل الماء مصدراً للحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فان كل هذه المعلومات حين تتكشف لدي العلماء تكون من المعلومات التي اشار اليها القرآن الكريم ويعرفها الخاصة من الناس دون غيرهم.

والعلامة الطباطبائي نفسه تصور هذا التمايز بين الناس في الادراك للمعاني وان حاول ان يصوغه بشكل آخر (فظهر ان للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالي مراتب مختلفة من العمل والعلم. ولازمه ان يكون ما يتلقاه اهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه اهل المرتبة والدرجة الاخري التي فوق هذه او تحتها. فقد تبين للقرآن معان مختلفة مترتبة)(25).

فهو يتعقل في المعني القرآني الاختلاف. ولكنه يتصوره علي اساس الاختلاف في الدرجة والمرتبة للمعني الواحد كما يتعقل في الفهم الانساني هذا الاختلاف ايضاً. وحين نتعقل ذلك لا يبقي ما يمنع ارادة القرآن الكريم بآية معينة مرتبة ودرجة خاصة من معني معين دون غيرها. وحينئذ لا يقدر علي فهم هذه المرتبة والدرجة الا ذلك القريب من الله.

الرابع - ما ذكره العلامة الطباطبائي - ان التربية الاسلامية سارت علي منهج معين بفرض الواقع للانسان وعلاقته بالله سبحانه خالق الكون ومدبر اموره وبالمعاد والجزاء.

وهذا المنهج يتلخص في ان عامة الناس لا تكاد تتجاوز افهامهم وعقولهم المحسوسات المادية الي عالم ما وراء الطبيعة. ولا يمكن ان يعطي انسان ما معني من المعاني الا عن طريق تصوراته ومعلوماته الذهنية التي حصلت له خلال حياته المادية والعقلية. والناس في هذه التصورات والمعلومات علي مراتب ودرجات تختلف باختلاف الممارسة المادية والعقلية.

والهداية القرآنية ليست مختصة بجماعة دون اخري وانما هي هبة اللّه سبحانه للناس كافة. وهذا الاختلاف في الفهم وعموم الهداية القرآنية : يفرضان ان يسوق القرآن الكريم بياناته مساق الامثال بان يستثمر ما يعرفه الانسان ويعهده في ذهنه من المعاني والصور ليبين ما لا يعرفه من هذه المعاني والصور.

وقد يكون ذلك في القرآن الكريم مع عدم وجود التوافق الكلي بين المعني الذي يعرفه الانسان مسبقاً والمعني الجديد الذي يحاول القرآن الكريم تعريف الانسان عليه. وانما يلحظ القرآن جانباً معيناً من الانسجام والتوافق. كما نفعل ذلك في حياتنا العملية حين نستثمر الاوزان والمكاييل للتعريف بالمواد الغذائية وغيرها مع عدم وجود التوافق بينها وبين المواد الغذائية في شكل او صورة او حجم.

وحين نستعمل الصورة المادية المحسوسة - التي عرفها الانسان في حياته كأمثال للمعارف الالهية المجردة يقع الفهم الانساني في ادراكه لهذه المعارف الممثلة بين امرين قد يستلزم كل منهما محذوراً : -

الاول - الجمود بهذه المعارف في مرتبة الحس المادي وحينئذ تنقلب عن واقعها المجرد الذي استهدفته الهداية القرآنية.

الثاني - الانعتاق من الاطار المادي للمثال والقيام بعملية تجريد للخصوصيات غير الداخلة في التمثيل. وهذا يستلزم - احياناً - الزيادة والنقيصة في هذه العملية او الشدة والضعف.

ولذا نجد القرآن يلجأ الي عملية واسعة في التمثيل تفادياً لهذه المشاكل العقلية والنفسية. وذلك بتوزيع المعاني التي يريد من الانسان ادراكها وتربيته علي تصورها الي امثال مختلفة وجعلها في قوالب متنوعة حتي يفسر بعضها بعضاً ويوضح بعضها امر بعض لينتهي الامر الي تصفية عامة تؤدي الي النتيجتين التاليتين : -

الاولي - ان البيانات القرآنية ليست الا امثالاً لها في ما ورائها حقائق ممثلة وليس الهدف والمقصود منها مرتبطاً باللفظ المأخوذ من الحسِّ والمحسوسات فنتخلَّص بذلك من محذور الجمود.

الثانية - بعد الالتفات الي أن البيانات القرآنية أمثال - نعلم حدود المعني الالهي المقصود من وراء هذه البيانات حين نجمع بين هذه الامثال المتعددة وتنفي بكل واحد منها خصوصية من الخصوصيات المأخوذة من عالم الحس الموجودة في المثال الآخر. فنطرح ما يجب طرحه من الخصوصيات المحيطة بالكلام ونحتفظ بما يجب الاحتفاظ به منها(26).

ولا شك ان هذا الوجه يمكن ان يعتبر تعليلاً وجيهاً لورود الكثير من الآيات المتشابهة ولكننا لا نقبله تعليلاً شاملاً لكل ما ورد في القرآن من المتشابهات حيث نري ان بعضها لا يمكن تحديد مصداقه بشكل قاطع بناء علي مذهبنا في حقيقة المتشابه الذي عرفنا فيه ان المفهوم اللغوي له مفهوم صحيح وغير باطل لينتفي الريب بواسطة الامثلة الاخري القرآنية.

وفي نهاية المطاف يجدر بنا ان نذكر خلاصة الوجه الصحيح في حكمة ورود المتشابه في القرآن. وبهذا الصدد يحسن بنا ان نقسم المتشابه الي قسمين رئيسيين.

الاول - المتشابه الذي لا يعلم تأويله ومصداقه الا اللّه.

الثاني - المتشابه الذي لا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم.

اما ورود القسم الاول في القرآن فلأن من الاهداف الرئيسة التي جاء من اجلها القرآن الكريم هو ربط الانسان الذي يعيش الحياة الدنيا بالمبدأ الاعلي وهو اللّه سبحانه وبالمعاد وهو الدار الآخرة وعوالمها. وهذا الربط لا يمكن ان يتحقق الا عن طريق اثارة المواضيع التي تتعلق بعالم الغيب وما يتصل به من افكار ومفاهيم لينمّي غريزة الايمان التي فطر الانسان عليها ويشده الي عالمه الذي سوف ينتهي اليه. فلم يكن هناك سبيل امام القرآن الكريم يتفادي به المتشابه في القرآن بعد ان كان هو السبيل الوحيد الذي يوصل الي هذا الهدف الرئيسي.

واما ورود القسم الثاني في القرآن الكريم بهذا الاسلوب امام العقل

البشري كبعض المسائل الكونية وغيرها لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة ونحن في هذا العصر حين نعيش التطور المدني العظيم في المجالات العلمية المختلفة. ندرك قيمة بعض الآيات القرآنية التي المحت الي بعض الحقائق العلمية ووضعتها تحت تصرف الانسان لينطلق منها في بحثه وتحقيقه.

وبهذا يمكن ان نقدم تفسيراً لحكمة ورود المتشابه في القرآن الكريم.

---------------------------------------------------------------------------

الهوامش

(1) القاموس - مادة (حكم).

(2) لسان العرب - مادة (حكم).

(3) القاموس : مادة (شبه).

(4) لسان العرب - مادة شبه.

(5) لسان العرب : مادة حكم 13/53 ط دار صادر بيروت.

(6) قارن بهذا ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان 2/166.

(7) الفخر الرازي : التفسير الكبير 7/180.

(8) الاتقان 2/5.

(9) الفخر الرازي - التفسير الكبير 7/172.

(10) العلامة الطباطبائي - الميزان في تفسير القرآن 3/33.

(11) المصدر السابق 3/36.

(12) المصدر السابق الصفحة نفسها.

(13) الطباطبائي - الميزان في تفسير القرآن 3/40.

(14) المصدر السابق 3/19.

(15) المصدر السابق 3/33.

(16) المصدر السابق 3/43.

(17) المصدر السابق 2/32.

(18) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي. التفسير الكبير 7/184 - 185، السيوطي الاتقان 2/12 - 13 والزرقاني مناهل العرفان 2/178 - 181.

(19) رشيد رضا تفسير المنار 3/170.

(20) الطباطبائي - الميزان في تفسير القرآن 3/57.

(21) رشيد رضا - تفسير المنار 3/170.

(22) الطباطبائي - الميزان في تفسير القرآن 3/58.

(23) رشيد رضا - تفسير المنار 3/170 - 171.

(24) الطباطبائي. الميزان في تفسير القرآن 3/58.

(25) المصدر السابق 3/67.

(26) العلامة الطباطبائي. الميزان في تفسير القرآن 3/58 - 65.وقد لخصنا كلامه وتركنا بيان الامثلة والايضاحات الفكرية التي اوردها لتأييد مدعياته.

 

 

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)