• عدد المراجعات :
  • 2720
  • 2/5/2006
  • تاريخ :

في كربلاء أفكار تنبض بالحياة

في كربلاء أفكار تنبض بالحياة

إن العلاقة بعاشوراء تنطلق من خلال شخصية

الإمام الحسين (ع) ، فالحسين بالنسبة إلينا ليس مجرّد كونه ابن بنت رسول الله (ص)، حتى نرتبط به على أساس القرابة ، ولكن الحسين (ع) هو الإمام المفترض الطاعة الوارث للأنبياء . ألا نقرأ في زيارته : ( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وراث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم صفوة الله، السلام عليك يا وراث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله، السلام عليك يا وارث علي ولي الله ) .

إذاً ، الإمام الحسين (ع) بالنسبة إلينا هو الّذي ورث الإمامة عن أبيه بنص

رسول الله (ص) ، و هو الّذي انطلق بإمامته ليرث رسالات الأنبياء كلّها، ورسالة الإسلام الّتي أُوكل إليه أمر حمايتها ورعايتها وتصحيح كل ما يريد الآخرون أن يحرّفوه منها. فنحن إذاً نرتبط بالإمام الحسين، باعتبار أنّه إمامنا الّذي نأخذ منه شرعية الكلمة، وشرعية الموقف، وشرعية الحركة، وشرعية المواجهة... لأن الإمام ينطلق في خط رسول الله (ص)، ويمثّل في كل سلوكه روح رسول الله ووعيه، وكل منطلقاته في الحياة.

لقد وقف رسول الله (ص) في آخر حياته ليودّع المسلمين، فقال لهم : «

أيّها ، النّاس إنّكم لا تُمسكُونَ عليَّ بشيءٍ، إنّي ما أحللتُ إلاّ ما أحلّ القرآن وما حرّمتُ إلا ما حرَّمَ القرآنُ ».

لكأنّ النبي يقول لهم: ليس عندي خفيّ، وليست لديّ أوضاع باطنية خارج نطاق الرسالة، فأنا رسول الله إليكم، وأنا أوّل المسلمين الذين يتحرّكون بالإسلام على أساس ما أقوله لكم، ولذا تستطيعون أن تطالبوني بكلِّ ما فعلته في حياتي العائلية والاجتماعية والسلمية والحربية... هل أحللتُ ما أَحَلَّ اللـهُ وهل حَرَّمتُ ما حرَّم الله؟

الأسس الشرعية لمعارضة الظالمين

و هكذا ، فكل المنطلقات هي منطلقات الحلال والحرام في الإسلام، وليس لدى النبي (ص) شيءٌ خفيّ يقوله خارج نطاق الرسالة، وكذلك عندما نلاحظ

أمير المؤمنين (سلام الله عليه) و هو يتحدّث عن الخلافة، ولماذا انطلق ولماذا صارع، ولماذا جاهد، ولماذا قاتل، فإنه يقدّم حسابه لله فيقول : « اللّهمّ إنّكَ تعلمُ أنّه لم يكن ما كانَ منّا منافسة في سلطانٍ، ولا التماس شيء من فضولٍ الحطامٍ، ولكن لنرد المعالمَ مِن دينِكَ، ونُظهرَ الإصلاحَ في بلادكَ، ويأمنَ المظلومونَ من عبادِكَ، ويُعمَلَ بفرائضِكَ وسُنَنِكَ وأحكامِك » .

إنّه يعلّل حركته بالعناوين الإسلامية الكبيرة الّتي هي إظهار معالم الدين، وإصلاح واقع الناس، وتأمين المظلومين من عباد الله (سبحانه وتعالى).

وعندما نأتي إلى الإمام الحسين (سلام الله عليه) لندرس شرعية حركته، فإننا أنّه بدأها بالبيان الأول الّذي أُطلق من خلال حركته، قال لهم: «أيّها الناسَ، إنّ رسولَ الله قال: مَن رأى منكُم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللَّهِ، ناكثاً بعَهدِهِ، مخالفاً لسنّة رسولِ الله، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغرْ عليهِ (أو فلم يُغيِّر ما عليه) بقولٍ ولا بِفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِلَه مَدخَلَه. وقد علمتمُ أنَّ هؤلاء القومَ قد لزِموا طاعة الشيطانِ وتولّوا عن طاعةِ الرحمن، وأظهَروا الفسادَ وعطَّلوا الحدودَ واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرامَ الله وحرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمرِ .

إنه قال للناس ما معناه: إنني أنطلق من حيث انطلق رسول الله (ص)، ومن حيث أمر بالثورة وبالتحرك وبالعمل في خطّ التغيير.

ثم بعد ذلك قال: «

إنّي لم أخرجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أُمّة جَدّي، أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ وأسيرَ بسيرةِ جَدّي وأبي عليّ بن أبي طالب. فمن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللَّهُ أولى بالحقّ، ومن ردّ عليَّ هذا أصبر » .

وقال بعد ذلك أيضاً: «

ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه»(4) وقال: «لا واللَّهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ لكم إقرارَ العبيد ».

إن كل هذه الكلمات وكلّ هذه البيانات تعني أن الإمام الحسين (ع) قد انطلق في حركته على أساس عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أساس إعادة الحقّ في الحياة إلى مواقعه، من أجل أن يعمل الناس بالحقّ، وإبعاد الباطل عن الواقع حتى يبتعد الناس عنه، وأن يقف المسلم على أساس أن يجسّد العزّة في كلّ مواقفه، وأن يرفض الذلّ في كلّ مواقفه، كأنّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) يريد أن يقول لكلِّ الأجيال من بعده: إنني وقفت هذا الموقف من موقع إمامتي، ومن موقع تحرّكي في خطّ الرسالة. فإذا عشتم تجربةً كتجربتي، وإذا واجهكم حكمٌ للتحرك وللانطلاق، فإنكم تستطيعون أن تتحرّكوا في الخطّ الّذي تحركت فيه، لأنّكم بذلك تنطلقون من حيث انطلقتُ، وترتبطون بالحكم الشرعي من حيث ارتبطت.

وهكذا، فعندما نتطلّع إلى الإمام الحسين (ع)، فإنّنا نأخذ منه شرعية التحرّك عندما يقول لنا الناس _ كل الناس _: لماذا تعارضون الحكم الظالم؟ وما الأساس الشرعي لمعارضة الحكم الظالم؟ لماذا تريدون أن تغيروا الواقع الاستكباري؟ لماذا تتحرّكون في مواجهة الباطل وفي مواجهة الظلم والانحراف؟ لماذا تتحرّكون في هذا الاتّجاه وأنتم مسلمون؟

نقول: لأن رسول الله (ص) قال لنا ذلك، ولأن علياً (ع) قال لنا ذلك عن رسول الله، ولأن الإمام الحسين _ المفترض الطاعة _ قال لنا ذلك بموقفه بعد أن قاله بلسانه، وقاله لنا بدمائه بعد أن قاله لنا بمواقفه، وقاله لنا بكل آلامه بعد أن قاله لنا بكل مشاعره.

إنّ الإمام الحسين يعطينا الشرعية والقدوة للانفتاح على كلِّ الواقع الّذي نعيشه مع رفض حالة الحياد بين الخير والشرّ، لأنّ الظالمين يستفيدون من الأكثرية الصامتة أكثر ممّا يستفيدون من جنودهم ومن أتباعهم، لأن جنودهم يتحرّكون ضد المستضعفين، فيما لا يعطي المتفرّجون قوّتهم للمستضعفين، ولذلك يتغلّب المستكبرون على المستضعفين. فالأكثرية الصامتة هي الّتي يمكن أن ترجّح الكفّة عندما تتحوّل من صامتة إلى ناطقة، ومن ساكنة إلى متحرّكة، تلك هي المسألة. ولهذا كان الإمام الحسين (ع) يهدّد كل الذين استنصرهم والذين فلم ينصروه، ابتعدوا عن المعركة بغضب الله (سبحانه وتعالى) وبعذابه.

إننّا نستطيع أن نأخذ من موقف الحسين (ع) شرعية التحرّك، سواء كان في سلوك خط المعارضة السياسية أو المعارضة المسلّحة الثوريّة. فلقد عارض (ع) سياسياً في البداية، وأعلن رفضه للحكم بمختلف الوسائل، وبعد ذلك عارض من منطق الرفض العسكري. وإذا كانت المسألة عند الإمام الحسين (ع) هي مسألة الحكم المنحرف في داخل المجتمع الإسلامي الّذي يأخذ شكل الإسلام، ولكنّه يعيش قيم الكفر ومخطّطاته، إذا كان الإمام الحسين (ع) يرفض مثل هذا الحكم ويقاتله، فلأن هذا الحكم لا يمثّل الشرعية الإسلامية ولا العدالة الإسلامية في حكم المسلمين.

إذا كان الإمام الحسين (ع) يثور ضد يزيد الّذي كان يصلّي ويصوم ويحج في الشكل، فكيف يمكننا أن نرضى ونسكت ونؤيّد من لا يؤمن بالإسلام كلّه ومن يريد أن يفرض على المسلمين شريعة الكافرين، ويضغط عليهم ليبتعدوا عن طاعة الله.

إذا كان الحسين يرفض أن يضع يده في يد يزيد، فهل يقبل منا أن نضع أيدينا في أيدي اليهود وفي أيدي الاستكبار العالمي؟

في كربلاء أفكار تنبض بالحياة

حين نستعيد أجواء عاشوراء، فإنمّا نستعيدها لنعتبر بها ونتعلّم منها، ونعيشها من أجل أن نكون في المرحلة الّتي تكمل تلك المراحل، لأن الحسين (ع) كان خطوةً متقدّمة في المسيرة الإسلامية الطويلة، الّتي لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومَن عليها. إنه (ع) كان يتمثّل بهذه الآية الكريمة:

(

مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا اللَّهَ عليه فمنهم من قضى نَحبَهُ ومنهمُ مَن ينتظرُ وما بَدَّلوا تبدِيلاً ) ، (الأحزاب/23). هناك من انتهت مرحلته ولاقى وجه ربّه، وتلك هي قصة عاشوراء.

عهد مع الله

قصة كل أبطال عاشوراء أنّهم عرفوا الحقيقة، وعاهدوا الله. لقد اعتبروا أن بينهم وبين الله عهداً، وأن الإنسان الّذي يعاهد الله لا بدّ له أن يصدق مع الله عهده. ومعنى أن يصدق مع الله في عهده، أن ينظر _ في كلِّ مرحلة من مراحل حياته _ إلى كل ما يعمله، وإلى كل ما يريد أن يسير فيه، ليجد هل هو منسجمٌ مع عهده مع الله أو لا؟

والآن، كيف نفهم عهد الله هذا الّذي أشارت إليه الآية، وهذا الّذي تمثّل به الإمام الحسين (ع) في كلّ وقفة من وقفات الشهادة الّتي كان يقفها أصحابه و أهل بيته (ع)، ما هو عهد الله؟ عهد الله هو الإسلام، وهو الإيمان. فمعنى أنك مسلم، هو أن تعاهد الله سبحانه وتعالى، وأن تسلم كل حياتك له وفي سبيله، أن تجعل كل خطواتك في طريقه، أن تواجه كل التحدّيات وكل الأخطار وكلّ العقبات في سبيل الله، ومن أجل الله... ذلك هو عهد الله، أن تُسلِم له أمرك وحياتك، لا أمر لك مع أمره، ولا كلمة لك مع كلمته. أن تقول في كل مرحلةٍ من مراحل حياتك وفي كلّ يوم تصبح فيه وتُمسي: طاقاتي كلها لك وحياتي كلها لك.

جون : و الموقف الحر

ولا يبقى لنا إلاّ أن نفهم موقفنا الّذي يمتدّ من مواقف أصحاب الحسين (ع)، وهو موقف الإنسان الّذي يشعر بالمسؤولية أمام الله، فيجعل حياته منسجمةً مع خطّ المسؤولية. إننا نلتقي بهم في موقف (جون) العبد الأسود مولى أبي ذر الغفاري. ولقد عاش بعد أبي ذر مع الأئمة، ومع الحسين (ع) وأهل بيته، يخدمهم بكل طاقته. وعندما انطلقت المعركة في كربلاء، خاطبه الإمام الحسين وقال له: يا « جون أنتَ في إذنٍ منّي، فإنّما تَبِعتَنا طَلباً للعافيةِ، فلا تَبتلِ بطريقتنا » . أنت كنت خادماً لنا، تخدمنا لتعيش وتضمن حياتك معنا، ونحن الآن في موقف لا يغري إنساناً بالربح، ليس فيه إلاّ الموت، فحاول أن لا تبتلي بطريقتنا.

فماذا كان جوابه ؟ قال: يا سيدي أنا في الرخاء ألحْسُ قصاعكم وفي الشدّة أخذُلُكم، والله إنَّ ريحي لمُنْتنٌ وإن حَسبي للَئيمٌ ولوني لأسْوَد. فتنفَّسْ عليَّ بالجنةِ، فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضَّ وجهي  ..! وتحرك هذا الإنسان في خط الشهادة، لأنّه شَعَرَ أن هناك عهداً بينه وبين الله، وهو عهد الإيمان والإسلام، وأن لا تكون علاقته مع أهل البيت علاقة خبز ومال، وإنمّا هي علاقة الإيمان حتى الشهادة.

حبيب بن مظاهر و مسلم بن عوسجة

وهكذا عندما نقترب من هؤلاء الذين كانوا يتحسّسون المسؤولية، ويصدقون بالتزاماتهم، نقف أمام حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، كانا صديقين وجاءا إلى المعركة، وجاهدا بين يدي الإمام الحسين، وعاشا مع الحسين (ع) الالتزام بخطّ الإسلام.

وصُرع مسلم بن عوسجة، فمشى إليه الإمام الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر، وجلسا عنده وهو في حالة الاحتضار، قال له حبيب: والله لولا أني أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إلي، فإن الصديق يوصي صديقه في حالة الاحتضار، يوصيه بأهله وبعياله، ولكن مشكلتي أني سأموت من بعدك وسأسير في نفس الطريق. كنت أُحب أن توصيني لأنفّذ وصيتك، فقال له: لي وصية تستطيع أن تنفّذها الآن. قال: ما وصيتك؟ قال: أُوصيك بهذا _ وأشار بيده للإمام الحسين (ع) _ جاهِدْ دونه حتى تموت.

وصية الشهداء : لا نبالي أن نموت على الحق

هذا هو الالتزام بالخطّ والصدق في الإيمان، فقد كان يفكّر في القائد وهو في حلاوة الاحتضار، وكان يوصي بالجهاد، ويفكّر بأصدقائه أن يسيروا حيث سار هو، وأن ينطلقوا حيث انطلق.

عليّ الأكبر يقول لأبيه الحسين (ع) بعدما استرجع قائلاً:

« (

إنّا للّهِ وإنّا إليهِ راجِعون ) ،(البقرة/156)، يا أبتاه، لم استرجعت؟ قال: إنه عرض لي فارسٌ على فرس، فقال: القومُ يسيرونَ والمنايا تسيرُ إليهم، فعلمتُ أنها نفوسنا نُعِيت إلينا».

فقال علي الأكبر: يا أبتاه، لا أراك الله سوءاً أبداً، ألسنا على الحق؟

قال الحسين (ع): بلى، والّذي يرجع إليه العباد.

فقال: يا أبت، إذاً لا نبالي أن نموت محقين .

تلك هي القضية، أن يفكر الإنسان في هذا الاتجاه في كلِّ ما يعمل وفي كل ما يقول. لا بدّ أن يكون الهاجس عندك أنك على حق أم على باطل، عندما تتكلّم، هل كلمتك كلمة حق أو كلمة باطل، وعندما تعمل، هل عملك يسير في طريق الحق أم في طريق الباطل؟ وعندما تنتمي، هل انتماؤك حق أم باطل؟ عندما تؤيد وترفض... القضية أن نكون محقين، وعندما نكون محقين ليس هناك مشكلة في أن نموت أو نحيا. عندما نكون محقّين ونبقى في الحياة، فستكون حياتنا كلها خطرات متحركة في طريق الحق، وعندما نكون محقين ونقدم على الله سبحانه وتعالى، فإن الله سيتقبلنا برحمته وبلطفه.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)