• عدد المراجعات :
  • 2247
  • 2/5/2006
  • تاريخ :

كربلاء من جديد

کربلاء

في كلِّ سنة لنا ذكرى مع أجواء عاشوراء ، و في كلِّ سنة نستعيد في وعينا و حياتنا كربلاء . لكن قيمة عاشوراء و كربلاء الذكرى أن لها لقاءً في كل زمن مع الأُمّة ، تمدها وتعطيها من حيويتها ، و تدفعها إلى المواقع المتقدّمة في مسيرة الحياة الكريمة .. فكنا نراها شاخصةً في السابق ، و نراها الآن تتحرّك في حياتنا لتمنح عطاءها لكل بلاد العالم الإسلامي في واقعها الجديد ، و معاناتها الجديدة.

فلم تعد كربلاء متصلةً بقصة جغرافية في نطاق بلد معين أو دولة معيّنة ، بل راحت تتفاعل مع كل أرض يعيش فيها المسلم الصراع ضد الكفر و الظلم و الاستغلال و الاستكبار ، و بدت لنا أكثر من كربلاء، لنا كربلاء في لبنان ، ولنا كربلاء في العراق، ولنا كربلاء في أفغانستان، ولنا كربلاء في كل بلد يقف فيه الإسلام والمسلمون ضد الكفر. ولم تعد عاشوراء _ عاشوراء الحسين و عاشوراء الشهداء _ مجردة في التاريخ، وإنما تحوّلت لتكون منطلقاً في كل زمن وكل جيل تتمثّل فيه المجالات الّتي يقف فيها الإنسانُ المسلمُ في كل مرحلة من مراحل الجهاد من أجل العزة والكرامة في سبيل الله.

عاشوراء في صميم الواقع

ولكن عندما نتمثَّل كربلاء في كلِّ أرض يتحرّك فيها الجهاد ، و في كل زمن ينطلق فيه خط الجهاد، لا بدّ لنا من أن نعيش هذه الروح، وهذه القضية ، وهذا التحرّك بعمق المعاني الّتي عاشتها تلك الأرض، وبعمق الأهداف الّتي عاشها أُولئك الشهداء.

كي لا تصبح عاشوراء مجرَّد زمن يتحرّك فيه الجهاد، لا بدَّ أن يكون الجهاد الّذي نمارسه بحجم فكر

الإمام الحسين (ع)، بحجم تطلعاته ووعيه لدوره وإخلاصه لربه، وبحجم الأهداف الكبيرة الّتي يستهدفها للحياة. كذلك لا بدّ لنا أن نعيش في أنفسنا وفي حياتنا أجواء أُولئك الشهداء الّذين قال الإمام الحسين _ عليه السلام _ فيهم: «واللَّهِ ما رأيتُ أبرَّ ولا أوْفى من أصحابي، إنَّهم يستأنِسونَ بالمنَيَّةِ استئناسَ الطفلِ بمحالب أُمِّه.

لا بد أن نعيش هذه الروح المخلصة لله سبحانه و تعالى. فكربلاء ليس فيها شيء للذات أو للفئة، كربلاء كلُّها لله سبحانه وتعالى. القتال كان فيها لله، والسلم كان فيها لله، والصلاة كانت فيها لله، وكل العلاقات فيها كانت في سبيل الله، لهذا إذا كنّا نفكّر في أي مرحلة وفي أي مجال من مجالاتنا العملية في آفاقنا الضيقة، كما كنّا نفكر سابقاً...

إذا كنّا نفكر أن يتعلّب كل واحدٍ منّا في إطار معين أو في شخصيته أو في ذاته، وأن يتعقّد من أخيه المؤمن لمجرّد أنّه ينتسب إلى ما لا ينتسب إليه، فإن عاشوراء ترفضنا وترفض جهادنا الّذي سوف لا يكون لله، وإنما يكون للإطار الّذي يعيش فيه، وللذات الّتي نختنق فيها.

وفي الظروف الّتي ينبغي أن نعيش فيها الإخلاص لله تعالى، علينا أن لا نترك للشيطان مجالاً ينفذ فيه إلى أفكارنا ومشاعرنا وعلاقاتنا... فلا نتحاور حوار الذين يعيش كل واحد منهم الحذر والتحفظ على الآخر.

إن علينا أن نشعر بأن المعركة والمرحلة تصهرنا وتجعلنا أكثر وعياً لدورنا ولساحتنا، وأشدُّ إخلاصاً في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى. وعندما نستحضر ذكرى الآلام الّتي خلّفها الاضطهاد والكفر والطغيان في عاشوراء التاريخ، علينا أن نرتبط بهذه الآلام الّتي يعيشها الناس هنا وهناك، وفي كل بلد من بلدان العالم الإسلامي.

عندما نستقبل عاشوراء ، علينا أن نستقبلها على أساس ما نحمل من مسؤولية تجاه الله سبحانه وتعالى، وأن نعيش التقوى في الفكر عندما نفكر، وفي العمل عندما نعمل، وفي علاقاتنا وكل أوضاعنا العامّة، وأن نشعر، أيضاً، أن لا صفة لنا إلاّ أننا مسلمون، وعلى أساس هذه الصفة يجب أن نتصرّف في أوضاعنا وعلاقاتنا وحربنا وسلمنا، يجب أن لا نحرّك رجلاً إلاّ بعد أن نعلم ما هو حكم الله هنا، وما هو حكم الله هناك.

في ذكرى عاشوراء، علينا أن نتطلَّع إلى الإمام الحسين (ع) في تلك الأرض الّتي واجه فيها الضلال والطغيان بكلِّ قوّة، وواجه فيها الآلام بكل فرح روحي. «هون عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله»، عندما تتألمون، وعندما تجرحون... لا تتخاذلوا ولا تهنوا، وإنما قفوا وقفة الإمام الحسين عندما أخذ دم ولده الرضيع، وقال، وهو يرفع وجهه إلى السماء: «

هَوَّنَ عليّ ما نزَل بي أنّه بعينِ الله ».

لنقل جميعاً: هوّن ما ينـزل بنا من كل الآلام أنها في سبيل العزة والكرامة والنصر في مواجهة الكفار.

لماذا إقامة عاشوراء؟

لماذا أراد أئمَّة

أهل البيت (ع) أن نقيم عاشوراء في كلِّ بلد و في كلّ جيل، حتى أصبحت قاعدة أساسية من قواعد حركتنا الإسلامية في خطّ أهل البيت (ع) ، بحيث لو ذهبتَ إلى شرق الأرض و غربها لرأيت ذكرى عاشوراء تقام وإن بشكل متنوع؟

لماذا إصرار أئمة أهل البيت (ع) على الخطّ العاشورائي في العلاقة مع الإمام الحسين (ع) ؟ لقد أرادوا لنا ذلك لأن هذا الخط هو خطّ الرفض، الرفض للوثنية وللانحراف وللجاهلية وللظلم ولكل الذين يستعبدون وينهبون الناس. وبكلمة واحدة، لكل أعداء الله، ولكل المناهج الّتي تبتعد عن الله.

وهذا الخطّ هو خطُّ الموالاة لكل أولياء الله، ولكل المناهج الّتي تنطلق من الله، وتتحرّك في خطّ الله الّذي انطلق فيه الإسلام من خلال رسول الله (ص)، وانطلق فيه

علي بن أبي طالب (ع) والأئمة من خلاله. على أنّ هذا الخطّ يحتاج إلى قوّةٍ حركيةٍ تهز السائرين عليه في كل جيل وفي كل وقت، ليقول للنّاس كلّهم: إن الدماء الّتي سالت في كربلاء هي سر شخصيتكم الّتي ركّزت القاعدة الإسلامية المنطلقة في خط الله ورسوله وأوليائه من أئمة أهل البيت (ع). لذلك تذكّروا دماء الحسين، لتتذكّروا الإسلام الّذي انطلق الحسين (ع) في نهضته من أجل التّضحية في سبيله...

تذكّروا كلّ الشهداء من الأطفال والرضّع، من الشباب والشيوخ، لتعرفوا أن التزامهم الإيماني بأهل البيت (ع) لم يكن مجاناً، وإنما ثمنه كان دم الحسين (ع) ودم أولاده وأنصاره وأهل بيته، بحيث تبقى هذه الدماء النهر الّذي يتدفّق ويتفجر في كل مرحلة تشعرون فيها بأن للحرية قضية وللوحدة ضرورة في صفوفكم.

لقد كان أصحاب الإمام الحسين (ع) من عشائر تتوزّع على مجمل الجزيرة العربية، وكانوا _ قبل أن يجتمعوا في كربلاء _ متفرّقين حتى في خطوطهم وانتماءاتهم السياسية. ولكنّ صوتَ الحسين (ع) هو الّذي دعاهم وربطهم بالحقيقة الواحدة وبالرسالة الواحدة، فتوحّدوا بالحسين، واجتمعوا على اسمه حتى بعد أن جعلهم (ع) في حلّ من بيعته، لكنّهم شعروا أنَّ البيعة ليست الأمر الّذي يربطهم به، إنّما الرسالة الّتي يؤمنون بها من خلال قيادة الإمام الحسين، والخط الّذي يتحرّكون فيه على أساس إمامته.

إنّهم توحّدوا بالحسين (ع)، وتوحّدت مواقفهم ودماؤهم وكلماتهم، وتوحد الصدق في عهدهم، ولذلك كان الإمام الحسين (ع) عندما يستأذنه أي شخص من أصحابه يتلو هذه الآية: (

مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا اللَّهَ عليهِ فمِنهُم مَنْ قَضى نَحبَهُ ومِنهُم مَنْ ينتظرُ وما بدَّلوا تَبديلاً )،(الأحزاب/23).

كأنّه يريد أن يقول لهم: يا أصحابي، إنّ وحدتكم هي وحدة الصادقين مع الله في عهدهم له.

ماذا طرح الإمام الحسين (ع) من شعارات في كربلاء:

1 - «إنّما خَرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمةِ جَدّي أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عنِ المنكر» .

2 - «لا واللَّهِ لا أُعطيكُم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ لكُم إقرارَ العبيد».

3 - «ألا وإنَّ الدعيّ ابن الدعيّ قد تركني بين اثنتين: بينَ السّلةِ والذلةِ، وهيهاتَ منّا الذلّة، أبى اللَّهُ ذلكَ ورسولُه والمؤمنون».

4 - «وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ معَ الظالمينَ إلاّ بَرَماً».

هذه هي بعض شعاراته، إلا أنها ليست شعارات المرحلة الّتي كان يعيش فيها، لتكون المسألة مجرَّد مسألة غارقة في التاريخ، لكنها شعارات الحياة كلها، وشعارات الإسلام في كل مواقعه. من منّا لا يلمح الإفساد والفساد السياسي على مستوى الحاكم والمحكوم وحركة الحكم.

كم منّا لا يرى الإفساد والفساد على مستوى الاستكبار العالمي والإقليمي والمحلّي في كلِّ ما يريده الاستكبار من مصادرةٍ لقضايانا المصيرية على مستوى الأمة وعلى مستوى البلاد؟

من منّا لا يجد أن الواقع يعمل على إفساد الأخلاق الفردية والاجتماعية في داخل الفرد المسلم والمجتمع والأُمة المسلمة، من خلال من يريدون المتاجرة بالأخلاق؟

من منّا لم يرفض الواقع الّذي يترك فيه الكثيرون من المسلمين عبادة الله، في الوقت الّذي يقولون فيه: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، دون أن يصلّوا أو يصوموا أو يحجّوا لبيت ربهم، ودون أن يعملوا على إخراج الحقّ المعلوم الّذي فرضه ربّهم للسائل والمحروم في أموالهم وممتلكاتهم؟

من منّا لا يرفض هذا الواقع الّذي ترك فيه المسلمون المعروف في العبادة والصدق والأمانة والعفة والوفاء وما إلى ذلك من أصول الأخلاق الإسلامية؟

من منّا لا يرفض الكثير من مظاهر الانحراف في حياتنا، والعلاقات الممزّقة، والفتن الّتي تتحرّك على مستوى الأفراد والعوائل والأحزاب والطوائف الإسلامية وما إلى ذلك؟

إنّ مثل تلك المشاكل قد تكون أخطر من المشاكل الّتي عاشها الإمام الحسين (ع)، وقال فيها: خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدّي أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

كانت المشكلة السياسية في زمن الإمام الحسين هي مشكلة الحاكم المنحرف الّذي يحاول إعطاء حكمه صورة الإسلام، دون أن يمثّل في عمقه حكم الإسلام، أما في واقعنا الحاضر، فنلتقي بالحكّام الذين ينتمون إلى الإسلام، ولكنهم يرفضون إعطاء حكمهم حتى صورة الإسلام في الدول الإسلامية.

فالإسلام فيها يتمثَّل غالباً في مناسبات الأعياد والعطل الإسلامية، أمّا القوانين فهي قوانين (الكفر) وما إلى ذلك وما يستحدثه الناس في مجالسهم النيابية. وإذا تحدّث إنسان عن حكم الإسلام، وُصِفَ بأنّه متطرّف، وعلامة تطرّفه أنّه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية والقوانين الشرعية، هذا متزمّت، وعلامة تزمّته أنّه لا يريد لنوادي القمار، ولا لحانات الخمور، ولا لأماكن البقاء أن تأخذ حريتها.

من دروس عاشوراء

منذ أربعة عشر قرناً من الزمن تقريباً، ونحن نحيا هذه الذكرى في حياتنا، حتى تحوّلت إلى عادةٍ متأصلة متجذّرة في وجداننا الديني ، ينشأ عليها الصغير ، و يهرم عليها الكبير. وما زالت تتنامى وتتّسع وتمتد في كلّ ساحة يتحرّك فيها الإسلام في خطّ أهل البيت (ع). وربما تتمثّل حتى في بعض الساحات التي لا تلتزم خطّ أهل البيت (ع) مذهباً. على أن الطابع الّذي أخذته هذه الذكرى في تقاليدنا وفي عاداتنا هو طابع الحزن الّذي تسيل معه الدموع، وربما تحترق فيه القلوب.

وعندما يعيش الإنسان الحزن على قضية مرّت عليها القرون المتقادمة، يحتاج إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته. فما معنى أن تبكي على مأساة حصلت في التاريخ لأُناس تحبّهم من خلال عقيدتك وإيمانك وولائك؟ وأنت تعيش في أكثر من موقع من مواقع حياتك آلاماً قد تكون أقسى من آلامها وفظائعها، وقد تكون وحشية ما يلقاه الناس الذين ترتبط بهم برابط العقيدة والولاء والإنسانية في الوقت الحاضر أشد فظاعة، فتشعر أنك تعيش اللاّمبالاة أمام حركة المأساة في الحاضر.

إنّ ذلك يعني أنّ حزنك على الإمام الحسين (ع) ليس حزناً إنسانياً رسالياً، ولكنه حزن انفعالي جامد لا يتحرك ليثير فيك حزناً مماثلاً في كلِّ صورة شبيهة بصورة كربلاء. لذلك لا بدّ لنا أن نفسّر هذا الحزن لأنفسنا، حتّى نوحي لها بأن هذا الحزن ليس حزناً ذاتياً، بل هو حزن ينفتح على كلِّ مواقع المأساة في الحياة، عندما تتحرّك المأساة في ساحاتنا من خلال الذين يضطهدون الناس على أساس الإسلام، ويقتلون الناس على أساس التزامهم بالحرّية الّتي يقدّمها الإسلام، أو من خلال التزامهم بالعدالة الّتي هي سر حركة الإسلام.

نحن نحب الإمام الحسين (ع)، نحبّه ونحبّ أخاه، ونحب أُمَّه وأباه وجدَّه، والأئمة المعصومين من ذريته، وننتظر حفيده لنكون من جنوده، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً... نحبه لأنّه أحبَّ الله، ونحبُّ آل بيته جميعاً لأنهم أحبّوا الله. نحبه ونحبهم لأنهم حملوا رسالة الله، ولأنهم جاهدوا في سبيل الله، وأعطوا كل شيء يملكونه لله. من هنا فحبنا لهم ليس ذاتياً، وليس حبَّ قرابة، أو حب صداقة، ولكنّه حب يفرضه علينا انتماؤه إلى القاعدة الّتي انطلق منها الإمام الحسين (ع) وتحرك في اتّجاهها.

لقد أراد الإمام الحسين (ع) الإصلاح في الأُمّة، لا الإصلاح في العائلة أو القرية. الإصلاح على مستوى الأمّة كلّها، لا على مستوى الوطن الّذي يتأطّر فيه الإنسان.

لقد انطلق (ع) ليقول لنا: فكِّروا في قضايا أُمتكم من خلال الإسلام الّذي حمله جدي رسول الله (ص)، وأصلحوا ما فسد فيها. فكّروا في قضايا الأُمة، حتى يكون كل واحد منكم مسلماً يحمل همّ الإسلام كلّه، وهمّ المسلمين كلّهم. لا تعيشوا عصبية الذات أو العائلة أو الوطن أو عصبية القوميّة. عيشوا رساليّة الإسلام في كلِّ المساحات الإنسانية الّتي للإسلام فيها قضية، وللرسالة فيها خطّ، وللإنسان فيها انفتاح.

وعندما نفكِّر في حجمِ الأُمّة، سينطلق تفكيرنا في قضايانا الصغيرة على أساس مقارنتها بالقضايا الكبرى. فإذا ما أردنا أن نتحدّث عن قضية الحرّية _ على سبيل المثال _ فيجب أن نثيرها على أساس علاقتها بقضية الحرّية في العالم الإسلامي والعالم بأسره، بحيث لا نجعل خطّ الحرية حركةً قد نربح فيها شيئاً ويخسر العالم الإسلامي من خلالها أشياء.

بمعنى أن هناك ضرورةً للتكامل مع العالم الإسلامي في هذا المجال، حتى نفهم دورنا تماماً كما قال

رسول الله (ص): « مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمهم كَمَثَل الجسدِ إذا اشتَكى بعضُه تداعى سائرُه بالسهرِ والحُمّى » ، تماماً كما هو كل عضو في جسدك، لا يطلب الراحة والشفاء لنفسه إلا من خلال راحة بقية الأعضاء.

فلا يمكن للإنسان أن يعالج يده إذا كان المرض يدب في كل أجزاء جسمه، كما لا يمكن أن يعالج يده بدواءٍ ينقلب إلى داءٍ في جميع أجزاء جسمه، بل لا بدّ _ حين أخذ الدواء _ من التحقّق من أن هذا الدواء لن تنتج عنه مضاعفات سلبية على الأجزاء الأُخرى في جسد الإنسان، ولهذا قد يذهب شخص ما إلى بعض الأطباء، فيقولون له: إن هذا الدواء يفيد في معالجة المرض، ولكنه يضر المعدة، أو القلب، أو جهازاً عصبياً، أو ما إلى ذلك... فلا بدّ من البحث عن دواءٍ يشفي المرض ولا يخلق أمراضاً أخرى لبقية الجسد.

وهكذا عندما نريد أن نفكّر في قضايا الأُمة، فإنّ علينا أن نفكّر بحلّ المشكلة في بلدنا أو في إقليمنا أو في أي موقع يتسع ويضيق من مواقعنا، بحيث لا ينعكس سلباً على قضايا الأُمة. وهذا ما نواجهه في المرحلة الحاضرة في أكثر من قضية من قضايانا العامة الّتي تتصل بواقعنا كلّه.

لقد أصبحنا في كل بلدٍ نفكّر بحلٍّ لمشاكله، كما لو كان هذا البلد منفصلاً عن البلدان الأُخرى. نفكّر _ مثلاً _ بحلّ مشكلةٍ لبنانية بعيداً عن مشاكل العرب أو مشاكل المسلمين كلهم، أو نفكر بحلِّ المشكلة العراقية مثلاً بعيداً عن المشكلة العربية أو الإسلامية المتصلة بمواقع الاستكبار العالمي لتلك المشاكل... وهذا وهمٌ كبير، إذ لا يمكن أن تحلّ مشكلة في بلد وتستأصل من جذورها، إلاّ إذا استطعنا ربطها بالمشكلة الأُم الّتي توزّع مشاكلها على المواقع كلّها، وإلا فقد يكون ما يصوّر لنا حلاً، قد يكون مجرّد تخدير. هناك فرقٌ بين أن تحل المشكلة وبين أن تخدّرها. وهناك فرق بين أن تشفي المرض وبين أن تخدّره.

قد يستيقظ الألم عند الشروع بعلاجه، لكنه سوف يبرأ بعد ذلك، لهذا فإنّ ما نودّ قوله في مرحلتنا الحاضرة، هو ضرورة استيحاء كلمة الإمام الحسين (ع): «خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي».

إن الإمام الحسين (ع) كان ينظر في ثورته إلى الساحة الإسلامية الواسعة، وإلى الخط الإسلامي الممتدّ في حياة المسلمين جميعاً. لهذا، فإنّ معارضته ليزيد لم يعقها كون يزيد خليفةً يعيش في الشام. الإمام الحسين (ع) كان يعيش في الحجاز، وبالتالي فإنه لم يفكر أنّه لا دخل لأهل الحجاز بأهل الشام وعلى كل فريق تدبير أمره ومشاكله، أليس هذا هو المنطق الّذي نعيشه الآن في أكثر من بلد إسلامي، حيث يعتبر كل بلد أن له قضاياه ومشاكله الّتي يريد حلّها ولو على حساب قضايا الأُمة؟!

الإمام الحسين (ع) لم ينظر إلى القضية من هذا الجانب، ولم ينظر إلى يزيد باعتباره مجرد والٍ على الحجاز يمكن أن يعزل فَتُحَلّ المشكلة، ولا باعتباره والياً على الشام، إنما نظر إلى يزيد كونه (خليفة المسلمين)، فسلوكه ينعكس سلبياً على السلوك الإسلامي كله، وطريقته في إدارة المسؤولية تنعكس سلباً على كلِّ مواقع المسؤولية في العالم الإسلامي.

وعلى أساس ذلك، فقد اعتبر الإمام الحسين (ع) مشكلة يزيد مشكلةً تمسُّ الأُمة كلّها، لا فريقاً معيناً، لأنّه في موقع حاكم واسع الصلاحيات، في الوقت الّذي لا يملك فيه أية مؤهلاتٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ وروحيةٍ تسوّغ له أن يكون في هذا الموقع.

وعلى هذا الأساس، وجد الإمام الحسين (ع) أن عليه أن يطلق الصوت، ولو ليسمعه بعض الناس، فالأصوات كانت قد خفتت، وأصبح هناك أمر واقع، كلٌّ يقول للآخر: ماذا نفعل وقوة الدولة أقوى من قوة الأفراد! كأنّ عليهم الاستسلام للدولة. فهذا يخوّف صاحبه بانقطاع راتبه _ إذا ما قام بعمل ضد الحاكم _، وذاك يخوّل صاحبه بتهديم بيته. وبذلك استطاع الحاكم أن يستقطب الساحة كلّها من المؤيدين له، ومن المعارضين الساكتين، ومن الحياديين الذين يجلسون على التل... لهذا فالمسألة كانت بحاجة لصوت ينطلق، يحرّك ويدوّي، ليربك الساحة، وليخلق فيها ذهنيةً جديدةً، ليشجّع الذين لا يملكون أيّة إمكانياتٍ لحركة شجاعتهم، لأنهم لا يرون أحداً يتحدّث أو يتكلم أو يثير المسألة.

إن حركة الإمام الحسين (ع) لم تكن حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الواقع العسكري، ولكنها كانت حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الذهنية الإسلامية الّتي يريد أن يطلقها باتجاه قضايا الحرية والعدالة والمنهج الإسلامي القويم. لهذا نبَّههم إلى أنهم أمّة محمد (ص)، وأنّ هناك فساداً في الأنظمة، وأنّه (ع) انطلق ليُصلح، وأن عليهم أن يتبعوه...

وهكذا طرح مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أساس أنّه يمثل الرقابة الاجتماعية الّتي يتحوّل فيها كل مسلم إلى خفير، فكلّ مواطن في الإسلام هو حارسٌ للقيم وللنهج الشرعي في حياة الناس.

أجل، إن كل مسلم هو حارسٌ للقضايا الكبرى الّتي يمكن أن يتحرّك ضدّها هذا الفريق أو ذاك. وهذا ما يسمّى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الّذي دعا الله سبحانه وتعالى الناس إليه، ليهيّئوا من أنفسهم جماعةً قويةً بحجم الحاجة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر : (

وَلْتكُنْ مِنكُم أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بِالمعروفِ وينهونَ عن المنكر ) ، (آل عمران/104).

على أساس أن سلامة المجتمع هي في الدعوة إلى المعروف ومواجهة المنكر، الّذي يمكن أن يساهم في إسقاط حياة الناس فكرياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً.

وعندما طرح الإمام الحسين (ع) هذه المسألة، طرحها بفرض أن تفتح عقول الناس على هذه العناوين، وأن تفتح أرواح الناس على تحسّس مثل هذه الأمور. ولم يكن في أُسلوبه يتحرّك من موقع العنف، فقد خاطب الناس قائلاً: «

فَمن قَبِلَني بقَبولِ الحقِّ فاللَّهُ أولى بالحقّ » ، كأنّه يريد أن يقول للناس : فكروا في كلماتي وفي طروحاتي ومواقفي، ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخط الّذي أطرحه عليكم، وفي الواقع الّذي أُنبهكم إلى كلِّ ثغراته وسلبياته. ومن رد عليّ ولم يقبلني، فإنّما يكون رافضاً للحق الّذي جئتُ به، وانطلقت فيه صابراً حتّى يأتي الوقت الّذي ينفتح الناس فيه على الحق دون أن أتراجع أو أن أسقط أو أتعقد، ولكنني أُتابع قول كلمة الحق الآن وبعد الآن.

ولذا، فعندما جاءت الجيوش لتقتل الإمام الحسين ولتحاربه، كان يقف في كل يوم ليخطب فيهم ليسمعهم كلمة الحق حتى يُخرجهم من عصبياتهم، فيجعلهم يعيشون التوافق والانسجام بين الفكر والممارسة، لأنّه (ع) وجدهم كما وصفهم الفرزدق: قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فحاول أن يجعل سيوفهم في اتجاه ميل قلوبهم، وحاول أن يوفق بين حركتهم في الواقع، وبين حركتهم في العقل وفي الفكر، لأن هذه هي مشكلة أغلب الناس الذين يحبُّون الله، ولكنهم يحبون الشيطان معه. فعندما تنفتح مصالحهم على الخط الآخر، يحتفظون بمحبتهم كعاطفةٍ في قلوبهم، ويتحرّكون في خطواتهم لمحاربة الله ورسوله عملياً، على أساس أن مصالحهم تتجه في ذاك الاتجاه.

لقد كان الإمام الحسين (ع) يعمل على فتح القلوب، فيما كانت قيادات يزيد تعمل على إغلاقها، ولذلك رأينا شمر بن ذي الجوشن يقف أمام الحسين (ع) وقد فرغ الحسين (ع) من خطابه ليقول له: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمك(1)، بمعنى أننا لسنا مستعدين أن نسمع أو نفكر بما تقول، لأن مسألتنا محسومةٌ، فهي ليست مسألة قناعةٍ، ولكنها مسألة منفعةٍ. وليست القضية أن تكون مسيرتنا حقاً أو باطلاً، خيراً أو شراًً، بل القضية هي أن نقبض في مسيرتنا هذا المال أو ذاك، أو نحصل على هذا الموقع أو ذاك.

ولذلك، فلا بدَّ من دراسة قضايانا كلّها، لا على مستوى الحاضر، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وهو ما نستوحيه من كلمة الإمام الحسين (ع): «

 و َمَنْ ردّ عليّ هذا أصْبر » . فلنقل الكلمة وليرفضها العالم، فلا بد أن يأتي وقت يمكن للناس أن يواجهوا فيه قضاياهم من موقع متقدّم. لأن الحاضر إذا ضاق عن قضاياكم، فإن المستقبل يمكن أن يفتح لكم أكثر من ثغرة.

فلا بد إذاً من قول كلمة الحق دائماً مهما كانت الصعوبات، فالحق كالجنين تماماً، فكما أن الجنين لن يستطيع بلوغ تكامله ونموّه إلا في الشهر التاسع، كذلك الحق قد يحتاج إلى سنوات، وقد يحتاج لأجيال. المسألة، كل المسألة، هي أن نعمل على أساس أن لا يفقد الحق نموّه في فكرنا وروحنا ووحدتنا وقوّتنا، وفي كلِّ صرخات الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الحق.

وإذا ما أردنا عاشوراء إسلامية متحركة، فيجب الانطلاق على أساس أن تبقى عاشوراء لله ولرسول الله (ص) وللإسلام، وأن تبقى عاشوراء في كل الأجيال صرخة الحرية والعدالة، عندما ينطلق الذين يستعبدون الناس ليفرضوا عليهم العبودية، أو الذين يظلمون الناس ليفرضوا عليهم الظلم. فإنّ هذا هو طريق عاشوراء .

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)