• عدد المراجعات :
  • 3228
  • 10/24/2005
  • تاريخ :

استشهاد الامام علي عليه السلام

الامام علي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين على المصيبة و صلى الله على محمد و آله المظلومين.

قال الله تعالى : (من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ، و منهم من ينتظر ، و مابدلوا تبديلاً ).

نبدأ حديثنا حول شهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلقد سبق أن رسول الله (صلّى الله عليه و آله) أخبر علياً ، بأنه يفوز بالشهادة في سبيل الله ، ففي يوم أحد تأسف الإمام أمير المؤمنين على حرمانه الشهادة في ذلك اليوم فقال له النبي : ( إنها من ورائك ) .

و يوم الخندق لما ضربه عمرو بن عبدود على رأسه ، كانت الدماء تسيل على وجهه الشريف ، فقام رسول الله ( صلّى الله عليه و آله ) يشد جرحه ، و يقول له : ( أين أنا يوم ضربك أشقى الآخرين على رأسك ، و يخضب لحيتك من دم رأسك؟؟ ) .

و خطب رسول الله (صلّى الله عليه و آله) في آخر جمعة من شهر شعبان ، و ذكر ما يتعلق بشهر رمضان ، فقام علي (عليه السلام) و قال : ( ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ ، فقال : يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز و جل ، ثم بكى النبي فقال (عليه السلام) : ما يبكيك؟ ، فقال : يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر! ، كأني بك و أنت تصلي لربك ، و قد انبعث أشقى الأولين و الآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود ، فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك ، قال الإمام : و ذلك في سلامة من ديني ؟ ، فقال:  في سلامة من دينك... الخ ) .

و كان الإمام (عليه السلام) كثيراً ما يخبر الناس بشهادته ، و اختضاب لحيته الكريمة بدم رأسه ، و حينما أتاه عبد الرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي في وجه طويلاً ، ثم قال : ( أرأيتك إن سألتك عن شيء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه ؟ ) ، قال: نعم ، و حلفه عليه ، فقال: أكنت تواضع الغلمان ، و تقوم عليهم ، و كنت إذا جئت فرأوك من بعيد ، قالوا : قد جاءنا ابن راعية الكلاب ؟؟ ، فقال: الهم نعم . فقال له : مررت برجل ، و قد أيفعت ( صرت يافعاً ) ، فنظر إليك نظراً حاداً ، فقال : أشقى من عاقر ناقة ثمود ؟ ، قال : نعم ، قال : قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها ؟ ، فتعتع هنيئة ، ثم قال: نعم . فقال الإمام : قم فقام ، قال ( عليه السلام ) : سمعت رسول الله (صلّى الله عليه و آله) يقول : ( قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي ).

و قد تكرر منه (عليه السلام) أن رأى ابن ملجم فقال : ( أريد حياته و يريد قتلي ) ، و في تلك السنة الأخيرة من حياته و الشهر الأخير من حياته ، كان يخبر الناس بشهادته ، فيقول : ( ألا و إنكم حاجوا العام صفاً واحداً ، و آية ( علامة ) ذلك أني لست فيكم ) . فعلم الناس أنه ينعى نفسه ، و لم يكتفِ (عليه السلام) بذلك ، بل كان يدعو على نفسه ، و يسأل من الله تعالى تعجيل الوفاة ، و تارة كان يكشف عن رأسه ، و ينشر المصحف على رأسه ، و يرفع يديه للدعاء قائلاً : ( اللهم إني قد سئمتهم ، و سئموني ، و مللتهم ، و ملوني ، أما أن تخضب هذه من هذا ـ و يشير إلى هامته و لحيته ) .

و قبل الواقعة أخبر ( عليه السلام ) أبنته أم كلثوم ، بأنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) و هو يمسح الغبار عن وجهه ، و يقول: ( يا علي لاعليك ، قضيت ما عليك ).

و كان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً و ستين سنة ، و في شهر رمضان من تلك السنة ، كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن ، و ليلة عند ولده الحسين ، و ليلة عند ابنته زينب الكبرى ، زوجة عبد الله بن جعفر ، و ليلة عند أبنته زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم .

و في الليلة التاسعة عشر كان الإمام ( عليه السلام ) في دار ابنته أم كلثوم ، فقدمت له فطوره في طبق فيه ، قرصان من خبز الشعير ، و قصعة فيها لبن حامض ، فأمر الإمام ابنته أن ترفع اللبن ، و أفطر بالخبز و الملح ، و لم يشرب من اللبن شيئاً لأن في الملح كفاية ، و أكل قرصاً واحداً ، ثم حمد الله و أثنى عليه ، و قام إلى الصلاة ، و لم يزل راكعاً و ساجداً و مبتهلاً و متضرعاً إلى الله تعالى ، و كان يكثر الدخول و الخروج و ينظر إلى السماء ، و يقول : ( هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله ) .

ثم رقد هنيئة و انتبه مرعوباً ، و جعل يمسح وجهه بثوبه ، و نهض قائماً على قدميه و هو يقول : ( اللهم بارك لنا في لقائك ) . و يكثر من قول ( لاحول و لاقوة إلا بالله العلي العظيم ) ، ثم صلى حتى ذهب بعض الليل ، ثم جلس للتعقيب ، ثم نامت عيناه و هو جالس ، ثم انتبه من نومته مرعوباً ، و قالت أم كلثوم : ( قال لأولاده ، إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني ، و أريد أن أقصها عليكم ، قالوا : و ما هي ؟ ، قال : إني رأيت الساعة رسول الله (صلّى الله عليه و آله) في منامي ، و هو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها ، فيخضب شيبتك من دم رأسك ، و أنا و الله مشتاق إليك ، و إنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك و أبقى ) .

قال : ( فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء و النحيب و أبدوا العويل ، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا ، ثم أقبل عليهم يوصيهم ، و يأمرهم بالخير ، و ينهاهم عن الشر ، قالت أم كلثوم ، لم يزل أبي تلك الليلة قائماً و قاعداً و راكعاً و ساجداً ، ثم يخرج ساعة بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء ، و ينظر في الكواكب و هو يقول : و الله ما كذبت و لاكذبت ، و إنها الليلة التي وعدت بها ، ثم يعود إلى مصلاه ، و يقول : اللهم بارك لي في الموت ) .

و يكثر من قول : ( أنا لله وأنا إليه راجعون ) و ( لاحول و لاقوة إلا بالله العلي العظيم ) ، و يصلى على النبي (صلّى الله عليه و آله) ، و يستغفر الله كثيراً ، قالت أم كلثوم ، فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر و الاستغفار ، أرقت معه ليلتي ، و قلت : ( يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لاتذوق طعم الرقاد ؟ ، قال : يا بنية إن أباك قتل الأبطال و خاض الأهوال ، و ما دخل الخوف له جوفاً ، و ما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ، ثم قال: ( أنا لله و أنا إليه راجعون ).

فقلت يا أبا ما لك تنعى نفسك منذ الليلة ؟ ، قال : ( بنية قد قرب الأجل ، و انقطع الأمل ، قالت أم كلثوم : فبكيت فقال لي يا بنية لاتبكي ، فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلّى الله عليه و آله) ، ثم إنه نعس و طوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه ، و قال : يا بنية إذا قرب الأذان فأعلميني ) .

ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة و الدعاء و التضرع إلى الله سبحانه وت عالى ، قالت أم كلثوم : ( فجعلت أرقب الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته و معي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، و قام و لبس ثيابه و فتح بابه ، ثم نزل إلى الدار ، و كان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين ( عليه السلام ) ، فلما نزل خرجن وراءه و رفرفن ، و صحن في وجهه ) .

و كان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام) : ( لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوائح ، و في غداة غد يظهر القضاء ) .

فقلت : ( يا أبتاه هكذا تتطير ؟) ، فقال : ( بنية ما منا أهل البيت من يتطير ، و لايتطير به ) .

ولكن قول جرى على لساني ، ثم قال : ( يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، و قد حبست ما ليس له لسان ، و لايقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه و اسقيه و إلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض ) .

فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزره حتى سقط ، فأخذه و شده ، و هو يقول:

 

أشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكــــــا
ولا تجزع من المــوت
إذا حــل بناديكــــــا
كما أضحك الدهـــــــر
كذاك الدهر يبكـــيكا

ثم قال : ( اللهم بارك لنا في الموت ، اللهم بارك لنا في لقائك ) ، قالت أم كلثوم : ( و كنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت :  واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة) ، قال : ( يا بنية ما هو بنعاء ، ولكنها دلالات و علامات للموت ، يتبع بعضها بعضاً ، فامسكي عن الجواب ) ، ثم فتح الباب و خرج قالت أم كلثوم : فجئت إلى أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: ( يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، و هو قد خرج في هذا الليل الغلس فالحقه فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وت بعه فلحق به قبل أن يدخل الجامع فأمره الإمام بالرجوع فرجع ) .

و أما عدو الله ، عبد الرحمن بن ملجم ، فكان على رأي الخوارج ، و كانت بينه  وبين قطام حب و غرام ، و قطام قد قتل أبوها و أخوها و زوجها في النهروان ،  وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأمير المؤمنين ، و أراد ابن ملجم أن يتزوجها ، فاشترطت عليه أن يقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فاستعظم هذا الأمر ، و طلبت منه ثلاثة آلاف دينار و عبداً و قينة (جارية) ، و ينسب إليه هذه الأبيات:

 

فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقيـــنــــــة
وضرب علي بالحسام المصمم

 

و قيل إنه تعاهد هو و رجلين على قتل معاوية و عمرو بن العاص و اختار الثالث قتل معاوية ، فقصد البرك بن عبد الله التميمي مصر ليقتل ابن العاص ، و لم يخرج ابن العاص تلك الصبيحة فأرسل رجلاً يقال له ، خارجة بن تميم ، فلما وقف في المحراب صربه البرك ظناً منه أنه ابن العاص ، فمات خارجة من تلك الضربة.

و أما الآخر و يقال له ، العنبري فإنه قصد الشام ، يقصد قتل معاوية ، و تعرف بمعاوية ، و جعل يدخل عليه ، و يلاطف له في الكلام ، و ينشده الأشعار ، حتى صارت صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان ، و جاء معاوية للصلاة ، و ثار إليه العنبري و رفع السيف ليضرب عنقه ، فأخطأ الضربة فوقع السيف على إلية معاوية ، و لم يقتل من ضربته بل جرح جرحاً برء بالمعالجة.

و أما عبد الرحمن بن ملجم ، فقد جاء تلك الليلة و بات في المسجد ينتظر طلوع الفجر ، و مجيء الإمام للصلاة ، وهو يفكر حول الجريمة العظمى التي قصد ارتكابها و معه رجلان ، شبيب بن بحرة  و وردان بن مجالد ، يساعدانه على قتل الإمام.

 وسار الإمام إلى المسجد فصلى في المسجد ، ثم صعد المأذنة و وضع سبابته في أذنيه و تنحنح ، ثم أذن ، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ، ثم نزل عن المأذنة و هو يسبح الله و يقدسه و يكبره، و يكثر من الصلاة على النبي (صلّى الله عليه و آله) ، و كان يتفقد النائمين في المسجد وي قول للنائم : (الصلاة ، يرحمك الله ، قم إلى الصلاة المكتوبة ثم يتلو إن الصلاة تنهي عن الفحشاء و المنكر ).

لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم ، و هو نائم على وجهه و قد أخفى سيفه تحت إزاره ، فقال له الإمام : ( يا هذا قم من نومك هذا فإنها نومة يمقتها الله ، و هي نومة الشيطان ، و نومة أهل النار بل نم على يمينك ، فإنها نومة العلماء ، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء ، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء ) .

نعم ، الشمس تشرق على البر و الفاجر و الكلب و الخنزير وك ل رجس و قذر ، و الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيض من علومه على الأخيار و الأشرار ، و ينصح السعداء و الأشقياء ، و لايبخل عن الخير حتى لأشقى الأشقياء ، و يرشد كل أحد حتى قاتله!! ، ثم قال له الإمام : ( لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وت نشق الأرض و تخر الجبال هداً ، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ) ، ثم تركه ، و اتجه إلى المحراب ، و قام قائماً يصلي، و كان (عليه السلام) يطيل الركوع و السجود في صلاته ، فقام المجرم الشقي لإنجاز أكبر جريمة في تاريخ الكون !! و أقبل مسرعاً ، يمشي حتى وقف بازاء الاسطوانة التي كان الإمام يصلي عليها ، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى و سجد السجدة الأولى و رفع رأسه منها ، فتقدم اللعين و أخذ السيف و هزه ، ثم ضربه على رأسه الشريف ، فوقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمر بن عبدود العامري .

فوقع الإمام على وجهه قائلاً : ( بسم الله و على ملة رسول الله ) ، ثم صاح الإمام : ( قتلني ابن ملجم ، قتلني ابن اليهودية ، أيها الناس لايفوتكم ابن ملجم ) .

أخبر الإمام عن قاتله كيلا يشتبه الناس بغيره فيقتلون البريء ، كما قتل في حادثة قتل عمر بن الخطاب جماعة من الأبرياء المساكين الذين هجم عليهم عبيد الله بن عمر وقتلهم . حتى في تلك اللحظة ، يحافظ الإمام على النظام و على حياة الناس ، نبع الدم العبيط من هامة الإمام و سال على وجهه المنير ، و خضب لحيته الكريمة و صدق كلام الرسول و وقع ما أخبر به ، لم يفقد الإمام وعيه و ما انهارت أعصابه بالرغم من وصول الضربة إلى جبهته و بين حاجبيه ، فجعل يشد الضربة بمئزره و يضع عليها التراب ، و لم يمهله الدم فقد سال على صدره و أزياقه ، و عوضاً من التأوه و التألم وا لتوجع كان يقول ( صلوات الله عليه ) :  ( فزت و رب الكعبة! ، هذا ما وعد الله و رسوله! ، و صدق الله و رسوله! ) ، استولت الدهشة و الذهول على الناس ، و خاصة على المصلين في المسجد ، و في تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي.

لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء ، ولكنه هتف ذلك الهتاف لما وصل السيف إلى هامة الإمام و هو بعد حي ، هتف بشهادته كما هتف يوم أحد بفتوته و شهامته يوم قال: ( لافتى إلا علي و لاسيف إلا ذو الفقار ) .

فاصطفت أبواب الجامع و ضجت الملائكة في السماء بالدعاء و هبت ريح عاصف سوداء مظلمة و نادى جبرائيل بين السماء و الأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : ( تهدمت و الله أركان الهدى و انطمست و الله نجوم السماء و أعلام التقى و انفصمت و الله العروة الوثقى قتل ابن عم محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى ، قتل و الله سيد الأوصياء ، قتله أشقى الأشقياء ) .

فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل لطمت على وجهها ، و خدها و شقت جيبها و صاحت : ( وا أبتاه وا علياه وا محمداه وا سيداه ) .

و خرج الحسن و الحسين فإذا الناس ينوحون و ينادون: ( وا إماماه وا أمير المؤمنيناه ، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم قط ، و كان أشبه الناس برسول الله ) .

فلما سمع الحسن و الحسين (عليهما السلام) صرخات الناس ناديا : ( وا أبتاه وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة ، فلما وصلا إلى الجامع و دخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة و معه جماعة من الناس و هم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس ) .

فلم يطق على النهوض ، وت أخر عن الصف وت قدم الحسن (عليه السلام) فصلى بالناس ، و أمير المؤمنين (عليه السلام) صلى إيماء من جلوس و هو يمسح الدم عن وجهه و كريمته يميل تارة و يسكن أخرى و الحسن (عليه السلام) ينادي : ( وا انقطاع ظهراه! يعز ـ و الله ـ علي أن أراك هكذا ـ ففتح الإمام (عليه السلام) عينه ).

و قال : ( يا بني لاجزع على أبيك بعد اليوم ! ، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى و أمك فاطمة الزهراء و الحور العين محدقون فينتظرون قدوم أبيك ، فطب نفساً وقر عيناً و كف عن البكاء ، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء .

ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة و انحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرون إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن (عليه السلام) و رأس أبيه في حجره ، و قد غسل الدم عنه ، و شد الضربة و هي بعدها تشخب دماً و وجهه قد زاد بياضاً بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه ، و لسانه يسبح الله و يوحده ، و هو يقول أسألك يا رب الرفيع الأعلى.

فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه فعندها بكى بكاء شديداً وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده فسقط من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكياً.

فقال له الإمام (عليه السلام): يا بني يا حسن ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم! يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا؟ وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما؟ فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك؟ ومن فعل بك هذا؟ قال (عليه السلام): قتلني ابن اليهودية: عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقال: يا أباه من أي طريق مضى؟ قا لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب.

وأشار بيده الشريفة إلى باب كنده.

ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه ثم أغمي عليه ساعة والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كنده، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب ويرتقبون قدوم الملعون وقد غص المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزون فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، من الناس وقد جاءوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً هذا يلعنه وهذا يضربه.

فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه فأقبلوا باللعين مكتوفاً وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد (صلّى الله عليه وآله) وقتلت خير الناس.

وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه إلى المسجد.

وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق وقد وقعت في وحهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وعلى صدره، وهو ينظر يميناً وشمالاً وعيناه قد طارتا في أم رأسه وهو أسمر اللون وكان على رأسه شعر أسود منشوراً على وجهه كأنه الشيطان الرجيم.

فلما جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام): قال له: يا ويلك يا لعين! يا عدو الله! أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك؟ وهل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي؟؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه.

فقال له الملعون: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذاك ضج الناس بالبكاء والنحيب.

فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلى الذي جاء به حذيفة فقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائماً في داري إذ سمعت زوجتي الزعقة، وناعياً ينعي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى قتل ابن عم محمد المصطفى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء.

فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب.

فانتبهت من كلامها فزعاً مرعوباً وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك! لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا أن أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالى قبله تبعه ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع وعلمت ما لم تعلم، فقلت لها: وما سمعت فأخبرتي بالصوت.

ثم قالت: ما أظن أن بيتاً في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.

قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعاً، وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يميناً وشمالاً فإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وإذا قد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ لا أم لك! في وسط هذا الدرب؟ فتسمى بغير اسمه، وانتمى إلى غير كنيته فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من منزلي قلت: وإلى أين تريد لأن تمضي في هذا الوقت؟ قال إلى الحيرة، فقلت: ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الغدة وتمضي في حاجتك؟ فقال: أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.

فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلاً يقول قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فهل عندك من ذلك خبر؟ قال: لا علم لي بذلك.

فقلت له: ولم لا تمضي معي حتى تحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟ فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.

فلما قال لي مثل ذلك القول قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من الجسس لأمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ وإذا والله يا لكع ما لك عند الله من خلاق.

وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة.

فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول: لا.

فأنطق الله لسانه بالحق فقال: نعم، فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقعته ووقع لجينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.

فقال الحسن (عليه السلام): الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه ثم انكب الحسن (عليه السلام) على أبيه يقبله وقال: يا أباه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه.

ففتح عينيه (عليه السلام) وهو يقول: أرفقوا بي يا ملائكة ربي.

فقال له الحسن (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك.

ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه.

فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت عظيماً، وارتكبت أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال يا أمير المؤمنين: أفأنت تنقذ من في النار.

قال له: صدقت ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرك.

و ارحمه و أحسن إليه و اشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟؟ ، فقال له الحسن (عليه السلام) : ( يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر و أفجعنا فيك و أنت تأمرنا بالرفق به ؟ ، فقال : نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً و عفواً ! و الرحمة و الشفقة من شيمتنا! ، بحقي عليك فاطعمه يا بني مما تأكله! ، و اسقه مما تشرب! ، و لا تقيد له قدماً ، و لا تغل له يداً ! ، فإن أنتا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور ، و إن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه و أنا أعلم بما أفعل به.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)