• عدد المراجعات :
  • 2196
  • 3/15/2004
  • تاريخ :

الاغتراب وااكتشاف الهوية الدينية

 هناك دور يلعبه الاغتراب على مستوى مساعدة المغترب على اكتشافه لطبيعة المفاهيم التي يحملها، ومجموعة القناعات التي يتمسك بها، والتي يرى أنها تنتسب إلى الدين، وهو لذلك يكون حريصاً عليها باعتبار كونها تمثل جوهر الدين.


التمييز بين المفاهيم الدينية والتقاليد الاجتماعية

إن الإشكالية في هذا الموضوع هو أن العديدين لا يفرقون بين تلك الأمور التي ترتبط بعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الخاصة وتلك الأمور التي ترتبط بجوهر الدين وحقيقته، بحيث تختلط عليهم الأمور، فيعتبرون جملة من العادات والتقاليد جزءاً من الدين ويسبغون عليها حالة من القداسة ويعتبرون الخروج عليها فسقاً عن الدين، بل ربما يعطونها من الأهمية ما لا يعطونه للعديد من المسائل الدينية الأخرى.

إن أهمية الاغتراب هنا أنَّه يجعل المغترب يطل على مجتمعات أخرى تختلف في عاداتها وتقاليدها وفي الأعراف السائدة لديها، وهذا ما سوف يدفعه إلى العديد من المقارنات بين ما هو عليه وبين ما لدى المجتمعات الأخرى من عادات وتقاليد، ليكتشف من خلال ذلك بعضاً من نقاط القوة والضعف، وهذا ما يدفعه إلى جعل ما يحمله من قناعات ومفاهيم وما يتبعه من عادات وأنماط سلوكية على طاولة التشريح وفي معرض التساؤل وفي منظار النقد.

وسوف يقود هذا الأمر إلى مساعي للتمييز بين ما ينتمي إلى جوهر الدين وحقيقته من تلك القناعات التي يحملها والعادات التي يتبعها، وما لا ينتمي إلى الدين وجوهره من قناعات ورثها أو عادات وتقاليد أخذها من مجتمعه ومن الأنماط السائدة فيه والعادات المتبعة لديه.


ازدياد قناعة المغترب بهويته الدينية

إن المقصود باكتشاف الذات هو اكتشاف الهوية الدينية الثابتة وتمييزها عن الأمور الآنية والظرفية التي تتغير بتغير الظروف الاجتماعية، وإن هذا التمييز وإن كان سهلاً بالنسبة إلى أهل الاختصاص بالمعرفة الدينية، لكنه لن يكون ميسراً بالنسبة إلى عموم فئات المجتمع المتدين، ومن هنا يأتي ذلك التأثير الإيجابي للاغتراب كعامل مساعد لأولئك المتدينين على التمييز بين تلك الحقائق الثابتة والحقائق المتغيرة بتغير الظروف الاجتماعية.

صحيح أن عملية التمييز تلك لن تكون في منتهى السهولة بالنسبة إلى أولئك الأشخاص الذين يستوطنون في مجتمع الاغتراب باعتبار أن تلك العملية تحتاج إلى مستوى ثقافي ومعرفي مقبول، لكنه لا شك أن ذلك التبدل السريع والمفاجئ للظروف الاجتماعية ولمنظومة العادات والتقاليد سوف يشجع كثيراً على المبادرة إلى عملية التمييز تلك.

إن الأهمية التي تتميز بها بعض مجتمعات الاغتراب أنها تضم العديد من الجاليات الإسلامية من مختلف البلدان والقارات التي تختلف بعاداتها وتقاليدها، حيث أن تلك الجاليات وعندما تتفاعل مع بعضها فإنها ترى أن الإسلام الذي تمارسه هذه الجالية أو تلك في بعض العادات والتقاليد يختلف عن الإسلام الذي تمارسه هي نفسها في عاداتها وتقاليدها، وهذا قد يعني للوهلة الأولى أنها إما هي منحرفة في إسلامها أو أن الجالية الأخرى هي المنحرفة في إسلامها، لكن سرعان ما يظهر للباحث والمتأمل أنه لا هذه الجالية تعاني من الانحراف في إسلامها ولا تلك، بل إن ذلك الاختلاف لا يعود إلى اختلاف في الدين أو الفهم الديني، بل يعود إلى اختلاف في تلك المساحة المتغيرة التي لا تنتمي إلى جوهر الدين، وإن كان لا بد لها أن تنسجم مع الثوابت والأسس الدينية، لكن انسجام هذه العادات والتقاليد أو تلك مع الأسس والثوابت الدينية لا يعني أن غيرها من العادات والتقاليد والأعراف لا ينسجم، لأن دائرة الدين يمكن أن تتسع لعدد أكبر من الأعراف والتقاليد والعادات، بمعنى أنها تكون كلها منسجمة مع الثوابت الدينية، وهذا لا يجعل من تلك العادات والتقاليد عادات وتقاليد دينية، بمعنى أنها لا تصبح من جوهر الدين ولا يؤدي ذلك إلى التنافي في الدين.

أي إن ما تكتشفه تلك الجاليات  أو تتوفر الظروف لاكتشافه  هو أن جملة من الأمور التي تمارسها هي أمور لا تنتمي إلى جوهر الدين.

لكن قضية اكتشاف الذات والهوية الدينية لتلك الذات لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى قضية ربما تكون أهم في العديد من جوانبها، وهي أن العديد من المسلمين وقبل ذهابهم إلى مجتمع الاغتراب كانوا يمارسون جملة من العادات والتشريعات الدينية التي تنتمي إلى جوهر الدين، لكنهم لم يكونوا يعرفون أهميتها وأهمية النتائج التي تؤدي إليها على المستوى الاجتماعي وغير الاجتماعي، ولم يكن لديهم إدراك لأهمية تلك التشريعات والعادات والتقاليد.

لكن ذهابهم إلى مجتمع الاغتراب  حيث توجد مجموعة مختلفة من التشريعات والقوانين والممارسات والعادات والتقاليد  سوف يدفعهم إلى معاينة ذلك المجتمع في كل ما هو عليه على المستوى الاجتماعي والسلوكي أو في بقية الميادين القانونية والتربوية والسياسية... وبالتالي سوف يلاحظون ما لتلك العادات والتشريعات والممارسات في مجتمع الاغتراب من نتائج وآثار سلبية في العديد من تلك المفردات والقضايا، وقد يلاحظون في المقابل جملة من الآثار والنتائج الإيجابية لعادات أو ممارسات مختلفة عما هو لديهم.

وبالاجمال سوف يبادر المغترب إلى جملة من المقارنات بين ما لدى مجتمع الاغتراب من تشريعات وممارسات وبين ما هو عليه من تشريعات وممارسات من منطلق هويته الدينية، وهنا سوف يدرك أهمية تلك التشريعات الدينية وآثارها الإيجابية على أكثر من مستوى.

إن هذه المقارنة وتلك المعاينة سوف تزيده قناعة بهويته الدينية، وسوف يزداد تمسكاً بثوابت دينه والمفاهيم والأفكار الدينية التي كان يحملها ويعتقد بها.


المثال الأكبر: الرؤية الإسلامية لمفهوم الأسرة

لو أخذنا على سبيل المثال الأسرة وما تنعم به في مجتمعاتنا من عناية سواءً على مستوى التشريع أو القيم الدينية والمفاهيم الأخلاقية والعادات والتقاليد لوجدنا مكانة خاصة للأسرة وللعلاقات الأسرية بين جميع أفراد الأسرة، ولاحظنا توثيقاً خاصاً للروابط الأسرية واهتماماً بجعل الأسرة محيطاً يتميز بتوفير مستوى من التكافل المادي والمعنوي بين جميع أفراده، سواءً على مستوى الإرث أو وجوب النفقة من الأهل على الأولاد أو من الأولاد على الأهل، أو على مستوى صلة الرحم وبر الوالدين أو احترام الأخ الأكبر أو «الأقربون أولى بالمعروف...» وغيرها.

إن ذهاب العديدين إلى مجتمع الاغتراب  حيث تفتقد الأسرة لتلك العناية والاهتمام من قبل التشريعات ومنظومة القيم والعادات والتقاليد المعمول بها هناك وحيث تفتقد الروابط بين أفراد الأسرة نكهتها المعنوية والأخلاقية، وحيث العلاقة في محيط الأقارب علاقة هشة وضعيفة  سوف يدفعهم للوقوف على أهمية التشريعات والقيم والمفاهيم الموجودة لديهم، وسوف يدركون عندها عظمة الهوية الدينية التي انتجت تلك التشريعات والقيم، وهو ما يقود إلى تمسكهم بالإسلام تمسكاً واعياً وأكثر بعداً عن التقليد.

وإن كان البعض ممن يعاني من عقدة نقص على المستوى النفسي أو المعرفي قد يسعى لتعويض ذلك النقص من خلال التماهي مع سلوكيات المجتمع الغربي، بل قد يصل إلى الذوبان فيه وفي مفاهيمه وقيمه، وما ذلك لأنه لا يستطيع إدراك الحقيقة ومعرفة الذات الدينية، بل لأنه يريد أن يعالج نقصاً لديه بطريقة خاطئة تفتقد إلى الرؤية النافذة والعميقة بالدين وقيمه والواقع وما ينطوي عليه.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)