إباء الإمام الحسين ( عليه السلام ) عن الضيم
و الصفة البارزة من نزعات الإمام الحسين ( عليه السلام ) هي الإباء عن الضيم ، حتى لُقّب ( عليه السلام ) بـ (أَبيّ الضيم ) . و هي من أعظم ألقابه ( عليه السلام ) ذيوعاً و انتشاراً بين الناس ، فقد كان المَثَل الأعلى لهذه الظاهرة . فهو الذي رفع شِعار الكرامة الإنسانية ، و رسم طريق الشرَف و العِزّة ، فلم يخنع ، ولم يخضع لقرود بني أمية ، فآثر ( عليه السلام ) الموت تحت ظِلال الأَسِنّة . فيقول الشاعر عبد العزيز بن نباتة السعدي :
وَالحُسَين الذي رَأى المَوتَ فِي العِـزّ |
حَياةٌ وَالعَيش فِي الذّلِّ قَتلاً |
فقد علّم أبو الأحرار ( عليه السلام ) الناسَ نُبل الإباء و نبل التضحية ، و يقول فيه مصعب ابن الزبير : ( و اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة ) . وقد كانت كلماته ( عليه السلام ) يوم الطف من أروع ما أُثِرَ من الكلام العربي ، في تصوير العِزة ، و المنعة ، و الاعتداد بالنفس ، فكان يقول ( عليه السلام ) :
( أَلا وَ إِنَّ الدَّعي ابنَ الدَّعي قَد رَكزَ بَينَ اثنَتَينِ ، بَين السِّلَّةِ و الذِّلَّة ، و هَيهَات مِنَّا الذِّلَّة ، يأبى الله ذلك و رسوله و المؤمنون ، و حِجُور طَابَتْ وَ طَهُرتْ ، و أُنُوفٌ حَميّة ، و نُفوسٌ أَبِيَّة ، مِن أنْ نُؤثِر طَاعةَ اللِّئامِ عَلى مَصَارِعِ الكِرَام ) .
و وقف ( عليه السلام ) يوم الطف كالجبل الصامد ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة من جيوش الردّة الأموية . و قد ألقى عليهم و على الأجيال أروع الدروس عن الكرامة و عِزَّة النفس و شَرَف الإباء قائلاً ( عليه السلام ) : (
وَ الله لا أُعطِيكُم بِيَدي إِعطاء الذَّليل ، وَ لا أفرّ فِرارَ العَبيد ... ) .
و ألقت هذه الكلمات المشرقة الأضواء على مدى ما يحمله الإمام العظيم من الكرامة التي التي لا حَدَّ لأبعادها ، و التي هي من أروع ما حفل به تاريخ الإسلام من صُوَر البطولات الخالدة في جميع الأحقاب . وقد تسابق شعراء
أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى تصوير هذه الظاهرة الكريمة ، فكان ما نَظَموه في ذلك من أَثمَن ما دَوَّنَته مصادر الأدب العربي . و قد عنى شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) السيد حيدر الحلي إلى تصوير ذلك في كثير من روائعه الخالدة ، التي رثى بها جَدَّه الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، فيقول :
طَمعت أن تسومه القوم ضَيماً |
وَأبى اللهُ وَالحُسَام الصَّنِيعُ |
كيف يَلوي عَلى الدَّنيَّة جِيداً |
لِسِوَى الله مَا لَوَاه الخُضوعُ |
وَلَديه جأش أرد من الدِّرع |
لِظَمأى القَنا وَهُنَّ شُروعُ |
وَبِه يرجع الحفاظ لِصَدرٍ |
ضَاقت الأرضُ وَهي فِيهِ تَضِيعُ |
فَأبى أن يَعيشَ إِلا عَزيزاً |
أَو تَجَلَّى الكِفَاح وَهو صَريعُ |
و لم تُصَوَّر منعة النفس و إباؤها بمثل هذا التصوير الرائع ، فقد عرض السيد حيدر إلى ما صَمَّمَت عليه الدولة الأموية من إرغام الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الذل و الهَوان ، و إخضاعه لِجَورِهم واستِبدَادهم . ولكن يأبى الله له ( عليه السلام ) ذلك ، و تأبى له نفسه العظيمة التي ورثت عِز النبوة أن يُقر على الضيم . فإنه ( عليه السلام ) لم يَلوِ جِيدَهُ خاضعاً لأي أحد إلا لله عزَّ و جلَّ ، فكيف يخضع لأقزام بني أمية ، و كيف يَلوِيه سُلطانهم عن عَزمِه الجَبّار الذي هو أَرَدّ من الدرع للقنا الظامئة . و يقول السيد حيدر في رائعة أخرى يصف بها إباء الإمام ( عليه السلام ) و سُموّ ذاته ، و لعلها من أجمل ما رَثَى به الإمام ( عليه السلام ) حيث يقول :
وسامَتهُ يَركَبُ إِحدَى اثْنَتَينِ |
وَقد صَرَّتِ الحَربُ أسنَانَها |
فإما يُرَى مُذعِناً أو تموت |
نَفسٌ أبَى العِزّ إِذعَانَها |
فَقال لَهَا : اعتصِمي بِالإِبَاء |
فَنَفْسُ الأبِيّ وما زَانَها |
إِذا لم تَجِد غَير لِبسِ الهَوَانِ |
فَبِالمَوتِ تَنزَعُ جُثمَانَها |
رَأى القَتلَ صَبراً شِعارَ الكِرَام |
وَفخراً يَزينُ لَها شَانَهَا |
فَشَمَّرَ لِلحَربِ فَي مَعرَكٍ |
بِه عركَ المَوتُ فُرسَـانَها |
فهذا هو إباء الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، و هذه هي عزَّة نفسه .
تجلي عاشوراء في ضمائر الأحرار
الثورة الحسينية المقدسة مبدأ وسلوك