• عدد المراجعات :
  • 1643
  • 8/27/2012
  • تاريخ :

الديمقراطية في نهج البلاغة -2

نهج البلاغة

الديمقراطية في نهج البلاغة -١

وأمر الوالي أن لا يرغب عن رعيته ، وتفضيلاً بالإمارة عليهم ، فإنّهم الأخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق ، ثمّ قال له : ( وإنا موفوك حقّك فوفق حقوقهم ، وإلاّ فإنّك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة ، بۆساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين ) .

ودعاه إلى أن يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء ، وهذا القيد يظهر بعد نظره وفهمه لحقيقة المساواة الممكنة ، ودعا ( عليه السلام ) إلى تشجيع المحسن وعقاب المسيء قائلاً : ( ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ) .

ولفت نظر جباة الضرائب إلى الرفق بالآهلين ، وعدم بيع شيء ضروري ـ وهذا ما فعلته القوانين الحديثة إذ منعت الحجز على الملابس ومرتبات الموظفين ، وبالغ في الرفق الحكيم فقال : ( فإن شكوا ثقلاً أو علّة وانقطاع شرب أو إحالة أرض اعتمرها غرق أو أجحف بها عاطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المۆونة عنهم ، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم ) .

وهذا بعد نظر حكيم وسياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله : ( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ) .

وإذا تذكّرنا ما جرّ التعسف في جبي الضرائب في فرنسا وولايات تركيا وغيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التي يۆيّدها المنطق ويسندها التاريخ ، وقد أدّى بعد نظر الإمام ( عليه السلام ) به إلى أن يدعو إلى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه إلاّ حديثاً ، فقد قال ناصحاً : ( واجعل لكل إنسان من خدمك عملاً تأخذه به فإنّه أحرى ألاّ يتواكلوا في خدمتك ) .

وقال في رسالة إلى الأشتر النخعي أيضاً : ( واعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض ، ولا غنى ببعضها إلاّ من بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامّة والخاصّة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمّال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس ، ومنها التجّار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكلاً قد سمّى الله سهمه ) ، ثمّ فصّل بعد ذلك وظيفة كل فرقة .

وتمشياً مع قاعدته في تقسيم العمل واختصاص كل بما يحسنه ، ردّ على من قال له : إنّك تأمرنا بالسير إلى القتال فلم لا تسير معنا ؟ أنّه لا يجوز أن يترك مهمّاته من قضاء وإدارة وجباية ضرائب و ... ( لأنّ الأمير كالنظام من الخرز يجمعه ) .

إنّ هذا الإمام ( عليه السلام ) ما كان ليغفل الدعوة إلى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فها هو إذ يقول :( إنّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها أوّلها ) .

ويقول في مكان آخر : ( استدل على ما لم يكن بما كان ) ، ثمّ يقول أيضاً : ( العقل حفظ التجارب ) ، ولست أحمل هذا القول الأخير أكثر ممّا يحتمل إذا قلت أنّه الرأي الفلسفي المعارض للرأي القائل بأنّ العقل يتفاوت عند الأشخاص بطبيعته ، والذاهب إلى العكس إلى أنّ العقل ليس إلاّ عمل التجارب والتهذيب والدافع لحجّة الرأي الأوّل القائلة بأنا لو ربينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات ، بأنّهم إنّما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف .

وتكلّم الإمام ( عليه السلام ) في رسالته إلى الأشتر عن القضاة كلاماً ، قال عنه الأستاذ العشماوي ـ أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة ـ : إنّ كلاماً غيره في أي دستور من دساتير العالم لم يفصل مهمّة القضاة وطرق اختيارهم مثل ما فعل .

قال الإمام : ( ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلل ، ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرّف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بإدغامهم دون أقصاه ، أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، من لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل ، ثمّ أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علّته وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك ) .

وهذا دستور حكيم ، بل هو أحكم ما نعرفه ، وحسبه أنّه انتبه إلى وجوب إجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء ، وأنّه شدّد في إعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة ، وليعمل القضاء في جو هادئ .

وفي غير هذه الرسالة ذم من يتصدّى للحكم وليس أهلاً له قائلاً : ( جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به ، جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات ، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث إلى الله )

.وفي موضع آخر يقول :( لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ) .

ومعنى هذا أنّ على الخواص مهمّة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته ولو لم يقع عليهم .

والآن وقد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف ، وإذا كان أمير المۆمنين علي ( عليه السلام ) قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم اغتراراً وهو بعيد عن حياة الغرور ، إن نحن انحنينا أمام عبقريته ، لقد حبانا نهج البلاغة فأحسن ما حبانا ، فلنطبق عليه قوله :( قيمة كل امرئ ما يحسنه ) .


عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة

الفصاحة والجمال في نهج البلاغة

بلاغة الإمام علي عليه السلام

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)