• عدد المراجعات :
  • 1401
  • 6/14/2012
  • تاريخ :

تجربة الهزيمة ومرارة النكسة، معايير وقيم في الأخلاق والتشريع

اعزام

قد يواجه المسلمون هزيمةً في معركةٍ ما، نتيجة تخاذلهم أو تخاذل بعضهم أو قصورهم أو تقصيرهم أو تشتّتهم أو تفوّق العدو عليهم ماديّاً أو معنوياً أو .. وهنا يمكن الحديث عن سلسلة إجراءات يفترض بهم ـ شرعياً أو أخلاقيّاً ـ اتخاذها، وأكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:

1 ـ يفترض بالمسلمين أن يسلّي بعضهم بعضاً بمصائبه؛ كما لو قتل له قريب أو عزيز، أو خسر مالاً في الحرب أو .. فإنّه إذا كانت تعزية أهل الميّت مستحبّةً ـ كما ثبت في الفقه الإسلامي ـ فتعزية المسلمين لبعضهم إثر هزيمةٍ في الحرب ـ مع عظيم الفاجعة والمصيبة ـ يكون مستحباً أيضاً، ومشمولاً للأدلّة الدالة على استحباب مواساة المسلمين بعضهم في مصائبهم، بل هذا ثابت بطريق أولى؛ لما لهذه الحالة من طابع اجتماعي عام يمسّ المسلمين بكيانهم الجمعي؛ من هنا يفترض بهم مساعدة بعضهم بعضاً على التماسك وتوطيد عرى الألفة فيما بينهم، ووقوفهم إلى جانب بعضهم في المحن والمصائب، لا أن يتشفى بعضهم من بعض في مثل هذه الظروف الحرجة، نتيجة منطق شخصي أو عشائري أو قَبَلي أو حزبي أو طائفي أو قومي أو .. فإذا هزمت دولة إسلامية يفترض بالآخرين الوقوف إلى جانبها في لحظات المحن، لا التشفي منها لأجل خلافات مذهبية أو غيرها؛ إذاً، فالمطلوب تحقيق المواساة الفردية والاجتماعية، والأدلّة العامة والمقاصد العليا تساعد على ذلك.

2 ـ العمل على التحلّي بروح الصبر والاسترجاع والعودة إلى الله تعالى، وكثرة التوبة والاستغفار؛ فإنّ الأدلّة الحاثة ـ من الكتاب والسنّة ـ على الصبر والاسترجاع في المصائب تقوى هنا وتشتدّ بطريق أولى؛ حيث تعود المصيبة على عموم المسلمين؛ أمّا كثرة التوبة والاستغفار فهي أمر واضح في حالة تقصير المسلمين أنفسهم في الحرب؛ لأنّ التقصير ذنب يحاسبون عليه أمام الله تعالى؛ لتخلّيهم عن وظائفهم الشرعية الموكلة إليهم؛ فيجب عليهم التوبة إلى الله عما فعلوه، كما وجب على بعض مسلمي أحُد ذلك.

ولا يختلف حال هذا التقصير بين أن يكون تقصيراً حصل أثناء الحرب، كتخلّي جماعة عن نصرة المجاهدين مع قدرتهم على ذلك، أو يكون التقصير في الإعداد القريب لها أو البعيد، وعليهم ـ أو على المسؤول منهم ـ أن يتوبوا إلى الله عما فعلوه؛ ولما كانت التوبة عبارةً عن الندم على فعلٍ ما والعزم على تركه، لزم على المسلمين أن يعزموا ويتعاهدوا على ترك المسبّبات التي أدّت بهم إلى الهزيمة، ويعقدوا إرادتهم الجادّة على ذلك؛ فإذا عرفوا أنّ تخلّفهم العلمي وتقصيرهم في الاهتمام بالشأن التكنولوجي أو المعلوماتي هو سبب هزيمتهم فعليهم الندم على ما فعلوه، والعزم على الشروع ببرامج وخطط ترفع من مستواهم العلمي والتكنولوجي ما استطاعوا، وإذا علموا أنّ سبب هزيمتهم هو تمزّقهم شيَعاً وتناحرهم مذهبيّاً أو قومياً أو حزبيّاً، فعليهم أن يشدّوا ويشمّروا عن سواعدهم لوضع خطط لتخطّي هذا التمزّق؛ فليست التوبة بكاءً وحسرة تنفّس الاحتقان فحسب، بل عزيمة وإرادة لما يستقبلون من أمرهم، كما أقرّ بذلك الفقهاء المسلمون في تعريفهم للتوبة، سواء عندما تعرّضوا لها في مباحث الاجتهاد والتقليد أم عند حديثهم عنها في مباحث شروط إمام صلاة الجماعة، إضافة إلى أنّ ذلك هو الذي اتجهت إليه التفسيرات الأخلاقية الإسلامية للتوبة، كما يلاحظ بمراجعة التراث الأخلاقي الإسلامي؛ ذلك كلّه مع الأخذ بعين الاعتبار أنّنا نتكلّم عن توبة أمّة ومجتمع لا عن توبة فرد أو أفراد محدودين؛ فهي توبة مجتمعية وليست فقط توبة شخصيّة.

دوكوهه‌ي بين كربلا و ظهور

3 ـ إعادة دراسة أسباب النكسة والهزيمة والتعرّف عليها، وهذه نقطة مهمّة من الناحية الشرعية والفقهية هنا، فنحن هنا لا نتحدّث عن أفراد وإنّما عن أمّة، وعندما نقول بوجوب التعرّف على أسباب الهزيمة ورصدها؛ فإنّما ذلك من باب المقدّمة للأخذ بأسباب النصر والعزّة في المرحلة القادمة، كي يحرّر المسلمون أراضيهم أو أسراهم أو مكانتهم أو إنسانهم أو.. وهذا يعني أنّه يفترض بالأمة أن تعرف عناصر هزيمتها؛ لأنّ هذا من شأن الأمة وعمومها، فيجب عليها التعاون للكشف عن هذه العناصر، سيما عندما تكون هذه العناصر مما تشترك فيه الأمة كلّها، مثل التخلّف العلمي أو الثقافي أو الفتن الطائفية أو القومية أو القطرية أو الحزبية أو .. فهنا لا يمكن الدخول في مرحلة إعداد المقدّمة ـ وهي التعرّف على عناصر الهزيمة ـ إلا بمشاركة الأمة في ذلك، وتعاضدها في تلافي هذا النقص الموجود عندها؛ من هنا قد يجب هذا من باب المقدّمة أيضاً.

وبناءً عليه؛ فكثير من ألوان تضليل الأمّة حول أسباب الهزيمة غير جائز شرعاً، كما يفعله الكثير في أمتنا اليوم مع الأسف؛ فإنّنا نجد أنّه إذا كان الزعيم ـ أو حاشيته المقرّبة ـ مقصراً أو له دور في الهزيمة فلا يُسمح للأمة بمعرفة ذلك، كي لا تعمل على إصلاح مواقع الخلل وهكذا..

وعندما نتحدّث عن دراسة أسباب الهزيمة، فهذا لا يعني أن نغرق في الإحباط الداخلي ويزداد تمزقنا وتشظّينا، بل يفترض السعي ـ قدر الإمكان ـ لإصلاح الخلل داخليّاً بالتي هي أحسن، فالقاعدة الأولية في علاقات المسلمين فيما بينهم هي القاعدة القرآنية القائلة: [رحماء بينهمٍ] (الفتح: 29).

4 ـ السعي لعدم إظهار الانكسار أمام العدو؛ حتى لا يشمت بالمسلمين أو يطمع بهم، تماماً كما فعل رسول الله - بعد هزيمة المسلمين في معركة أحُد، حيث عمل فوراً بعد الهزيمة ـ كما تشير مصادر التاريخ والسيرة ـ على إعداد العدّة وتجهيز الجيش المنكسر، فحصلت غزوة (حمراء الأسد)، حيث تجمّع جيش المسلمين هناك (انظر حول هذه الغزوة: تاريخ الطبري 2: 212 ـ 213؛ وتاريخ اليعقوبي 2: 48؛ وتاريخ ابن الأثير 2: 164 ـ 165؛ وتاريخ الذهبي 2: 223 ـ 228؛ والقاضي النعمان، شرح الأخبار 1: 283 ـ 285؛ وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 1: 167 ـ 168 و..)، وقد لعب ذلك دوراً في إيهام الكافرين بأنّ المسلمين ما زالوا أقوياء، مما صرف نظر وجوه قريش وساداتها عن التفكير في الانقضاض فوراً بعد المعركة على المدينة المنوّرة التي كانوا قريبين منها؛ فهذا النوع من الحرب النفسية جيّد في مواجهة الكافرين، والهدف منه الحيلولة دون تفكيرهم مجدّداً بمحاربة المسلمين أو لا أقلّ تأخيرهم الهجوم مجدّداً عليهم.

5 ـ العمل على تنفيس احتقان الهزيمة في الأمّة؛ بالسعي لتحميل المسؤولية من هو مسؤول عنها، لا التستر على ذلك؛ فإذا كانت قيادة الجيش هي المسؤولة يفترض إقالتها ـ بالحدّ الأدنى ـ وكذلك لو كان المسؤول هو وزير الدفاع أو حتى الحكومة بأسرها؛ بل على إمام المسلمين شخصيّاً ورئيس البلاد أن يعترف بخطئه ويتحمّل مسؤولياته بالاستقالة تبعاً لحجم النكسة التي لحقت بالمسلمين.. إنّ تنحية المسؤولين الحقيقيين عن الهزيمة ـ كائناً من كانوا ـ وإن لم يكن واجباً شرعاً دائماً بالعنوان الأوّلي، إلا أنّه قد يغدو كذلك بالعنوان الثانوي، من حيث تنفيس الاحتقان في الأمّة؛ لأنّ الأمّة إذا قمعت بعد الهزيمة عن أن تحمّل المقصّرين مسؤولية ما حصل، فسوف تصاب بالاحتقان الذي يفضي عادةً إلى صدامات وقمع واضطرابات وفتن، وحتى لو نجحنا ـ مرّةً أو مرتين ـ في قمع غضب الجماهير، فإنّ ذلك لا يعني حلاً لهذا المعضل الذي قد يفتّت الأمة ويكسر شوكتها أكثر من الهزيمة نفسها.

لقد حمّل الشعب المسؤولين مسؤولية الدفاع وحماية أمن الوطن؛ فإذا قصّر هذا المسؤول أمام الله وأمام الشعب عن أداء مهامّه، كان من حقّ الشعب ـ بل أحياناً من واجبه ـ عزله بالطرق الشرعية الممكنة، ولا يقتصر ذلك على قضايا الحرب والسلم، بل يتعدّاه إلى تمام المسؤوليات والوزارات والإدارات عند تقصير المسؤولين عنها، وعلى البرلمانات الإسلامية أن تتحمّل مسؤولياتها ووظيفتها في هذا المجال.

6 ـ وعندما نتحدّث عن تحميل المسؤولية والاعتراف أمام الأمّة، فلا نقصد أن نظلّ نعيش أو نبث ثقافة التثبّط والمباطأة؛ فالقرآن الكريم يعلّمنا أنّ هذه الثقافة هي ثقافة المنافقين في الأمّة؛ فنحن نطالب بالمحاسبة وبشدّة، لكن نرفض أيضاً بث روح الهزيمة وتثبيط العزائم، قال تعالى: [وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون] (التوبة: 81)، وقال سبحانه: [وإنّ منكم لمّا ليبطئنّ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً] (النساء: 72 ـ 73)، بناء على تفسير هذه الآية بالبطوء، وهو تثبيط غيره عن الجهاد والغزو (انظر: الطبرسي، جوامع الجامع 1: 416)، فلا يصحّ بعد الهزيمة نشر ثقافة التثبّط وبث روح الهزيمة، فإنّها موجبة لخسائر على الأمة أكبر من الهزيمة نفسها، وهنا يلعب الإعلام الواعي والصادق والصريح والشفاف في الوقت عينه دوراً مؤثراً في هذا المجال؛ فليس التضليل صحيحاً ولا التعتيم ولا التثبيط ولا التفتيت.

لكنّ هذا لا يعني أن نتهم بالنفاق كل من يرى بعد الهزيمة ـ ولو الهزيمة من وجهة نظره ـ ضرورة وقف الحرب أو العمل على المشروع السلمي.. فهناك فرق بين حركة النفاق وبين وجود اتجاهات واجتهادات أخرى في الأمّة، ومن أخطر مصائب الأمة التي تبتلي بها اليوم ظاهرة قصف الاتهامات؛ حيث يتهم الفريق المجاهد الآخرين بالنفاق والعمالة وحبّ الرئاسة وطلب الدنيا والحسد والغيرة والحقد، فيما يتهم الفريق الداعي للسلم و.. الآخرين بالتهور والمغامرة والحماقة والمكابرة والعنتريات واللهث وراء المجهول وغير ذلك، قال تعالى: [ولا تقف ما ليس لك به علم..] (الإسراء: 36)؛ فهذه التهم يجب أن تستند إلى أدلّة ومعطيات مؤكّدة وحيادية.

ونكتفي بهذه النقاط على صعيد موضوع الهزيمة، لعدم فسح المجال لأكثر من ذلك. [الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون].


الانهزام والتراجع

انواع الجهاد

فضل الجهاد

الإيمان  و الهجرة و الشهادة   

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)