• عدد المراجعات :
  • 825
  • 6/14/2012
  • تاريخ :

الإخلاص والتوسل بالأسباب الطبيعية -2

استعاذه

يقول العلاّمة الطباطبائي: (والإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسّل بالأسباب، فإنّ ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعاً فيما لا مطمع فيه، بل إنّما يوجب ترك الثقة بها والاعتماد عليها، وليس في قوله: (اذكُرْني عِنْدَ رَبِّكَ) ما يُشعر بذلك البتّة)1.

فالمطلوب هو ترك الثقة بتلك الأسباب لا عدم الاستفادة منها والاستعانة بها مطلقاً، ولذا عبّر عن الاعتقاد بخلاف ذلك بأنّه أعظم الجهل، وفي قوله هذا إشارة إلى أنّ هذا الاعتقاد الخاطئ مخالف للقرآن والسنّة الشريفة القطعية، فضلاً عن منافاته للعقل والسيرة العقلائية القاضيين باعتماد الوسائل والوسائط المأذون بها وصولاً إلى الأهداف المشروعة.

قد لا يُوجد فرق كبير بين وسائطية الأعمال اليومية كالزراعة والصناعة والتجارة وسائر أعمال الكسب، وبين سائر العبادات كالصلاة والصوم مادامت نيّة القربة لله حاصلة وخالصة من الأغيار. ونعني بعدم الفرق الكبير الفرق من جهة الوسائطية في تحقيق الأهداف. فمن اعتقد أنّ صلاته بما هي هي نافعة له، فهذا شرك أيضاً ولا يفرق كثيراً عمّن اعتقد بأنّ الطبيب أو الدواء الكذائي شافٍ له.

وعليه فوسائلية العبادات يجب أن يكون مأخوذاً فيها عدم استقلاليّتها في التأثير وجلب المنافع والخير ودفع المضارّ والشرّ، كما هو الحال في وسائطية ووسائلية الأعمال الكسبية والحاجيات اليومية، بل إنّ جلب النفع ودفع الضرر بالعبادات ليس مطروحاً، وبه افترق العباد إلى شُعب ثلاث. فطالب النفع ـ في الدُّنيا والآخرة ـ تاجر، ودافع الضرر ـ في الدُّنيا والآخرة ـ عبدٌ، وأمّا القاصد في أولاه وأخراه وجه الله تعالى فهو حرٌّ، ومعنى الحرّية هنا هو تخلّصه من الأغيار كافّة.

عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنّه قال: (إنّ قوماً عبدوا الله رغبة 2 فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً3 فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً4 فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة) 5.

نعم، بمجانبة وطرد الأغيار تكون عبادة الأحرار التي هي عبادة المقرّبين وأولياء ربّ العالمين.

روي عن نبيّ الله عيسى عليه السلام أنّه (مرّ بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيّرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حقّ على الله أن يؤمن الخائف.

ثمّ جاوزهم إلى ثلاثة آخرين، فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنّة. فقال: حقّ على الله أن يُعطيكم ما ترجون.

ثمّ جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً كأنّ على وجوههم المرايا من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟

فقالوا: نحبّ الله عزّ وجلّ. فقال: أنتم المقرّبون، أنتم المقرّبون)6. فاللجوء إلى الوسائط والوسائل والأسباب الطبيعية أمرٌ لابدّ منه، ولا مهرب منه ولا يمكن التنصّل عنه، وأمّا بعض الأحاديث القدسية الواردة عن الرسول الأكرم في ذمّ الوسائطية، من قبيل قوله صلى الله عليه وآله: (أوحى الله ـ تعالى ـ إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ مُؤمِّل غيري بالإياس، ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس، ولأبعدنّه من فرَجي وفضلي. أيأمل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مُغلّقة وبابي مفتوح لمن دعاني. ألم يعلم أنّه ما أوهنته نائبة لم يملك كشفها غيري، فما لي أراه بأمله مُعرضاً عنّي... )7. وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله: (قال الله تعالـى: ما من مـخلوق يعتصم بِمخلوق دوني إلاّ قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه، فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه)8، وغير ذلك، فإنّها لا تتنافى مع ما تقدّم بيانه، بل في ضوء ما تقدّم سوف يتّضح لنا المعنى جليّاً من هذه الأحاديث القدسية وغيرها من الأحاديث الشريفة.

ولعلّ من جملة القرائن التي تؤكّد صحّة ما أثبتناه ما جاء في ذيل الحديث الأوّل، حيث يقول: (فما لي أراه بأمله معرضاً عنّي...). وقد عرفت أنّ المتوسّل بالأسباب الطبيعية ليس مُعرضاً عنه، بل هو قاصد إيّاه أوّلاً وبالذات، فيشرب الدواء وهو معتقد أنّ الشافي له هو الله تعالى وحده، ويأكل الطعام وهو معتقد أنّه تعالى هو الطاعم، وهكذا...

فليس المراد من ذلك إبطال الأسباب الطبيعية؛ لذا يقول الطباطبائي: (وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببية الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللاً فيّاضة مستقلّة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطنيّ أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلّف عنه أثره فهو يشعر بأنّ المبدأ الذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجة في تحقّقها ووجودها غير هذه الأسباب)9، ولذا فالمطلوب منّا هو عدم الركون التامّ لتلك الأسباب إلى درجة تكون هي العلل الحقيقية والفيّاضة، لأنّها أسباب ظاهرية لا تملك من أمرها شيئاً، والأمر كلّه بيد الله تعالى. وأمّا الاستعانة بتلك الأسباب الطبيعية الوجودية الظاهرية بعنوان كونها كذلك وأنّ وراءها الفاعل الحقيقي والمؤثّر الأوّل وهو الله سبحانه وتعالى، فهذا أمرٌ جارٍ وفق الشرعة الإلهية والناموس الطبيعي الذي أسنّه الله تعالى وأمرنا باتّباعه، ولذلك عندما ألقى المسافرون الدلو في ذلك الجُبّ الذي ألقي فيه يُوسف، ووصل الدلو إلى يوسف عليه السلام تعلّق به لينجو من الموت، ولم يكن ذلك منافياً للإخلاص، فكان من المُخلِصين بل كان من المُخلَصين.

المصادر:

(15) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج11 ص199.

(16) رغبة، أي: طمعاً وطلباً للعوض.

(17) رهبة، أي: خوفاً ودفعاً للضرر.

(18) شكراً، أي: معرفةً وحبّاً منهم لله تعالى.

(19) تحف العقول عن آل الرسول للشيخ أبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1417هـ، قم: ص246.

(20) ميزان الحكمة, مصدر سابق: ج3، ص2539، ح 16616.

وقد ورد هذا المعنى المرويّ عن السيّد المسيح عليه السلام في رواية أخرى أبلغ من =

= الأُولى مرويّة عنه عليه السلام حيث مرّ على طائفة من العباد قد نحلوا، فقال: ما أنحلكم؟ قالوا: نخاف النار ونرجو الجنّة، فقال عليه السلام لهم: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم. ومرّ بقوم آخرين كذلك، فقالوا: نعبده حبّاً له وتعظيماً لجلاله، فقال عليه السلام: أنتم أولياء الله عزّ وجلّ حقّاً، معكم أُمرت أن أُقيم.

انظر: المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، مصدر سابق: ج8، ص 25.

(21) الأمالي لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي, تحقيق قسم الدارسات الإسلامية، مؤسسة البعثة للطباعة والنشر, قم، 1414هـ: ص584، ح13.

(22) عدّة الداعي، مصدر سابق: ص124.

(23 ) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج2 ص34.


الإخلاص والتوسل بالأسباب الطبيعية -1

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)