• عدد المراجعات :
  • 964
  • 2/20/2012
  • تاريخ :

الطائفية في الدولة -  الملأ

مواجهة الفساد وتوقيف مصانعه

ويتكئ الطاغوت في إرساء قواعد المنطق الطائفي وتعميمه على عصبته وزمرته الفاسدة، والتي تقابلها كلمة " الملأ" في تعبيرات القرآن على ما يبدو. والملأ "اسم للأشراف، لأنهم يملؤون القلوب هيبة، والأنظار زينة ونظارة "(1).

قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (سورة يونس، 88)، إذ أن الزينة التي آتاها الله سبحانه فرعون وملأه تعبيرٌ عن الجاه وأسباب القوة التي تملأ القلوب هيبة والأنظار بهاءً وجلالاً.

ولأن الامتيازات الذاتية للملأ مستمدة من وجود النظام السياسي الدكتاتوري ومرتهنة ببقائه، يتقمص الملأ المنطق الطائفي طوعاً وكرهاً ويحتفظ به كأهم الخيارات لحماية عرش الطاغوت من السقوط والاهتزاز.

وقد أشارت آيات قرآنية متعددة إلى الدور الأساس الذي يمكن أن يلعبه الملأ في صناعة الطائفية وممارسة التمييز ضد الآخر الديني والمذهبي لتحقيق أجندة سياسية.

ويتضح ذلك بملاحظة الآيات القرآنية التي تعرضت إلى الدور الذي لعبه ملأ فرعون في صراع نبي الله موسى (ع) والمجتمع الإسرائيلي ضد النظام الفرعوني.

والآيات الكريمة ترشدنا إلى أن دور الملأ لا يتوقف على تنفيذ مشروع التقسيم الطائفي للنظام الديكتاتوري، وإنما يمكن أن يمارس دور التحريض الطائفي والتعبئة السلبية،كما يشير لذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (سورة الأعراف، 127)، ويظهر من الآية إتباع الملأ لمنهج التحريض الطائفي ودفع فرعون للخيار العسكري والإفراط في استخدام القوة كمطية لحماية العرش والحفاظ على امتيازات السلطة.

وقال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ *فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ *قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ *قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ *وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ *فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ *فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ *وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ *فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (سورة يونس، 75-83).

ونستوحي من الآيات الكريمة المتقدمة ما يلي:

أ: إن جعل المقابلة بين موسى وهارون (ع) وبين فرعون وملئه، وكذا إسناد الآيات الإجرام لهما في ذيل قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) يظهر منه أن ملأ فرعون لم يكونوا مجرد هيئة استشارية، وإنما كانوا يمثلون مُكوناً أساسياً في بنية النظام وسياسته الطائفية ضد بني إسرائيل. والظاهر أن موقع ملأ فرعون يقترب من موقع الوزراء في النظام السياسي المعاصر.

ب: كشفت هذه الآيات القرآنية الخلفية الحقيقة التي دفعت فرعون وملأه إلى إظهار الحرص على الدين واللجوء إلى خيار المواجهة الطائفية مع نبي الله موسى (ع) وبني إسرائيل، إذ قال تعالى: (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) (سورة يونس، 78)، إذ يظهر من مقالتهم وحرصهم الكاذب خوفهم من إسقاط النظام الفرعوني.

وأيضاً أشارت الآيات القرآنية إلى ذلك في موطنٍ آخر، فلاحظ قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ *فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (سورة المؤمنون، 45-47)، إذ أنها صرّحت على لسانهم بأن التكذيب وما تبعه من الصراع والمواجهة الطائفية لم يكن إلا لحماية عرش السلطة السياسية والتي مكنتهم من استعباد بني إسرائيل وإذلالهم.

وقد أشارت خاتمة الآيات الكريمة المتقدمة إلى دور الملأ في ممارسة الانتهاكات الطائفية لثني بني إسرائيل عن الالتحاق بالحركة الرسالية التي قادها نبي الله موسى (ع) لإسقاط النظام الفرعوني، إذ جاء فيها: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ) .

 علماء البلاط

إذا كانت الأنظمة السياسية هي الأقدر على صناعة الطائفية نظراً لما تتيحه لها السلطة من إمكانيات ونفوذ، فإن السلطة الدينية تتفوق على غيرها من صناع الطائفية في جدارتها في تمثيل الدين والحديث باسمه. ولأن الموقع الرسمي الذي تتبوؤه السلطة الدينية يمنحها القدرة على الجذب والاستقطاب، أصبحت سلطة الدين في معرض التوظيف والاستغلال من قبل الطاغوت السياسي.

ومن هنا، دأبت الأنظمة السياسية الدكتاتورية على توظيف سلطة الدين والعلم في تحقيق أهدافها وأجندتها السياسية ضد الخصوم.

ويوظف النظام السياسي الدكتاتوري ما لديه من ثروات وإمكانات مادية في استقطاب المرتزقة من العلماء إلى بلاطه، لاستغلال سلطة الدين والعلم في استقطاب وتفريق الجماهير مع كل صراع وأزمة سياسية. وقد أشارت الآيات القرآنية إلى توظيف فرعون لسلطة العلم التي كان يتبوأها السحرة في صراعه الطائفي السياسي مع نبي الله موسى (ع) .

قال تعالى: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ *قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ *يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ *قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (سورة الأعراف، 109-114).

ومن هذه الآيات نستوحي ما يلي:

أ: إن العلاقة بين علماء السوء والنظام الطاغوتي قائمة على تبادل المصالح. ولذا نجد أن تقديم السحرة الدعم والتأييد والولاء للنظام الطاغوتي الفرعوني كان مشروطاً بالأجر، وهكذا استثمر النظام الفرعوني ثروات الدولة ومناصبها لاستقطاب المرتزقة من العلماء وتجنيدهم ضد خصومه السياسيين. إذ أن مواجهة النظام الفرعوني لحركة نبي الله موسى (ع) وإن كانت تتلبس بالصورة الدينية وصورة الصراع بين الطوائف، إلا أنها في جوهرها كانت لأهداف سياسية.

ب: يمثل تعرض عرش الطاغوت إلى الاهتزاز في الأزمات السياسية فرصة استثنائية لعلماء السوء للوصول إلى أطماعهم في التقرب من بلاط السلطة. وهنا لا يتردد علماء السوء في استخدام سلطة العلم والدين من أجل تعميق التحالف مع النظام الدكتاتوري، والمشاركة في مشروعه في الصراع والتمييز الطائفي.

ج: يكمن دور علماء السوء الأساس في الصراعات الطائفية في التضليل وصرف الرأي العام واستعمال سلطة العلم والدين في التزييف وتغيير الآراء والقناعات بحسب شهوة السلطان. قال تعالى: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ*قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ*فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (سورة الشعراء، 34-40).

وإذا كان السحرة قد لجئوا إلى السحر من أجل التضليل وصرف الرأي العام لمصلحة النظام الفرعوني، فإن علماء البلاط اليوم قد يستخدمون سلاح التكفير والإفتاء ونشر العصبية وثقافة الكراهية لتحقيق الأجندة السياسية الخاصة للأنظمة الحاكمة.

وحينما تغلب على المجتمع روح العصبية وثقافة الكراهية والحمية الجاهلية التي تكرسها النخب الدينية وعلماء السوء للمحافظة على مواقعهم في بلاط السلطة، يسهل على السلطة السياسية إشعال نار الفتنة الطائفية كلما اشتدت وتيرة الصراع مع الخصوم.

المصدر:

(1) تقريب القرآن للأذهان،ج2، ص546، آية الله السيد محمد الشيرازي (قده) .


الطائفية في المجتمع - علماء السوء وحب السلطة

الطاغوت السياسي واستغلال الدين

الطائفية في المجتمع - الدين المُحرّف وصناعة الطائفية

العلمانية من الألوان الفكرية المعاصرة

العدالة في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)