• عدد المراجعات :
  • 2163
  • 2/1/2012
  • تاريخ :

الامام علي عليه السلام ومفاهيم التهذيب

الامام علي (ع)

يواصل الامام علي عليه السلام طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه وتترابط حتى لكأنّها صورةٌ عن كلّ موجودات الكون، فيوصي بأن يتغافل المرءُ عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمةً من المتغافل وتهذيباً للمسيء بالسيرة والمثَل أبلغَ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: (من أشرف أعمال الكريم غفلتُه عمّا يعلم).

 كما يوصي بالحلم والأناة لأنهما نتيجةٌ لعلوّ الهمّة ثمّ مَدْرَجَةٌ لكرَم النفس: (الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة.

ويكره الغيبة لأنها مذهبٌ من النفاق والإساءة والشرّ جميعاً: (اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار). والخديعة مثل الغيبة وكلتاهما من خبث السرائر: (إيّاك والخديعة فإنّها من خلق اللئام).

وكما رأى أنّ كذبةً واحدةً لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنبٍ مهما كان في زعم صاحبه خفيفاً قليل الشأن إنّما هو شديدٌ لأنه ذنبٌ، بل إنه أشدّ وقعاً على كرامة الإنسان إذا استخفّ به صاحبه، من ذنبٍ عظيمٍ عاد مقترفُه إلى الرجوع عنه في الحال: (أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه). وينهاك علي عن التسرّع في القول والعمل لأنه مدعاةٌ إلى السقوط وعلى الإنسان المهذّب ألاّ يُبيح نفسَه لأيّة سقطة: (أنهاك عن التسرّع في القول والعمل).

وهو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلِّ ذنب أذنبتَ إصلاحاً لخلقك، ولكنّه ينبّهك تنبيهاً عبقريَّ الملاحظة والبيان إلى أنّ الإنسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطّره إلى الاعتذار: (إياك وما تعتذر منه فإنه لا يُعتَذَر من خير).  

ومنعاً للاشتغال بعيوب الناس وإغفال عيوب النفس، وفي ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق والمسلك سلباً وإيجاباً، يقول علي عليه السلام: (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)، و(مَن نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره).

على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يومٍ في عهده

 وإذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تُنكره أوّلاً، فإن لم تستطع ذلك تحَتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاً تصبح شريكاً فيه: (مَن استحسن القبيح كان شريكاً فيه). وإذا كان التعاطف بين الناس ضرورةً أخلاقية لأنه ضرورةٌ وجودية ، فإنّ منطق العقل والقلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك وأحسن إليك أكثرَ وأوسع. وفي ذلك يقول عليّ عليه السلام: (لا تجعلنّ ذربَ لسانك على من أنطقك وبلاغةَ قولك على من سدّدك). ثم يقول: (وليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره، ولا جزاء مَن سرّك أن تسوءه).

ويهاجم الحرص والكبرياء والحسد لأنّها سبيلٌ إلى الانحدار الخلقي: (الحرص والكبر والحسد دواعٍ إلى التقحّم في الذنوب). وإذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفةٌ مذمومةٌ لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرةٍ أشمل وفكرٍ أعمق، فالبخل ليس مذموماً لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، ولدفْعه صاحبَه إلى كل سوءة في الخلق والمسلك. فالبخيل منافق، معتدٍ، مغتاب، حاسد ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي عليه السلام: (البخل جامع لمساوئ العيوب).

ويطول بنا الحديث ويتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق وتهذيب النفس، فهي كثيرةٌ لم تترك حركةً من حركات الإنسان إلاّ صوّرتْها ووجّهتْها. وإذا قلتُ إن مثل هذا العمل طويلٌ واسعٌ شاقّ فإنّي أعني ما أقول. وما على القارئ إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق وتهذيب النفس، وعمّا تستوجبه هذه المختارات من شرحٍ وتعليق. ويكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الإنسان، ومن أعظمه اتّساعاً وعمقاً.

على أنه لابد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصْفه إحساساً عميقاً بقيمة الحياة وكرامة النفس وكمال الوجود. وإنّ نفراً قليلاً من المتفوّقين كبوذا والمسيح وبتهوفن وأشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الإنسان ونفسه. ولا تكون بين الإنسان وما هو خارجٌ عنه إلاّ انبثاقاً بديهيّاً طبيعيّاً عن الحالة الأولى. وقد أدرك ابنُ أبي طالب هذه الحقيقة إدراكاً قويّاً واضحاً لا غموضَ فيه ولا إبهام. وعبّر عنها تعبيراً جامعاً. يقول عليّ في ضرورة احترام الإنسان نفسَه وأعماله دون أن يكون عليه رقيب: (اتَّقوا المعاصي في الخلوات). ويقول في المعنى ذاته: (إيّاك وكلّ عملٍ في السرّ يُستحى منه في العلانية. وإيّاك وكلّ عملٍ إذا ذُكر لصاحبه أنكره). وإليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ والعلانية، أو بين ما أسميناه (آية التهذيب) وما أسميناه (انبثاقاً) عنها: (مَن أصلح سريرتَه أصلح الله علانيّته).

ومن بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: (كلْ على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك). وجليٌّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراماً مطلقاً غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو إلى نفسك كما تتصرف وأنت بين يدي ملك. ومثل هذا المعنى يقوله علي بن أبي طالب على هيئة جديدة: (ليتزيّنْ أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة!).

وهو يريدك في كلِّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حَسَنٍ إلى أحسن في الخلق والذوق والمسلك. ولكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنُصحه علناً، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّناً رفيقاً فلا تنصح إلاّ خفيةً ولا تعِظ إلاّ سراً. يقول علي عليه السلام: (مَن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومَن وعظَه علانيةً فقد شأنه).

وأيّةً كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك والحياة والناس. فبهذا الصدق تحيى وبغيره تهلك. وبه تحفظ سلامةَ روحك وقلبك وجسدك. وبغيره تفقدها. وبالصدق تُحِبّ وتُحَبّ ويوثَق بك، وبغيره تجلب لنفسك المقْتَ والكراهية والسّيئاتِ جميعاً وير ذلك الناس تافهاً حقيراً. وهذا الصدق عهدٌ منك وعليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة وهي إرادةٌ تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم. وابنُ أبي طالبٍ يقول: (على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يومٍ في عهده!).

 

اعداد وتقديم : سيد مرتضى محمدي

القسم العربي - تبيان


تفضيل الإمام علي ( عليه السلام ) على من سواه

الإمام علي(عليه السلام) بأقلام المعاصرين

الإمام علي(عليه السلام) . . . والرأي الآخر

إطلالة على حياة الإمام علي(عليه السلام)

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)