• عدد المراجعات :
  • 2256
  • 9/10/2011
  • تاريخ :

مفهوم التقوى في نهج البلاغة

امام علی

إن كلمة ( التقوى ) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً ، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة ، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى . فما هي التقوى؟

يفترض الكثيرون أن التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!

وعلى هذا التفسير تكون التقوى:

أولاً: أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .

وثانياً: هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .

وثالثاً: كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .

ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم!

ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام .

بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلا بعد النفي ، وليست كلمة التوحيد: لا إله إلا الله ، إلا كلمة جامعة بين النفي والإثبات ، ولا يمكن إثبات التوحيد إلا بعد نفي ما سوى الله تعالى .

ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان ، أي أن كل طاعة تتضمن معصية ، وكل إيمان يشتمل على كفر: ( . . . فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى . . ) ( 2 ) .

ولكن . .

أولاً: إن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها ، ولا تصح إلا أن تكون مقدمات للارتباط بمقابلاتها . ولذلك فلابدّ أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً . فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف ، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها .

وثانياً: إن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر ( حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف ) فإن التقوى في نهج البلاغة: ( قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب ) . فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها .

إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً ، وتصونه من الانحراف والشطط ، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد نفسه عن أسبابها . وحيث أن البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابدّ له من أن يختار الانزواء التام!

وعلى هذا فلابدّ إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً! وعلى هذا : كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!

أما إذا حصلت الروح الإنسانية على ( ملكة التقوى ) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال .

إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع . فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي ، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده ، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس ، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ .

أما نهج البلاغة ، فإنه يصف التقوى - كما وصفناها نحن - بأنها قوة معنوية روحية ، تحصل على أثر التمرين والممارسة ، ولها آثار ونتائج ، منها تيسير الحذر من الذنوب .

( . . ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات . . ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار . . . ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة . . ) .

فقد وصف الإمام ( عليه السلام ) التقوى في خطبته هذه بأنها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها ، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها ، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه ، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى ، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة ، كراكب ماهر على فرس مدرب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة ، فيطيعه الفرس بكل يسر .

( . . إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ) .

وفي هذه الكلمة يصرح الإمام ( عليه السلام ) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره .

وعلى هذا ، فليست التقوى هي نفس الحذر ، ولا نفس الخوف من الله ، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها .

( فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة ، وفي غد الطريق إلى الجنة ) .

نرى أن الإمام ( عليه السلام ) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح ، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر ، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس .

وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع ، ولعل في هذا القسم كفاية ، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج .

إن التقوى في نهج البلاغة : قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام ، إقدام على القيم المعنوية ، وإحجام عن الدنايا المادية . إن التقوى في نهج البلاغة: حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها .

ولقد أكد الإمام ( عليه السلام ) في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود . .

فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين ( الوقاية ) و( القيود ) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود . .

ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان ، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر ، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان .

يقول الإمام ( عليه السلام ): ( . . . اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه . ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ) .

وكأنه ( عليه السلام ) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات ، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى . ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها .

( . . فإن تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كل ملكة ، ونجاة من كل هلكة . . ) .

واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية ، تحرره من أسر عبودية الهوى ، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة ، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية ، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة ، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات .

ولقد بحث الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً ، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها ، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة ، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة .

وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران:

أحدهما: البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة .

والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد .

وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر وهي - بالإضافة إلى ذلك - خارجة عما نهدف إليه من هذا البحث هنا ، وهو: بيان المفهوم الواقعي للتقوى ، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار .

ولكن بودي أن نتحدث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أن:

التقوى تقي الإنسان ، والإنسان يحافظ عليها

بل يصر نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن ، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها ، فإن التقوى وإن كانت واقعية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها ‍ .

وليس هذا من ( الدور المُحال الباطل ) بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب ، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة ، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس ، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال : ( . . وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ . . ) . وقال الإمام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد:

( . . . أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم . . ألا فصونوها وتصوّنوا بها . . . ) .

وقال ( عليه السلام ): ( . . أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنها حق الله عليكم ، والموجبة على الله حقكم . وأن تستعينوا عليها بالله ، وتستعينوا بها على الله . . ) .


عظمة النفس و الغيرة في نهج البلاغة

الفصاحة والجمال في نهج البلاغة

بلاغة الإمام علي عليه السلام

عقله الجبار ينظم عاطفته

ماهي التقوى؟

الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية

التغيير الفردي والاجتماعي في نهج البلاغة

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)