• عدد المراجعات :
  • 992
  • 8/17/2011
  • تاريخ :

اتِّباع العلم ورفض الخرافات

علم

الآراء والعقائد التي يتخذها الإنسان إمَّا نظرية ، لا تعلُّق لها بالعمل من غير واسطة ، كالمسائل المتعلقة بالرياضيات ، والطبيعيات ، وما وراء الطبيعة ، وإما عملية ، متعلقة بالعمل بلا واسطة ، كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله ، وما لا ينبغي .

والسبيل في القسم الأول هو اتِّباع العلم واليقين المنتهي إلى برهان أو حِسٍّ ، وفي القسم الثاني اتِّباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان ، أو النافع فيها ، وإجتناب ما ينتهي إلى شقائه ، أو يضرُّه في سعادته .

وأما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقاً في القسم الأول ، والاعتقاد بما لا يعلم كونه خَيراً أو شرّاً فهو اعتقاد خرافي .

والإنسان لمَّا كانت آرائه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن عِلَل الأشياء والطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأى الخرافي المأخوذ على العمياء وجهلاً .

إلاَّ أن العواطف النفسانية والاحساسات الباطنية التي يثيرها الخيال - وعمدتها الخوف والرجاء - ربما أوجَبَتْ له القول بالخرافة ، من جهة أن الخيال يصور له صوراً يستصحب خوفاً أو رجاء ، فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء ، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية .

كما أن الإنسان إذا أحلَّ وادياً وهو وحده بلا أنيس ، والليل داجٍ مظلم ، والبصر حاسر عن الإدراك ، فلا مؤمِّن يؤمِّنه بتميُّز المخاطر من غيرها بضياء ونحوه ، فترى أن خياله يصوِّر له كل شبح يترائى له غولاً مهيباً يقصده بالإهلاك ، أو روحاً من الأرواح .

وربما صور له حركة وذهاباً وإياباً وصعوداً في السماء ونزولاً إلى الأرض ، وأشكالاً وتماثيل ، ثمَّ لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره وحاله حاله من الخوف ، ثم ربَّما نقله لغيره فأوجد فيه حالاً نظير حاله ، ولا يزال ينتشر ، وهو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة .

وربما هيَّج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالاً لدفع شرِّ هذا الموجود الموهوم ، ويحثُّ غيره على العمل بها للأمن من شرِّه ، فيذهب سنه خرافية .

ولم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلَى بآراءٍ خرافية حتى اليوم ، وليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين ، فهي موجودة بين الغربيين مثلهم ، لو لم يكونوا أحرص عليها منهم .

ولا يزال الخواص من الإنسان - وهم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حِيَلهم ، التي توجب تنبه العامة وتُيَقِّظهم في أمرها .

وقد أعيا الداء الطبيب ، فإن الإنسان لا يخلو من التقليد والاتباع في الآراء النظرية والمعلومات الحقيقية من جانب ، ومن الإحساسات والعواطف النفسانية من جانب آخر ، وناهيك في ذلك أنَّ العلاج لم ينجح إلى اليوم .

وأعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة وعلماء الطبيعة اليوم ، فقد ذكروا أن العلم اليوم يبني أساسه على الحس والتجربة ويدفع ما دون ذلك ، والمدنية والحضارة تبني أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر ، وبنوا التربية على ذلك .

مع أن ذلك - وهو عجيب - نفسه من اتِّباع الخرافة ، فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة وتثبتها لموضوعاتها ، وبعبارة أخرى هذه العلوم الماديَّة إنما تكشف دائماً عن خبايا خواص المادة ، وأما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه وإبطاله .

فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس والتجربة من غير دليل من أظهر الخرافات .

وكذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور ، فإن هذا الاستكمال والنيل بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية ، كتحمُّل القتل والتفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام ، والمحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع .

فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال ، وأن يراها كمالات ، وليست كمالات لنفسه بل عدم وحرمان لها ، وإنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع ، وإنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع .

ولذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها ، فلقَّنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكراً جميلاً واسماً باقياً على الفخر دائماً ، وهو الحياة الدائمة ، وهذه خرافة ، وأي حياة بعد البطلان والفناء ، غير أنَّا نسميه حياة تسميةً ليس ورائها شيء .

ومثلها القول : إن الإنسان يجب له تحمل مُرّ القانون ، والصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ، ليتحفظ به الاجتماع ، فينال كماله في الباقي ، فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله ، وهذه خرافة .

فإن كمال الاجتماع إنَّما هو كماله فيما يتطابق الكمالان ، وأما غير ذلك فلا ، فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله ، أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا ، إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله ولو بالجور ، وفاق في القوة والاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله والذكر الجميل فخاره .

كما أنَّ أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة ، فلا يجدون منهم موطئاً إلا وطأوه ، ولا منالا إلا نالوه ، ولا نسمة إلا استرَقّوه واستعبدوه ، وهل ذلك إلا علاجاً لمزمن الداء بالإفناء .

وأما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتِّباع ما أنزل الله والنهي عن القول بغير علم ، هذا في النظر ، وأما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه ، فإن كان مطابقاً لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة ، وإن كان فيه حرمانها ، فعند الله عظيم الأجر ، وما عند الله خير وأبقى .

والذي يقوله أصحاب الحس : أن اتِّباع الدين تقليد يمنع عنه العلم ، وأنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان - وهي عهد الأساطير ، وعهد المذهب ، وعهد الفلسفة ، وعهد العلم ، وهو الذي عليه البَشَر اليوم من اتِّباع العلم ورفض الخرافات - فهو قول بغير علم ورأي خرافي .

أما أن اتِّباع الدين تقليد فيُبطله : أنَّ الدين مجموع مركَّب من معارف المبدء والمعاد ، ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذه من طريق الوحي والنبوة ، الثابت صدقه بالبرهان والمجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة واتِّباعها اتباع للعلم ، لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان .

ومن العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة وسنن الاجتماع من مَأكَلِهِ ومَشرَبهِ ومَلبسهِ ومَنكحهِ ومَسكنهِ وغير ذلك إلا التقليد على العمى ، واتِّباع الهوى من غير تثبت وتبين .

نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر وهو اتِّباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية ، فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم ، مهجور اللفظ ، مأنوس المعني ، وكان قول : ألق دلوك في الدلاء ، شعاراً علمياً ، ورُقيّاً مدنياً ، وعاد قول : ولا تتبع الهوى فيضلّك ، تقليداً دينياً ، وقولاً خرافياً .

وأما تقسيمهم سير الحيوة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين والفلسفة يكذبه ، فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند ومصر وكلدان ودين عيسى ( عليه السلام ) بعد فلسفة يونان ، وكذا دين محمد ( صلى الله عليه وآله ) - وهو الاسلام - كان بعد فلسفة يونان وإسكندرية ، وبالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه ، وقد مرَّ فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر .

والذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الإنسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة ، ووحدة الأمم ، وعهد الحس والمادة ، وسيجيء بيانه في الكلام على قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة : 213 .

المصدر: تفسير الميزان


تنمية القابليات في باطن الإنسان

القابليات الروحية لدى الإنسان

التربية البدنية من وجهة نظر الإسلام

مناقشة نظرية نسبية الأخلاق

تربية اليتيم وموقف التعاليم الاسلامية

تربية الاستعداد العقلي

تربية العقل و تدبر العاقبة

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)